الجنّ والإنس كلاهما مكلّفان بالتكليف الإلهيّ
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج3/ ص107-113
2025-08-09
586
ورد في الآيات القرآنيّة الكريمة فإنّ الشيطان لا أثر له في عالم الخِلقة والتكوين؛ ولا سلطان له في عالم الأمر والملكوت. وتقتصر دائرة إحاطته وفعليته في عالم الخَلق والدنيا وحسب، وحتى تلك الإحاطة والفعليّة تكون مقتصرة على أفكار الجِنّ والإنس، وعلى نحو الاختيار والوسواس لا الإجبار والاضطرار؛ حتى يتمّ لهُ تضليل اي موجود شاء من الجِنّ أو الإنس إذا ما انقادوا لوساوسه واتّبعوا أغراضه وأهواءه، ففي الواقع هو مأمور من قِبل الله لتمييز الصالح عن الطالح، والجميل عن القبيح والسعيد عن الشقيّ، وأصحاب الجَنّة عن أصحاب النار؛ فيكون الإنسان حينئذٍ مخيّراً في انتقاء طريق السعادة أو الشقاء بملء إرادته في هذه الدنيا التي هي دار تكليف. وما كان بالإمكان وقوع هذا الأمر أو حصوله بغياب الشيطان ووساوسه في أفكار الإنس والجنّ.
في البدء، اي قبل عالم التكليف كان الشيطان مَلَكاً من الملائكة، ولذلك تشير الآية التالية أيضاً في خطابها إلى زمرة الملائكة وأمرهم بالسجود: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ.[1]
ولأنّ الشيطان كان مخلوقاً من النار وكان من زمرة الجِنّ كان على صورة مَلَك وفي صفّ الملائكة وذلك قبل التكليف ولهذا امتنع عن الامتثال لأمر الله سبحانه: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا.[2]
الآن وقد تبيّن أن الشيطان كان من الجِنّ، ومن ناحية أخرى علِمنا أن الله سبحانه خَلق الجِنّ من ريح حارّة طبقاً للآية الشريفة التالية: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ.[3]
والآية الشريفة: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ.[4]
ومن ناحية أخرى نعلم أن خلقة الإنسان كانت من تراب كما تبيّن الآية الشريفة: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ.[5]
وعلى هذا تكون خلقة كليهما (الجنّ والإنس) من عالم الطبيعة والكون والفساد وملوَّثة بالشرور والنقائص؛ خاضعة للتكليف الإلهيّ والأمر والنهي والطاعة والمعصية، وأخيراً التحرّك باتّجاه المقصود والمطلوب الأصليّينِ.
وقد شرّفهما الله معاً بأمر التكليف والعبادة، مُبَيِّناً أن الغاية من خلقتهما هي العبادة والعبوديّة: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ.[6]
ولهذا ذرأ الله جهنّم لكلا الفريقَينِ من الجِنّ والإنس لتكون مآلًا ومستقرّاً لكلّ مَن يتمرّد على أوامره ويعصيه ويتّبع الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ والْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ولَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ولَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.[7]
ثمّ سيخاطب هؤلاء بشدّة من قبل الحقّ تعالى في اليوم الآخِر أن لما ذا لم تتّبعوا رسلنا الذين نصحوا لكم وحذّروكم يومكم المُستَطير هذا؟! يا مَعْشَرَ الْجِنِّ والْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي ويُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ.[8]
فلمّا كانت أعمالهم على بيّنة منهم وطبقاً لانتخابهم هم أنفسهم واختيارهم هم أنفسهم طريق الجَنّة أو النار بأيديهم ونيّاتهم، فإنّ جميع المخلوقات من الجِنّ والإنس ممّن تنطبق عليهم هذه الصورة مشمولون بكلمة العذاب أو الرحمة هاتين وسوف يخلدون في مأواهم هناك إلى الأبد سواء أ كان ذلك المأوى هو الجَنّة أم النار: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ والْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ، ولِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ولِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وهُمْ لا يُظْلَمُونَ.[9]
ولا يختلف للشيطان إلّا على الذين يعنيهم ما يعنيه هو؛ فيغويهم ويزلّهم عن الطريق. ولأنّ هؤلاء لم يخطوا في هذه السبيل أو يتّبعوا خطوات الشيطان إلّا بمحض إرادتهم وكامل قواهم العقليّة، وذلك بعد إتمام الحجّة عليهم من جانب الحقّ تعالى بواسطة الرسل والوحي، فإنّهم سيردون موارد الهلاك والعذاب في الدنيا ويكون مصيرهم الجحيم والغضب الإلهيّ في الآخرة: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ، ذِكْرى وما كُنَّا ظالِمِينَ، وما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وما يَنْبَغِي لَهُمْ وما يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ.[10]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ، تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ.[11]
ويدخل الشيطان بين بني البشر بالكلام القبيح والتهمة والغيبة والحديث غير اللائق والغريب والتحريض على ارتكاب المعصية والفساد والقبائح والترغيب فيها: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ[12] بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً.[13]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ ويَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ واللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وفَضْلًا واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.[14]
وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً، يَعِدُهُمْ ويُمَنِّيهِمْ وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ولا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً.[15]
ومع ذلك كلّه فإنّ كيد الشيطان ضعيف ولا يكون التغلّب عليه إلّا بقوّة رحمانيّة إيمانيّة إنسانيّة من الله سبحانه، فلو استطاع المخلوق التخلّص تماماً من وساوس الشيطان وحبائله فإنّه لا جَرَمَ سيحوز على الظفر والنجاح والانتصار عليه.
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً.[16]
فليس للشيطان أيّ سلطان على المؤمنين والمتوكّلين على الله. بل سلطانه إنّما يكون على الذين مهّدوا لأنفسهم طريق ولايته، واتّخذوه شريكاً مع الله سبحانه وكفؤاً له، فتركوا باب غوايته لهم مفتوحاً على مصراعيه ثمّ انفعلوا بسبب ضعف نفوسهم، وفتحوا نوافذ قلوبهم كاملة أمام وساوسه الضعيفة وترّهاته الواهية وادّعاءاته السخيفة، فيتهيّأون للتلّوث بأيّة قذارة ويهلكون أنفسهم بأنفسهم وبمعونة أهوائهم ومساعدة ذلك الخبيث المُخَبِّث.
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ والَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ.[17]
وفي اليوم الآخر عند ما يلوم المستضعفون المستكبرين قائلين: أنتم الذين أكرهتمونا على أن نطيعكم ونرتكب الآثام والمعاصي، فعليكم اليوم أن تحملوا عنّا إصرنا والوِزر الذي حَمّلتمونا إيّاه وترفعوا عذاب الله. فيُجيبهم المستكبرون حينئذٍ: إنّما نحن مثلكم متورّطون في هذا الأمر، ولا حيلة لنا لأنّنا لا نمتلك الإرادة أو الاختيار وليست أزِمّة الامور بيدنا! في هذا اليوم سيقول لهم الشيطان صراحة: لقد وعدكم الله وعد الحقّ لكنّي وعدتكم باطلًا وأخلفتكم وها أنتم الآن تَرَوْن نتيجة ذلك، فأنتم الذين تستحقّون اللوم، لأنّه ما كان لي عليكم من سلطان أو قوّة إلّا أن دَعَوتُكم إلى وإلى وساوسي فجئتموني مُلبّين دعوتي بملء إرادتكم واختياركم؛ فلا تلوموني أو توبّخوني على ذلك!! فكلانا متورّط في هذا الأمر، فلا أنا أستطيع أن ازيح همّاً عن قلوبكم فاعدّ لكم طريق الخلاص وأدلّكم عليه ولا أنتم قادرون على الأخذ بيدي وتخليصي ممّا أنا فيه! لقد كنتُ كفرتُ بما أشركتُموني منذ اللحظة التي دعوتكم فيها فاستجبتم دعوتي واعتبرتموني مؤثّراً في مقابل الله سبحانه وتعالى ولم أقبل بذلك الشِّرك القديم، وكنتُ أعلم أن الله الواحد القهّار هو وحده المؤثّر في جميع عوالم الوجود: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ.
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ووَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي ولُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.[18]
[1] الآيات 1 إلى 3، من السورة 87: الأعلى.
[2] الآية 11، من السورة 7: الأعراف.
[3] الآية 50، من السورة 18: الكهف.
[4] جاء في« أقرب الموارد»: السموم: الريح الحارّة، مؤنّثٌ. ج: سمائم. قال أبو عبيدة: السَّموم بالنهار وقد تكون بالليل؛ والحَرور بالليل وقد تكونُ بالنهار. وقيل السَّمومُ الحرُّ الشديدُ النافذُ في المَسام.
سُمَّ يومُنا، مجهولًا: اشتدَّ حَرّه وكان فيه سَمومٌ اي ريحٌ حارَّةٌ. والنباتُ: أحْرَقَتْهُ السَّمومُ فهو مَسْمُومٌ. والآية هي الآية 27، من السورة 15: الحجر.
[5] الآية 15، من السورة 55: الرحمن.
[6] الآية 12، من السورة 23: المؤمنون.
[7] الآيات 56 إلى 58، من السورة 51: الذاريات.
[8] الآية 179، من السورة 7: الأعراف.
[9] الآية 130، من السورة 6: الأنعام.
[10] الآيتان 18 و19، من السورة 46: الأحقاف.
[11] الآيات 208 إلى 212، من السورة 26: الشعراء.
[12] الآيات 221 إلى 223، من السورة 26: الشعراء.
[13] جاء في« أقرب الموارد»: نَزَغَه( ع) نَزْغاً: طعَن فيه واغْتابَه وذَكَره بقَبيحٍ. و- بكلمة: نخَسهُ وطعَن فيه، مثل نَسغه ونَدغه. و- بينَ القومِ( ع، ض): أغرَي وأفسَد وحمَل بعضَهم على بعضٍ؛ ويُقال:« نَزَغ الشَّيطانُ بينَهم».
نَزَغه الشَّيطانُ إلى المعاصي: حَثَّه (عليها). «لم تَرْمِ الشُّكوكُ بنوازغِها عَزيمةَ أيْمانِهم»: أي بِمُفسِداتِها؛ جمعُ نازِغة، من النَّزْغ.
[14] الآية 53، من السورة 17: الإسراء.
[15] الآية 268، من السورة 2: البقرة.
[16] ذيل الآية 119 والآيتان 120 و121 من السورة 4: النساء.
[17] الآية 76، من السورة 4: النساء.
[18] الآيات 98 إلى 100، من السورة 16: النحل.
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة