رواد فن المقال- ميشيل دي مونتين

يجمع مؤرخو الآداب الغربية، على أن المقالة الأدبية الحديثة، عرفت سبيلها إلى الحياة على يد الكاتب الفرنسي (ميشيل دي مونتين)، وقد بدأت بذورها تتكون في نفسه عندما اعتزل الحياة العامة، حيث كان يعمل في المحاماة، وترك (بوردر) إلى مزارعه الريفية سنة 1570م، وذلك ليعيش حياة يرف عليها الهدوء، وتخصبها القراءة، على حد قوله. وهكذا أخذ (مونتين) يغلب العنصر الشخصي في كتاباته على العناصر التي كانت ترفده من قراءاته المختلفة. ولكنه في معرض حديثه عن تجاربه الخاصة، لا ينسى أن يدعم أفكاره ببعض الأقوال المأثورة، والحكم الجارية مجرى المثل.

وهو يذكر في مقدمة مقالاته التي صدرت في يونيو سنة 1588م: (إن ذاتي هي موضوع مقالاتي). وقد كانت العبارة بحق إيذانا بمولد فن المقال، وثورة أدبية جديدة أحدثت انقلابه خطيرة في الموضوعات والأساليب على السواء. فالموضوعات قبل عصر النهضة وقبل (مونتین)، كانت مملكة للجميع، ثابتة محددة، أشبه شيء بالمنهل العام الذي يغرف منه الأدباء والشعراء، وكانت الموضوعات محصورة في ثلاثة اتجاهات هي: البطولة والشجاعة والحرب. وأتى فن المقال، على العكس من ذلك، تعبير ذاتية غير شائع، ووجهة نظر خاصة. ولا شك أن هذا الاتجاه يرتبط ارتباطا وثيقاً بالاتجاه العام لروح عصر النهضة فنعتبره جزءا لا يتجزأ من هذه الروح. ومن هنا كان (مونتين) الرائد الأول لفن المقال لأنه أول من حطم الحاجز السميك بينه وبين القارئ، في المضمون والأسلوب على السواء، فاستطاع أن يعبر عن نفسه، وأن يعرض على القارئ أحاسيسه ومشاعره بصراحة ساخرة، متحدثا في موضوعات جذابة شائقة ومغامرات خاصة به، بأسلوب سلس مباشر، عادي صادق التعبير، لا تثقل فيه الزخرفة أو التنميق