أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-7-2021
1987
التاريخ: 15/11/2022
1140
التاريخ: 2023-11-10
1488
التاريخ: 13-7-2021
2668
|
التهجد بالليل
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 1-6]
المزّمّل المتزمّل ، وهو الذي تزمّل في ثيابه أي تلفّف بها ، أدغم التّاء في الزاء لقرب المخرج كما هو المشهور ، وقرئ على الأصل ، والمزمّل بتخفيف الزاي وفتح الميم وكسرها [1] على أنّه اسم فاعل أو مفعول من زمّله غيره ، أو زمّل نفسه.
فقيل : وكان [2] رسول الله (صلى الله عليه وآله) نائما باللّيل متزمّلا في قطيفة فنبّه ونودي بما تهجن إليه الحالة الّتي كان عليها من استعداده للاشتغال في النّوم كما يفعل من لا يهمّه أمر ولا يعنيه شأن ، فأمر بان يختار على الهجوع التّهجّد وعلى التزمّل التشمّر للعبادة والمجاهدة في الله ، لا جرم أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد تشمّر لذلك وطائفة من أصحابه حقّ التشمّر ، وأقبلوا على إحياء لياليهم ، ورفضوا الرّقاد والدّعة وجاهدوا فيه حتّى انتفخت أقدامهم واصفرّت ألوانهم ، وترامي أمرهم إلى حدّ رحمهم ربّهم ، فخفّف عنهم بما يأتي في آخر السّورة.
وقيل : كان [3] متزمّلا في مرط لعائشة يصلّي ، فهو على هذا ليس بتهجين ، بل هو ثناء وتحسين لحاله الّتي كان عليها.
وقيل : دخل على خديجة وقد جئت فرقا أوّل ما أتاه جبرئيل ، وبوادره ترعد فقال : زمّلوني ، فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبرئيل فقال : يا أيّها المزمّل.
وعن عكرمة أنّ المعنى : يا أيّها الذي زمّل أمرا عظيما أي حمّله ، والزمل الحمل ، وازدمله احتمله ، وقرئ «قم اللّيل» بضمّ الميم وفتحها فقيل : الغرض بهذه الحركة التبلّغ بها هربا من التقاء السّاكنين ، فبأيّ الحركات تحرّك فقد وقع الغرض [4].
(نِصْفَهُ) لا يبعد أن يكون بدلا من اللّيل المستثنى منه (قَلِيلاً) أي ما بقي بعد الاستثناء ، ورجوع ضمير «منه» و «عليه» إلى قيام ذلك أو إلى (نِصْفَهُ) بتقدير واضح ، والمعنى أيضا كذلك ، لا يقال فحينئذ يلغو الاستثناء ، فإنّه ينبغي حينئذ أن يقال : قم نصف اللّيل أو قم اللّيل نصفه ، إذ يمكن أن يكون إشارة إلى نوع توسعة وأنّ النّصف تقريب كما هو أوفق بما تقدّم من قوله سبحانه {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20] نصبا وجرّا.
على أنّه لا يبعد أن يكون المراد التوسعة والتخيير بين النصف والأقلّ والأكثر مطلقا ، أو إشارة إلى أنّ النّصف الذي هو وقت القيام ، أكثر بركة وأقوى شرفا حتّى كأنّه أكثر بحيث إذا قام فيه قام اللّيل إلّا قليلا ، أو أنّه إذا قام نصف اللّيل كأنّه قام اللّيل كلّه إلّا قليلا.
أو الاستثناء إشارة إلى وقت النّوم والاستراحة من النّصف الآخر دون ما صرف منه في صلاة المغرب والعشاء وتوابعهما ، فكأنّه مستثنى عقلا ، أو أنّ ما يقع فيه القيام من حيث القيام فيه كأنّه أكثر.
على أنّه لو كانت القلّة بالنّسبة إلى أعداد اللّيل كما قيل ويأتي ، لم يلزم هنا لغو أصلا.
هذا كله إذا رجع ضمير (نِصْفَهُ) إلى اللّيل المطلق ، أما إذا رجع إلى الباقي بعد الاستثناء أعني المبدل ، كان المأمور بقيامه أقلّ من النصف ، والنقصان والزيادة منه وعليه ، والتخيير قريب على الأول ، وربّما كان القليل المستثنى عبارة عما يصرف في العشائين ونحو ذلك من أول الليل والله أعلم.
أو يكون بدلا عن قليلا وضمير منه وعليه لليل المستثنى منه النّصف ، أو لقيامه ، والحاصل قم نصف اللّيل أو أقلّ أو أكثر ، والاستثناء لا يلغو لما تقدّم.
(أَوِ انْقُصْ. أَوْ زِدْ) عطف على (قُمِ) على التقديرين فليتأمّل ، وعلى الأخير يمكن أن يرجع ضمير منه وعليه إلى نصفه أو قليلا ، والمعنى حينئذ قم اللّيل إلّا نصفه أو أنقص منه ، أو أزيد ، ف (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ) إشارة إلى قيام أكثر من النّصف ، و (أَوْ زِدْ) إلى قيام أقلّ من النّصف ، ولا يبعد أن يكون ما نقل في مجمع البيان [5] والجمع عن الصادق (عليه السلام) القليل النّصف أو انقص من القليل قليلا أو زد على القليل قليلا ، إشارة إلى ذلك ، ويمكن كونه إشارة إلى كل واحد من الأوّلين لكن على خلاف الظّاهر.
ويمكن كونه إشارة إلى ما ذكره الكشاف بقوله «ويجوز إذا أبدلت نصفه من قليلا ، وفسّرته به ، أن تجعل قليلا الثّاني بمعنى نصف النّصف ، وهو الرّبع ، كأنّه قيل أو انقص منه قليلا نصفه ، ويجعل المزيد على هذا القليل اعنى الربع نصف الربع كأنّه قيل أو زد عليه قليلا نصفه ، قال : ويجوز ان تجعل الزّيادة لكونها مطلقة تتمّة الثلث ، فيكون تخييرا بين النصف والثلث والرّبع».
ولا يخفى أنّ الأظهر أن تكون الزّيادة على النّصف المأمور بقيامه كالنّقصان كما هو ظاهر قوله : فيكون تخييرا. فلو جعل تتمّة الثلثين أو ما بين النصف إلى الثلثين لكان أظهر وانسب بقوله (أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) كما لا يخفى ولو جعل فيما قبله أيضا كذلك [6] لكان كذلك وكون الثلثين أقلّ من ثلاثة أرباع كما يقتضيه جعله القليل نصف المزيد عليه والمنقوص منه لا يمنع ذلك مع عدم لزومه كما لا يخفى.
ويمكن اعتبار الزّيادة والنقيصة بالنّسبة إلى القليل والنصف البدل عنه على هذا النّسق ، فيكون التّخيير بين النّصف والثلاثة الأرباع والرّبع ، ويأتي احتمال الثّلث في الرّبع كما تقدم ، ويمكن اعتبار الزّيادة بالنّسبة إلى الباقي بعد النقصان و
إلى النقصان ، وهذا أولى بكلام الكشّاف ، لو لا قوله فيكون تخييرا إلخ كما لا يخفى ، بل أوفق بالرّواية أيضا فتأمل.
وفي تفسير القاضي (وَنِصْفَهُ) بدل من اللّيل ، والاستثناء من النّصف ، والضّمير في «منه» «وعليه» للأقلّ من النّصف كالثلث ، فيكون التّخيير بينه وبين الأقلّ منه كالرّبع ، والأكثر منه كالنّصف أو للنصف والتّخيير بين أن يقوم أقلّ منه على البتّ وأن يختار أحد الأمرين من الأقلّ والأكثر ، أو الاستثناء من أعداد الليل ، فإنّه عامّ والتّخيير بين قيام النّصف والنّاقص عنه والزّائد عليه.
هذا والأوّلان في الكشاف أيضا ، وكون الاستثناء من نصفه مع اتّصاله باللّيل وتقدّمه على نصفه ، وكون نصفه بدلا من اللّيل وحده مع توسّط الاستثناء خلاف الظّاهر ، بعيد جدّا عن فصاحة كلام الله سبحانه.
ويلزم على الثّاني كون أو انقص منه لغوا ، لأنّه بعينه معنى قم نصف اللّيل إلّا قليلا ، والعذر بأنّ الترديد بين الشيء على البتّ وبينه وبين غيره على التخيير كما قالوا ، أو بأنّ (انْقُصْ) لمناسبة (أَوْ زِدْ) كما في مجمع البيان بعيد غير لائق أيضا قيل خصوصا الثّاني ، فإنّ مرجعه إلى التخيير بينهما فليتأمل.
ولا يخفى أنّ القليل في الاستثناء وغيره ليس له حدّ معين ، فكأنّه لا يحصل من استثناء القليل ثمّ اعتبار نقصان قليل من ذلك ، معنى مشخّص محدود ، فيبعد الترديد على هذا الوجه كما في الأوّل ، ولهذا قيل : عليه يلزم كون الاستثناء لغوا ، وقيل على الثّالث : إرادة القليل من اللّيالي ـ وهي ليالي القدر والمرض ـ من الاستثناء بعيد لعدم ظهور كون اللّيل للاستغراق وعدم الاحتياج إلى الاستثناء ، وللاحتياج إلى التكلّف في الاستثناء والبدل ، وفي أو انقص أو زد فليتأمل فيه.
والأمر بالقيام باللّيل للصّلاة أو القيام باللّيل كناية عن الصلاة باللّيل كما في مجمع البيان قال : المراد بقم الليل صلاة الليل بإجماع المفسّرين إلّا أبا مسلم ، فإنّه قال : المراد قراءة القرآن في الليل.
في الكشاف : فان قلت : أكان القيام فرضا أم نفلا؟ قلت : عن عائشة أنّ الله جعله تطوّعا بعد أن كان فريضة ، وقيل : كان فرضا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ثمّ نسخ بهنّ ، إلّا ما تطوّعوا به. وعن الحسن كان قيام ثلث الليل فريضة وكانوا على ذلك سنة ، وقيل : كان واجبا وإنّما وقع التّخيير في المقدار ثمّ نسخ بعد عشر سنين ، وعن الكلبيّ كان الرّجل يقوم حتّى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النّصف والثّلث والثّلاثين.
ومنهم من قال كان نفلا بدليل التّخيير في المقدار ، ولقوله تعالى {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] انتهى وتقدّم عن المعالم أنّه كان واجبا على النّبي (صلى الله عليه وآله) والأمة ثمّ نسخ الوجوب في حقّ الأمّة دونه (صلى الله عليه وآله) فبقي مستحبّا عليهم واجبا عليه (عليه السلام).
وعن قتادة نسخ الوجوب في حقّه أيضا وقد سبق عن الراونديّ عن ابن عبّاس وأبي عبد الله (عليه السلام) أنّها فرضت على النّبي (صلى الله عليه وآله) ولم تفرض على غيره ، فلا يبعد أن تكون هذه الآية إشارة إلى وجوب صلاة الليل عليه (صلى الله عليه وآله) كقوله (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً) أي زيادة «لك» على باقي الفرائض ، مخصوصة بك دون أمّتك على ما قيل ، ويكون المراد بالتّرخيص المفهوم من آخر السّورة التّخفيف في الوقت لا إسقاط الصّلاة بالكلّية.
ويمكن كونه إشارة إلى النّسخ عنه ومساواته للغير في الاستحباب مع التخفيف في الوقت عن الجميع ، مع احتمال النّسخ عن الجميع ، أو الأمّة وحدها ، لكن مع بعد لقوله (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) خصوصا على ما روي أنّ المراد بالطّائفة عليّ وأبو ذرّ مع ما تقدّم عن ابن عبّاس وأبي عبد الله (عليه السلام) وموافقته للأصل ، وعدم ثبوت الوجوب على غيره (صلى الله عليه وآله) فتأمّل.
وترتيل القرآن قراءته على ترسّل وتؤدة ، بتبيين الحروف ، وإشباع الحركات حتّى يجيء المتلوّ منه شبيها بالثغر المرتّل وهو المفلّج ، وأن لا يهذّه هذّا حتّى يشبه المتلوّ في تتابعه الثغر الألصّ.
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) : بيّنه تبيانا ولا تهذّه هذّ الشّعر ، ولا تنثره نثر الرّمل ، ولكن أفزع به القلوب القاسية ، ولا يكوننّ همّ أحدكم آخر السّورة وعن ابن عبّاس لأن أقرء البقرة أرتّلها أحبّ إليّ من أن أقرء القرآن كلّه.
وعن الصّادق (عليه السلام) في التّرتيل هو أن تتمكّث فيه ، وتحسّن به صوتك ، وقال : إذا مررت بآية فيها ذكر الجنّة فاسأل الله الجنّة ، وإذا مررت بآية فيها ذكر النّار فتعوّذ بالله من النّار [7].
وفي المعالم عن أبي ذرّ قال : قام النبيّ (صلى الله عليه وآله) حتّى أصبح بآية ، والآية { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118].
عن عائشة أنّها سئلت عن قراءة النّبيّ (صلى الله عليه وآله) فقالت لا كسردكم هذا ، لو أراد السّامع أن يعدّ حروفه لعدّها.
و (تَرْتِيلاً) تأكيد في إيجاب الأمر به ، وأنّه ممّا لا بدّ للقارئ منه ، بل للمصلّي بل في صلاة اللّيل ، على أنّ المراد بقم اللّيل الأمر بصلاة اللّيل ، وبرتّل ترتيل القراءة فيها ، أو في اللّيل على أنّ المراد زائدا عن الصّلاة ، أو على قول أبي مسلم أنّ القيام للقراءة في اللّيل ، أو مطلقا ، وفيهما بعد ، والأخير أبعد لقوله فيما بعد (إِنَّ ناشِئَةَ) الآية روي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : يقال لصاحب القرآن : اقرء وارق ، ورتّل كما كنت ترتّل في الدّنيا ، فان منزلتك عند آخر آية تقرأها [8].
(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) هذه الآية اعتراض ، ويعني بالقول الثّقيل القرآن ، وما فيه من الأوامر والنواهي الّتي هي تكاليف شاقّة ثقيلة على المكلّفين ، خاصّة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) لانّه متحمّلها بنفسه ، ومحمّلها لأمّته ، فهي أثقل عليه وأبهظ له فيحتاج في ضبط ذلك وتأديته إلى قيام الليل.
وأراد بهذا الاعتراض أنّ ما كلّفه من قيام اللّيل من جملة التّكاليف الثقيلة الصّعبة الّتي ورد بها القرآن ، لانّ اللّيل وقت السّبات والرّاحة ، فلا بدّ لمن أحياه من مضادّة لطبعه ومجاهدة لنفسه ، وقيل نزوله أو تلقّيه.
عن ابن عبّاس : كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربّد له جلده ، وعن عائشة رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وانّ جبينه ليرفض عرقا [9] وعن الحسن : ثقيل في الميزان ، وقيل ثقيل على المنافقين ، وقيل كلام له وزن ورجحان ، فيحتاج الى مزيد تدبّر وتأمّل ووقت لائق بذلك ، فلا بدّ من قيام الليل.
(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) ناشئة اللّيل : النفس النّاشئة باللّيل الّتي تنشأ من مضجعها إلى العبادة ، أي تنهض وترتفع ، من نشأت السحابة : إذا ارتفعت ، ونشأ من مكانه إذا نهض.
أو قيام اللّيل ، على أنّ الناشئة مصدر من نشأ إذا قام ونهض ، ويدلّ عليه ما صحّ عن أبي عبد الله (عليه السلام) هي قيام الرّجل عن فراشه لا يريد به إلّا الله ، وما روي عن عبيد بن عمير قلت لعائشة : رجل قام من أوّل اللّيل أتقولين له قام ناشئة من اللّيل قالت : لا ، إنّما النّاشئة القيام بعد النّوم ، أو العبادة الّتي تنشأ باللّيل أي تحدث وترتفع.
وقيل هي ساعات اللّيل كلّها ، لأنّها تحدث واحدة بعد اخرى ، وقيل السّاعات الأول منها ، من نشأت إذا ابتدأت عن عكرمة ، وعن الحسن كلّ صلاة بعد العشاء فهي ناشئة في اللّيل ، هي خاصة دون ناشئة النهار.
وعن عليّ بن الحسين (عليه السلام) أنّه كان يصلّي بين المغرب والعشاء ويقول أما سمعتم قول الله تعالى (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) هذه ناشئة اللّيل ، ولم يثبت ، ولو ثبت فلعلّه ليس معناه اختصاص النّاشئة بالسّاعات الأول ، بل هي مطلق السّاعات أو القيام في مطلقها كما هو قول الأكثر.
لكن في المعالم بعد أن قدّم عن ابن عباس أنّ اللّيل كلّه ناشئة : وقال ابن عباس كانت صلاتهم أوّل اللّيل هي أشدّ وطأ يقول هو أجدر أن تحصوا ما فرض الله عليكم من القيام ، وذلك انّ الإنسان إذا نام لم يعرف متى يستيقظ ، ورواه عنه أبو داود في صحيحه ، وقوله (عليه السلام) ناظر الى ذلك فليتأمّل فيه.
(أَشَدُّ وَطْئاً) اي مواطاة يواطئ قلبها لسانها إن أردت النفس ، أو يواطئ فيها قلب القائم لسانه إن أردت القيام أو العبادة أو السّاعات ، أو أشدّ موافقة لما يراد من العبادة والخشوع والإخلاص ، ويؤيّده ما تقدّم عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، وعن الحسن أشدّ موافقة بين السرّ والعلانية ، لانقطاع رؤية الخلائق ، وقرئ «أشدّ وطأ» بالفتح والسكون [10] والمعنى أشدّ ثبات قدم وأبعد من الزّلل ، أو أثقل ، وأغلظ على المصلّي من صلاة النّهار ، من قوله (عليه السلام) «اشدد وطأتك على مضر».
(وَأَقْوَمُ قِيلاً) وأسدّ مقالا وأثبت قراءة لهدوّ الأصوات ، وعن أنس أنّه قرأ وأصوب قيلا ، وقال إنّهما واحد.
(إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) سبحا : تصرّفا وتقلّبا في مهمّاتك وشواغلك ، فلا تفرغ كما ينبغي لعبادتك ومناجاة ربّك الّتي تقتضي فراغ البال إلّا باللّيل ، فاجعله لذلك لتفوز بخير الدّنيا والآخرة ، وقيل : فراغا وسعة لنومك وتصرّفك في حوائجك ، وهو مرويّ عنهم (عليهم السلام) وقيل إن فاتك من اللّيل شيء فلك في النّهار فراغ تقدر على تداركه فيه ، وأما القراءة بالخاء [11] فاستعارة من سبخ الصّوف وهو نفشه ونشر أجزائه لانتشار الهمّ ، وتفرّق القلب بالشّواغل.
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) ودم على ذكره في ليلك ونهارك ، وأحرص عليه ، وذكر الله يتناول كلّ ما كان من ذكر طيّب : تسبيح وتهليل وتكبير وتمجيد وتوحيد وصلاة وتلاوة قرآن ودراسة علم وغير ذلك ممّا كان رسول الله استغرق به ساعات ليله ونهاره كذا في الكشاف ، وقريب منه في تفسير القاضي والجوامع ، وقد استدلّ به على وجوب البسملة.
وقيل : المراد به الدّعاء بذكر أسمائه الحسنى كما في قوله {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] ويستدلّ بذلك على جواز الدّعاء في جميع الحالات ، وفي الصلاة للدّين والدّنيا ، ولإخوانه المؤمنين ، ولشخص بعينه ، قال في الكنز : وليس بعيدا من الصواب لعموم قوله {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] الآية وكلّ ذلك موضع تأمّل كما لا يخفى.
(وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) وانقطع إليه ، وقال تبتيلا لأنّ معنى تبتّل بتّل نفسه ، فجيء به على معناه مراعاة لحقّ الفواصل ، روى محمّد بن مسلم وحمران بن أعين عن الصّادق [12] (عليه السلام) أنّ التبتّل هنا رفع اليدين في الصّلاة ، وفي رواية أبي بصير قال : هو رفع يديك إلى الله وتضرّعك إليه ، ويمكن أن يكون ذلك علامة للانقطاع إليه الذي هو معنى التبتيل ، ودليلا عليه فيستحبّ فتأمّل.
ثمّ يمكن حينئذ أن يكون المراد بالذكر الذّكر في قيام اللّيل فتفكر.
(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ.)
قد تقدّم في بحث القراءة ما يتعلّق بذلك ، وأنّه ناسخ لما دلّ عليه أوّل السّورة من تحديد الوقت أو وجوب القيام وصلاة اللّيل عنه (صلى الله عليه وآله) فقط ، لعدم الوجوب على غيره ، أو عنهم جميعا للوجوب عليهم أيضا أو عنهم فقط لبقاء ذلك عليه ، وأنّ المراد بالقراءة صلاة اللّيل قال في المجمع : هو قول أكثر المفسّرين كما أنّ المراد بقم اللّيل صلاة اللّيل بإجماع المفسّرين إلّا أبا مسلم ، فإنّه قال المراد قراءة القرآن في الليل.
ولا يخفى ما في هذا التّخفيف من التّرغيب والتّحريص على فعل ما تيسّر ، حتّى لو لا الإجماع أمكن القول بالوجوب بذلك كما قيل ، حملا على القراءة في الفريضة ، فلا ينبغي ترك صلاة اللّيل بالكلّية ، ولا النقصان من ثلاثة عشر ركعة المشهورة مع التيسّر ، ويفهم عدم سقوطها سفرا ولا مرضا ، وقد يفهم من الأخبار أيضا بل الإجماع أيضا.
وكذا قراءة القرآن على ما قيل ، فإنّ قراءة القرآن مع ما تقدم فيها فضل عظيم ، خصوصا في اللّيل ، ويدلّ عليها أخبار العامّة والخاصّة ، وقيل واجبة كفاية للحفظ في الصدر لبقاء الأحكام والمعجزة وأدلّة أصول الدّين ، فلا يبعد حمل الآية عليه ، وفيه نظر كما قيل ، للزوم كون القيود لغوا فتأمّل ، وقد قدّمنا أنّ القائلين بأنّ المراد قراءة القرآن فيهم من حدّه بخمسين آية ، ومن حدّه بمائة ، ومن حدّه بمائتين ، والذي ينبغي أن يكون المراد حينئذ ما يصدق عليه ما تيسّر ، وكلّما زاد كان أحسن ، وما ورد من المقدار محمول على تأكيد فضله.
روي عن الصّادق [13] (عليه السلام) أنّه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من قرأ عشر آيات في ليل لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ خمسين آية كتب من الذّاكرين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين ، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب من الفائزين ، ومن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين ، ومن قرأ ألف آية كتب له قنطار من برّ ، والقنطار خمسة عشر مثقالا من الذّهب ، والمثقال أربعة وعشرون قيراطا أصغرها مثل جبل أحد ، وأكبرها ما بين السماء والأرض.
وقال الصادق [14] (عليه السلام) من قرأ في المصحف متّع ببصره ، وخفّف عن والديه ، ولو كانا كافرين.
ثمّ ينبغي القراءة من المصحف وإن كان حافظا :
عنه (عليه السلام) يرفعه إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) : ليس شيء أشدّ على الشّيطان من القراءة في المصحف نظرا ، وعنه (عليه السلام) أنّه قال لاسحاق بن عمّار [15] : اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل ، أما علمت أنّ النظر في المصحف عبادة ، وعنه (عليه السلام) [16] يقدّم لقارئ القرآن بكلّ حرف يقرأ في الصّلاة قائماً مائة حسنة ، وقاعدا خمسون حسنة ، ومتطهّرا في غير الصّلاة خمس وعشرون حسنة ، وغير متطهّر عشر حسنات. أما إنّي لا أقول المرحرف ، بل له بالألف عشر ، وباللام عشر ، وبالميم عشر ، وبالرّاء عشر ، وفيه دلالة على أنّ الصّلاة قائماً أفضل حتّى الوتيرة ، فلا تغفل ، والروايات في فضل قراءة القرآن وشرائطها كثيرة مذكورة في موضعها ، وينبغي أن يكون على الترتيل كما تقدّم.
قوله {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20] ظاهر أنّ فضل الله أعمّ من المال والعلم والثّواب وغيرها فيدخل فيه السّفر للتجارة وتحصيل المال ، ولتحصيل العلم والحجّ والزيارات ، وصلة الرّحم ونحوها ، وقد ورد من طرق العامّة والخاصّة روايات في الحثّ على التّجارة مذكورة في موضعها.
نقل عن ابن مسعود [17] أيّما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه ، كان عند الله بمنزلة الشّهداء ثمّ قرأ (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ) الآية.
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) المفروضة ، وقيل هو النّاسخ لهذا الترخيص النّاسخ للأوّل وفيه نظر. (وَآتُوا الزَّكاةَ) الواجبة ، وقيل زكاة الفطر لأنّه لم تكن زكاة بمكّة ، وإنّما وجبت بعد ذلك ، ومن فسّرها بالزّكاة الواجبة جعل آخر السّورة مدنيّا.
(وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) على وجه حسن معروف خال عن الأذى والمنّة والرّياء مثلا ، ويجوز أن يراد به سائر الصدقات ، وأن يراد أداء الزّكوة على أحسن وجه من أطيب المال وأعوده على الفقراء ، ومراعاة النيّة ، وابتغاء وجه الله ، والصّرف إلى المستحقّ ، وأن يراد كلّ شيء يفعل من الخير ممّا يتعلّق بالنّفس والمال ، وروى سماعة عنه (عليه السلام) أنّ المراد به غير الزّكوة.
(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) ما موصولة تضمّن معنى الشّرط مبتدأ مع صلته ، و «تجدوه» خبره بمنزلة الجزاء ، والهاء مفعوله الأوّل ، و «عند» ظرفه «وخيرا» مفعوله الثّاني و «هو» فصل وجاز وإن لم يقع بين معرفتين ، لأنّ «أفعل من» أشبه المعرفة في امتناعه من حرف التعريف ، فالمعنى خيرا ممّا تؤخّرونه إلى وقت الوصيّة كما روي أنّ عنبسة العابد [18] قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : أوصني ، فقال أعدّ جهازك ، وقدّم زادك ، وكن وصىّ نفسك ، ولا تقل لغيرك يبعث إليك بما يصلحك.
أو خيرا من مطلق ما يترك إنفاقه أو فعله من القربات والطّاعات ، وربّما احتمل مضمون {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148] فكلّ ما قدّم وعجّل ، كان خيرا وأعظم أجرا ، وقيل بجواز كون هو تأكيدا وبدلا وصفة ، وفيه أنّه يلزم تأكيد المنصوب بالمرفوع أو بدليّته عنه أو وصفه به ، على أنّ المشهور أنّ الضّمير لا يوصف ولا يوصف به.
نعم ربّما جاز كون عند الله ظرفا للمفعول الأوّل بتقدير حاصلا ونحوه وحينئذ فربّما جاز كون هو تأكيدا أو بدلا من الضّمير فيه ، أو صفة باعتبار متعلّقه ، حيث هو من أوصافه وأحواله ، لكن لا يخفى ما في الكلّ من التعسّف.
ويجوز أن يكون عند الله مفعولا ثانيا وهو على نحو ما ذكر وخيرا وأعظم حالان أو تميزان ، أو الثّاني عطف تفسير مع نوع تأمّل فليتدبر.
وأعظم عطف على خيرا وأجرا تميز عن نسبة تجدوه عند الله أي خيرا وأعظم ، أو عن نسبته إلى أعظم ، وقرأ أبو السماك هو خير وأعظم أجرا على الابتداء والخبر ، فيكون عند الله مفعوله الثّاني ، والجملة حالية أو مستأنفة.
(وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) في مجامع الأحوال ، إذ الإنسان لا يخلو من تفريط ، والأكثر من تفاحش فيه ، وظاهر الأمر وجوب الاستغفار ووجهه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ستّار لذنوبكم ، عفوّ عنكم ، كثير الرّحمة بكم ، عظيم الترحّم عليكم ، فدلّت على وجوب الاستغفار ومشروعيّته دائما وإن لم يعلم بذنب ، فكذا التّوبة لما ثبت أنّ الاستغفار من غير ندامة ورجوع إليه غير نافعة ، وعلى قبول التّوبة أيضا.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15، 16] قابلين جميع ذلك راضين به ، يعني أنّه ليس فيما آتاهم إلّا ما هو متلقّى بالقبول ، مرضىّ ، لأنّ جميعه حسن طيّب.
(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ.) أحسنوا أعمالهم. وما بعد ذلك تفسير لإحسانهم.
{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17، 18] ما مزيدة والمعنى كانوا يهجعون في طائفة قليلة من اللّيل ، إن جعلت قليلا ظرفا ولك أن تجعله صفة للمصدر أي كانوا يهجعون هجوعا قليلا قاله الكشاف ، لكن اتّصال قليلا بمن اللّيل ، مع تقدّمهما يأبى ذلك ظاهرا ، فان المتبادر كون القليل من اللّيل ، وإن أمكن كون من بمعنى الباء كالباء بمعنى من في قوله تعالى {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] أي منها ، فتدبّر.
أو ما مصدريّة أو موصولة على «كانوا قليلا من اللّيل هجوعهم» أو «ما يهجعون فيه» وارتفاعه بقليلا على الفاعليّة ، وفيه مبالغات : لفظ الهجوع وهو من النّوم ، وقوله قليلا ، ومن اللّيل ، لأنّ اللّيل وقت السّبات والرّاحة وزيادة ما المؤكّدة كذلك.
وصفهم بأنّهم يحيون اللّيل متهجّدين فاذا أسحروا أخذوا في الاستغفار ، كأنّهم أسلفوا في ليلهم الجرائم ، وقوله «هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» فيه أنّهم هم المستغفرون الأحقّاء بالاستغفار دون المصرّين ، أو كأنّهم المختصّون به لاستدامتهم له ، أو إطنابهم فيه.
فان قلت : هل يجوز أن تكون ما نافية كما قال بعضهم وأن يكون المعنى أنّهم لا يهجعون من اللّيل قليلا ويحيونه كلّه؟ قلت لا ، لأنّ ما النّافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، تقول زيدا لم أضرب ، ولا تقول زيدا ما ضربت كذا في الكشاف [19].
وفي الحسن عن محمّد بن مسلم [20] أنّه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن الآية ، فقال : كانوا أقلّ اللّيالي تفوتهم لا يقومون فيها ، وهو يحتمل ما تقدّم ، أي أقلّ أجزاء لياليهم تفوتهم لا يقومون فيها ، كما قيل في الآية من أنّ معناها قلّ ليلة أتت عليهم إلّا صلّوا فيها ، أي في قليل من اللّيالي ينامون فلا يصلّون ، وذلك لأنّ المراد حالهم في لياليهم.
وفي المعالم [21] : ووقف بعضهم على قوله (قَلِيلاً) أي كانوا من النّاس قليلا ، ثمّ ابتدأ (مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) وجعله جحدا أي لا ينامون باللّيل ، بل يقومون للصّلاة والعبادة ، وهو قول الضحّاك ومقاتل ، هذا ولا يخفى أنّه يمكن كون «ما» حينئذ زائدة أو موصولة أو مصدرية كما تقدّم ، ولا يتعين حمله على النّفي كما نقل ، هذا.
وعن الكلبيّ ومجاهد ومقاتل {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] يصلّون وذلك أنّ صلاتهم لطلب المغفرة ، وقيل الاستغفار في الوتر ، والظاهر الإطلاق كما تقدّم وخصّ الاستغفار بالسّحر مطلقا ومقيّدا في الأخبار كثيرا ، لمزيد الاهتمام بالاستغفار وشرف الوقت ، واستعداد الشّخص فيه غالبا.
وفي عدّة الدّاعي في أشرف الأوقات ، وأما الثّلث الأخير فمتواتر ، قال رسول الله [22] (صلى الله عليه وآله) : إذا كان آخر اللّيل يقول الله سبحانه : هل من داع فأجيبه؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟
وروى إبراهيم بن أبي محمود [23] قال : قلت للرضا (عليه السلام) : ما تقول في الحديث الذي يرويه النّاس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : إنّ الله تبارك وتعالى ينزل في كلّ ليلة إلى السّماء الدّنيا؟ فقال (عليه السلام) : لعن الله المحرّفين الكلم عن مواضعه ، والله ما قال رسول الله كذلك إنّما قال : إنّ الله تبارك وتعالى ينزل ملكا إلى السّماء الدّنيا في كلّ ليلة في الثّلث الأخير ، وليلة الجمعة في أوّل اللّيل ، فيأمره فينادي هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ يا طالب الخير أقبل يا طالب الشرّ أقصر! فلا يزال ينادي حتّى يطلع الفجر فاذا طلع عاد إلى محلّه من ملكوت السّماء ، حدّثني بذلك أبي عن جدّي عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وفي الحديث [24] عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ختم له بقيام اللّيل ثمّ مات فله الجنّة وأنّه جاء رجل [25] إلى عليّ (عليه السلام) فقال : إنّي قد حرمت صلاة اللّيل ، فقال له : أنت رجل قد قيّدتك ذنوبك.
{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19] السّائل الذي يستجدى ، والمحروم الذي يحسب غنيّا فيحرم الصدقة لتعفّفه ، عن النبيّ [26] (صلى الله عليه وآله) : ليس المسكين الذي تردّه الأكلة والأكلتان ، والتمرة والتمرتان. قالوا : فما هو؟ قال الذي لا يجد ولا يتصدّق عليه ، وقيل : الذي لا ينمو له مال ، وقيل : المحارف الذي لا يكاد يكسب ، ويأتي تمام الكلام فيه في الزّكوة إن شاء الله تعالى.
{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: 15، 16] أى الفرش ومواضع النّوم والاضطجاع (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) أى داعين إيّاه خوفا من سخطه وطمعا في رحمته.
المشهور أنّهم المتهجّدون الّذين يقومون لصلاة اللّيل ، وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهماالسلام وفي رواية عن الصّادق [27] (عليه السلام) : ما من عمل حسن يعمله العبد إلّا وله ثواب في القرآن إلّا صلاة اللّيل ، فان الله لم يبيّن ثوابها لعظم خطرها فقال (تَتَجافى) إلى (يَعْمَلُونَ) [28]. وعن بلال [29] عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) عليكم بقيام الليل فإنّه دأب الصّالحين قبلكم وإنّ قيام الليل قربة إلى الله تعالى ، ومنهاة عن الإثم ، وتكفير السيئات ، ومطردة للدّاء عن الجسد.
وعنه (عليه السلام) [30] شرف المؤمن قيامه بالليل ، وعزّه كفّ الأذى عن النّاس.
وعن أنس [31] بن مالك : كان أناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلّون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة ، فنزلت فيهم ، وقيل : هم الّذين يصلّون صلاة العتمة لا ينامون عنها ، هذه رواية الترمذيّ والأولى رواية أبي داود كلاهما عن أنس.
وقيل هم الّذين يصلّون العشاء والفجر في جماعة ، في المعالم [32] روّينا أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال : من صلّى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليله ، ومن صلّى الفجر في جماعة كان كقيام ليله.
وفي تفسير القاضي [33] : وعنه (عليه السلام) إذا جمع الله الأوّلين والآخرين جاء مناد ينادى يسمع الخلائق كلّهم : سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم؟ ثمّ يرجع فينادي : ليقم الّذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع! فيقومون وهم قليل ، ثمّ يرجع فينادي : ليقم الّذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضرّاء ، فيقومون وهم قليل ، فيروحون جميعا إلى الجنّة ، ثمّ يحاسب سائر الناس.
{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 17، 18] قرئ «ما اخفي لهم» على البناء للمفعول ، ما أخفى لهم على البناء [34] للفاعل وهو الله سبحانه «ما اخفي لهم» و «ما يخفى لهم» و «ما أخفيت» الثلاثة للمتكلّم وهو الله سبحانه ، وما بمعنى الذي أو بمعنى أيّ شيء ، وقرئ من «قرّاة أعين» [35] لاختلاف أجناسها والمعنى : لا تعلم النّفوس كلّهنّ ، ولا نفس واحدة منهنّ ، لا ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، أىّ نوع عظيم من الثّواب ادّخر الله سبحانه لأولئك وأخفاه من جميع خلائقه لا يعلمه إلّا هو ممّا تقرّ به عيونهم ، ولا مزيد على هذه العدّة ، ولا مطمح وراءها.
ثمّ قال (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.)
فحسم أطماع المتمنّين ، وعن النبيّ [36] (صلى الله عليه وآله) يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ، ولا اذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، بله ما اطّلعكهم عليه ، أقروا إن شئتم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ).
وعن الحسن [37] أخفى القوم أعمالا في الدّنيا فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ، وارتباط تتجافى بأنّما يؤمن ربّما أومأ إلى الوجوب ، إذ كأنّه مما لا ينفكّ عن الايمان ، فتأمّل.
[1] نقل هذه الثلاثة في روح المعاني ج 29 ص 100 والكشاف ج 3 ص 634 ونقل ابن خالويه المتزمل على الأصل والمزمل بكسر الميم في شواذ القرآن ص 164.
[2] هذا النظر ذكره في الكشاف ج 4 ص 634 وتحامل عليه المفسرون لاجترائه على هذه النسبة إلى النبي صلىاللهعليهوآله مع ان خطاب الله تعالى إياه بهذا اللفظ انما كان للتأنيس والملاطفة على عادة العرب كما خاطب النبي صلىاللهعليهوآله عليا عليهالسلام بقوله قم يا أبا تراب.
[3] هذا أيضا نقله في الكشاف واعترض عليه الأكثرون أن السورة من أوائل ما نزلت بمكة فلا يستقيم ذلك!!
[4] الكشاف ج 4 ص 636.
[5] المجمع ج 5 ص 377.
[6] وهو قوله : ويجوز إذا أبدلت إلخ.
[7] مجمع البيان 1 : 378.
[8] المجمع ج 5 ص 377.
[9] الكشاف ج 4 ص 638.
[10] المجمع ج 5 ص 375.
[11] نقل هذه القراءة في روح المعاني ج 29 ص 106 عن ابن يعمر وعكرمة وابن ابى عبلة ونقلها ابن خالويه في شواذ القرآن ص 164 عن يحيى بن يعمر.
[12] المجمع ج 5 ص 378.
[13] هكذا في نسختنا المخطوط وكذا في نسخ مسالك الافهام وقد أوضحنا في تعاليقنا على مسالك الافهام ج 1 ص 226 أن الصحيح عن ابى جعفر وترى الحديث في الوسائل الباب 17 من أبواب قراءة القرآن ج 4 ص 851 المسلسل 7734 والبحار ج 19 ص 50.
[14] الوسائل الباب 19 من أبواب قراءة القرآن ج 4 ص 853 المسلسل 7737 و 7783.
[15] الوسائل المسلسل 7739.
[16] البحار ج 19 ص 51.
[17] الكشاف ج 4 ص 643 وفي الكاف الشاف ذيله تخريجه ومثله في المجمع ج 5 ص 282 والدر المنثور ج 6 ص 280.
[18] الكافي باب النوادر من الوصايا ج 2 ص 252 والتهذيب ج 9 ص 237 الرقم 924 في الزيادات من أحكام الوصايا وهو في الوسائل الباب 98 من أبواب أحكام الوصايا ج 13 ص 483 المسلسل 24895.
[19] انظر الكشاف ج 4 ص 398 و 399 والمجمع ج 5 ص 155 وانظر أيضا روح المعاني ج 27 ص 5 وص 6.
[20] الوسائل الباب 40 من أبواب الصلوات المندوبة ج 5 ص 279 المسلسل 10309 ومثله في البرهان ج 4 ص 231 وما نقله المصنف ذيل الحديث
[21] وكذا في اللباب ج 4 ص 181.
[22] الوسائل الباب 25 من أبواب الدعاء ج 4 ص 1118 المسلسل 8752 ومثله في الباب 30 ص 1125 المسلسل 8784 عن عدة الداعي.
[23] الوسائل الباب 44 من أبواب صلاة الجمعة ج 5 ص 72 المسلسل 9661.
[24] الوسائل الباب 39 من أبواب الصلوات المندوبة ج 5 ص 274 المسلسل 10288.
[25] الوسائل الباب 40 من أبواب الصلوات المندوبة ج 5 ص 279 المسلسل 10310.
[26] الكشاف ج 4 ص 399 وفي الكاف الشاف أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
[27] المجمع ج 4 ص 331.
[28] المجمع ج 4 ص 331 وتراه في الوسائل الباب 40 من أبواب الصلوات المندوبة ج 5 ص 280 المسلسل 10318.
[29] المجمع ج 4 ص 331.
[30] رواه بعين هذا اللفظ في الوسائل الباب 39 من أبواب الصلوات المندوبة ج 5 ص 270 المسلسل 10271 وترى مضمونه في أحاديث كثيرة في هذا الباب.
[31] انظر الترمذي بشرح تحفة الاحوذى ج 4 ص 161 وروى ما نقله المصنف عن انس ثم قال في تحفة الاحوذى عند شرحه ورواه أبو داود عن انس بوجه أخر كما افاده المصنف قدسسره وانظر أيضا المجمع ج 4 ص 331 والدر المنثور ج 5 ص 174 والكشاف ج 3 ص 512 وتفسير ابن كثير ج 3 ص 459 وتفسير الخازن ج 3 ص 447.
[32] ومثله في تفسير الخازن ج 3 ص 447.
[33] البيضاوي ج 4 ص 35 ط مصطفى محمد.
[34] قال في روح المعاني ج 21 ص 118 قرء حمزة ويعقوب أخفى بسكون الياء فعلا مضارعا للمتكلم وابن مسعود نخفي بنون العظمة والأعمش أيضا أخفيت بالإسناد إلى ضمير المتكلم وحده ومحمد بن كعب أخفى فعلا ماضيا مبنيا للفاعل انتهى ما أردنا نقله.
وفي شواذ القرآن لابن خالويه ص 118 ما أخفيت لهم من قرة أعين الأعمش ، ما نخفي لهم ابن مسعود ما أخفينا لهم حكاه أبو عبيد عن بعضهم وانظر أيضا الدر المنثور ج 5 ص 176 ترى بعض هذي القراءات مروية فيه.
[35] حكاه في المجمع ج 4 ص 330 عن أبي هريرة وفي روح المعاني ج 21 ص 119 قال وقرء عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرة وعون والعقيلي من قرأت على الجمع بالألف والتاء وهي رواية عن ابى عمرو وابى جعفر والأعمش وجمع المصدر أو اسمه لاختلاف أنواع القرة والجار والمجرور في موضع حال انتهى.
وفي شواذ القرآن لابن خالويه ص 118 «من قرأت أعين» النبي صلىاللهعليهوآله وأبو هريرة وأبو الدرداء ، وانظر أيضا الدر المنثور ج 5 ص 176 نقل هذه القراءة عن الحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي هريرة وكذا عن ابى عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وابن ابى حاتم وابن الأنباري في المصاحف عن أبي هريرة.
[36] المجمع ج 4 ص 331 والخازن ج 3 ص 448 وابن كثير ج 3 ص 460 وروح المعاني ج 21 ص 118 والدر المنثور ج 5 ص 176.
[37] انظر تفسير ابن كثير ج 3 ص 460.
|
|
هذا ما يفعله فيروس كورونا بجذع الدماغ الذي "يتحكم في الحياة"
|
|
|
|
|
تسارع نمو قدرة طاقة الرياح في العالم.. وهذه أكبر 6 دول
|
|
|
|
|
العتبة العلوية المقدسة تقيم ندوة علمية في محافظة البصرة حول مكانة النبي محمد (ص) في القرآن الكريم
|
|
|