

التاريخ والحضارة

التاريخ

الحضارة

ابرز المؤرخين


اقوام وادي الرافدين

السومريون

الساميون

اقوام مجهولة


العصور الحجرية

عصر ماقبل التاريخ

العصور الحجرية في العراق

العصور القديمة في مصر

العصور القديمة في الشام

العصور القديمة في العالم

العصر الشبيه بالكتابي

العصر الحجري المعدني

العصر البابلي القديم

عصر فجر السلالات


الامبراطوريات والدول القديمة في العراق

الاراميون

الاشوريون

الاكديون

بابل

لكش

سلالة اور


العهود الاجنبية القديمة في العراق

الاخمينيون

المقدونيون

السلوقيون

الفرثيون

الساسانيون


احوال العرب قبل الاسلام

عرب قبل الاسلام

ايام العرب قبل الاسلام


مدن عربية قديمة

الحضر

الحميريون

الغساسنة

المعينيون

المناذرة

اليمن

بطرا والانباط

تدمر

حضرموت

سبأ

قتبان

كندة

مكة


التاريخ الاسلامي


السيرة النبوية

سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الاسلام

سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الاسلام


الخلفاء الاربعة

ابو بكر بن ابي قحافة

عمربن الخطاب

عثمان بن عفان


علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

الامام علي (عليه السلام)

اصحاب الامام علي (عليه السلام)


الدولة الاموية

الدولة الاموية *


الدولة الاموية في الشام

معاوية بن ابي سفيان

يزيد بن معاوية

معاوية بن يزيد بن ابي سفيان

مروان بن الحكم

عبد الملك بن مروان

الوليد بن عبد الملك

سليمان بن عبد الملك

عمر بن عبد العزيز

يزيد بن عبد الملك بن مروان

هشام بن عبد الملك

الوليد بن يزيد بن عبد الملك

يزيد بن الوليد بن عبد الملك

ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك

مروان بن محمد


الدولة الاموية في الاندلس

احوال الاندلس في الدولة الاموية

امراء الاندلس في الدولة الاموية


الدولة العباسية

الدولة العباسية *


خلفاء الدولة العباسية في المرحلة الاولى

ابو العباس السفاح

ابو جعفر المنصور

المهدي

الهادي

هارون الرشيد

الامين

المأمون

المعتصم

الواثق

المتوكل


خلفاء بني العباس المرحلة الثانية


عصر سيطرة العسكريين الترك

المنتصر بالله

المستعين بالله

المعتزبالله

المهتدي بالله

المعتمد بالله

المعتضد بالله

المكتفي بالله

المقتدر بالله

القاهر بالله

الراضي بالله

المتقي بالله

المستكفي بالله


عصر السيطرة البويهية العسكرية

المطيع لله

الطائع لله

القادر بالله

القائم بامرالله


عصر سيطرة السلاجقة

المقتدي بالله

المستظهر بالله

المسترشد بالله

الراشد بالله

المقتفي لامر الله

المستنجد بالله

المستضيء بامر الله

الناصر لدين الله

الظاهر لدين الله

المستنصر بامر الله

المستعصم بالله

تاريخ اهل البيت (الاثنى عشر) عليهم السلام

شخصيات تاريخية مهمة

تاريخ الأندلس

طرف ونوادر تاريخية


التاريخ الحديث والمعاصر


التاريخ الحديث والمعاصر للعراق

تاريخ العراق أثناء الأحتلال المغولي

تاريخ العراق اثناء الاحتلال العثماني الاول و الثاني

تاريخ الاحتلال الصفوي للعراق

تاريخ العراق اثناء الاحتلال البريطاني والحرب العالمية الاولى

العهد الملكي للعراق

الحرب العالمية الثانية وعودة الاحتلال البريطاني للعراق

قيام الجهورية العراقية

الاحتلال المغولي للبلاد العربية

الاحتلال العثماني للوطن العربي

الاحتلال البريطاني والفرنسي للبلاد العربية

الثورة الصناعية في اوربا


تاريخ الحضارة الأوربية

التاريخ الأوربي القديم و الوسيط

التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر
البطل ديونيسوس-بتوسرابيس
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج16 ص 495 ــ 515
2025-12-30
32
وفي غمرة هذه الأحداث الجسام ظهر — في أفق سياسة مصر الداخلية — رئيس من أبناء الوطنيين برهن على أن رجالات الشعب المصري الأصيل لا يزالون ينحدرون من أصلاب أبطال مصر الذين دوخوا العالم في غابر الأزمان، وأثبتوا أصالة مجدهم وعلو همتهم في المواقف الحرجة. ذلكم الرجل هو «بتوسرابيس» الذي اتخذ لنفسه اسمًا آخر إغريقيًّا وهو «ديونيسيوس».
لقد شهد هذا الرجل العظيم الأحداث التي كانت تجري بين «فيلومتور» وأخيه «إيرجيتيس الثاني» وصمم بما له من مكانة في بلاط الإسكندرية (1) وقتئذ أن يجعل الشعب الإسكندري ينشق على «فيلومتور» وبعد ذلك يلتفت إلى «إيرجيتيس الثاني» فيقلب له بدوره ظهر المجن، وذلك بعد أن فشلت محاولات أبناء جلدته من المصريين في القضاء على نسل البطالمة الذين أذاقوا المصريين الأمرين، ونكلوا بزعمائهم أفظع تنكيل في عهد «بطليموس الخامس».
غير أن «بتوسرابيس» لم يُصِبْ نجاحًا في إثارة الإسكندريين، ولكنه قام في الحال بعد ذلك بإثارة المصريين الذين استجابوا لندائه وأعلنوا الثورة. وقد التف حول هذا البطل حوالي أربعة آلاف مقاتل من بني جلدته من الجنود الثائرين. ويتساءل المرء هل كل هؤلاء كانوا من جنود المشوش؟ الواقع أننا لا نعرف لذلك جوابًا. وعلى أية حال فإن جنود البطالمة الموالين لحكمهم قد تغلبوا عليهم كما تدل شواهد الأحوال، غير أن هذا الحادث في حد ذاته كان إيذانًا بقيام ثورة في مصر. كما فصلنا القول في ذلك فيما سبق.
وقد كان من جراء هذه الثورة أن عم البؤس والشقاء بين الفلاحين حتى بلغ قمته؛ فقد كان النهب الذي نظمه الوزراء الإغريق في البلاد، والذي بلغ ذروته بما قام به «أنتيوكوس الرابع» من إشاعة الخراب بحملته على مصر، هذا بالإضافة إلى الحروب المضنية، وسوء سير الأحوال في البلاد، وانحطاط سوق التجارة مع الخارج (2)؛ كل هذه الأشياء قد كانت سببًا في نفاد كل مصادر خزانة الدولة حتى أصبحت قاعًا صفصفًا. وتدل شواهد الأحوال على أن هؤلاء الموظفين — المسئولين وقتئذ عن مالية الدولة — قد أصبحوا في حيرة من أمرهم؛ فقد كان عليهم أن يمدوا خزانة الدولة بأموال طائلة كان يتطلبها «بطليموس» الملس، وفي الوقت نفسه كانوا يخشون إرهاق الفلاحين الذين كانوا قد وصلوا إلى قمة الفقر والعوز. ولقد بلغ اليأس بهؤلاء الموظفين الغاشمين بسبب سوء التصرف إلى أن انقلب فريق منهم إلى ناهبين بدلًا من جامعي ضرائب، في حين أن فريقًا آخر منهم كان يخترع مبدأ المسئولية التضامنية للقرية، وكانوا يفرضون على أضعف الذين تحت إدارتهم — بكل حماقة — مسئولية فلاحة الأرض وزراعتها (3). ولا نزاع في أن مثل هذا السلوك في تسيير أمور الدولة كان يودي بسرعة على انحلال المجتمع وتفككه؛ ومن ثم وجدنا أن البلدان أخذت تنحل عراها.
وهكذا أصبحت مصر تعيش في ظل الفوضى والامتناع عن القيام بأي شيء إيجابي؛ فالنساء أصبحن يعشن وحيدات في قراهن، في حين أن الرجال — الذين لم يكونوا قد أخذتهم الحرب أو الثورة — كانوا يهربون من الأرض التي كانت تكلفهم ما لا طاقة لهم به من ضرائب. أما أولئك الذين كانوا أقل قوة وأقل احتمالًا لركوب المخاطر فلم يجدوا لأنفسهم ملجأ يأوون إليه في مثل هذه الشدة إلا الرهبنة، وهي الملاذ الوحيد الذي كان يلجأ إليه الإنسان عندما يرى أن كل ما حوله كان قاسيًا عليه. وقد كان في مصر وقتئذ مثل هذا الملجأ؛ فكان إله السرابيوم يدعو أمثال هؤلاء البائسين إلى جواره، ويبقي عليهم، وبذلك ينتزعهم من مجتمع غاية في الظلم والوحشية (4). ومن هذا نفهم أن أمثال هؤلاء الرهبان كانوا يتركون أسرهم تتقلب على أحر من جمر اللظى. ولقد تحدثنا فيما سبق عن أنات الألم التي كانت تنبعث من أمثال هؤلاء الرهبان الذين كانوا يأوون في سرابيوم «منف». ونخص بالذكر منهم هنا «بطليموس جلوسياس» الذي كان يُطْلَقُ عليه لفظة «الملبوس» (عليه عفريت). فقد لجأ إلى جوار ربه «أوزير-أبيس» (سرابيس) ومعه بعض رفاقه في مدة الاضطرابات (5). وعلى أية حال يظهر أنه كان آمنًا في هذا الملجأ حيث كان أفراده يقومون بإدارة شئونهم بهدوء وسكينة، وحيث كانوا أحيانًا يرفعون قضايا على ما أصابهم من ظلم وجور، ثم إنهم كانوا يسمعون ما يجري — في العالم الخارجي عن دائرتهم — من بؤس وشقاء؛ فقد كتبت زوج أحد هؤلاء الرهبان المسمى «أسياس» تقول له:
إنك لم تَعُدْ في حين أن كل الآخرين قد عادوا. إني أجد ذلك شنيعًا، وإني بعد أن قدت قاربي إلى بر السلام، وكذلك قارب طفلك في وسط عذاب شديد، وإني بعد أن وصلت به إلى منتهى ما يمكن من الشدة بسبب ثمن القمح، فإني قد أملت بفضل عودتك أن أتذوق فضلة من الراحة، غير أنك لم تهتم بالعودة، كما إنك لم تقدر أبدًا سوء حالتنا.
وهذه الرسالة المؤثرة التي تتحدث عن نفسها يرجع تاريخها إلى عام 168ق.م؛ أي في الوقت نفسه الذي انفجرت فيه الثورة التي كان يديرها المصري «بتوسرابيس». وعلى أية حال فإني لست في حاجة إلى القول بأنها تصور لنا حالة الوسط الذي كانت تنمو فيه الثورة وتتطور، ولا نزاع في أن المجتمع المصري وقتئذ كان قد وصل إلى أقصى درجة من الفقر والآلام وسوء الحال.
حقًّا إن هذه الثورة التي قام بها المصريون وقتئذ على الأجانب وحكمهم قد ضمت بين جوانحها غير المصريين من الذين عضهم الفقر وسوء النظام الإداري في البلاد الذي كان يصب صوت عذابه على الفقراء عامة سواء أكانوا مصريين أو أجانب. ومن هنا يتجه نظرنا مرة أخرى إلى ما كانت عليه البلاد وقتئذ من نظام اجتماعي واقتصادي، وقد أخطأت المؤرخة «كليربريو» عندما قالت: «ومنذ الآن إذا اعتقدنا أن الثورة — التي أتت على أعقاب الغزو المزدوج الذي قام به «أنتيوكوس الرابع» على مصر — كانت ثورة اجتماعية كما كانت سلالية، فإنا ندهش أكثر عندما نرى هؤلاء الثوار المصريين يقومون بالهجوم على الأماكن التي يجب أن تكون المعسكر العام لثورة مصرية لا تشوبها أية شائبة، وأعني بذلك المعابد.» والواقع أنه قد فات الآنسة «كليربريو» أن الثورة كانت في بدئها قد شُنَّتْ على ظلم الإغريق والبطالمة وفداحة الضرائب التي كان يدفعها الفلاحون وأصحاب الحرف، وقد كان ضلع الكهنة مع الملك الذي كان يسبغ عليهم الهبات والإنعامات مما كمم أفواههم وجعلهم يسيرون في ركابه. وعلى الرغم من أنهم كانوا يسيطرون على عقول الشعب؛ فإنهم مع ذلك كانوا لا يبحثون إلا عن فائدتهم وفائدة طائفتهم، ولا بد أن الجوع والفقر والبؤس التي كانت تغرس أنيابها في ضلوع الفقراء قد نبهتهم إلى نفاق الكهنة عند اشتداد الأزمات؛ فكانوا يقومون بثوراتهم دون تمييز بين ما هو ملك الإغريق وبين ما هو ملك المعابد.
وقد حدث مثل ذلك في عهد الأسرة الواحدة والعشرين عندما قام الشعب بنهب المعابد ومقابر الملوك الذين كانوا يعدون في نظرهم آلهة؛ وسبب ذلك أن الجوع كافر. هذا، وقد ضربت الآنسة «كليربريو» مثلًا يؤكد ما قلناه، وذلك عندما اقتبست بعض سطور عن عبث الأهالي بالمعابد وغيرها (6) نذكرها فيما يلي:
من رسالة تظلم موجهة للحاكم الحربي لمقاطعة «أرسنوي» (7) ورئيس معبد «الأمونيون» الخاص بالجنود المرتزقين أصحاب الأراضي، وذلك فيما يتعلق بخمسة وأربعين أرورا من مقاطعة «موريس» (من أعمال الفيوم) وهي: أن (محراب) المعبد المذكور قد (نُهِبَ) على يد قوم «أنتيوكوس» في اﻟ … العام الثاني (168)، وبعد ذلك استولى على الأرض المقدسة من جديد، وأصلح محراب المعبد القديم، وبعد أن هجم عليه الثوار المصريون، لم يكتفوا بتخريب بعض أجزاء ملحقة به؛ بل نجدهم هدموا أعمال المباني الخاصة بالمحراب، وكذلك أتلفوا أبواب الدخول والأبواب الأخرى التي يبلغ عددها مائة وعشرة بابًا، وكذلك هدموا جزءًا من السقف. أما أنا فإني بعد مضي بعض الوقت … دخلت في النضال، فأقمت متاريس حول كل الأبواب والمداخل؛ لأجل أن تظل بقية العمد محفوظة …
وعند هذه النقطة كُسِرَت الشكوى، وقد ظنت الآنسة «كليربريو» أن القائمين بأعمال النهب في هذه الحالة لم يميزوا بين ما هو مصري وما هو إغريقي، مما ألقى ظلًّا من الشك والريبة على الصبغة الاجتماعية للثورات، ونحن نجد نفس هذه الحال عندما قامت الثورة في عهد الأسرة الواحدة والعشرين، فإنها لم تميز بين ما هو ملك الإله وبين ما هو ملك الأفراد. لقد دفع الجوع الأهالي إلى ارتكاب كل ما يمكن الحصول به على لقمة العيش، وقد يكون أنهم هاجموا المعبد؛ لأن رجال الدين كانوا يساندون الإغريق أعداءهم، ومن ثم يمكن أن نعتبر أن أملاك الكهنة — الذين كان ضلعهم مع البطالمة — حلٌّ لهم. على أن ذلك لم يكن المثال الوحيد؛ بل هناك أمثلة أخرى في هذا الصدد تدل على روح العصر، وما كان ينطوي عليه من فوضى. ففي حوالي نفس العصر نقرأ أن بلدة «ديمة» الواقعة في الشمال الغربي من الفيوم قام فيها الثوار المصريون بثورة أجبروا فيها الأهالي على أن يسلموهم عقود الإيجار التي تشهد بحقوق الملكية، فأحرقوها بكل وحشية (8). ونعلم ذلك من التقرير الرسمي الخاص بالأسلوب الشرعي الذي بموجبه أُعِيدَت الحقوق للمصري ثانية. والمجني عليه في هذه الحالة كان مصريًّا ولا بد أنه كان من حزب الملك. وعلى أية حال فإن مثل هذا المنظر يقدم لنا صورة من صور الثورة التي كانت قائمة في البلاد، وتدل شواهد الأحوال على أن أساسها كانت حركات عدائية اجتماعية يقوم بها الفقراء المصريون على نظام أهل الثراء المجحف الذي كان سائدًا في البلاد.
وأصحاب الثروة — كما نعلم — وقتئذ كانوا هم الإغريق والملك. ومهما يكن من أمر فإن هذه الثورة كانت في بادئ أمرها موجهة على المستعمرين الذين نزفوا دماء الفلاحين والعمال من أهل البلاد المصريين، ولذا قام المصريون أهل البلاد لمحاربة من تعدى على أرزاقهم سواء أكان إغريقيًّا غنيًّا أو آخر ينتمي إليهم أو يساعدهم. ولست أوافق «كليربريو» عندما تقول إن هذه الثورة الشعبية كان منشؤها في الأصل ثورة اجتماعية شجعتها — من باب الصدفة — كراهية الشعب للإغريق؛ وذلك لأن الإغريق منذ البداية هم أس كل ما أصاب المصري من فقر وذل، ومن ثم تولد بغض المصريين لهم؛ فحاربوهم بسبب كل ما أصابهم من فقر وسوء حال ومظالم لم يكن لهم بها قِبَل.
وعندما ننظر ونفكر في الحروب الدينية في الوجه البحري حيث وجدنا أن القوم كانوا متجمعين تحت لواء واحد — بطبيعة الحال — من الوجهة الدينية والوطنية والاجتماعية؛ فإنا نجد أن رجال الشرطة كانوا يسلكون مسلكًا مشينًا لا يختلف في شيء عن مسلك الثوار أحيانًا من حيث التمييز العنصري. وقد حفظت لنا أوراق السرابيوم صدى مناظر تفتيش انقلبت إلى سلب ونهب، وآية ذلك أن رجال السلطة الدينية والمدنية كانوا يفتشون الأماكن المختلفة هناك بحثًا عن أسلحة مُخَبَّأَة؛ لأجل أن يعملوا على عدم انقلاب المشاحنات إلى مذابح دموية؛ غير أنهم كانوا أثناء قيامهم بحملة التفتيش يرتكبون نفس الأعمال المشينة التي كان يرتكبها الثوار. يدلك على ذلك أن «بطليموس جلوسياس» الراهب قد سيئت معاملته مرتين في مدة شهر واحد؛ الأولى (9) على يد مفتشي رجال الشرطة، والأخرى على يد مفتشي المعبد الذين شددوا عليه الخناق أثناء التفتيش (10) لأنه إغريقي، ومن ثم نجد أن العنصرية كانت متوطنة في نفوس رجال الدين.
وعلى أية حال فإنه على الرغم من قيام الثورة في البلاد وانتشار البؤس لم تشل أبدًا حركة الحياة في مصر؛ فقد كانت تُحَرَّر العقود بين الأفراد في أنحاء البلاد كالعادة، كما كانت تأخذ العدالة مجراها، وتُجْبَى الضرائب من الأهلين؛ غير أنه لوحظ أن المحاكمات قد ازداد عددها في طول البلاد وعرضها، وكان معظم هذه المحاكمات ترجع إلى بواعث خلقية نجمت عن مطالبات مالية، ومن هنا نجد أن هذه المحاكمات قد كشفت لنا عن ارتباك فاضح في السلطة الملكية مما كان يتطلب — بإلحاح — الإسراع في القيام بعمل إصلاحات.
وتدل الظواهر على أن الثورة قد انتهت في عام 163ق.م غير أن مذاق شدتها وما جلبته من شرور كان لا يزال باقيًا. وعلى أية حال لم تصل إلينا حتى الآن أوراق بردية أو قطع استراكا أو نقوش تدل على أنه قد حدثت قلاقل خطيرة في إقليم «طيبة» ما بين عام 186 وعام 184ق.م اللهم إلا نبذة جاءت فيما كتبه المؤرخ «ديدور» في تاريخه العام تحدثنا عن حدوث قلاقل في مصر (11). ويقول «ديدور» إن الملك «بطليموس السادس» قد قام على رأس قوة لإخمادها. وهاك النص حرفيًّا: «لقد زحف الملك «بطليموس» نحوهم بقوات كثيرة العدد فاستعاد إليه إقليم «طيبة» في يسر إلا مدينة تُدْعَى «بانوبوليسن» التي أُقِيمَتْ على مرتفع قديم من الأرض، وظهر أنها أبدت مقاومة بسبب الصعوبات التي كانت تؤدي إليها. وقد سارع أنشط الثوار إلى الاحتماء فيها؛ وقد كان «بطليموس» يعلم من قبل ما انطوى عليه هؤلاء الثوار المصريون من جرأة لا سيما أن اليأس دفعهم للمقاومة والنضال عن هذه المدينة، ومن أجل ذلك ضرب الملك عليها حصارًا منظمًا. وقد استولى على المدينة بعد أن تحمل كل أنواع الخسائر، وعاقب المجرمين، ثم عاد بعد ذلك إلى الإسكندرية. والظاهر أن هذا الحادث قد وقع في عام (12) 165-164ق.م.
وقد شاهدنا أن الثورة في هذه المرة قد تبلورت في موقع من المواقع المحصنة في إقليم «طيبة» الذي ورث حب النضال عن الماضي. وقد تساءلت «كليربريو» فيما إذا كان قد حدث تحالف نوبي وانفصال؛ أي إن النوبيين قد أغاروا على إقليم «طيبة» من جديد؟ وردت على هذا السؤال بالإيجاب على شرط أن تجعل الملك الذي قام بذلك هو «هورجونافور» Hurgonaphor والحصار الذي أُقِيم كان حول بلدة العرابة المدفونة في السنة السادسة من حكم الملك «فيلومتور» بدلًا من وقوعه في السنة السادسة من عهد الملك «إبيفانس»؛ أي في عام 164-163ق.م. وعلى ذلك تكون قد قامت هجمة جديدة من بلاد النوبة على مصر العليا على ما يُظَن، وبخاصة عندما نعرف ما كان يبديه الملك «فيلومتور» من اهتمام ظاهر لتحصين الحدود الجنوبية. واستشهدت على صدق هذا الزعم بما كان يقوم به «بوئتوس» Boethos الكاري — وهو شخصية غريبة في بابها — فقد كان يشغل وظيفة حاكم حربي، وفي الوقت نفسه كان يقوم بعمل قائد الجنود ونائب الملك، وهو الذي قام بتأسيس عدة مدن، وكذلك كان يقوم بوظيفة الكاهن الأكبر للآلهة في الفيلة (13). وعلى أية حال فإن ما ذكرته الآنسة «كليربريو» إنْ هو إلا محض فرض فحسب، وفي اعتقادي أن الحدود — من جهة بلاد النوبة — كانت قد وُطِّدَتْ في عهد «بطليموس الخامس» وأصبحت في أمان تام كما جاء في لوحة القحط. أما في الإسكندرية فإن الأحوال لم تكن مستقرة؛ إذ نعلم أن الإسكندريين قد طردوا منها «فيلومتور» منذ زمن وجيز قبل موته الذي وقع عام 145ق.م، ولم تكن مصر وقتئذ في حالة هدوء؛ إذ قام رجال الشرطة في عام 143ق.م بعمليات حربية في إقليم «اللبرنت» فقضوا هناك على عصابات من رعاع القوم كانوا يقومون بأعمال النهب والسلب. راجع: Marter, Les Papyrus et l’histoire Administrative d’Egypte grec. Romaine, loc. Cit.
على أن الفرق بين أعمال النهب والسرقة هذه وبين العصيان الذي كان يقوم به الفلاحون يكاد يكون طفيفًا، فكل من الفريقين قد اضطرته الفاقة إلى ارتكاب ما قام به، ولا نزاع في أن نقائص أنظمة الحكم في البلاد كانت لا تزال موجودة؛ وذلك لأن النظام لم يعد إلى نصابه؛ فمن ذلك أن الحركة التي قام بها رجال الدين — وهي التي كسبوا بها بطريقة منظمة استقلالهم الذاتي — تتمثل أمامنا في الامتيازات التي نالوها في العام الواحد والعشرين (140-139ق.م) من حكم «بطليموس فيلومتور». (14) وهكذا نجد أن القوى التي كانت تهدم سلطة الملك العليا قد كانت تسير قدمًا وبلا هوادة دون قيام أية ثورة علنية معروفة لنا حتى الآن.
وفي خلال هذه المدة كانت الإسكندرية تمهد لقيام ثورة على ملك البلاد الفاجر «إيرجيتيس الثاني» وذلك في السنة الأربعين من حكمه (130ق.م)؛ إذ أظهر الملك بتصرفاته أنه ليس خليقًا لحكم أرض الكنانة. وكان في قدرة أهالي الإسكندرية أن يعزلوا أي ملك لم يكن يسير على حسب أهوائهم ورغائبهم، وقد نصب بعده الإسكندريون على عرش الملك أخته وزوجه الأولى «كليوباترا الثانية»، وفي تلك الأثناء فر «بطليموس السابع إيرجيتيس الثاني» هو وزوجه الثانية «كليوباترا الثالثة» ابنة زوجه «كليوباترا الثانية» و«بطليموس السادس»، وقد تحدثنا عن ذلك فيما سبق، وقد فصل القول في هذا الموضوع المؤرخون القدامى والأحداث (15)، وذكروا ما وقع من أحداث بشعة عُزيت إلى هذا العاهل، وفي الحال اتخذ فرار الملك هذا بمثابة حجة لعدم التعاون الاجتماعي معه، وقد أعلن ذلك في الوثائق الإدارية في العام الأربعين من حكم هذا الملك(16). وتدل الظواهر على أن الثورة في هذه المرة لم تظهر في صورة حدوث قلاقل أو عدم نظام؛ بل كانت تتمثل في المقاطعة، أو بعبارة أخرى الإضراب. ومهما يكن من أمر فإن الحال قد أسفر عن تمزيق البلاد إلى حزبين؛ أحدهما موالٍ للملكة، والآخر موالٍ ﻟ «بطليموس السابع إيرجيتيس الثاني». ثم إن الثورة في هذه الفترة من تاريخ البلاد قد اتخذت صورة إضراب عام في المعاملة بين الجهات الموالية للملكة والجهات الموالية للملك. والواقع أن تقارير مديري الضياع الملكية قد ذكرت لنا نوعًا من الانفصال في فترة العزلة هذه (راجع P. Tebtynis 72, II, 45-46). ولا نزاع في أن هذه الحالة تشعرنا بمقدار الاضطرابات الداخلية في البلاد التي لا شك قد شلت حركة الأقاليم مثل منطقة الفيوم حيث كانت الإدارة الملكية يسير على نهجها مجتمع الفلاحين المزارعين.
أما في منطقة «طيبة» فكانت الأمور على العكس من ذلك؛ فإن الاضطراب فيها كان دائمًا يُصْبَغ بصبغة سياسية بارزة. ذلك أن المقاومة هناك كانت منحصرة في البلدان المحصنة؛ فكانت المدن تحمل الواحدة منها على الأخرى، ومن ثم لم نلمح فيها صدى الحركة العظيمة الجماعية، بل كان ما يُرى فيها هي الحرب الصغيرة بين قرية وأخرى حيث تظهر بصورة أكيدة روح لجولات لمجتمع ثائر على مبدأ تمركز السلطة الملكية. أما من حيث طريقة التأريخ في هذه البلاد التي كانت يتنازع السلطة فيها ملكان، كل يدعي أنه هو الملك الشرعي، فإنه يمكن تحديد تأريخ الأوراق البردية والاستراكا في أقاليم «طيبة» حيث كان يُعْتَرَف بحكم الملكة «كليوباترا الثانية» في فترة الشقاق. ففي «طيبة» و«الجبلين» لدينا قائمة تحتوي على وثائق مؤرخة تأريخًا متسلسلًا بسني حكم «إيرجيتيس الثاني» مما لا يدع مجالًا للشك في أن «كليوباترا الثانية» لم تكن تحكم في هذه المنطقة، ومن جهة أخرى وُجِدَتْ في «أرمنت» متون مؤرخة بالسنة الأولى والثانية من حكم هذه الملكة. وحقيقة الأمر أنه في يناير من العام الأربعين من حكم «إيرجيتيس الثاني» كانت تُجَهَّزُ حملة على «طيبة» لمحاربة بلدة «أرمنت». ونعلم هذا الحادث من رسالة جندي (17) يطمئن فيها والديه، وبأن يبقيا في «الجبلين» على ولائهما، ويخبرهما بالخبر التالي: «لقد علمنا أن «باوس» قد صعد في النيل في شهر طوبة ومعه قوات كافية لإعادة النظام في «أرمنت»، وليعامل أولئك الذين حرضوا على القلاقل بمثابة خارجين.»
و«باوس» هذا كان القائد الحربي. وقد دُهِشَتِ المؤرخة «كليربريو» عندما وجدت أن مصريًّا كان يقود الجنود الموالين للملك، كما دُهِشَتْ عندما رأت أن مصريين كانوا يهاجمون المعابد ويحرقون عقود أملاك مواطنيهم، وقد علَّقت على ذلك بقولها: «إن هذا يجعلنا نتخلى عن الفكرة القائلة بأن ثورات المصريين في عهد البطالمة قد كانت في الأصل ناشئة عن الكراهية للهيلانيين. ثم تقول: إننا نقبل الحقائق دون أن ندهش، ونجتهد في أن نستخلص منها ما توحي به.» والواقع أن ما فعله القائد المصري كان ثمنًا للوظيفة التي مُنِحَهَا، والتي كانت في العادة لا يُنَصَّب فيها إلا إغريقي. أما مهاجمة المعابد وحرق عقود الملكية فقد قام به الثائرون لأن رجال الدين كان ضلعهم مع الملك لما أغدقه عليهم من نعم، كما أن حرق العقود لا بد أن سببه كان من تحيز أصحابها للإغريق وقبول حكمهم الجائر مقابل مساعدتهم على إخماد الثورة، وهذا ما يحدث في كل زمان ومكان بين أولئك الذين يخونون بلادهم من أجل مصالحهم الخاصة (18)!
وعلى أية حال نجد أن «إيرجيتيس الثاني» في العام الثالث والخمسين من حكمه قد كان لا يزال في حملته على «كليوباترا» (19) وفي العام الرابع والأربعين يحتمل أنه كان في حملة في الوجه القبلي، وفي العام الثامن والأربعين من حكمه كانت كل من «أرمنت» و«كركوديلوبوليس» — التي في منطقة «طيبة» — معلنة الحرب عليه. وكانت طرق الهجمات التي يقوم بها الثوار في مثل هذه الجهات دائمًا واحدة لا تتغير، وذلك أنه أثناء الليل كانت تقوم فئة من الرجال من الذين أوتوا بسطة في الجسم مسلحين بنبابيتهم فيوقعون الأذى بالحراس الذين كانوا يحرسون السدود، ثم يقومون بعد ذلك بعمل ثغرة في الجسور مما يسبب إغراق أرض العدو وإتلاف زرعها.
وفي العام التاسع والأربعين ثارت المقاطعة «الطينية» (20) أيضًا.
هذا، ومن المحتمل أنه في العام الثاني والخمسين من حكم هذا العاهل ينبغي أن نذكر ضرب حصار لمدينة «بانوبوليس» (21). هذا، ونعلم أنه في العام الثالث والخمسين من حكمه، ومن الملف الصغير الخاص بمقاطعة «طينة» المحفوظ الآن في فلورنس قد كان هناك هجوم جديد على سدود الحياة (22).
ومن كل ذلك نعلم أن الثورة الطيبية كان لها إذن طابع فريد في بابه؛ ففي حين نرى أنه في الوجه البحري وفي مصر الوسطى كانت الثورات التي يقوم بها الناس تتمثل في الإضراب عن العمل الذي كان بصورة جماعية، بينما نجد في الجنوب أن البلاد كانت مقسمة إلى قرى معادية. ولم نعثر في النقوش أو الوثائق في تلك الفترة على نشوب حرب بين حزب مصري وحزب إغريقي، ومرجع ذلك على ما يُظن أن سكان القرى كان معظمهم من المصريين بينما كان إغريق القرى في معظم الأحيان من الطبقة الفقيرة التي كانت ترزح تحت أعباء ضرائب فادحة، شأنهم في ذلك شأن المصريين.
ولم يقتصر المجهود الذي يبذله الملك لمقاومة هذه الاضطرابات الوطنية بوساطة رجال الشرطة وحسب؛ بل كان يتدخل القضاء في تهدئتها أيضًا، ولا أدل على ذلك من أنه منذ عهد الملك «فيلومتور» — ومن المحتمل كذلك في عهد «بطليموس السابع إيرجيتيس» — صدرت الأوامر والمنشورات الدورية؛ لتحدد في غالب الأحيان مركز الملك بالنسبة للقوات الخارجة على النظام، وهذه الأوامر والمنشورات قد أعطتنا الفرصة لنرى نمو هذه القوات المعادية وتؤكد نجاحها (23). وسلسلة المراسيم التي أصدرها «إيرجيتيس الثاني» في العام الثاني والخمسين من سني حكمه (118ق.م) تُعْتَبَر من أثمن الآثار التي قدمتها لنا الأوراق البردية (24)، وقد كان الغرض من هذه المراسيم — كما فصلنا القول سابقًا — ألا يكون قاصرًا على حسم القلاقل وأثرها السيء؛ بل كذلك لإيقاف المظالم التي كانت فاشية. وتقول الآنسة «كليربريو»: إنه ليس لدينا — مما بقي من هذا التشريع — ما يشعر بتصحيح مركز سلالة بالنسبة إلى سلالة أخرى، أي ما يشعر بتصحيح مركز المصريين بالنسبة للإغريق وغيرهم من أصحاب المكانة الرفيعة. والواقع أن الإغريق كانوا هم الرؤساء وأصحاب اليسار في البلاد، ومن ثم لم يكن هناك أية مقارنة بينهم وبين المصريين الذين كانوا يعملون لإسعادهم وإسعاد الملك. وعلى أية حال فإن الإعفاءات والإصلاحات كانت ممزوجة بالرسومات التي صدرت لإصلاح المظالم؛ فكانت الإعفاءات تشمل الجرائم والأضرار التي أحدثتها الحروب الأهلية. هذا، وينبغي أن نضع هنا جانبًا مناظر العنف العادية والحرائق، وأعمال التخريب وهي التي نجدها مشتركة في الثورات، ولدينا أعمال أخرى ذات طابع تجريبي ذي أهمية أكثر؛ فمن ذلك ما نسمعه كثيرًا عن سلب المعابد كما ذكرنا الأمثلة على ذلك، وهذا يؤكد أن الكهنة لم يترأسوا الحركات الثورية؛ لأنهم لم يكونوا في حاجة للقيام بأية ثورة لا سيما أنهم نالوا من الملك كل حقوقهم وأكثر منها، وبذلك ضمهم إلى جانبه.
ولا ريب في أن علامات سوء النظام الذي كان متوغلًا في البلاد بسبب إجحاف الأجانب وشره ملوك البطالمة كان يتمثل بأجلى مظاهره في الأرض التي تركها زراعها، وفي الرجال الذين تركوها وأصبحوا يعيشون على السلب والنهب، وفي الضرائب وخراج الأطيان التي لم تُدْفَع، وفي الحقول التي تُرِكَتْ بورًا، وفي أعمال الري التي أُهْمِلَتْ، وفي التوريدات التي بقيت مستحقة للاحتكار الملكي، وأعمال السخرة التي لم تؤد، والضياع الملكية التي اغتصبها أولئك المزارعون الذين يزرعونها مدعين حق ملكيتها بصفة مستديمة، ولا نزاع في أننا قد لحظنا فعلًا مثل هذه الصورة في عهد الملوك السابقين، هذه الصورة التي تتمثل أمامنا في مصر دائمًا عندما يكون على رأسها ملوك ضعفاء لا سلطان لهم، ولا أدل على ذلك من عهد الثورة الاجتماعية العارمة التي قامت في مصر بعد سقوط الدولة القديمة، وهي تلك الثورة الجبارة التي تُعد في نظر التاريخ أول ثورة اجتماعية في التاريخ القديم، وبها بدأ الإنسان الفقير — للمرة الأولى — يطالب بحق الحياة الكريمة جنبًا لجنب مع صاحب الثراء (راجع مصر القديمة الجزء الأول).
وعلى أية حال يمكن الإنسان أن يخمن كم من تقصير في تأدية الواجبات المدنية كالتي ذكرناها هنا كانت سببًا في إفلاس الملك ماديًّا والتطويح بعرشه. والواقع أن الملك عندما يكون متحليًا بحس سياسي صادق حكيم فإنه يصبح في مقدوره أن يبتعد عن الصدام مع شعب بأكمله قد سِيئَتْ إدارته على يد حكام ظالمين؛ بل على العكس ينبغي عليه أن يستميح شعبه عذرًا؛ إذ إنه لا يعتبر أن شعبه عدوه، ومن أجل ذلك يجب عليه أن يعاقبه، وفي الحق أن عامة الفلاحين في مصر لم يكونوا يحقدون على الملك؛ بل كان كل حقدهم منصبًّا على موظفيه، ولا شك في أن هؤلاء الفلاحين وهم الذين يؤلفون القوة الخارجة على السلطان الملكي قد كانوا محقين في خروجهم على كبار الموظفين؛ إذ في الواقع نرى هؤلاء كانوا يدعون لأنفسهم امتيازات ملكية ليست من حقهم؛ فمن ذلك أن موظفي الجمارك كانوا يستولون دون أي حق على البضائع التي تدخل الإسكندرية، وكذلك يحصلون أو يفرضون ضرائب لم تكن في الحسبان. يُضاف إلى ذلك أنهم لما كانوا هم الذين يديرون الأراضي المقدسة؛ فإنهم كانوا يضمون أحسن الأراضي التي كانت تملكها الآلهة إلى ضياع الملك الحقيقية، وفضلًا عن ذلك كانوا يفرضون ضرائب فادحة على الفلاحين الملكيين لا قِبَل لهم بدفعها، ويحتالون على ذلك باستعمال مكاييل مزيفة أكبر من المكاييل القانونية، وذلك عند تسلمهم ضريبة القمح المفروضة على كل فلاح حسب الأرض التي يزرعها. هذا، وكانوا يستولون لأنفسهم على أحسن الأراضي من حيث الخصب، وكذلك نجدهم يسخرون — لخدمتهم الخاصة — رجال الملك من الفلاحين، وكذلك العمال الخاصين بالاحتكار.
ومما زاد الطين بلة أنهم كانوا يحفظون لأنفسهم الأموال المحصلة للخزانة الملكية.
وأخيرًا وليس آخرًا كان جماعة هؤلاء الموظفين يحاكمون رعايا الملك ويحبسونهم دون محاكمة، ولا شك في أن هذا التصرف يُعَدُّ أخطر علامة تدل على ازدياد قوة هؤلاء الموظفين واستقلالهم وعدم الاكتراث بأي قانون ملكي. وفي هذه الفترة نجد أن الصورة كلاسية لعصر تضعف فيه الملكية. فالسلطة الملكية تتمزق وتوضع في أيدي الموظفين الذين يدعون حقوق الرياسة ليصبحوا أصحاب السيطرة الفعلية، وهذا هو نفس الموقف الذي وقفته مصر في اللحظة التي تسلم فيها الفرعون «حورمحب» مقاليد الحكم بعد أزمة «تل العمارنة». ومن الغريب المدهش أن كل هذه الأعمال التي تدل على العسف والظلم والاضطهاد كانت لا تزال مميزة للمساوئ التي كانت تُرْتَكَب في حكم الملك «إيرجيتيس الثاني» وهو الذي حرم العمل بها، وقضى عليها جملة بالمراسيم التي أصدرها على الرغم مما عرف عنه من ارتكاب أبشع الجرائم وأفظعها. وعلى أية حال لم يَكْتَفِ بإصدار هذه المراسيم؛ فقد رأى — لأجل جعل وقوع مثل هذه الموبقات أمرًا مستحيلًا — أنه من الواجب عليه أن يغير قانون الموظفين، وذلك بعدم جعله ضمن مسئوليتهم، وقد كان هذا هو العلاج الوحيد؛ غير أن ذلك لم يكن بالأمر الذي يمكن تفهمه في هذا الوقت. يُضاف إلى ذلك أن المراسيم في نظرهم كانت مجرد حبر على ورق، ولا أدل على ذلك من أنه في عام 114ق.م ثارت قرية من قرى «الفيوم» على الحكام الملكيين الذين أساءوا استعمال سلطتهم (25). ويطيب لنا أن نذكر هنا أنه كانت توجد سلطة أخرى — بجانب سلطة الموظفين — تدعو إلى الانحلال في طول البلاد وعرضها وهي سلطة المعابد، أو بتعبير أدق سلطان رجال الدين الذين كانوا منتشرين في كل ركن من أركان البلاد في المدن والقرى صغيرها وكبيرها. وهذه الطائفة كان جل هم رجالها أن يحصلوا لأنفسهم على استقلال ذاتي سياسي، وقد كان هذا أكبر خطر يتهدد البلاد؛ لما لهم من نفوذ روحي على الشعب. ولم يُبْدِ الملك أمام قوة الكهنة هذه أية مقاومة، فقد كان يعطيهم امتيازات وإعفاءات، ولم يحتفظ لنفسه إلا بشيء واحد هو وراثة الوظائف التي اشتراها بيت المال؛ وذلك لأنه رأى أنه إذا منح الكهنة — بالإضافة إلى المنح والإعفاءات التي نالها الكهنة بمقتضى مراسيم عدة — وراثة الوظائف أيضًا فإن ذلك كان يضع في أيديهم قوة إقطاعية حقيقية، وإذا كان من الواجب عليه أن يحرمها فإن الأمر كان فعلًا قد وُضِعَ على بساط البحث.
ونجد في الوقت نفسه الذي كان فيه الملك يخفض من عدد الموظفين أنه كان يبحث في أن يضم إليه قوة الصناع الذين كانوا مصدر ثرائه. فقد انتزعهم من شر الآفات التي تعمل على القضاء عليهم؛ لأجل ألا تخلو منهم المصانع والحقول الملكية (26) ومن أجل ذلك أعفاهم من توريد ما كانوا يدفعونه كل ثلاثة أشهر من كراء للجند، (27) كما منح أولئك الذين اشتروا عقارات من الخزانة حق الملكية التي لا نزاع فيها، على أن تكون حرة من الالتزامات الشرعية (28). وبهذه الإجراءات يُلْحَظ أن هذا العاهل كان يعمل على تثبيت رعاياه في أعمالهم وفي أماكنهم، وهذه كانت ضرورة لسياسة استغلال خيرات البلاد لسد حاجة الخزانة. يُضَاف إلى ذلك أن المراسيم كانت تزيد — في نفس العصر — في محتويات حقوق الجنود أصحاب الأطيان في الأرض التي يزرعونها، وكانت كذلك تتسابق إلى نفس الغرض (29) المضعف للدولة.
وأخيرًا عمل «بطليموس السابع إيرجيتيس الثاني» على محو بعض الارتباكات في الإجراءات القانونية؛ وذلك بأن حد بوساطة العقود من سوق القضايا التي كان يمكن أن تُقام بين الأفراد المتعاقدين، وهذه كانت عملية بسيطة لوضع الأمور في نصابها (30).
غير أن هذا المجهود التشريعي لم يُجْدِ نفعًا؛ وذلك لأن الأوامر التي صدرت في عام 118ق.م أي في عهد «إيرجيتيس الثاني» لم تُوجِدْ توازنًا بين القوى المضادة في البلاد؛ إذ رأينا أنه منذ عام 114ق.م كان الشجار قائمًا في الفيوم، في حين نجد في إقليم «طيبة» أن تمزيق البلاد كان يزداد ويشتد، وقد وصلت الحالة هناك إلى درجة أنه ما بين عام 88 وعام 85ق.م بعد ثلاثة أعوام، وكان حرب العصابات فيها على قدم وساق؛ اضطر «بطليموس سوتر الثاني» إلى تخريب مدينة «طيبة» التي كانت تُعْتَبَر وكر المقاومة. وكما جرت العادة نجد أن هذه الانطلاقة الثورية في البلاد قد جاءت في أعقاب عصيان أهالي الإسكندرية. وقد حدثنا في ذلك المؤرخ «بوزانياس» (31) Pausanias: «كان من جراء كشف النقاب عن موت «كليوباترا الثالثة» وهرب «بطليموس الإسكندر» خوفًا من أهالي الإسكندرية أن عاد ثانية «بطليموس سوتر الثاني» من «قبرص» (كما هي العادة) وحكم مصر للمرة الثانية. وقد أعلن الحرب على «الطيبيين» وأخضعهم بعد مضي ثلاث سنوات على انفجار الثورة. ولقد قسا عليهم لدرجة أنه لم يُبْقِ على أية ذكرى من سعادتهم الغابرة.» هذا، ولدينا بعض أصداء عن القلاقل التي مهدت للأزمة، ثم التجهيزات التي اتخذت للحملة التأديبية؛ ففي العام التسعين ق.م (أي الرابع والعشرين من حكم «بطليموس الإسكندر») أعلن كاتب المركز الواقع جنوبي مقاطعة «الجبلين» هجوم ثوار على أراضي «لاتوبوليس» و«الجبلين» الملكية (32).
وفي متناولنا بعض رسائل مؤرخة بالعام 88ق.م؛ أي في السنة السادسة والعشرين من حكم «بطليموس الإسكندر»، كما لدينا أخرى مؤرخة بالعام الثلاثين من عهد «بطليموس سوتر الثاني» باسم فرد يُدْعَى «بلاتون» (أفلاطون) الذي كان يشغل وظيفة قائد جيش إقليم «طيبة»، والواقع أنه كان يشغل وظيفة القائد الأعلى. ويدل ما جاء في هذه الرسائل (33) على أن ما قصه علينا المؤرخ «بوزانياس» كان غاية في الدقة؛ فالثورة التي قامت في «طيبة» كانت قد بدأت قبل عودة «بطليموس سوتر الثاني» من المنفى، وعلى ذلك فإنها لم تكن مرتبطة بتقلبات أحوال الملك. وبعد ذلك نرى أن «الطيبيين» لا يؤلفون كتلة واحدة جمعتهم على كلمة واحدة، وكان «بلاتون» قد كتب في 28 مارس عام 88 لأهالي «الجبلين» الذين كانوا على ولاء للملك — والظاهر أنهم كانوا مهددين — رسالة يدعوهم فيها للهدوء والسكينة، كما رجاهم أن يساعدوا «نختيريس» الذي كان قد كلفه بتنظيم المقاومة. وقد اتجه بنفسه نحو المدينة المهددة، وكذلك كتب إلى «نختيريس» في الوقت نفسه يخبره بأنه قد أخذ على عاتقه إخضاع الثوار، وأنه يصل إلى «لاتوبوليس»، ورجاه بأن يشرف على الإقليم، وأن يعمل على أن يسود الهدوء والطاعة (34). ويمكن الإنسان أن يستنبط من بين سطور هاتين الرسالتين مقدار الذعر الذي كان ينذر باقتراب انفجار الثورة.
وكان الخوف من حلول القحط في المدينة المحاصرة قد جعل الهلع يدب في نفوس السكان، وقد فكر «بلاتون» من أجل ذلك في تموين المدينة المحاصرة؛ وبسبب ذلك كتب في ثلاثين مارس إلى «نختيريس» على أن يعمل كل ما في وسعه على أن يكون لدى كل فرد في المدينة إردب من القمح احتياطيًّا؛ أي ما يكفيه مدة شهرين، وكذلك يكون لديه خبز وشعير (35). وعلى ذلك نجد هنا ثانية أن النضال كان قائمًا بين «الجبلين» الموالية للملك وبين «طيبة» الثائرة عليه، وهذا هو نفس ما كان قد حدث في عام 130، وفي عام 90ق.م. على أن الشيء الذي يدعو إلى الدهشة هو أن نرى مدينة «الجبلين» يدافع عنها مصري، ولكن ليس هناك ما يدهش في ذلك؛ لأننا نرى في وقتنا الحاضر وفي كل زمان أن الجنود الرسميين يحاربون الثوار سواء أكانوا من سلالتهم ومن وطنهم أم أجانب، وأعتقد أن السبب الذي أوردته الآنسة «كليربريو» في هذا الصدد وهو عدم وجود كراهية بين المصريين والإغريق لا يطابق الواقع. وعلى أية حال فإن الحصار إذا كان قد أقامه الثوار فإنه لم يُفك بسرعة؛ وذلك لأنه في أول نوفمبر عام 88ق.م خاطب «بلاتون» الكهنة وأهالي «الجبلين» الآخرين. فاستمع لما قاله: «سلام. لقد كتب إلى «فيلوكزينوس» Philoxenos أخي في رسالة حملها إلى «أورسيس» أن الملك «سوتر» الإله العظيم جدًّا قد وصل إلى «منف» وأن «هيراكس» Hierax قد عُيِّنَ لإخضاع إقليم «طيبة» بقوات عديدة، ولأجل أن يحوز هذا الخبر ثقتك الطيبة فإنا قد قررنا أن نخبرك به. تحريرًا في العام الثلاثين التاسع عشر من شهر بابه.» ومن ثم نفهم أن كهنة «الجبلين» كانوا يديرون المقاومة.
ويرجع السبب في ذلك إلى أن كهنة «الجبلين» هؤلاء كانوا خدام الإلهة «حتحور» وقد كانوا منذ زمن بعيد يحملون في نفوسهم حقدًا كمينًا على كهنة آمون (36). وعندما نرى أن كهنة «حتحور» كانوا موالين للملك فلا بد أن نفهم أن من كان يعارض السلطة الملكية في «طيبة» لم تكن طبقة الكهنة؛ بل كان «آمون» أو بعبارة أدق مذهب «آمون» وأتباعه وحسب. ومنذ ذلك الوقت نجد ثانية رابطة تقليدية تضرب بأعراقها إلى الأزمة التي أوجدها «إخناتون» والتي كانت ترمي إلى القضاء على عبادة «آمون». وقد أفلح فعلًا هذا الملك الذي يُعْتَبَر أول من وحد بالله في تاريخ البشرية بصورة واضحة لا لبس فيها ولا إبهام. وتدل شواهد الأحوال على أنه منذ ذلك العهد لم نسمع أن واحدًا من أولئك الملوك الذين أرادوا أن يكون لهم سلطان قوي كان على وفاق ومصادقة لمدة طويلة مع مذهب «آمون» وأتباعه. هذا، ونجد في عهد البطالمة أن إله «طيبة» وهو «آمون» كان يحافظ على ذكريات القرون التي سبقت عهد النهضة الساوية التي بدأت في بلاد السودان، وهي التي تعتبر نهضة ملكية يساندها أتباع «آمون»، على أن ذلك لم يكن بالأمر الهام في نظر المصريين الذين كانوا يريدون أن يتخلصوا من الحكم الأجنبي ومساوئه، ومن ثم نجد أن الشجار كان في الواقع بين المصريين والإغريق والمقدونيين المستعبدين، ومن أجل ذلك فإني لا أتفق مع الآنسة «كليربريو» في أن الحرب في مصر — كانت في نهايتها — حربًا بقوة السلاح بين مبدأي الإقطاع ومبدأ الملكية، والواقع أن هذه الحرب قد جاءت عرضًا ولم تكن أساسًا، بل الأصل كان قيام الشعب المصري — منذ أن وطئ الإغريق والمقدونيون أرض الكنانة — لمقاومتهم والتمتع ببلادهم حرة يحكمها مصري من أبناء مصر، كما أظهرت الحوادث التي سردناها في هذا الصدد منذ قيام الثورة بصورة جديدة في نهاية عهد «بطليموس الرابع». وقد استمر المصريون في نضالهم ومقاومتهم ملوك البطالمة وبطانتهم من الإغريق والمقدونيين حتى قبل نهاية الحكم البطلمي بمدة وجيزة.
والاضطرابات والقلاقل التي قامت في العام التسعين قبل الميلاد، والتي جاء ذكرها في ورقة برلين الديموطيقية؛ قد تكون هي بداية هذه الثورة، وبذلك فإن حملة «هيراكس» تكون بمثابة إيذان لانتهاء الشجار، وعلى ذلك تكون الثلاث السنوات التي حددها المؤرخ «يوزانياس» قد انتهت عام 88ق.م. أما إذا كان ينبغي على العكس أن نجعل هذه الحرب تبتدئ — كما يقول مؤرخنا — برجوع الملك «بطليموس سوتر الثاني» إلى عرش الملك فإنه ليس لدينا في مراسلات «بلاتون» السالف الذكر إلا المرحلة الأولى من هذه الحرب.
هذا، وتقدم لنا ورقة «باد» رقم 16 Bade No. 16 كذلك تفصيلًا عن المقاومة التي أبدتها بلدة «الجبلين». وما جاء فيها في هذا الصدد هو تهاني للكهنة من أجل القرارات التي اتخذوها. هذا، وقد دعاهم «بلاتون» فضلًا عن ذلك لحماية المكان لأجل «السيد الملك» (37). ولا يفوتنا أن نذكر هنا الدور الذي كان يقوم به الكهنة في هذه البلدة؛ فقد كانوا مكلفين بالقيام بالحكومة المدنية فيها، مما يدل على ما كان لهم من أهمية سياسية في شئون هذه البلاد التي كانت آخذة في الانحلال والإفلات من سلطان الملك الذي قد أصبح بدوره في نهاية العهد البطلمي لا شيء على وجه التقريب. والمهم هنا أن هؤلاء الكهنة لم يكونوا من أتباع «آمون» بل كانوا من عباد الإلهة «حتحور».
وعلى أية حال فإن كسر شوكة المقاومة في إقليم «طيبة» لم يُعِدْ للبلاد هدوءها ونشر السلام فيها؛ وذلك لأن المقاومة في «طيبة» لم تكن روح الثورة التي ترمي إلى طرد الإغريق من البلاد؛ بل كانت مجرد نقطة مقاومة يسكنها الإله «آمون» الذي كان له سلطان عظيم فيما مضى، وأن مقاومة المصريين كانت مستمرة للعمل على طرد الأجنبي الإغريقي من البلاد التي أصبح يستغلها على حسابهم حتى أصبحوا في فقر مدقع وبؤس شامل. وهذا هو ما تحدثنا به الآثار؛ فلدينا بعض الأوراق البردية التي عُثِرَ عليها في «أهناسيا المدينة» يرجع تاريخها إلى العام الخمسين قبل الميلاد وصفت لنا ما كان عليه ريف مصر من حالةٍ تدعو إلى الحزن والأسى؛ إذ قد أصبحت قرًى برمتها خاوية على عروشها؛ فرجالها كانوا يفرون من وجه الفقر والضغط لابتزاز الأموال ظلمًا وعدوانًا (38). أما أولئك الذين كانوا لا يزالون مرتبطين بالأرض التي كانوا يزرعونها؛ فكانت تُفْرَض عليهم مصاريف باهظة من أجل الزراعة (39). وكانت المعابد مقصدًا للصوص والناهبين (40). أما الموظفون فناهيك بهم؛ فقد كانوا يسيئون استعمال سلطتهم. وقد كانت الالتزامات المالية وقتئذ قد بلغت من الفداحة والإرهاق ما جعل سكان مصر لا حول ولا قوة لهم على تحملها لدرجة أن مالية مصر أعطيت أحد الرومان، وآية ذلك أن «بطليموس الزمار» ملك مصر كان قد أصبح في واقع الأمر مدينًا بأموال طائلة إلى المرابي «رابيريوس بوستوموس» Rabirus Postumus، وبدلًا من أن يوفي له ما عليه من دين في عام 55ق.م فإنه عين صاحب الدين مشرفًا على مالية مصر (41). ويمكن الإنسان أن يتنبأ مقدار فداحة الأموال التي كان يبتزها مثل هذا المرابي، ومقدار السلب والنهب الذي كان يستنزفه من دماء الفلاحين المصريين، على أن مصر وأهلها كانوا يعرفون وقتئذ من المخرب لديارهم، ومن المستنزف لدمهم على مرأًى منهم.
وليس بغريب أن يبلغ البؤس أشده والصبر نهايته؛ مما أدى من جديد إلى انتشار الإضراب حتى عم البلاد. ولدينا قطعة بردي تكشف لنا في وقت واحد عن ولاء السكان وكراهيتهم التي كانوا يصرحون بها عن تصرفات رجال الإدارة الخائنين. فاستمع إلى بعض ما جاء عن حادث مدهش في بابه، وهو عبارة عن محضر محادثة جرت بين العمال وبين الممثلين الرؤساء للحكومة الذين يصغون إلى مظالمهم وتهديداتهم:
… في الصباح الباكر اجتمع جم غفير من الناس أكثر من أولئك الذين اجتمعوا عند صرح (نافذة المقابلة) وطلبوا غوث الملكات والجنود، وقد قابلهم الحاكم العسكري ومعه «مقدمه» المسمى «خايراس» Chairas، وقد علم من جديد عن ارتكاب مساوئ كثيرة مع كل فرد على يد قوم «هرمايسكوس» Hermaiscos. وقد أصر الشاكون على أن يرفضوا القيام بأي عمل حر أو ملكي إذا لم يقم الحاكم العسكري بعمل تقرير للملكات ولوزير المالية بمقتضاه بطرد قوم «هرمايسكوس» من المقاطعة. غير أن الحاكم العسكري والآخرين قد نصحوهم بالتزام السكينة، ووعدوهم بأن يقدموا تقريرًا باتهاماتهم، وعلى ذلك انصرفوا. هذا هو السبب الذي من أجله نعمل هذا التقرير.
ويُلْحَظُ أنه ليس هناك فرق أساسي بين هذا الإضراب الشديد الذي أدى في الحال إلى العصيان والإضرابات التي ذكرناها من قبل في أوراق «زينون» التي يرجع عهدها إلى القرن الثالث قبل الميلاد. غير أن المساوئ في العهد الأخير — الذي نحن بصدده — قد ازدادت، كما اشتد البؤس، ولكن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية التي كان يرزح تحت عبئها أفراد الشعب كانت كما هي، وسببها ضغط المستعمرين الأجانب وشره ملوك البطالمة؛ ومن ثم نشأت كراهة المصريين للإغريق.
ولا نزاع في أن استمرار هذه الحالة في البلاد هي التي يجب أن توضح بعد هذا البحث الطويل.
وفي الحق إذا نظرنا بعين فاحصة في تقلبات الأحوال في الديار المصرية منذ دخول «الإسكندر الأكبر» أرض الكنانة واحتلالها حتى نهاية العهد البطلمي تقريبًا؛ لاتضح لنا أن النضال بين المصريين وبين المستعمرين من الإغريق والمقدونيين كان قائمًا دون هوادة. وقد تطورت القوى المناهضة للمستعمر على حسب قوة الملك الحاكم وضعفه، وعلى مقدار ما كان يتطلب من الشعب المصري من تضحيات مادية لتنفيذ سياسته في داخل البلاد وخارجها، وذلك على حساب الفلاح المصري والعامل المصري وحسب. ولم يترك البطالمة — طوال مدة حكمهم البلاد — فرصة سمحة للشعب المصري ليشترك مع من أتوا معهم من بلاد الإغريق و«مقدونيا» في حكم البلاد؛ بل جعلوا كل السلطة في أيديهم من الوجهة الاقتصادية والسياسية وجعلوا مركزهم الرئيسي في الإسكندرية وبعض مدن أخرى في الديار المصرية. ومن ثم أصبحوا يؤلفون حزبًا خاصًّا حاكمًا في البلاد، وبذلك كانوا هم المسيطرين على سياسة البلاد في البلاط، وقد أخذ سلطانهم يزداد حتى أصبح في أيدي الإسكندريين الأجانب الحل والعقد في الأمور السياسية عندما يتراءى لهم ذلك. وقد رأينا في خلال سرد تاريخ ملوك البطالمة في العهد الأخير كيف كانوا يعزلون ويولون الملوك دون كبير عناء، وذلك بإعلان الثورة على كل ملك يرون أنه حاد عن جادة الصواب، وأن في بقائه خطرًا على البلاد، كما كانوا يشنون الحرب على كل حكومة لم تكن في نظرهم تنهج الطريق السوي في تدبير شئون الدولة. وبذلك كان حزب الأجانب في البلاد من الإغريق والمقدونيين الذي يسكن العاصمة صاحب سلطان قوي في سياسة البلاد؛ بل كان هو الحزب الذي له السيادة المطلقة. ومن أجل ذلك كان خطرًا يهدد ملوك البطالمة، وكم من رجال هذا الحزب قد استغل منصبه في ابتزاز الأموال من الأهلين، وجر البلاد إلى حروب طاحنة كان من نتائجها في نهاية الأمر القضاء على هيبة مصر وضياع ممتلكاتها في الخارج؛ بل واحتلالها احتلالًا عسكريًّا. هذا فضلًا عن أنها أصبحت في أواخر أيامها تحت وصاية الرومان إلى أن احتلوها وأصبحت ضمن أملاكهم.
ولقد كان من جراء تسلط الحكام الإغريق وإجحافهم بحقوق الشعب المصري الكادح أن أخذ الأخير يشعر باضطهاد الأجنبي وظلمه له، فقام بثورات مطالبًا باستقلاله ورد حقوقه إليه، وبدأت هذه الثورات في الوجه البحري، ثم انتشرت في الوجه القبلي. وقد كان على الملك والحكام الإغريق أن يقاوموا هذه الثورات ويخضعوها بحد السيف تارة وبالمهادنة وتخفيف الضرائب تارة أخرى؛ بل أحيانًا بالإغراء بمنح بعض الوظائف الكبيرة في الإدارة أو حتى في الجيش، وبذلك كان المستعمر يحرض — في كثير من الأحوال — المصريين بعضهم على بعض لإحباط الثورة التي كانت في أساسها إرجاع الحقوق إلى أصحابها. ولقد بلغ من إغراء الإغريق للمصريين أن استعملوا المنافسات الدينية بين أهل الشمال وأهل الجنوب. ومع ذلك فإن الأبطال المصريين الذين كانوا يدافعون عن استقلال مصر قد أسسوا لهم ملكًا على غرار ملك الفراعنة حتى أصبحت مصر مقسمة قسمين؛ يمثل أحدهما الشعب المصري الأصيل، والآخر يمثل البطالمة والأجانب. ولولا الخيانات وقلة المال لأفلح المصريون في طرد البطالمة من ديارهم، وعلى الرغم من تغلب الإغريقي على المصري؛ فإن ثورات الأخير لم تنقطع حتى نهاية الحكم البطلمي، وكانت المعول الجبار في هدم سلطان ملوكه. هذا، وتدل الأحداث التي وقعت خلال هذا النضال المرير بين الشعب المصري الأصيل وبين ملوك البطالمة والموظفين الأجانب من الإغريق والمقدونيين على أنه من أكبر العوامل — التي أفسدت خطط المصريين المجاهدين — ما كان عليه رجال الدين من تذبذب؛ بل انحياز ظاهر لملوك البطالمة الذين أفسدوهم بما كانوا يغدقون عليهم من هبات وامتيازات جعلتهم يميلون إليهم كل الميل؛ مما أفسد نضال الأبطال المصريين، وشل نشاطهم إلى أبعد حد، ومع ذلك فقد كانت فئة منهم تميل إلى نضال المواطنين أحيانًا.
ومن ثم نرى أن كل هذه العوامل التي ذكرناها هنا كانت السبب في قيام الشعب المصري على الهيلانيين. ولست أرى رأي الآنسة «كليربريو» عندما قالت إن عبارة «طرد الإغريق» لم تكن على ما يحتمل إلا صيحة حرب، وأن ذلك لم يكن الغرض الأول، ولا السبب العميق للثورة المصرية التي لم يخمد لهيبها، وذلك أن بيت الداء هو الحكم الهيلاني الأجنبي وما كان يرتكبه رجال الإدارة والقضاء من مظالم مع المصريين، فإذا زال هؤلاء الحكام زالت معهم كل المساوئ التي كان يتألم منها المصري ويئن تحت أعبائها، وبخاصة التفرقة العنصرية التي كانت بادية في كل مكان وفي كل أوجه النشاط في البلاد، وبذلك أعتقد أن كل كره المصري وما قام به من ثورات — مهما كان لها من ألوان مختلفة في ظاهرها — فإن أساسها كان التمييز العنصري واستغلال الشعب المصري المسالم بكل الوسائل. وقد ساعد ملوك البطالمة في ذلك لإرضاء شهواتهم وأطماعهم على حساب الشعب المصري النبيل المسالم الذي لم يَثُرْ إلا بعد أن طفح الكيل ولم يبق في القوس منزع.
.....................................................
1- راجع: Diodonus XXXI, 15a.
2- راجع: Restovizeff. The Hellenistic World and its economic Development. The American Historical Review, 41, (1936), PP. 223–252.
3- راجع: U. P. Z. 110.
4- راجع: Wilcken, Urkunden der Ptolemerzeit I, PP. 52–82.
5- راجع: U. P. Z 14, 1, 9.
6- راجع: Chronique d’Egypte Ibid., P. 540.
7- راجع: F. Tebtynis 781.
8- راجع: P. Amherst, 30.
9- راجع: U. P. Z. 5.
10- راجع: U. P. Z. p. 7.
11- راجع: Diod., XXXI, 17 b.
12- راجع: Grenfell and Hunt. P. Tebt. 5.
13- راجع: O.G.I.S. III cf. V. Martin, Les épistratèges, PP. 173-174 et P. Gless. 36, No. 1/2. وتجد في هذه المصادر المتون التي عرفت عن هذا الحاكم العسكري.
14- راجع: P. Tebtynis. 6.
15- راجع: Diod., XXXIII, 28a; Justin XXXVIII, 8, II; Valere Maxime IX, 2, 5, cf. Strack, Die Dynastie der Ptolemaer, PP. 48-47; Bouche-Leclerq, Histoire des Lagids II, PP. 71-72.
16- راجع: P. Tebtynis 72, II, 45-46 ; 61(b), II. 30-31 ; P. S. I. 171, I. 34 ; P. London 401, I. 20.
17- راجع: Wilckens, Chrestomathie No. 10.
18- راجع: Chronique d’Egypte Ibid., p. 544 No. 3.
19- راجع: Wilckens, Chrestomatie No. 11.
20- راجع: P. S. I. 171, 1. 34.
21 راجع: P. Grenfell et Hunt, Commentaire à P. Tebtynis I, 5, II, 134–138.
22 راجع: P. S. I. 168.
23- راجع: P. Tebtynis 703, OGIS 90, U. P. Z. 110, P. Tebtynis 6.
24- راجع: P. Tebtynis 5 ; Preisiche, Die Friedenskundgebung des Konings Eurgetes II, Archiv. F. Pap., V (1913) PP. 301-16.
25- راجع: P. Tebt. 15.
26- راجع: P. Tebtynis I, 5, 221–247.
27- راجع: Ibid., II 168, 177.
28- راجع: Ibid., II, 99–133.
29- راجع: P. Tebtynis, 124.
30- راجع: Ibid., II. 207–220.
31- راجع: Pausanias, I, IX, 3.
32- راجع: P. dem. Berlin No. 13608, A. Z. 55 (1930) PP. 53–57.
33- راجع: Chronique d’Egypte Ibid. p. 548 note 4.
34- راجع: P. Bouriant, 10.
35- راجع: Ibid. 11.
36- راجع: Jouguet Bull. De-Corr. Hell. 21. (1897) P. 147.
37- راجع: Chronique d’Egypte, Ibid. p. 550 No. 8.
38- راجع: B. G. U. 1843.
39- راجع: B. G. U. 1815.
40- راجع: B.G.U. 1835 cf, Ibid., 1888.
41- راجع: Cécéron, Pro Rabiro Postumus, cf. P. GUIRAUD, Histoire d’un financier romain, Revue de Paris (1903) PP. 355–378 ; B. L. II PP. 168–271.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة
الآخبار الصحية

قسم الشؤون الفكرية يصدر كتاباً يوثق تاريخ السدانة في العتبة العباسية المقدسة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)