من الناحية الفلسفية يعد ديفيد هيوم (1711- 1776) Hume. سليلا لجون لوك بشكل مباشر. لقد اختزل المعرفة بأسرها في ناتج للخبرة، بل فاق سلفه في رفضه الجذري لأي تساؤل يتجاوز حدود الخبرة. وبشكل خاص، نجده ترك تأثيرا في معاصريه ومثل معلما من معالم تاريخ الفلسفة، وذلك عن طريق رفضه القاطع لأي ميتافيزيقيات حتى أنه نفى وجود مبادئ خلقية عمومية، بل ووجود المفاهيم الخلقية من قبيل الحرية. ولا شك أن هذا الجانب من فلسفته هو الأكثر إثارة للجدل، ولكننا لن ننشغل به. لن نناقش إلا رؤية هيوم للفهم البشري ولطبيعة العلم.
ظهر كتابه «بحث في الفهم البشري Inquiry Concerning Human Understanding العام، كإكمال وإتمام لكتابه (رسالة في الطبيعة البشرية (Tieatise of Human Nature (1737) الذي دونه إبان سنوات الشباب. يتضمن بحث في الفهم البشري أوضح صياغة لفلسفته البرغماتية - والأكثر حسما من الناحية العملية - وهي صياغة ينتشر أتباعها حتى يومنا هذا انتشارا واسعا في الأوساط العلمية ولنستمع إلى هيوم نفسه وهو يجمل دعواه الأساسية ولكن على الرغم من أن تفكيرنا يبدو وكأنه يستمتع بحرية لا حدود لها، فحين فحصه عن كتب يكتشف المرء أن التفكير محصور داخل حدود ضيقة جدا، وأن كل هاتيك القوة الإبداعية للعقل لا تكشف إلا عن ملكة لاستحضار المادة المعطاة لنا عن طريق الحواس والخبرة، أو لنقلها أو للإكثار أو الإقلال منها إذن الوظيفة الوحيدة لعقلنا هي استثمار الوقائع. ليس يضيف التفكير أي شيء لجوهر المعارف التي تعطينا إياها الوقائع. وهكذا تغدو معظم تصورات الفلسفة التأملية غير ذات معنى، كما يبين مثل هذا الاختبار البسيط والحق أن هذا يكفي تماما لكي نطرح سؤالنا: ما هو الانطباع الحسي الذي أعطانا الفكرة المعنية؟ وإذا لم نستطع الإجابة عن هذا السؤال فإننا نتحدث عن تصور خلو من أي معنى.
ويعقب هذا شيء ما أقرب إلى مجال مناقشتنا: إن القوانين التي يكتشفها العلم عن طريق الخبرة لا تعدو أن تكون كشفا عن اقترانات معتادة بين الوقائع وبهذا يكون التعود هو المرشد الأعظم في الحياة البشرية والفهم البشري) ليست القوانين العلمية إلا تلخيصا للوقائع الملاحظة، وبهذا تكون الوقائع هي مصدر تمثلنا للعالم، ومصدر خبرتنا، وهذا ممكن لأن الوقائع تتسم باطراد يتيح الاستفادة من قوى العقل وإمكانيات اللغة. أفضل وصف لهذا الاطراد هو تلك القوانين التي يصوغها العام، على أن هذه القوانين لا تتجاوز قيد أنملة التلخيص القح للوقائع.
في خواتيم هذه الممارسة التطهرية، التي يرتد فيها العقل إلى نسخة عرجاء من العالم، يدهشنا أن نجد هيوم يقدم بلا أي نذير على نقض القواعد التي أرساها لنفسه، ويغدو على حين غرة ميتافيزيقيا متطرفا . على الأقل هذا هو تأويلي، إذا ما كانت الميتافيزيقا تكمن في الحكم بما يجب أن يكون عليه العالم، بدلا من قبول ما هو عليه من المؤكد أن هيوم يقر بوجود ارتباطات بين الوقائع، تكشف عنها القوانين، بيد أنه يزعم عن يقين مطلق أنه لمن المستحيل، ومما لا يمكن تصوره، أن نتعلم أي شيء إضافي في هذا الصدد. يدين هيوم منطقنا بأنه عديم الجدوى قطعا ليست استدلالاته إلا تعودا نشأ عن محاكاة ممسوخة للوقائع التي تتكرر بلا نهاية.
يتسم هذا الجانب من فكر هيوم بالأهمية البالغة، وقدر له أن يغدو في مقدمة المواطن الرمضاء حقا في فلسفة المعرفة لقد أفصح هيوم عن كم معتبر من التساؤلات الجامعة التي تظل إلى أبد الآبدين غير قابلة للحل، وهيأسئلة تتطرق إلى المجال الفريد للعلم: لماذا ترتبط الوقائع وفقا لتلك النماذج المتسقة التي تكشف عنها الخبرة؟ كيف يتأتى لقوانين طبيعية، من قبيل قوانين الميكانيكا النيوتنية، أن تتيح لنا التنبؤ بنتائج تجارب لم تحدث أبدا، ومن أين أتت هذه القوة التنبئية للعلم؟ يرفض هيوم كل هذه الأسئلة بوصفها تتجاوز حدود كل ما يمكن أن نأمل في معرفته، ثمة واقعة مفادها أننا نستطيع في بعض الأحيان أن نتجاوز هذه الحدود، والاكتشاف التدريجي لهذه الواقعة سوف يشكل المجال الحقيقي لفلسفة المعرفة في عصرنا الراهن، وهذا ما سنحاول أن نبينه.
الاكثر قراءة في علماء الفيزياء
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة