المعقول الحقيقي

يظل التفكير المجرد قادراً على النفاذ إلى جوهر الموضوع ، لكنه لا يمتلك المعطيات الضرورية كي يستعيد جوهـره في العقل أداة المعرفة، ويظل المفهوم المعنوي كالمفهوم الحسي لا بد أن يشتمل على عناصر حسية، إذ لا عقل بلا أداة تعقل أو أشياء تعقل .

ويبدو أن قدرات الإنسان العقلية، قد تكونت للتعبير لغوياً عن موضـوع الإدراك، ومعقـول الإنسان ليس شيئاً جاهزاً، فهو يزيد بزيادة العقل، وينقص بنقصانه، واننا عندما نعقل هذا الشيء كي نرسمه على صورة نشاط لغوي، فان ذلك يختلف عن الشيء نفسه، وعن معقولات أخـرى غير لغوية مثل الزهرة فهي في نظر الفنان وعالم النبات والطبيب

واللغوي مختلفة باختلاف الناظرين إليها؛ لأن كلا منهم يعقلها باتجاه القصد إليها الذي يريد والهدف الذي يسعى إليه .

فالطبيب ينظر إلى الزهرة من خلال فائدتها العلاجية، والفنان ينظر من خلال جمالها وتناسق ألوانها، وعالم النبات يرى فيها أقصى سلم التطور النباتي، واللغوي يتأمل اسمها، ويحاول أن يسترجع الصلة بينها وبين هذا الاسم سواء من ناحية الشكل أو من ناحية الحركة .

ويعنى الحرف بصدى الصوت الذي يحاكي الطبيعة الصوتية، لذلك فان الحرف الموجود أولا يختلف عن الحرف الموجود وسطاً أو آخراً، ونحن نلفظ على سبيل المثال «كرع» لصوت الماء النازل من الفم إلى الرئتين مروراً بالحلقوم، وكذلك الأمر في درج التي تعني الحركة من الأسفل إلى الأعلى

63

وفق ترتيب هذه الحروف، وعكسها جرد التي تعني الحركة من الأعلى إلى الأسفل.

ويقول الباحث محمد عنبر في كتابه جدلية الحرف العربي «إن الأشياء

في ذاتها متضادة متشابهة، لأنها من نسيج واحد مثل لفظ «قر» الذي يتجه

إلى التجمع والتكـائف، بينما يتجه لفظ رق إلى التبدد والإنبساط والرقة

انبساط والقرار تجمع والطائر يفر مبتعداً ويرف مقترباً والعقل هو الذي

ساهم في تقريب معنى هذين اللفظين، وفق نظامه الداخلي الذي يعمل

المنطق العقلي، كما ان العقل العربي تحديداً هو الذي أعطى

به : ألا وهو للحرف العربي معناه ، وهذا العقل لا ينفصل عن العقل اللغوي الإنساني ،

ولكنه لا يتطابق معه تمام المطابقة .