هو صفيّ الدين أبو الفضل أبو المحاسن عبد العزيز بن سرايا بن علي ابن أبي القاسم بن أحمد بن نصر بن سرايا الحلّيّ الطائيّ، ولد في الحلة (قرب الكوفة) ، في خامس ربيع الثاني 677 ه (27/8/1278 م) ، و نشأ فيها. اتّصل صفيّ الدين بالملك المنصور نجم الدين غازي الأرتقيّ صاحب ماردين (692- 712 م) و حظي عنده و عند ابنه و خليفته نجم الدين صالح (ت 765 ه) . و في سنة 726 ه (1326 م) ذهب الى الحجّ فعرّج في طريقه على السلطان الناصر قلاوون الذي كان قد جاء الى عرش المماليك البحرية في مصر للمرّة الثالثة (697 ه) و مدحه. ثم عاد الى ماردين.
و كانت وفاة صفيّ الدين في بغداد، في أوائل سنة 750 ه (1349 م) .
كان صفيّ الدين الحلّيّ شاعر عصره و أشهر شعراء زمانه برغم تقليده للشعراء العبّاسيين في المعاني و الأغراض و الأسلوب. و قد كان حسن الصناعة بارعا في الصياغة مجيدا في القصائد الطوال و في المقطّعات. ثم إنه نظم في معظم أنواع الشعر من القصيد و المشطّر و المخمّس و الموشّح، و كان أحيانا يتكلّف في الصناعة تكلّفا بعيدا. و اذا نحن استثنينا البوصيريّ كان صفيّ الدين أول من قصد نظم البديعيّات (القصائد في مدح الرسول) أو جعل منها فنّا قائما بنفسه على الأصحّ. و له القصائد الأرتقيّات في مديح الملك المنصور (من آل أرتق) جعل أوائل حروفها مثل رويّها، نحو:
حمراء لو ترك السقاة مزاجها... أمست لنا عوضا عن المصباح
حقّ الصبا دين عليك فوفّه... بالشرب بين خمائل و رداح
و عدد هذه القصائد تسع و عشرون بعدد حروف المعجم. ثم له قصيدة كلّ كلمة من كلماتها مصغّرة:
نقيط من مسيك في وريد... خُويلك أو وسيم في خُديد
مختارات من آثاره:
- مدح صفيّ الدين السلطان الناصر قلاوون بقصيدة وازى بها قصيدة المتنبّي في كافور: «بأبي الشموس الجانحات غواربا» .
أسبلن من فوق النهود ذوائبا... فتركن حبّات القلوب ذوائبا (1)
و جلون من صبح الوجوه أشعّة...غادرن فود الليل منها شائبا (2)
بيض دعاهنّ الغبيّ كواعبا... و لو استبان الرشد قال كواكبا (3)
أشرقن في حلل كأنّ أديمها... شفق تدرّعه الشموس جلاببا (4)
و غربن في كلل فقلت لصاحبي... بأبي الشموس الجانحات غواربا (5)
- و قال في الأمانة، و فيها إشارات إلى القرآن الكريم:
قلوبنا مودعة عندكم... أمانة يعجز عن حملها (6)
ان لم تصونوها بإحسانكم... ردّوا الأمانات الى أهلها (7)
- و قال من الموشّح المضمّن، و هو من مخترعاته، و قد جعل خاتمة كلّ بيت من الموشّحة مختومة ببيت من المقطوعة المشهورة لأبي نواس:
و حقّ الهوى، ما خلت يوما عن الهوى... و لكنّ نجمي في المحبّة قد هوى (8)
و من كنت أرجو وصله قتلي نوى... و أضنى فؤادي بالقطيعة و الجوى (9)
ليس في الهوى عجب... إن أصابني النصب (10)
(حامل الهوى تعب... يستفزّه الطرب) الخ الخ.
- و له في الحماسة:
سل الرماح العوالي عن معالينا... و استشهد البيض: هل خاب الرجا فينا (11)
و سائل العرب و الأتراك ما صنعت... في أرض قبر عبيد اللّه أيدينا (12)
يا يوم وقعة زوراء العراق و قد... دنّا الأعادي كما كانوا يدينونا (13)
بضمّر ما ربطناها مسوّمة... إلاّ لنغزو بها من كان يغزونا (14)
و فتية إن نقل أصغوا مسامعهم... لقولنا أو دعوناهم أجابونا
قوم إذا استخصموا كانوا فراعنة... يوما، و إن حكّموا كانوا موازينا
تدرّعوا العقل جلبابا، فإن حميت... نار الوغى خلتهم فيها مجانينا (15)
إذا ادّعوا جاءت الدنيا مصدّقة... و ان دعوا قالت الأيام: آمينا
إنّا لقوم أبت أخلاقنا شرفا... أن نبتدي بالأذى من كان يؤذينا
بيض صنائعنا، سود وقائعنا... خضر مرابعنا، حمر مواضينا (16)
- و قال يصف مجيء الربيع:
ورد الربيع، فمرحبا بوروده... و بنور بهجته و نور وروده (17)
و بحسن منظره و طيب نسيمه... و أنيق ملبسه و وشي بروده (18)
فصل إذا فخر الزمان فإنّه... إنسان مقلته و بيت قصيده (19)
يا حبّذا أزهاره و ثماره... و نبات ناجمه و حبّ حصيده (20)
و الغصن قد كسي الغلائل بعد ما... أخذت يدا كانون في تجريده (21)
نال الصبا بعد المشيب، و قد جرى... ماء الشبيبة في منابت عوده
و الورد في أعلى الغصون كأنّه... ملك تحفّ به سراة جنوده (22)
و السحب تعقد في السماء مآتما... و الأرض في عرس الزمان و عيده
- لصفيّ الدين رسالة تتضمّن قصّة قائمة على الفكاهة و الدعابة جارية على أسلوب المقامات، منها (23):
. . . هذه الدار المباركة أوّل تربة برّكم أترابها و أول أرض مسّ جسمكم ترابها (24)، فلا يكن على أيديكم خرابها. ألا و إنّها-منذ خلا مسكنها من ساكنها و تمكّن العفاء 4من أماكنها-جعلتموها ندوة نهاركم و ليلكم و حلبة رجلكم و خيلكم (25). و الآن قد انجابت عنها أيام البئوس و أفلت طوالع النحوس (26) و لحظها الدهر بعين الرضا و قضى بسعدها فصل القضا و تولاّها نعم المولى و ابتدر لسكناها الصفيّ الحلّي (27). و في يومكم هذا يرسل إليكم من يلمّ شعثها و يطهّر خبثها (28). و متى رآكم بها ساربين و في قراراتها راسبين كره مغناها (30) و اتّخذ لنفسه سواها. فعاد ربعها كالرمس. . . . . (31) و متى تقبّلها إذا قابلها أخصب ربعها و تعدّى إلينا نفعها. ألا و إنّ من استرشد بحكمتي أثبتّه في أمّتي و أتممت عليه نعمتي. . . . . . .
___________________
1) أسبل: ألقى، أنزل، غطى. ذوائب جمع ذؤابة: الضفيرة من شعر. ذوائب جمع ذائبة.
2) جلا: أزاح، أظهر، كشف، أبرز (رفعن اللثام عن وجوههن فظهرت وجوههن البيض كأنها الصبح) . الفود: الشعر المجاور للأذن. فود الليل: الليل. غادرن: تركن (لما كشفن عن وجوههن أصبح الليل منيرا- أبيض كأنه شائب) .
3) بيض (نساء جميلات) . الكاعب: التي كعب (استدار) ثدياها (في أول صباها) . دعاهن الغي كواعبا (سماهن نساء) . استبان: ظهر، وضح (لو ظهر له وجه الصواب لقال هن كواكب لكثرة جمالهن) .
4) الحلة (بضم الحاء) : الثوب الجميل النفيس. الأديم ظاهر الجلد (سطح الثوب) . الشفق: الحمرة التي تظهر على الأفق بعد غياب الشمس. الشموس )جمع شمس) ثم النساء الجميلات. الجلباب: ثوب يكسو الجسم كله )كل ما فيهن جميل) .
5) و غربن (استترن عنا، أخفين وجوههن عنا) في كلل (جمع كلة بضم الكاف) خلف أستارهن. بأبي الشموس (أفدي النساء الجميلات كأنهن الشموس) . الجانحات (المائلات) غواربا: غوارب، غاربات. مائلات الى المغيب للغروب وراء الأفق. الجانحات (النساء المتجهات) غوارب (بنصب الباء بلا تنوين) المتجهات نحو الغرب.
6) قلوبنا مودعة (وديعة، أمانة) عندكم (نحن نحبكم، عشاق لكم) . في القرآن الكريم أن اللّه تعالى عرض الأمانة (التبعة في الحياة) على كل موجود فخاف منها و لم يقبل أن يحملها (يكون مسئولا عن غيره) . و لكن الانسان قبلها و كان جاهلا بحقيقتها فأتعب نفسه بها كثيرا.
7) في القرآن الكريم في سورة النساء: «ان اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها» (4:58) . - ارددن قلوبنا الينا (لا توقعننا في حبكن) .
8) حال: مال، انتقل، تغير. نجمي في المحبة هوى (سقط، غاب) : حظي في حبكم سيء.
9) أضنى: أنحل، أضعف. الجوى: شدة الحب الى درجة المرض.
10) النصب التعب. و البيت التالي: حامل الهوى. . . (يستخفه) لأبي نواس.
11) العالية: صدر الرمح، النصل في أعلى الرمح. المعالي جمع معلاة )بفتح الميم) : الشرف و الرفعة. البيض )جمع أبيض) : السيوف.
12) عبيد الله بن زياد والي العراق أيام استشهاد الحسين في كربلاء، توفي في العراق (جنوبي العراق و قبره هناك) -كانت لنا معارك كثيرة في العراق!
13) دنا (حكمنا في، عاملنا) كما كانوا يدينوننا (يعاملوننا) .
14) الضمر (جمع ضامر) : نحيل (الخيل) . مسومة: معدة، مهيأة.
15) تدرعوا )لبسوا) العقل جلبابا )ثوبا واسعا سابغا على الجسم كله) : هم كثير و التعقل )في أيام السلم) .
16) الصنائع (جمع صنيعة) : الأعمال الخيرة الحميدة. الوقائع جمع واقعة: الحروب، المعارك. المربع: المسكن. الماضي: السيف.
17) ورد ورودا: جاء، حل. البهجة: الفرح. النور (بفتح النون) : الزهر الابيض. الورود (جمع ورد) : أنواع الزهر.
18) الأنيق: الجميل (الذي يعجب العين) . ملبس الربيع: النبات الأزهار (كأنها لباس) . غطاء على الارض. الوشي: الزخرف، التزيين. البرد (بضم الباء) : ثوب من حرير.
19) انسان المقلة (العين) : البؤبؤ (الجزء الذي تبصر العين به) . بيت القصيد: المقصود من الشيء، أجمل أبيات القصيدة.
20) الناجم: أول نجوم (بروز، خروج) النبات من الارض. حب الحصيد: الحبوب التي نضجت (كالقمح و الذرة، الخ) . كل شيء في الربيع جميل.
21) الغلالة (بضم الغين) : ثوب رقيق يلبس على البدن. كانون: شهر كانون (ديسمبر) الشتاء. تجريده (من الورق الذي عليه) .
22) السري: الشريف، العالي المقام.
23) هذه قطعة صغيرة من «رسالة الدار في محاورة الفار» ، كتبها صفي الدين على لسان داره التي كان يسكنها في ماردين ثم أرسلها الى الملك الصالح أبي المكارم شمس الدين يشكو فيها (رمزا) من مماطلة نائب له (للملك الصالح) بدين. و القطعة المختارة يخاطب الجرذ بها اخوانه الفئران و يقول لهم: ان الدار لما هجرها ساكنها (صفي الدين) ساءت حالهم (لأنها خلت من الطعام لخلوها من الساكنين) . أما و قد عزم صفي الدين على الرجوع الى الدار، فعلى الفئران أن يحسنوا استقباله و أن يكونوا شاكرين هادئين.
24) التربة: الارض. الأتراب جمع ترب (بكسر التاء) : الأشخاص الذين هم في سن واحدة. و الترب الذي ولد معك (في مكان واحد أيضا) . بركم: أحسن اليكم. مس جلدي ترابها (راجع، فوق،760) .
25) العفاء: الامحاء، الخراب.
26) الندوة: مجتمع كبار القوم للتشاور، مجمع. الحلبة: جماعة الخيل تجتمع للسباق، و صفي الدين يقصد بالحلبة «ميدان السباق» . الرجل (بفتح الراء) : المشاة. الخيل (الفرسان) . يقصد: أنتم، أيها الفئران، تسرحون و تمرحون و تسيرون و تتسابقون في هذا الدار كأنها لكم وحدكم.
27) انجابت: انقشعت، انجلت، زالت. البئوس جمع بؤس: شقاء. أفلت (غابت) طوالع (نجوم) .
28) قضى (حكم) بسعدها (بأن يعود اليها السعد و السعادة و السكنى) فصل القضاء. . . ابتدر: أسرع.
29) لمّ (جمع) شعثها (ما تفرق من الأمور) : وحد جهودها و آراءها. الخبث: النجاسة.
30) ساربين: سائرين في كل مكان منها. القرار: المكان المنخفض. راسب (للجناس مع سارب) : غارق (تحتلون كل مكان فيها ظهر أو خفي) . مغناها: البقعة المسكونة (سكناها) .
31) كذا في الاصل. و ينقص هنا جملة؛ و أعتقد أنا أن الجملة يجب أن تكون: «و خربت كأن لم تغن بالأمس» (كأن لم تكن مسكونة من قبل) .
الاكثر قراءة في تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة