أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-11-27
837
التاريخ: 2024-08-03
415
التاريخ: 2024-04-08
823
التاريخ: 2024-02-21
867
|
تُرينا مرويَّات التواريخ أن الأمة التي قبضت على أَزِمَّة البحار قبضت أيضًا على أَزِمَّة حضارة راقية، وقهرت أُممًا جَمَّة؛ فإننا لا نذكر شيئًا من الملاحة على عهد نوح، فالظاهر أن بناء السفن كان في طور الإنشاء بما أن نوحًا أقام مائة سنة لبناء فُلكه، ولا نذكر شيئًا من أهل الصين، فإنهم لم يكادوا يعرفون من سواحل بلادهم العظيمة إلا القدْر النَّزْر، ومع قلة خبرتهم لركوب البحار كانوا قد بلغوا رُقِيًّا بعيدًا، ومدُّوا أيديهم إلى بلاد شاسعة؛ لكونهم كانوا يعرفون الملاحة. وأما بعثة الأرغنوط فلا يجب أن تُعد من قبيل حديث خُرافة، بل من قبيل الإغراق في الوصف، ولها سدى حقيقة لا تُنكر، وهذا السدى هو محاولة ركوب البحر على طريقة مُبتكرة في ذلك العهد، وقد أحدثَت جَلَبَة يومئذٍ، وليس من السهل الهيِّن تقدير مساعي أولئك الصناديد اليونان، فسفينتهم المعروفة باسم «أرغو» الشهيرة التي كان يحملها نوتيوها على ظهورهم في المواضع الصعبة، وكانوا يَجُرُّونها ليلًا إلى الأرض؛ خوفًا من أن تُصاب بضرر، كل ذلك يدل على أن ركوب السفن على البحار كان في طفوليَّته. ولعلَّ التقصير ناشئ من كُتَّاب اليونان في ذلك العصر؛ لجهلهم وصف البحار وركوبها، لقلَّة وقوفهم على ذِكر مثل تلك الأمور في زمنهم الواغل في القِدَم والجهل. وإذا أردنا أن نذكُر تقدُّم هذا الفن صرَّحنا باسم الفينيقيين، هؤلاء الأقوام الذين اشتهر ميناؤهم في صيدون (صيدا) كل الشهرة، وقد جاء ذِكره في سنة 1838ق.م؛ فقد كانت تجارتهم مُنتشرة في البلاد، مما يدل على إمعانهم في ركوب البحار، وأول ما بدئوا به كان تردُّدهم إلى السواحل، حتى إنهم طافوا شواطئ البحر المتوسط من طرفه الواحد إلى طرفه الآخر، وكان سيسستريس أنشأ أساطيل وفيرة (سنة 1407ق.م) وارتاد سواحل فنيقية وشواطئ البحر الأحمر كلها. وكان المصريون قد هجموا على ديار الفلاسجة (أو البيلاسجيين) بأساطيل حقيقية، ومع ذلك فبعد هذه الأمور جاءنا هوميروس، وكان من جوَّابات البحار بدون شك، وذكر لنا أمورًا تدل على أن ركوب البحار في أوانه لم يكن إلا دون ما مثَّله لنا الفينيقيون والمصريون والأرغنوط؛ فلقد تقاذفت الأمواج عولس مدة عشر سنوات قبل أن يصل إيثاكة، وكأن ذلك كان من الأمور المألوفة عند ذلك الشاعر. وفي سنة 1137ق.م أسَّس الفينيقيون قرطاجنة، وبعد ذلك بقليل أنشأ القرطاجنيون مرسيلية، وهذا مما يدل على أن الفينيقيين كانوا قد جابوا البحر المتوسط وأخذوا يتجوَّلون فيه ليلًا ونهارًا، مُهتدين بنجم القُطب في ظلمات الليل، وبالشمس في سبحات النهار، فدفعهم نجاحهم هذا وحبهم لمعرفة المجهولات إلى التوغُّل في قلوب البحار، فقام فيهم هنون وجال في البحر حتى وصل الرأس الأخضر، وقد بلغتنا تفاصيل رحلته البحرية بحيث لا توجد شُبهة في هذا الأمر (سنة 800ق.م)، وقد قطع البحر في جهة مُعاكسة للجهة الأولى أودكس، فإنه جاز على ما يُظن رأس العواصف قبل «فاسكو دي غاما»، ولا جرم أنه وجد المعبر من مصر إلى ديار الهند بطريق البحر الأحمر، واتخذ موسم مطر الحميم (المعروف اليوم بالبرصات عند العرب، وببرشكال عندهم سابقًا). ثم جاء بعد ذلك هملكون القرطاجني، وتوغَّل في الشمال حتى بلغ إنكلترة. وفي سنة 330 زار بثياس المرسيلي جزيرة إسلندة، فلم يبقَ منذ ذاك الحين في صدر المحيط الأتلنتكي سرٌّ من الأسرار؛ إذ وقف عليها كلها أولئك الرجال أصحاب العزم والحزم، حتى يظن بعض المحققين أن أولئك الأقوام عرفوا أميركة وإن لم يعثروا على أدلة مكتوبة تُثبت زعمهم هذا. وفي عهد الإسكندر ذهب أسطوله إلى سواحل آسية ونهر السند إلى خليج فارس، وكان يقوده نياركس، الأشتيام الكبير الذي فاق جميع الأشتيامين الذين سبقوه. بلغ الإغريق مبلغًا بعيدًا في قطع البحار، ثم انتقلت سيادة العالم إلى الرومان، فانتقلت إليهم معها السيادة البحرية، لكنهم لم يأتوا شيئًا فريًّا في علم البحارة، ثم كانت نوبة السيادة التجارية للبنادقة والجنوية والبيزية، ولا سيما البنادقة، فإنهم كانوا الفينيقيين الحديثين، وكانوا قد استأثروا بتجارة البحر المتوسط والشرق الأدنى. وما زال أهل الفن يبحثون عن وسيلة تهديهم إلى الوجهة التي يُريدونها، حتى عثروا على دليل من أحسن الأدلة وأقومها، وهو الحك، أو إبرة الملاحين، فإنه أحدث انقلابًا عجيبًا في الملاحة، وحدا بكثيرين من الأبطال الشجعان إلى خوض غمرات البحار واقتحام أهوالها، وركوب متون أعظم لُجَجها بدون خوف أو ضلال في تلك المَتَاية اللجَّة، فاكتُشفت الجزائر الخالدات (المعروفة عند الإفرنج بجزائر كناري)، وجزائر ماديرة، وأصورة، وجزائر الرأس الأخضر، ثم جاء كرستوف كولمبس فاكتشف أميركة، وجاز «فاسكو دي غاما» رأس الرجاء الصالح في أسفل أفريقية، ثم بعد ذلك بسنين اكتشف ماجلان قناة في أقصى أميركة الجنوبية جرت به إلى المحيط الهادئ (الأوقيانس الباسفيكي)، فقطع تلك الأرجاء والمنفسحات المائية مُتجهًا إلى ديار الهند، فتجلَّت غوامض البحار فيما بين سنة 1492 و1521، فانفتح للخلق بلاد جديدة، وتولَّدَت في القلوب مطامع لم تكن فيها سابقًا، وكان السبق في ذلك للإسبان؛ لأن أغلب مهرة البحر كانوا منهم ومن البرتغاليين، وهكذا تتداول الأيدي بلاد الله فتنتقل من قومٍ إلى قوم، من الضعيف إلى القوي، وإذا هَرِمَ القوي جاء مَن هو أَغَضُّ إهابًا منه فانتشل مِن يدي مَن وهن ما عنده، إلى ما شاء الله. ومما زاد الملاحة دقة في تسيير السفن ما وضعه البلجيكي مركاتور من الخرائط البحرية البديعة، فصار شق البحار في القرن السادس عشر على مثال قطع البلاد والديار، وفي ذلك الأوان أيضًا اهتدى البحريون إلى استنباط اللحق، (1) فلم يَعُد يشقُّ أحد عُباب سفنهم، لا سيما بعد أن ألقَوا المجاذيف واتخذوا لها الأشرعة. وما زالت الملاحة تتحسن باختراع الآلات الدقيقة، كالربع، والساعة البحرية، والموقتة (أي القرونومتر) التي تُعَيِّن للبحريين بدقة طول المحل الذي هم فيه، كما أن الحك يُعَيِّن لهم عرضه، حتى لم يبقَ لهم إلا طلب وسيلة واحدة، وهي تسيير السفن بقوة تكون في قلبها عندما تقف الرياح في مجراها، فاخترعوا لهذه الغاية البخار، فتمَّ لهم بذلك ما كان يختلج في صدورهم منذ أزمان متطاولة. وهذا كان في القرن التاسع عشر بعد أن مضت أربعة قرون وهم على الحالة المعروفة الأولى، ثم انضافت إلى هذه القوة العظمى وسائل أخرى، كاتخاذ المراجل، أو القدور الأنبوبية، وجعل قشرة المركب وقلوسه من الحديد، وإبدال الفرانقات (أي البروانات) بالرفاس، والجمع بين الأشرعة والبخار لزيادة سرعة الحركة، فأصبحت القوة البحرية من أعظم القوى، والدولة التي تتصرف في مثلها غدت من أعظم الدول، فكان السبق فيها للدولة البريطانية، ونحن نسوق إليك خلاصة نشوء هذه القوة الهائلة بإيراد تاريخ الشركة المعروفة عندهم بشركة «لويد البحرية«. في بدء القرن الثامن عشر كان في لندن في الشارع المعروف باسم «لمبرد ستريت» بالقرب من البورصة نوع من القهوة، صاحبها رجل اسمه «لويد»، وكانت هذه القهوة مجمع تُجار المدينة (أي السِّتِي) من أصحاب المراكب ومُستأجري السفن والسماسرة وضامني المراكب. وفي سنة 1727 اجتمع هؤلاء الرجال (رجال الأشغال) بصورة شركة، انتقل مقرها بعد ذلك بكثير إلى بناية البورصة، وهو هناك إلى اليوم، وسمَّوا شركتهم «لويد»، وهو الاسم الذي اتخذته سائر الشركات البحرية غير الإنكليزية التي أُنشئت على طَرْز هذه الشركة، فترى اليوم يجتمع هناك أصحاب السفن والضامنين وأهالي رءوس الأموال، حيث يجدون جميع الإفادات اللازمة لسير الحركة التجارية والبحرية، مع ذكر البلايا والنكبات التي تحل برُكَّاب البحار. يجدون هناك قوائم وإعلانات يُذكر فيها يوم إقلاع السفن ويوم وصولها إلى الموانئ من إنكليزية وغيرها، كما يُصَرَّح فيها أيضًا غرقها واصطدامها وجنوحها وعُطلها وضررها وإنقاذ مَن غرق من رُكابها وهلاك مَن لم يُنقذ، إلى غيرها من الفوائد التي يجب أن يقف عليها كل مَن يعنيه البحر وما يقع فيه. وهناك كتاب يسمونه «الكتاب الأسود»، أو «كتاب الخسائر»، فيستشيره أو يتصفحه كل مَن يُحب أن يقف على الحقائق، وأخباره هي آخر الأخبار الواردة إلى لندن؛ لأنها تجيء ليلًا على لسان البرق اللاسلكي، (وسابقًا على لسان البرق السلكي البحري)، فتُلتَقَط وتُدَوَّن حالًا، وما يكاد ينشق إهاب الفجر عن جبينه إلا وقد طُبعت تلك الأنباء البرقية على صحيفة يومية يُسمونها «قائمة لويد» (لويدس لست)، وهي بمثابة جريدة بحرية من أقدم جرائد هذا النوع؛ لأن عهدها يرتقي إلى سنة 1745 في أقل ما يُظن. وفي ذلك المحل الكبير تجد آلات تتحرك من نفسها، كمقياس الجو، ومقياس الأرياح وغيرهما، فترسم على الحيطان بقلم من رصاص تقلُّبات الجو وسير العواصف؛ فبهذه الإفادات المختلفة التي تُؤخذ يوميًّا، وبالإفادات التي تأتي من كل موقع وموضع من أنحاء العالم «تبعث وقائع البحر ظلها على تلك الحيطان فترتسم» بموجب تعبير الإنكليز، وحينئذٍ لا يقف رجال الأشغال على المعاملات البحرية والتجارية فقط، بل يقفون — وهذا أهم من ذلك — على ما يحلُّ من تلك الغمرات من الويلات ليتخذوا وسائل يمنعون بها وقوعها، ويدفعون عن ركاب البحر المصائب التي تتهددهم وتتهدد مراكبهم وبضائعهم وأموالهم. ولهذه الشركة البسيطة في أصل وضعها ونشوئها فروع وشُعب في جميع الديار التجارية، وقد انضمت إليها شركات أخرى قوية. والخِدَم التي خدمت بها التجارة والمنافع البريطانية التي أدَّتها هي فوق كل تصوير، يكفيك أن تعلم أنها تخسر أسبوعيًّا نحو ستين سفينة؛ أي نحو 3000 سفينة في السنة من باب الحساب المُعَدَّل. رأيت قوة بريطانية العظمى التجارية، أمَّا قوتها البحرية فهي فوق هذه. وكيف لا تكون فوقها وحياتها متوقفة عليها؟ إلا أن دولة ألمانية لما رأت أن لا مندوحة لها عن النجاح إذا لم تُرَقِّ حالة أسطولها، أخذت تفرغ وسعها لتُجاريها أو لتغلبها، حتى خيف على إنكلترة من الوقوف في تقدُّمها، ولا سيما لأن رجالها البحريين دون رجال الألمان عددًا. غير أن شبوب الحرب بين القومين جاء فاصلًا لهذا النزاع؛ ولهذا يُنتظر أن ترجع ألمانية القهقرى وتسير بريطانية في وجهها بدون أن يُثَبِّط عزمها مُثَبِّط. هذه هي نتيجة القوة البحرية. إنها ترفع الدولة إلى حيث لا تنال، وتحميها من هجوم الأعادي، وتُذلل أمامها العقبات، وترفع مقامها بين الدول. وإذا ضعفت فيها هذه القوة سطا عليها كل قوي وعركها عرك الرحى بثفالها، وربما لاشاها وأزالها من عالم الوجود، وأصبحت أثرًا بعد عَين.
.......................................................
1- َّ اللحق: آلة لقياس سري المراكب، وقد سماها بعضهم «بركيتة»، من الإيطالية، وفي خليج فارس يُسميها العرب «باطلي»، والكلمة الإنكليزية Log، والفرنسية Loch، من العربية: لحق.
|
|
في اليوم العالمي للصحة النفسية.. نصائح لتحسين مزاجك اليومي
|
|
|
|
|
آلاف الأشخاص يحاولون الهروب من فلوريدا بسبب إعصار ميلتون
|
|
|
|
|
من فلسطين إلى لبنان.. دعم المرجعية العُليا وتضامنها حاضر مع القضايا العادلة
|
|
|