أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-10-2014
2264
التاريخ: 30-04-2015
1265
التاريخ: 2023-12-03
1554
التاريخ: 26-02-2015
17086
|
كانت ولا تزال القراءة الدارجة بين المسلمين ـ منذ العهد الأوّل حتّى عصرنا الحاضر ـ هي القراءة الَّتي تتوافق مع قراءة عاصم برواية حفْص ، وكان لذلك سببان :
الأوَّل : ما أشرنا إليه سابقاً : أنّ قراءة حفْص كانت هي قراءةَ عامَّة المسلمين ، وأنّ النِسبة مقلوبة ، حيث كان حفْص وشيخه عاصم حريصَين على الالتزام بما وافَق قراءة العامّة والرواية الصحيحة المتواترة بين المسلمين ، وهي القراءة الّتي أخذَها عاصم عن شيخه أبي عبد الرحمان السلمي عن الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ولم يكن علي ( عليه السلام ) يقرأ إلاّ بما وافَق نصّ الوحي الأصل المتواتر بين المسلمين .
وهذه القراءة أقرأها عاصم لتلميذه حَفْص ، ومن ثمّ اعتمدها المسلمون في عامّة أدوارهم ؛ نظراً إلى هذا التوافق والوئام ، وكانت نسبتها إلى حفْص نسبة رمزية ، تعييناً لهذه القراءة . فمعنى اختيار قراءة حفْص : اختيار قراءةٍ اختارها حفْص ؛ لأنَّها قراءة متواترة بين المسلمين منذ الأوَّل .
الثاني : أنّ عاصماً بين القرّاء المعروفين كان فريداً بسِماتٍ وخصائص ، جَعلته عَلماً يُشار إليه بالبَنان ، فقد كان ضابطاً مُتقناً للغاية ، شديد الحذر والاحتياط فيمن يأخذ عنه القرآن متثبّتاً ، ومن ثمّ لم يأخذ القراءة أخذاً إلاّ من أبي عبد الرحمان السلمي ، عن علي ( عليه السلام ) وكان يعرضها على زرِّ بن حبيش عن ابن مسعود .
قال ابن عيّاش : قال لي عاصم : ما أقرأني أحد حرفاً إلاّ أبو عبد الرحمان ، وكان أبو عبد الرحمان قد قرأ على عليّ ( عليه السلام ) ، فكنت أرجع من عنده فأعرض على زرٍّ ، وكان زرّ قد قرأ على عبد الله ، فقلت لعاصم : لقد استوثقت (1) . الأمْر الّذي جعله مشاراً إليه في القراءات ، على حدِّ تعبير ابن خلِّكان (2) .
وهكذا في جميع أدوار التاريخ كانت قراءة عاصم هي القراءة المفضَّلة الَّتي راجَت بين عامَّة المسلمين ، واتَّجهوا إليها في صورة جماعية .
هذا القاسم بن أحمد الخيّاط الحاذق الثقة (ت ح292هـ) كان إماماً في قراءة عاصم ، ومن ثمّ كان إجماع الناس على تفضيله في قراءته (3) .
وكان في حلَقة ابن مجاهد ـ مقرئ بغداد على رأس المئة الرابعة ـ خمسة عشر رجلاً خصّيصاً بقراءة عاصم ، فكان الشيخ يُقريهم بهذه القراءة فقط ، دون غيرها من قراءات (4) .
وكان نفطويه إبراهيم بن محمّد (ت 323هـ) إذا جلس للإقراء ـ وكان قد جلس أكثر من خمسين عاماً ـ يبتدئ بشيء من القرآن المجيد على قراءة عاصم فحسْب ، ثمّ يُقرئ بغيرها (5) .
وهكذا اختار الإمام أحمد بن حنبل قراءة عصام على قراءة غيره ؛ لأنّ أهل الكوفة ـ وهم أهل علم وفضيلة ـ اختاروا قراءته (6) ، وفي لفظ الذهبي : قال أحمد بن حنبل : كان عاصم ثقة ، أنا أختار قراءته (7) .
وقد حاول الأئمَّة اتّصال أسانيدهم إلى عاصم برواية حفْص بالخصوص ، قال الإمام شمس الدين الذهبي : وأعلى ما يقع لنا القرآن العظيم فهو من جهة عاصم ، ثمَّ ذكر إسناده متَّصلاً إلى حفص عن عاصم عن أبي عبد الرحمان السلمي عن علي ( عليه السلام ) ، وعن زرِّ عن عبد الله ، كلاهما عن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، عن جبرائيل ( عليه السلام ) ، عن الله عزّ وجلّ (8) .
* * *
هذا من جانب ، ومن جانب آخر كان حفص هو الّذي أشاع قراءة عاصم في البلاد ، وكان معروفاً بالضبط والإتقان ، ومن ثمَّ أقبل جمهور المسلمين إلى أخذ قراءة عاصم منه بالخصوص .
هذا فضلاً عن أنَّ حفصاً كان أعلم أصحاب عاصم بقراءته ، ومفضّلاً على زميله أبي بكر بن عيّاش في الحفظ وضبط حروف عاصم .
قال أبو عمرو الداني : حفْص هو الّذي أخذ قراءة عاصم على الناس تلاوة ، ونزل بغداد فأقرأ بها ، وجاور بمكّة فأقرأ بها (9) .
قال ابن المنادي : كان الأوَّلون يعدّون حفصاً في الحِفظ فوق ابن عيّاش ، ويصفونه بضبط الحروف الّتي قرأها على عاصم (10) .
قال الشاطبي : وبالإتقان كان مُفضّلاً (11) .
أمّا أهل النقْد والتمحيص ، فيرون من رواية حفْص عن عاصم هي الرواية الصحيحة ، قال ابن معين : الرواية الصحيحة الّتي رُوَيت من قراءة عاصم هي رواية حفص بن سليمان (12) .
ومن ثمَّ فإنَّ القراءة الّتي راجَت بين المسلمين قاطبة ، هي قراءة عاصم من طريق حفْص فقط .
* * *
هذا فضلاً عن أنَّ إسناد حفْص إلى شيخه إلى علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، إسناد ذهبيّ عالٍ لا نظير له في القراءات .
أوّلاً : إنّ عاصماً لم يقرأ القراءة التامَّة على أحد سوى شيخه أبي عبد الرحمان السلمي ، الرجل العظيم نُبلاً ووجاهةً ، وإنَّما كان يعرض قراءته على غيره لغرض الإتقان فحسْب .
قال ابن عيّاش : قال لي عاصم : ما أقرأني أحد حرفاً إلاّ أبو عبد الرحمان السلمي ، وكان قد قرأ على علي ( عليه السلام ) ، وكنت أرجع من عنده فأعرض على زرٍّ ، وكان قد قرأ على عبد الله (13) .
ثانياً : إنَّه لم يُخطِّئ شيخه السلمي في شيء من حروفه ، عِلماً منه أنَّ شيخه لم يخطِّئ عليّاً ( عليه السلام ) في شيء من قراءته .
قال : لم أُخالف أبا عبد الرحمان السلمي في شيء من قراءته ، فإنَّ أبا عبد الرحمان لم يُخالف عليّاً في شيء من قراءته (14) .
ثالثاً : إنَّ عاصماً خَصَّ بهذا الإسناد الذهبي الرفيع ربيبه حفْصاً دون غيره ، وهي فضيلة كبرى امتاز بها حفْص على سائر القرّاء إطلاقاً ، وهي الّتي أهّلته لإقبال عامّة المسلمين على قراءته فحسب .
قال حفص : قال لي عاصم : ما كان من القراءة الّتي أقرأتك بها ، فهي القراءة الّتي قرأت بها على أبي عبد الرحمان السلمي عن علي ( عليه السلام ) ، وما كان من القراءة الّتي أقرأتها أبا بكر ابن عيّاش ، فهي القراءة الّتي كنت أعرضها على زرّ بن حبيش عن ابن مسعود (15) .
* * *
وهل خالف حفْص شيخه عاصماً في شيء من قراءته ؟ .
قال ابن الجزري : وذكَر حفص أنَّه لم يخالف عاصماً في شيء من قراءته إلاّ في حرف الروم : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ..) قرأه بالضمِّ وقرأه عاصم بالفتح (16) .
قال أبو محمّد مكّي : قرأ أبو بكر وحمزة بفتح الضاد في الثلاثة (17) ، وقد ذكر عن حفص أنَّه رواه عن عاصم ، واختار هو الضمّ لرواية ابن عمَر ، قال : قرأت على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) (من ضَعف ) بالفتح ، قال : فردَّ عليّ النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ( من ضُعف ) بالضمّ في الثلاثة .
قال مكّي : وروي عن حفْص أنّه قال : ما خالفت عاصماً في شيء ممّا قرأت به عليه ، إلاّ في ضمّ هذه الثلاث كلمات (18) .
لكنَّ الصحيح أنَّ هذه النسبة غير ثابتة ، ومن ثمَّ لم يبتّ مكّي في إسناد ذلك إلى حفْص ، وإنّما ذكَره عن ترديد وشكٍّ بلفْظة المجهول : ( ذُكر عن حفص ) و( روي عن حفص ) ، كأنَّه لم تثبت عنده صحَّة ذلك قطعيّاً ، وهذا هو الّذي نرجِّحه نحن ؛ نظراً لأنَّ وثوق مثل حفص بابن عمر الهائم في مذاهبه ، لم يكن بمرتبة توجِب ترجيحه على الوثوق بشيخه الضابط الأمين ، إذ كانت قراءة عاصم ترتفع إلى مِثل عليّ ( عليه السلام ) في سلسلة إسناد ذهبيّ رفيع ، وقد أتقَنه عاصم إتقاناً ، فأودعه ربيبه وثِقته حفْصاً ، الأمر الَّذي لا ينبغي الارتياب فيه لمجرَّد روايةٍ رَواها رجُل غير موثوق به إطلاقاً .
إذ كيف يخفى مثل هذا الأمر ـ في قراءة آية قرآنيّة ـ على سائر الصحابة الكِبار الأُمَناء ، ويُبديه النبي ( صلّى الله عليه وآله ) لابن عمَر اختصاصاً به ؟! .
وهل يُعقل أن يترك حفْص قراءةً ضمْن شيخه الثقة أنّها قراءة علي ( عليه السلام ) في جميع حروفها كاملة ، أخذها عن شيخه السلمي في إخلاص وأمانة لمجرّد رواية لم تثبت صحَّتها ؟! .
وإذ كنّا نعرف مبلغ تدقيق الكوفيّين ـ ولاسيَّما في عصر التابعين ـ ومدى ولائهم لآل البيت ( عليهم السلام ) ، واتّهامهم لأمثال ابن عُمَر المتفكِّك الشخصية ، نقطع بكذِب الإسناد المذكور ، وأنّ حفصاً لم يخالف شيخه عاصماً في شيء من حروفه إطلاقاً ، كما لم يخالف عاصم شيخه السلمي في شيء من قراءته ؛ لأنّ السلمي لم يخالف عليّاً أمير المؤمنين ( عليه السلام ) . هذا هو الصحيح عندنا .
فالصحيح : أنّ حفصاً لم يقرأ بالضمّ ولم يخالِف شيخه عاصماً إطلاقاً .
__________________________(1) معرفة القرّاء الكِبار للذهبي : ج1 ، ص75 .
(2) وفيّات الأعيان : ج3 ، ص9 و315 .
(3) الطبقات لابن الجزري : ج2 ، ص17 .
(4) معرفة القرّاء الكبار للذهبي : ج1 ، ص217 .
(5) لسان الميزان لابن حجر : ج1 ، ص109 .
(6) تهذيب التهذيب لابن حجر : ج5 ، ص39 .
(7) ميزان الاعتدال للذهبي : ج2 ، ص358 .
(8) معرفة القرّاء الكبار : ج1 ، ص77 .
(9) الطبقات لابن الجزري : ج1 ، ص254 .
(10) النشر في القراءات العشر : ج1 ، ص156 .
(11) شرح الشاطبية ( سراج القاري ) : ص14 .
(12) النشر في القراءات العشر : ج1 ، ص156 .
(13) معرفة القرّاء الكبار للذهبي : ج1 ، ص75 .
(14) المصدر السابق ، الطبقات : ج1 ، ص348 .
(14) طبقات القرّاء لابن الجزري : ج 1 ، ص348 .
(15) المصدر السابق : ص254 ، والآية 54 من سورة الروم .
(17) كلمة ( ضعف ) مكرَّرة في الآية ثلاث مرّات .
(18) الكشف عن وجوه القراءات : ج2 ، ص186 .