الأقلية القومية السلالية

وهنا نمط ثالث من أنماط التناقض في التركيب الهيكلي للكيان البشري في الوحدة السياسية. وتكون الدوافع النني تمنع الفرقة والتمزق مترتبة على فروقات سلالية وقومية ما، وهذا معناه زيادة في التعقيد، فيما يفصل ويميز بين أغلبية واقلية ذلك أن هذه الأقلية تعاني من الفروقات التي تتصل بالخصائص السلالية وما يصحبها من استعلاء وتفرقة بغيضة تمارسها الأغلبية كما أنها تعاني من الاحساس بعدم الانتماء للأصول القومية و التي تنتمي اليها الأغلبية.

هذا وتولى هذه الأقلية فى الوقت نفسه بولائها وعواطفها في اتجاه يشد احساسها الى ما وراء الحد السياسي، ويربط بينها وبين الأصول القومية التي تلتمي اليها. وليس غريبا أن يكون ذلك النفور مدعاة لإثارة المتاعب وتفجير المشكلات، ذلك أن مثل تلك الأقليات تتسم بطموح وتطلع شديد، الى الانفصال الذي يحقق الالتئام بينها وبين الأصول القومية والسلالية، التي تلتمي اليها، وليس غريبا أيضا، أن تكون بعض هذه الأقليات من النوع القانع، الذي يتجرع الكراهية والحقد، ولكنه لا يلجا الى تمرد على الأغلبية.

وتستطيع أن نلتقط المثل الذي يصور الأقلية القومية السلالية المتفجرة بالغيظ، والحريصة على خلق المشكلة من السودان. ذلك أن الحد السياسي الذي يمر لكي يفصل بينه وبين اريتريا، اخرج قسما من قبيلة البني عامر، الى ما وراء الحد وفرض عليه السيادة الإرتيرية بعد ذلك، وما من شك في أنهم يعيشون بأحاسيس الأقلية القومية السلالية، وقد تحول ولاءهم في الاتجاه المضاد، وعلى غير هوى الدولة الإرتيرية، وما يلم شمل الكيدان البشري فيها، وهم يرمقون بلهفة وإشفاق برغبة وتطلع الى ما يعيد الترابط بينهم وبين بنى جلدتهم من قبائل البجاة في شرق السودان. وهم من غير شك مصدر قلق وإزعاج، لانهم يحرصون دائما على بعث الحياة في المشكلة الغني يعانون منها، وكأنهم بذلك جسم غريب لا يستطيع أن يلتئم، أو أن يتلاءم مع الكيان البشري الذي يمثل الأغلبية في اريتريا.

وثمة مثل أخر لأقلية قومية سلالية غربية، تحيدا من غير أن تفجر مشكلة حادة، ومن غير ان تزعج أغلبية الكيان البشري في فرنسا ولكنها تفجر في نفس الوقت مشكلة تواجه أغلبية الكيان البشري في اسبانيا، وتتمثل هذه الأقلية في جماعة الباسك، التي تعيش في القطاع الوعر المضرس، الذي يتضمن سلاسل جبال البرانس، يمما بين الأرض الفرنسية والأرض الإسبانية. ولعل الشكل الوعر المضرس، قد حقق لهم قسط من الاستقرار، مثلما حقق لهم القدرة على الانطواء والانعزال، عن الكيان البشري في كل من فرنسا واسبانيا.

ومن ثم كانت اقلية نوعية سلالية قانعة، لأنها استطاعت أن تتلاءم مع الأغلبية في وطن ودون أن تلتغم معها، وما من شك في ان هذه الأقلية كانت دائما في الوضع الذي يحول بينها وبين الإحساس بأحاسيس الأقلية، وما تؤدي اليه من متاعب وانقاص في حقوقهم. ومن ثم لم تكن ثمة دوافع للإثارة، أو لأن تتسبب في خلق مشكلة ضد الأمة الفرنسية.

وإذا كان خصائص الشكل الوعر المضرس للأرض، التي تحتويها قد كفلت لها الكيان المادي الذي يرضيها، فإن عدم اجبارها على الانتماء القومية الفرنسية، أزاح عنها كابوس يؤمر على ولائها للوطن الذي تعيش فيه وهذا معناه أنه إذا كان ثمة ولاء، فهو محصور في كيانها كجماعة لها المقومات التي ترتبط بها كقومية متميزة، هذا ولابد أن يكون هذا الولاء نحو الذات القومية لا يتعارض من حيث الحجم والتطلع، مع ولائها للامة الفرنسية، وهي تعيش في فرنسا.

أما في اسبانيا التي سهلت عوامل التغيير في المرحلة التالية لعودة الملكية، فيبدو أن هذه الأقلية القومية السلالية من الباسك، قد خرجت من انطوائها واخذت في تفجير المشكلة، وهذا معناه انها افصحت عن التعارف بين ولائها لوطنها الوعر، وتراثها في احضان هذا الوطن وولائها لإسبانيا والقومية الإسبانية وبات صوت التفجير مسموع وما من شك في أن هذا التفجير لا يمكن أن يترك البناء البشري، في الدولة الاسبانية سليما, ومهما يكن من امر، فإن طموح الأقلية القومية السلالية، يتطلب من الكيان البشري في الوحدة السياسية حذرا شديدا، ولعل افضل وسيلة لتجنب اسباب التمزق، وما يترتب عليه من مشكلات هو تطويع الروابط التي تلم شمل الكيان البشري، وتجنب سلطان وتسلط الحكومة المركزية, وذلك أن المركزية قد تولى السلطة للأغلبية، الأمر الذي يثير في الاقلية الأحاسيس، ويجرح العواطف التي نتعارض مع طموحها, ويوغوسلافيا التي كانت تضم مجموعة من اقليات قومية وسلالية، ,عاش البناء البشري فيها متماسكا تحت النظام الشيوعي. ولكن افضى سقوط النظام الشيوعي الى ظهور وضع سياسي جديد. وقد شكلت كل قومية دولة مستقلة.