أقرأ أيضاً
التاريخ:
3204
التاريخ: 22-4-2017
3433
التاريخ: 28-4-2017
3077
التاريخ: 28-4-2017
3247
|
1 - عدد سكان مكة وموقع قريش في العرب
كانت بطون قريش نحو عشرين قبيلة ، أشهرها : بنو هاشم بن عبد مناف ، وبنو أمية بن عبد شمس بن مناف بن قصي ، وبنو عبد الدار بن قصي ، وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة ، وبنو زهرة بن كلاب ، وبنو أسد بن عبد العزى ، وبنو الحارث بن فهر بن مالك ، وبنو عامر بن لؤي ، وبنو سهم بن عمرو ، وبنو جمح بن عمرو ، وبنو أنمار بن بغيض ، وبنو تيم بن مرة بن كعب ، وبنو عدي . . . إلخ .
وكان عددهم جميعاً نحو أربعين ألف نسمة ، لأن غاية ما استطاعوا تجنيده في حرب الأحزاب مع أحابيشهم أربعة آلاف « عمدة القاري : 17 / 176 » فلو حسبنا من كل عشرة أشخاص مقاتلاً ، يكون عددهم أربعين ألفاً . ومهما زدنا فلا يصل عددهم إلى ستين ألفاً . لكن التأثير كان لبضع قبائل والباقون تبعٌ لها ، فقد وصف ابن هشام : 2 / 331 اجتماعهم في دار الندوة لبحث « مشكلة محمد ( صلى الله عليه وآله ) » ! فقال : « اجتمع فيها أشراف قريش : من بني عبد شمس : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب . ومن بني نوفل بن عبد مناف : طعيمة بن عدي ، وجبير بن مطعم ، والحارث بن عامر بن نوفل . ومن بني عبد الدار بن قصي : النضر بن الحارث بن كلدة . ومن
بني أسد بن عبد العزى : أبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود بن المطلب ، وحكيم بن حزام . ومن بني مخزوم : أبو جهل ابن هشام . ومن بني سهم : نبيه ومنبه ابنا الحجاج .
ومن بني جمح : أمية بن خلف . . ومن كان معهم غيرهم ممن لا يعد من قريش ، فقال بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم ، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأياً . . . إلخ . » .
وكان هذا الاجتماع بعد السنة الثالثة ، لأنه سمى أبا جهل زعيماً لمخزوم ، وقد صار زعيمها بعد هلاك الوليد بن المغيرة ، بعد ثلاث سنين من البعثة .
والقبائل الأهم خمسة التي اعتبروها تمثل الجميع وارتضوا أن تضع الحجر الأسود مكانه ، وهم : بنو هاشم ، وقد مثلهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال : « يأتي من كل ربع من قريش رجل ، فكانوا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، والأسود بن المطلب من بني أسد بن عبد العزى ، وأبو حذيفة بن المغيرة من بني مخزوم ، وقيس بن عدي من بني سهم ، فرفعوه ووضعه النبي ( صلى الله عليه وآله ) في موضعه » . الكافي : 4 / 218 .
وأهم الجميع : بنو هاشم وبنو أمية ، ولذا تراهم واصلوا صناعة أحداث التاريخ وكانت بقية قريش تبعاً لهم . وقد أخبر النبي ( صلى الله عليه وآله ) والأئمة « عليهم السلام » أن مستقبل الأمة هو الصراع بين بني أمية وبني هاشم ، كما رأينا أن وضع العالم ومستقبله الصراع بين
بني إسماعيل وبني إسحاق !
قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إنا وآل أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله ! قلنا صدق الله وقالوا كذب الله ! قاتل أبو سفيان رسول الله وقاتل معاوية علي بن أبي طالب ! وقاتل يزيد بن معاوية الحسين بن علي والسفياني يقاتل القائم » .
معاني الأخبار / 346 .
2 - رؤساء قريش عند بعثة النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
قال المؤرخ محمد بن حبيب في المنمق / 331 : « كانت الرئاسة أيام عبد مناف لعبدمناف بن قصي ، وكان القائم بأمور قريش والمنظور إليه منها ، ثم أفضى ذلك بعده إلى هاشم ابنه فولي ذلك بحسن القيام ، فلم يكن له نظير من قريش ولا مساو . ثم صارت الرئاسة لعبد المطلب ، وفي كل قريش رؤساء ، غير أنهم كانوا يعرفون لعبد المطلب فضله وتقدمه وشرفه » .
وكان أكبر أولاد عبد المطلب الحارث ثم الزبير ، وكان الزبير سيداً في زمن أبيه واشتهر بحلف الفضول لرد الظلم عن الحجاج : « فكان سيداً شريفاً شاعراً ، وهو أول من تكلم في حلف الفضول ودعا إليه » . أنساب الأشراف / 11 والمنمق / 171 .
« فتحالفوا بالله قائلين : لا ننقض هذا الحلف ما بلَّ بحرٌ صوفة ، وأن لا ندع بمكة مظلوماً . قال حكيم : ونظرت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد حضرذلك الحلف يومئذ في دار ابن جدعان ، وكان الذي كتبه بينهم الزبير بن عبد المطلب » . المنمق / 188 .
وكان الزبير كأبيه يحب النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ففي المنمق / 349 : « قال الزبير بن عبد المطلب يزفِّن « يُرَقِّص » النبي صلى الله عليه :
محمد بن عبدَمْ * عشت بعيشٍ أنعمْ
لا زلت في عيشٍ عم * ودولة ومغنمْ
يغنيك عن كل عمْ * وعشت حتى تهرم »
وفي المنمق / 34 : « وذكروا أن أكثم بن صيفي « رئيس بني تميم » قال : دخلت البطحاء بطحاء مكة فإذا أنا ببني عبد المطلب يخترقونها كأنهم أبرجة الفضة ، وكأن عمائمهم نوق الرجال ألوية ، يلحفون الأرض بالحبرات « ثيابهم طويلة » فقال أكثم : يا بني تميم ! إذا أراد الله أن ينشئ دولة أنبت لها مثل هؤلاء ! هذا غرس الله لا غرس الرجال ! قال هشام : لم يكن في العرب عدة بني عبد المطلب أشرف منهم ولا أجسم ، ليس منهم رجل إلا أشم العرنين يشرب أنفه قبل شفتيه ، ويأكل الجذع ويشرب الفرق » .
وقيل له : « ممن تعلمت الحكم والرياسة والحلم والسياسة ؟ فقال : من حليف الحلم والأدب ، سيد العجم والعرب ، أبي طالب بن عبد المطلب » . ومعنى : يأكل الجذع ويشرب الفرق : جسيمٌ ، يأكل خروفاً ، ويشرب سطل لبن . الحجة على الذاهب / 334 .
وكان أكبر زعما قريش بعد أبي طالب : الوليد بن المغيرة رئيس مخزوم ، وكان بارزاً من حياة عبد المطلب ، وقد أخذه معه في وفد قريش إلى اليمن لتهنئة الملك سيف بن ذي يزن ، وكان الوفد سبعاً وعشرين شخصية فيهم غير الوليد : عتبة بن ربيعة ، وعقبة بن
أبي معيط ، وأمية بن خلف . كمال الدين / 176 والبحار : 15 / 146 .
وتعددت الزعامة بعد وفاة عبد المطلب ، فبرز ابنه أبو طالب « رحمه الله » رئيساً لبني هاشم ، وزعيماً محترماً في قريش والعرب ، وبرزت معه شخصيات قرشية ، منهم حرب بن أمية بن عبد شمس رئيساً لبني عبد شمس ، وأبو أحيحة سعيد بن العاص بن أمية رئيساً لهم أيضأً ، وعبد يزيد بن هاشم بن المطلب رئيساً لبني المطلب ، والمطعم بن عدي بن نوفل رئيساً لبني نوفل بن عبد مناف ، وخويلد بن أسد ، وعثمان بن الحويرث بن أسد رئيسين لبني أسد بن عبد العزى ، وعكرمة بن هاشم بن عبد مناف رئيساً لبني عبد الدار ، ومخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف رئيساً لبني زهرة ، وعبد الله بن جدعان بن عمرو رئيساً لتيم بن مرة ، والوليد بن المغيرة رئيساً لبني مخزوم ، وعمرو بن نفيل رئيساً لبني عدي ، وأمية بن خلف رئيساً لبني سهم وبني جمح ، وعمرو بن عبد شمس رئيساً لبني عامر بن لؤي ، وضرار بن الخطاب بن مرداس رئيساً لبني محارب بن فهر ، وعبد الله أبو أبي عبيدة بن الجراح ، رئيساً لبني الحارث بن فهر . المنمق لابن حبيب / 331 .
وكانت قريش عامة تدين بالوثنية مع بقايا الحنيفية ، إلا عبد المطلب وبنوه فكانوا على حنيفية أبيهم إبراهيم ( عليه السلام ) ، قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « والله ما عبد أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنماً قط ! قيل له : فما كانوا يعبدون ؟ قال : كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم ( عليه السلام ) متمسكين به » . كمال الدين / 174 .
وكان أبو طالب يقول : أنا على ملة عبد المطلب . صحيح بخاري : 2 / 98 .
وكان في قريش ملحدون يعلنون إلحادهم ، سماهم المؤرخ ابن حبيب في المنمق / 388 : زنادقة قريش ، وقال إنهم تعلموا الزندقة من نصارى الحيرة ، وهم : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والعاص بن وائل السهمي ، وصخر بن حرب ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي بن خلف ، وأبو عزة ، والنضر بن الحارث بن كلدة من بني عبد الدار ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان .
3 - قريش معدن فراعنة وأكثرهم حق عليهم القول !
سجل القرشيون رقماً قياسياً في العناد فجمعوا العناد اليهودي والبدوي ! فلم يقل أحد قبلهم ولا بعدهم : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . الأنفال : 32 . أي : لا نريد نبوة بني هاشم ، حتى لو كانت حقاً ، فإن كانت حقاً فليهلكنا الله بعذاب من عنده ، فهو خير لنا ! !
« قال معاوية لرجل من اليمن : ما كان أجهل قومك حين ملَّكوا عليهم امرأة ! فقال : أجهل من قومي قومك الذين قالوا حين دعاهم رسول الله : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ . . . ولم يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه » . تفسير القمي : 1 / 276 والصراط المستقيم : 3 / 49 .
ولذا حكم الله عليهم بأنهم فراعنة فقال لهم : إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً . فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً . المزمل : 15 - 16 .
وقال لهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) لما وقف على قتلى بدر : « جزاكم الله من عصابة شراً ، لقد كذبتموني صادقاً ، وخونتموني أميناً ! ثم التفت إلى أبي جهل بن هشام فقال : إن هذا أعتى على الله من فرعون ! إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحَّدَ الله ، وهذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى » ! أمالي الطوسي : 1 / 316 ومجمع الزوائد : 6 / 91 .
« وفرعون وقومه أخذهم الله بالسنين فطلبوا من موسى ( عليه السلام ) أن يدعو لهم ربه ، لكن قريشاً أخذهم الله بالقحط فما دعوا الله ، ولا طلبوا من النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يدعو لهم ، مع أنه أرسل لهم أحمالاً من المواد الغذائية ! فأنزل الله فيهم : وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ » . المؤمنون : 76 . مستدرك الحاكم : 2 / 394 .
لكن رواة السلطة كذبوا فكذَّبوا القرآن ، قالوا : « أتى أبو سفيان يشفع عنده ( صلى الله عليه وآله ) في أن يدعو الله لهم ، فدعا لهم فرفع ذلك عنهم » . النهاية : 6 / 101 .
كما أن أكثر قريش أبلسوا وحق عليهم القول ، فلن يؤمنوا أبداً ، قال تعالى : لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ . لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لايُؤْمِنُونَ . إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ . وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لايُبْصِرُونَ . وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ . يس 6 - 11 .
لكن رواة السلطة كذَّبوا القرآن وقالوا لم يحقَّ القول على أكثرهم ، بل أسلموا وحسن إسلامهم ، وصار منهم خلفاء وأئمة ، ما شاء الله !
وقد وصف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) موقف « الملأ من قريش » من نبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمعجزة التي طلبوها منه ورأوها بأم أعينهم ! فقال ( عليه السلام ) :
« ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه ( صلى الله عليه وآله ) فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنة ؟ فقال : هذا الشيطان أيس من عبادته ، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ، ولكنك وزير وإنك لعلى خير . ولقد كنت معه ( صلى الله عليه وآله ) لما أتاه الملأ من قريش فقالوا له : يا محمد إنك قد ادعيت عظيماً لم يدعه آباؤك ولا أحد من بيتك ، ونحن نسألك أمراً إن أجبتنا إليه وأريتناه علمنا أنك نبي ورسول ، وإن لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : وما تسألون ؟ قالوا تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديك . فقال ( صلى الله عليه وآله ) : إن الله على كل شئ قدير ، فإن فعل الله لكم ذلك أتؤمنون وتشهدون بالحق ؟ قالوا نعم . قال : فإني سأريكم ما تطلبون ، وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير ، وإن فيكم من يطرح في القليب ، ومن يحزب الأحزاب . ثم قال : يا أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر وتعلمين أني رسول الله فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يديَّ بإذن الله . فوالذي بعثه بالحق لانقلعت بعروقها وجاءت ولها دوي شديد وقصف كقصف أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مرفرفة ، وألقت بغصنها الأعلى على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وببعض أغصانها على منكبي ، وكنت عن يمينه ( صلى الله عليه وآله ) . فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا علواً واستكباراً : فمرها فليأتك نصفها ويبقي نصفها ! فأمرها بذلك فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال وأشده دوياً ، فكادت تلتف برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فقالوا كفراً وعتواً : فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان ، فأمره فرجع ! فقلت أنا : لا إله إلا الله ، فإني أول مؤمن بك يا رسول الله ، وأول من أقر بأن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصديقاً بنبوتك وإجلالاً لكلمتك . فقال القوم كلهم : بل ساحر كذاب ، عجيب السحر خفيف فيه ، وهل يصدقك في أمرك إلا مثل هذا ! يعنوني » ! نهج البلاغة : 2 / 157 .
أقول : صدق فيهم قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « فإني سأريكم ما تطلبون ، وإني لأعلم أنكم لاتفيئون إلى خير » ! وهذا إخبار عن عاقبة أمرهم ، فلم يفيؤوا إلى خير ومنهم من قتل في بدر ورُمي في البئر ثم حزَّبوا الأحزاب ، وبعد فتح مكة اضطرهم إلى خلع سلاحهم ، لكنهم واصلوا تآمرهم عليه ( صلى الله عليه وآله ) حتى أخذوا دولته واضطهدوا عترته !
أقول : وما تقدم من سوء عاقبة أكثرهم لا ينافي أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أخبرهم بأنهم سيخضعون جميعاً ويقبلون دعوته ونبوته ، كما في الهداية الكبرى / 66 ، عن
أبي جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال : « لما ظهر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ودعا قريشاً إلى الله تعالى فنفرت قريش من ذلك وقالوا : يا ابن أبي كبشة لقد ادعيت أمراً عظيماً ! أتزعم أنك نبي وأن الملائكة تنزل عليك ! فقد كذبت على الله وملائكته ، ودخلت فيما دخل فيه السحرة والكهنة ! فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) : لمَ تجزعون يا معاشر قريش أن أدعوكم إلى الله والى عبادته ؟ والله ما دعوتكم حتى أمرني بذلك ، وما أدعوكم أن تعبدوا حجراً من دون الله ولا وثناً ولا صنماً ولا ناراً ، وإنما دعوتكم أن تعبدوا من خلق هذه الأشياء كلها وخلق الخلق جميعاً ، وهو ينفعكم ويضركم ويميتكم ويحييكم ويرزقكم .
ثم قال : والله لتستجيبُنَّ إلى هذا الذي أدعوكم إليه شئتم أم أبيتم ، طائعين أو كارهين ، صغيركم وكبيركم ! فبهذا أخبرني جبريل عن رب العالمين ، وإنكم لتعلمون ما أنا بكاذب ، وما بي من جنون ، ولا سحر ولاكهانة ، فقد أخبرتكم بما أخبرني به ربي ، فاسمعوا وأطيعوا . فكان هذا من دلائله ( صلى الله عليه وآله ) » .
4 - فراعنة قريش أكثر من خمسة والمُؤْذُون للنبي ( ( صلى الله عليه وآله ) ) بالعشرات
استشاط زعماء قريش غضباً بمجرد أن سمعوا خبر بعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وذهبوا إلى أبي طالب وطلبوا منه أن يسلمهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليقتلوه ، فردهم وجمع بني هاشم لحمايته فأجابوه ، وأخذ المشركون يترصدون الفرصة لأذى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقتله . وكان بنو أمية وبنو مخزوم أسوأ من يؤذيه ، ومنهم : من بني عبد شمس : حنظلة بن أبي سفيان ، وعبيدة بن سعيد بن العاص ، والعاص بن سعيد بن العاص ، وعقبة بن أبي معيط ، وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وأخوه شيبة ، وابنه الوليد بن عتبة بن ربيعة .
ومن بني مخزوم : « الوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة ، وأخوه العاص بن هشام ، ومسعود بن أبي أمية بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة ، ورفاعة بن أبي رفاعة وأخواه المنذر وعبد الله ، والسائب بن أبي السائب بن عابد ، وأخوه حاجب ، والأسود بن عبد الأسد بن هلال ، وعويمر بن السائب بن عويمر .
ومن بني سهم : منبه بن الحجاج بن عامر ، وابنه العاص بن منبه ، وأخوه نبيه بن الحجاج ، وأبو العاص بن قيس ، وعاصم بن أبي عوف .
ومن بني جمح : أمية بن خلف بن وهب ، وابنه علي ، وأوس بن معير بن لوذان .
ومن بني أسد بن عبد العزى : زمعة بن الأسود ، وابنه الحارث ، وأخوه عقيل بن الأسود ، وأبو البختري وهو العاص بن هشام بن الحارث ، ونوفل بن خويلد بن أسد ، وهو ابن العدوية وكان من شياطين قريش .
ومن بني عبد الدار : النضر بن الحارث بن كلدة ، وزيد بن مليص . ومن بني تيم بن مرة : عمير بن عثمان ، وعثمان بن مالك .
ومن بني عامر بن لؤي : معاوية بن عامر ، ومعبد بن وهب ، حليفان لهم .
ومن بني نوفل بن عبد مناف : الحارث بن عامر ، وطعيمة بن عدي » . ابن هشام 2 / 525 .
راجع أسماء المؤذين للنبي ( صلى الله عليه وآله ) في إمتاع الأسماع للمقريزي : 14 / 323 وكامل ابن الأثير : 2 / 70 . وأسماء الملعونين على لسان النبي ( صلى الله عليه وآله ) في كتابنا : ألف سؤال وإشكال : 2 / 239 .
ولا يعني إهلاك الله تعالى للمستهزئين الخمسة أن غيرهم أقل عداء للنبي ( صلى الله عليه وآله ) والإسلام ، بل يعني أنهم كانوا مانعاً من الدعوة أكثر من غيرهم ، وقد يكون غيرهم أخطر منهم على المدى الطويل كأبي سفيان ، الذي هو العدو الأول للإسلام ، فقد قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إنا وآلُ أبي سفيان أهل بيتين تعادينا في الله قلنا صدق الله وقالوا كذب الله . . » . معاني الأخبار / 346 .
5 - المستهزئون الخمسة عقبة أزاحها الله من طريق الدعوة !
يعتبر النص القرآني في المستهزئين ركناً في تدوين السيرة ، لأنه قطعي الدلالة مجمع عليه عند المؤرخين ، وأن الله تعالى أهلكهم ففتح باب الدعوة لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) وأمره أن يصدع بأمر ربه . والصدع : الإعلان بحزم ، فقال تعالى : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ .
وتفاوتت الرواية في عددهم من خمسة إلى سبعة عشر ، لكنا اعتمدنا الخمسة لأنه المشهور والمروي عن أهل البيت « عليهم السلام » . وكان إهلاكهم بمعجزة ربانية ، لتبدأ مرحلة جديدة في عمل النبي ( صلى الله عليه وآله ) : مرحلة إعلان الدعوة العامة إلى الإسلام ، بعد أن كانت دعوة خاصة لبني هاشم . وكان كل واحد من المستهزئين يقول قبل هلاكه : « قتلني رب محمد » ! فانتشر الخوف في قريش من رب محمد ( صلى الله عليه وآله ) !
وكان إهلاكهم يوم تشديد إنذارهم للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بالقتل إن لم يتراجع عن نبوته !
وعندما أخبره جبرئيل بهلاكهم : « فخرج رسول الله فقام على الحِجْر فقال : يا معشر قريش ، يا معشر العرب ، أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وآمركم بخلع الأنداد والأصنام ، فأجيبوني تملكوا بها العرب وتدين لكم العجم ، وتكونوا ملوكاً في الجنة . فاستهزؤوا وقالوا : جُنَّ محمد بن عبد الله ، ولم يجسروا عليه لموضع أبي طالب » . تفسير القمي : 1 / 377 .
وفي الخصال / 279 ، عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) : « أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال ليهودي من أحبار الشام في جواب مسائله : فأما المستهزؤون فقال الله عز وجل له : إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ ، فقتل الله خمستهم ، قد قتل كل واحد منهم بغير قتلة صاحبه في يوم واحد : أما الوليد بن المغيرة فإنه مرَّ بنبل لرجل من بني خزاعة قد راشه في الطريق فأصابته شظية منه ، فانقطع أكحله حتى أدماه ، فمات وهو يقول : قتلني رب محمد ! وأما العاص بن وائل السهمي ، فإنه خرج في حاجة له إلى كداء فتدهده تحته حجر فسقط فتقطع قطعة قطعة ، فمات وهو يقول :
قتلني رب محمد !
وأما الأسود بن عبد يغوث ، فإنه خرج يستقبل ابنه زمعة ومعه غلام له فاستظل بشجرة تحت كداء فأتاه جبرئيل ( عليه السلام ) فأخذ رأسه فنطح به الشجرة ، فقال لغلامه : إمنع هذا عني ! فقال : ما أرى أحداً يصنع بك شيئاً إلا نفسك ! فقتله وهو يقول : قتلني رب محمد ! . .
وأما الحارث بن الطلاطلة فإنه خرج من بيته في السموم فتحول حبشياً ، فرجع إلى أهله فقال : أنا الحارث فغضبوا عليه فقتلوه ، وهو يقول : قتلني رب محمد !
وأما الأسود بن المطلب فإنه أكل حوتاً مالحاً فأصابه غلبة العطش ، فلم يزل يشرب الماء حتى انشق بطنه فمات ، وهو يقول : قتلني رب محمد !
كل ذلك في ساعة واحدة ، وذلك أنهم كانوا بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالوا له : يا محمد ننتظر بك إلى الظهر فإن رجعت عن قولك وإلا قتلناك ، فدخل النبي ( صلى الله عليه وآله ) منزله فأغلق عليه بابه مغتماً بقولهم ، فأتاه جبرئيل ( عليه السلام ) ساعته فقال له : يا محمد السلام يقرئك السلام وهو يقول : فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ، يعني أظهر أمرك لأهل مكة وادع ، وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ . قال : يا جبرئيل كيف أصنع بالمستهزئين وما أوعدوني ؟ قال له : إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ . قال : يا جبرئيل كانوا عندي الساعة بين يدي ؟ فقال : قد كفيتهم ! فأظهر أمره عند ذلك » !
وهذه الرواية أوثق عندي من رواية ابن إسحاق قال : 5 / 254 : « كان المستهزؤون برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خمسة : الأسود بن عبد يغوث بن وهب ، والأسود بن المطلب بن أسد ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والحارث بن الطلاطلة أحد خزاعة ، فكانوا يهزؤون برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويغمزونه ، فأتاه جبريل فوقف به عند الكعبة وهم يطوفون به فمر به الأسود بن عبد يغوث فأشار جبريل إلى بطنه فمات حبناً ، ومر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي ، ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى جرح في كعب رجله قد كان أصابه قبل ذلك بيسير فانتقض به فقتله ، ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فركب إلى الطائف على حمار فربض به على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته ، ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتحض قيحاً حتى قتله ، ففيهم أنزل الله عز وجل : إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئينَ » . وابن هشام : 2 / 277 . وفي فتح الباري : 8 / 290 : « الأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والعاصي بن وائل ، والحرث بن قيس ، والوليد بن المغيرة » .
6 - رئيس المستهزئين الوليد بن المغيرة
أ . من صفات المستهزئين الخمسة : الإلحاد ، والمادية ، والتكبر ، والتعقيد النفسي ! بحيث أن الله تعالى الذي وسع حلمه كل شئ ، قال عنهم وعن رئيسهم الوليد :
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ . هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ . مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ . أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ . إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَلِينَ . سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُوم .
وقال عز وجل : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا . وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا . وَبَنِينَ شُهُودًا . وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا . ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ . كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا . سَأُرْهِقْهُ صَعُودًا . إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ . فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ نَظَرَ . ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ . ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ .
فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاسِحْرٌ يُؤْثَرُ .
وكانت مهنة الوليد صناعة الدروع « البحار : 31 / 101 » وكان زنديقاً ملحداً لا يؤمن بشئ ، وكذا العاص بن وائل ، وعدد من كبار قريش . المنتمق / 288 وعمدة القاري : 11 / 209 .
وكان الوليد رئيس بني مخزوم ، وهو الذي قاد زعماء قريش في مواجهة النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
وفي تفسير القمي : 2 / 430 : أنه نزل فيه قوله تعالى : كَلا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى . أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى . إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى . أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى . عَبْدًا إِذَا صَلَّى .
وفي تفسير القمي : 2 / 393 : « ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً . . فإنها نزلت في الوليد بن المغيرة وكان شيخاً كبيراً مجرباً من دهاة العرب ، وكان من المستهزئين برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . وإنما سمي وحيداً لأنه قال لقريش : أنا أتوحد بكسوة البيت سنة وعليكم في جماعتكم سنة ، وكان له مال كثير وحدائق ، وكان له عشر بنين بمكة ، وكان له عشرة عبيد عند كل عبد ألف دينار يتجر بها ، وتلك القنطار في ذلك الزمان » .
ب . وقد وصف الله تعالى الوليد بقوله : عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ، لأنه كان دعياً وليس لأبيه !
وفي الكشاف : 4 / 142 : « العتل : الجافي . والزنيم : الدعي . وكان الوليد دعياً في قريش ليس من سنخهم ، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده » .
وفي المنمق / 104 ، أنه تنافر مع أسيد بن أبي العيص الأموي فقال له أسيد : « أنت رجل من كنانة من بني شجع ! دخيل في قريش نزيع في بني مخزوم » !
وسيأتي طعن أبي طالب « رحمه الله » بنسبه . كما أن بني أمية مطعون في نسبهم ، فقد قال أبو طالب « رحمه الله » إن أمية كان عبداً لعبد المطلب . شرح النهج : 15 / 233 .
كما طعن النبي ( صلى الله عليه وآله ) في نسب عقبة بن أبي معيط فقال له : « ما أنت وقريش ، وهل أنت إلا يهودي من صفورية » ! الإحتجاج : 1 / 412 ، الإصابة : 5 / 398 والطبري : 5 / 157 .
ج . قال الوليد بن المغيرة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : « والله لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك ! لأنني أكبر منك سناً ، وأكثر منك مالاً » . المناقب : 1 / 47 وعدد من التفاسير .
وفي تفسير الثعلبي : 4 / 187 : ونزلت فيه : وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ . اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ . وقال الوليد : « أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها ! ويترك أبو مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف ونحن عظيما القريتين » ! « الإحتجاج 1 / 26 وابن هشام 1 / 242 » . فأنزل الله : وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ . أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ . الزخرف : 31 - 32 .
د . وفي السنة الأولى لبعثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) دعا الوليد زعماء قريش إلى وليمة ليتفقوا على موقف واحد من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! ففي الطبراني الكبير : 11 / 102 : « صنع لقريش طعاماً فلما أكلوا قال : ما تقولون في هذا الرجل ؟ فقال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم : ليس بساحر . وقال بعضهم : كاهن ، وقال بعضهم : ليس بكاهن . وقال بعضهم : شاعر ، وقال بعضهم : ليس بشاعر . وقال بعضهم : سحر يؤثر ! فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر » .
وتقدم ذلك في فصل دعوة العشيرة الأقربين .
ه - . اقترح زعيم قريش الوليد على النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يعبدوا ربه سنة ، ويعبد آلهتهم سنة !
« اعترضوا لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، منهم عتبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن سعيد ، فقالوا : يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ونشترك نحن وأنت في الأمر ، فإن يكن الذي نحن عليه الحق فقد أخذت بحظك منه ، وإن يكن الذي أنت عليه الحق فقد أخذنا بحظنا منه ، فأنزل الله تعالى : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ . لاأَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ . وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ . وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ . لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِي دِينِ » . أمالي المفيد / 246 ، أمالي الطوسي / 19 وسيرة ابن هشام الحميري : 1 / 243 . وفي ذلك إخبار بأن هؤلاء لن يؤمنوا أبداً .
و . قال الوليد ومعه الملأ من قريش للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : « إن كنت صادقاً فشُقَّ لنا القمر فرقتين قال : إن فعلت تؤمنون ؟ قالوا : نعم ، فأشار إليه بإصبعه فانشق شقتين رؤي حراء بين فَلْقيه فقالوا : هذا سحر مستمر من سحر محمد ! فأنزل الله تعالى : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ . وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ » . المناقب : 1 / 106 ، مجمع البيان : 9 / 310 ، الفصول المختارة / 20 ، مقدمة فتح الباري / 300 ، المناقب لمحمد بن سليمان : 1 / 42 ، الصحيح من السيرة : 3202 وجعلها في السنة الثامنة .
أقول : أفاضت التفاسير ومصادر السيرة في وصف معجزة شق القمر ، وفي الخرائج : 1 / 31 أنها كانت في أول البعثة ، وروي أنها مرتان . عيون الأثر : 1 / 149 .
وذكرت رواية ابن عباس في الحلية وفتح الباري : 7 / 139 اسم الوليد بن المغيرة في الذين طلبوا هذه المعجزة ، وهو دليل على أنها كانت قبل هلاكه في السنة الثالثة ، ولا يضر وجود اسم أبي جهل لأنه كان إلى جانب الوليد ، ولعل الطلب تكرر .
هذا ، وقد ذكر الفلكيون أن في القمر شقاً الآن ، فقد يكون انشق حقيقة ، ثم
عاد واحداً .
ز . هاجر الأوس بسبب صراعهم مع الخزرج إلى مكة وحالفتهم قريش ، فأبطل الوليد بمكيدته حِلْفَهم ، ففي المنمق / 268 : « خرجت الأوس جالية من الخزرج حتى نزلت على قريش بمكة فحالفتها ، فلما حالفتها قال الوليد بن المغيرة : والله ! ما نزل قوم قط على قوم إلا أخذوا شرفهم وورثوا ديارهم ، فاقطعوا حلف الأوس ، فقالوا : بأي شئ ؟ قالوا : إن في القوم حشمة ، فقولوا : إنا قد نسينا شيئاً لم نذكره لكم : إنا قوم إذا طاف النساء بالبيت فرأى الرجل امرأة تعجبه قبلها ولمسها بيده ، فلما قالوا ذلك للأوس نفروا وقالوا : إقطعوا الحلف بيننا وبينكم فقطعوه ، ثم انقطع هذا الحلف » .
ح . كانت وصية الوليد لأولاده من أغرب الوصايا ، ففي المنمق / 191 : « فلما حضرت الوليد الوفاة . . فدعا ولده هشاماً وخالداً والوليد والفاكه وأبا قيس وقيساً وعبد شمس وعمارة ، فقال لهم : يا بَنِيَّ إني أوصيكم بثلاث فلا تضيعوهن : دمي في خزاعة فلا تطلُّنَّه ، والله إني لأعلم أنهم منه براء ولكن أخشى أن تُسَبُّوا به بعد اليوم ! ورباي في ثقيف فلا تدَعوه حتى تأخذوه ، وعُقري عند أبي أزيهر الدوسي فلا يفوتنكم به ، وكان أبو أزيهر قد زوجه ابنة له ثم أمسكها عنه فلم يدخلها عليه حتى مات . . . فقال له بنوه : والله ما نعلم أحداً من العرب أوصى بنيه بشرِّ مما أوصيت به . . . فلما هلك الوليد بن المغيرة وثبت بنو مخزوم على خزاعة يلتمسون عقله . . . وغلظ الأمر بينهم ، وكان الذي أصاب الوليد سهمه رجلاً من كعب بن عمرو من خزاعة . . . ثم إن الناس ترادوا وعرفوا أنما يخشى القوم السُّبَّة ، فأعطتهم خزاعة بعض العقل ، وانصرفوا عن بعض » .
وسبب طلبه ديته من خزاعة أنه : « مرَّ بنبل لرجل من بني خزاعة قد راشه في الطريق فأصابته شظية منه فانقطع أكحله حتى أدماه ، فمات وهو يقول : قتلني رب محمد » ! الخصال / 279 .
فقد اعترف بأن رب محمد قتله ، وأوصى بأخذ الدية من صاحب السهام !
ونفذ ابنه خالد وصيته ، فأخذوا الدية من خزاعة ، وقتلوا أبا أزيهر غيلة ، عندما كان ضيفاً عند حليفهم أبي سفيان ! المنمق / 199 و 203 وابن هشام : 2 / 278 .
ط . أسلم الوليد بن المغيرة في مكة ، ثم ارتد مع ابن أخيه الفاكه ، عمدة القاري : 18 / 187 . ثم كان مع المشركين في بدر فقتله علي ( عليه السلام ) . شرح الأخبار : 1 / 265 وابن هشام : 2 / 528 .
وعمارة بن الوليد ، هو الذي جاؤوا به إلى أبي طالب ليعطيهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) فيقتلوه ويأخذه بدله ! ثم أرسلوه مع عمرو بن العاص إلى النجاشي فاختلفا وهلك هناك .
والوليد بن الوليد بن المغيرة ، زعموا أنه أسلم سراً ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يدعو له في قنوته بعد صلح الحديبية : « فيقول : اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة ، والمستضعفين من المؤمنين . اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سني يوسف » . رواه بخاري : 1 / 194 ، سبع مرات ! .
وتوفي الوليد بن الوليد في المدينة في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ففي الكافي : 5 / 117 عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) « فقالت أم سلمة « المخزومية » للنبي ( صلى الله عليه وآله ) : إن آل المغيرة قد أقاموا مناحة فأذهب إليهم ؟ فأذن له ، فلبست ثيابها وتهيأت وكانت من حسنها كأنها جان ، وكانت إذا قامت فأرخت شعرها جلل جسدها وعقدت بطرفيه خلخالها ، فندبت ابن عمها بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقالت :
أنعى الوليد بن الوليد * أبا الوليد فتى العشيرة
حامي الحقيقة ماجد * يسمو إلى طلب الوتيرة
قد كان غيثاً في السنين * وجعفراً غدقاً وميرة
قال : فما عاب ذلك عليها النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولا قال شيئاً » .
وهشام بن الوليد بن المغيرة ، كان من شخصيات قريش المؤلفة قلوبهم . « الإستيعاب 4 / 1541 » . وهو الذي قتل أبا أزيهر الدوسي . وهو الذي هدد عثمان عندما ضرب عمار بن ياسر « رحمه الله » حليف بني مخزوم ، فقال له : « أما والله لئن مات عمار من ضربه هذا ، لأقتلن به رجلاً عظيماً من بني أمية » . الإمامة والسياسة : 1 / 51 .
وخالد بن الوليد ، كان مع أبيه في عدائه للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأحد الذين انتدبتهم قريش لقتل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليلة الهجرة عندما بات علي ( عليه السلام ) في فراشه : « فلما بصر بهم علي قد انتضوا السيوف وأقبلوا عليه بها ، يقدمهم خالد بن الوليد بن المغيرة ، وثب به عليٌّ فختله وهمز يده فجعل خالد يقمص قماص البكر . أمالي الطوسي / 467 .
ومعنى يقمص قِمَاصَ البكر : يصيح كالجمل الصغير . وشارك مع إخوته في بدر فنجا ، وقُتل أخوه أبو قيس ، وأُسر أخوه الوليد بن الوليد . شرح النهج : 14 / 203 .
وكان خالد أحد قادة المشركين في أُحُد ، وسبباً في هزيمة المسلمين بعد انتصارهم عندما اغتنم مع عكرمة وضرار فرصةً وهاجمهموهم من خلفهم .
وأسلم خالد بعد صلح الحديبية هو وعمرو بن العاص لما رأيا أن ميزان القوة تحول إلى جانب النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : إني أرى أمر محمد يعلو الأمور علواً منكراً ! « ابن هشام : 3 / 748 » فجاء إلى المدينة هو وعمرو بن العاص وأسلما . وبعد فتح مكة شارك مع قريش إلى جانب النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حرب حنين ، وكان أول المنهزمين .
وبعد فتح الطائف وخضوع ثقيف ، أراد خالد أن يستوفي ربا أبيه من ثقيف فمنعه النبي ( صلى الله عليه وآله ) . « المنمق / 203 والحدائق : 19 / 222 » ، ثم طالبهم به ، فشكاه الثقفيون إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فنزلت الآية : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . « عمدة القاري : 11 / 201 وجواهر الكلام : 23 / 299 » . فأكد النبي إلغاء
ربا الجاهلية .
ي . عمل خالد مع اليهود والطلقاء لأخذ خلافة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وكان في من هاجموا بيت علي وفاطمة « عليهما السلام » وهددوهم بحرق البيت عليهم إن لم يبايعوا ! وأرسله أبو بكر لإخضاع مالك بن نويرة رئيس عشيرة من بني تميم ، الذي عينه النبي ( صلى الله عليه وآله ) مسؤولاً عن صدقات قومه ، فلما بلغه وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) جاء إلى المدينة :
قال ابن شاذان في الفضائل / 76 : « فدخل يوم الجمعة وأبو بكر على المنبر يخطب بالناس فنظر إليه وقال : أخو تيم ؟ قالوا : نعم . قال : فما فعل وصي رسول الله الذي أمرني بموالاته ؟ قالوا : يا أعرابي ، الأمر يحدث بعده الأمر ! قال : بالله ما حدث شئ وإنكم قد خنتم الله ورسوله ! ثم تقدم إلى أبي بكر وقال : من أرقاك هذا المنبر ووصي رسول الله جالس ؟ فقال أبو بكر : أخرجوا الأعرابي البوال على عقبيه من مسجد رسول الله ! فقام إليه قنفذ بن عمير وخالد بن الوليد ، فلم يزالا يلكزان عنقه حتى أخرجاه ! فركب راحلته وأنشأ :
أطعنا رسول الله ما كان بيننا * فيا قوم ما شأني وشأن أبي بكر
إذا مات بكر قام عمر ومقامه * فتلك وبيت الله قاصمة الظهر
يدب ويغشاه العشار كأنما * يجاهد جماً أو يقوم على قبر
فلو قام فينا من قريش عصابة * أقمنا ولكن القيام على جمر
قال فلما استتم الأمر لأبي بكر وجه خالد بن الوليد ، وقال له : قد علمت ما قاله مالك على رؤس الأشهاد ، ولست آمن أن يفتق علينا فتقاً لا يلتئم ، فاقتله !
فحين أتاه خالد ركب جواده وكان فارساً يعد بألف ، فخاف خالد منه فآمنه وأعطاه المواثيق ، ثم غدر به بعد أن ألقى سلاحه فقتله وأعرس بامرأته في ليلته » !
ك . ضخموا دور خالد في الفتوحات ، ونسبوا اليه بطولات غيره ، وقد بينا بعض مكذوباتهم في كتاب : قراءة جديدة في حروب الردة ، والفتوحات .
ل . كان عمر بن الخطاب يبغض خالد بن الوليد ، لأن خالداً كسر ساقه ، فكان عمر يخوي ، أي يفحج في مشيه كل عمره . النهاية : 7 / 131 وتفسير الطبري : 2 / 79 .
وكان خالد يرى نفسه أنه ابن أكبر شخصية في قريش ، وأن عمر مغمور ومن قبيلة مغمورة ، ويرى أن عمر ن يعمل مبرطشاً أي دلال كراية حمير وإبل . « نهاية ابن الأثير 1 / 119 وتاج العروس 9 / 58 » . وكان عمر قبل ذلك خادماً لأخ خالد عمارة بن الوليد في سفر له إلى الشام ، فغضب عليه عمارة وأراد أن يقتله . المنمق / 130 .
وأول عمل قام به عمر لما صار خليفة أنه عزل خالداً ، وكتب لأبي عبيدة بن الجراح إن لم يتراجع عن تحقره لأم عمر ونفيها من بني مخزوم ، أن يعزله ويقاسمه كل ما يملك ، فأبى خالد فعزله وقاسمه حتى أخذ « فردة » نعله وترك له الثانية !
وعاش خالد بقية حياته في حمص ، ولما مات منع عمر البكاء عليه .
م . برز من أولاد خالد عبد الرحمن وكان قائد جيش معاوية في صفين ، وأحبه أهل الشام فطلبوا من معاوية أن يجعله ولي عهده ، فقتله معاوية بالسم على يد طبيب مسيحي ، فجاء أخوه المهاجر من مكة وأخذ بثأره . وكان المهاجر شيعياً شهد مع علي ( عليه السلام ) حرب الجمل وصفين ، وله أولاد شيعة . « الاستيعاب : 4 / 1453 » . وقيل مات في طاعون عمواس عشرون شخصاً من ولد الوليد بن المغيرة . لكنا نشك في موته بالطاعون ، فلعله بسم معاوية ، مثل بلال وأصحابه الثلاثين الذين كتبوا إلى عمر بفساد معاوية ، وكان عمر يدعو عليهم في صلاته ، فاستجاب الله دعاءه ودعاء معاوية وماتوا جميعاً في تلك السنة ! الإستيعاب : 4 / 1711 .
7 - إهلاك المستهزئين غيَّرَ ميزان القوة لصالح النبي ( ( صلى الله عليه وآله ) )
كان إهلاك المستهزئين الخمسة قوة لأبي طالب « رحمه الله » ، فقوَّى عزيمة بني هاشم في حماية النبي ( صلى الله عليه وآله ) . ومما يدل على ذلك موقف حمزة القوي الذي تحدى به أبا جهل رئيس مخزوم وضربه على رأسه بقوسه ، وأعلن إسلامه !
وكذلك مواقف أبي طالب في حماية النبي ( صلى الله عليه وآله ) التي تحدى فيها قريشاً وأذلها !
منها : ما رواه الكافي : 1 / 449 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « بينا النبي ( صلى الله عليه وآله ) في المسجد الحرام وعليه ثياب له جدد ، فألقى المشركون عليه سلا ناقة فملؤوا ثيابه بها ، فدخله من ذلك ما شاء الله ، فذهب إلى أبي طالب فقال له : يا عم كيف ترى حسبي فيكم ؟ فقال له : وماذا يا ابن أخي ؟ فأخبره الخبر ، فدعا أبو طالب حمزة وأخذ السيف ، وقال لحمزة : خذ السلا ! « الفرث والدم » ثم توجه إلى القوم والنبي معه ، فأتى قريشاً وهم حول الكعبة ، فلما رأوه عرفوا الشر في وجهه ، ثم قال لحمزة : أمِرَّ السَّلى على سِبالهم « شواربهم » ففعل ذلك حتى أتى على آخرهم !
ثم التفت أبو طالب إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : يا ابن أخي هذا حسبك فينا » !
وروت المصادر القصة بصيغ مشابهة وفيها أبيات لأبي طالب « رحمه الله » ، كرواية السيد فخار بن معد في كتابه الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب / 346 ، عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : « مر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بنفر من قريش وقد نحروا جزوراً وكانوا يسمونها الظهيرة ويذبحونها على النصب فلم يسلم عليهم ، فلما انتهى إلى دار الندوة قالوا : يمر بنا يتيم أبي طالب فلا يسلم علينا ! فأيكم يأتيه فيفسد عليه مصلاه ؟ فقال عبد الله بن الزبعرى السهمي : أنا أفعل ، فأخذ الفرث والدم فانتهى به إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو ساجد فملأ به ثيابه ومظاهره ، فانصرف النبي حتى أتى عمه أبا طالب فقال : يا عم من أنا ؟ فقال : ولمَ يا بن أخ ؟ فقص عليه القصة ، فقال : وأين تركتهم ؟ فقال : بالأبطح ، فنادى في قومه : يا آل عبد المطلب يا آل هاشم ، يا آل عبد مناف ، فأقبلوا إليه من كل مكان مُلَبِّين قال : كم أنتم ؟ قالوا : نحن أربعون قال : خذوا سلاحكم فأخذوا سلاحهم وانطلق بهم حتى انتهى إلى أولئك النفر ، فلما رأوه أرادوا أن يتفرقوا فقال لهم : ورب هذه البنية لايقومن منكم أحد إلا جللته بالسيف ! ثم أتى إلى صفاة كانت بالأبطح فضربها ثلاث ضربات ، حتى قطعها ثلاثة أفهار « أحجار » ثم قال : يا محمد سألتني من أنت ثم أنشأ يقول ويومي بيده إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
أنت النبي محمدُ * قَرْمٌ أغَرُّ مُسَوَّدُ
لمسوَّدين أكارمٍ * طابوا وطاب المولد
نعم الأرومة أصلها * عمرو الخضم الأوحد
هشم الربيكة في الجفان * وعيش مكة أنكد
فجرت بذلك سنة * فيها الخبيزة تثرد
ولنا السقاية للحجيج * بها يماث العنجد
والمأزمان وما حوت * عرفاتها والمسجد
أنى تضام ولم أمت * وأنا الشجاع العربد
وبطاح مكة لا يرى * فيها نجيع أسود
وبنو أبيك كأنهم * أسدُ العرين توقد
ولقد عهدتك صادقاً * في القول لا تتزيد
ما زلت تنطق بالصواب * وأنت طفل أمرد
ثم قال : يا محمد أيهم الفاعل بك ؟ فأشار النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى عبد الله بن الزبعرى السهمي الشاعر ، فدعاه أبو طالب فوجأ أنفه حتى أدماها ، ثم أمر بالفرث والدم فأُمِرَّ على رؤس الملأ كلهم ! ثم قال : يا ابن أخ أرضيت ؟ ثم قال : سألتني من أنت ؟ أنت محمد بن عبد الله ، ثم نسبه إلى آدم ، ثم قال : أنت والله أشرفهم حسباً وأرفعهم منصباً . يا معشر قريش من شاء منكم يتحرك فليفعل أنا الذي تعرفوني » !
ورواه في شرح النهج : 14 / 77 ، البحار : 35 / 164 والغدير : 7 / 388 ، وثمرات الأوراق بهامش المستطرف : 2 / 3 ، كما في حياة أمير المؤمنين . والربيكة : طعام من تمر وأقط وسمن . والعنجد : الزبيب .
وروى في التوحيد / 158 ، تفسير الإمام الباقر ( عليه السلام ) للبيتين الأخيرين ، قال : « يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِئُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ . قال : يكاد العالم من آل محمد « عليهم السلام » يتكلم بالعلم قبل أن يسأل . نُورٌ عَلَى نُورٍ : يعني : إماماً مؤيداً بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمد وذلك من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة . فهؤلاء الأوصياء الذين جعلهم الله عز وجل خلفاءه في أرضه وحججه على خلقه ، لا تخلو الأرض في كل عصر من واحد منهم . يدل على صحة ذلك قول أبي طالب في رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أنت الأمين محمد . . الأبيات . . يقول : ما زلت تتكلم بالعلم قبل أن يوحى إليك ، وأنت طفل كما قال إبراهيم ( عليه السلام ) وهو صغير لقومه : إنِّي بَرِئٌ مِمَّا تُشْرِكُون . وكما تكلم عيسى ( عليه السلام ) في المهد فقال : إنِّي عَبْدُ الله آتانيَ الكتَابَ وجَعَلَنِي نَبِياً . . الآية . . » .
ومنها : ما رواه في كنز الفوائد / 74 ، قال : « ومن ذلك أن أبا جهل جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومعه حَجَرٌ يريد أن يرميه به إذا سجد ، فلما سجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رفع أبو جهل يده فيبست على الحجر ، فرجع فقالوا له : أجبنت ؟ قال : لا ، ولكن رأيت بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه ! وهذا الحديث مشهور وفيه يقول أبو طالب « رحمه الله » :
أفيقوا بني غالب وانتهوا * عن الغي من بعض ذا المنطق
وإلا فإني إذن خائف * بوائق في داركم تلتقي
تكون لغيركم عبرة * ورب المغارب والمشرق
كما ذاق من كان من قبلكم * ثمود وعاد فمن ذا بقي
غداة أتاهم بها صرصر * وناقة ذي العرش قد تستقي
فحل عليهم بها سخطة * من الله في ضربة الأزرقجج
غداة يعض بعرقوبها * حساما من الهند ذا رونق
وأعجب من ذاك في أمركم * عجائب في الحجر الملصق
بكف الذي قام من خبثه * إلى الصابر الصادق المتقي
فأثبته الله في كفه * على رغمة الجائر الأحمق
أحيمق مخزومكم إذ غوى * لغي الغواة ولم يصدق »
ورواه الحميري في قرب الإسناد / 317 ، بسند صحيح . والاحتجاج : 1 / 343 وشرح النهج : 14 / 74 .
ومن عجيب ما تراه في نسخة سيرة ابن إسحاق 4 / 193 أن بعضهم زعم أن هذه الأبيات لعمر بن الخطاب ، مع أن عمر لم يقل الشعر ! قال : « قال عمر بن الخطاب فيما يزعمون بعد إسلامه ، يذكر ما رأت قريش من العبرة فيما كان أبو جهل هم به من رسول الله وقائل يقول قالها أبو طالب ، والله أعلم بمن قالها » !
ونلاحظ في شعرأبي طالب توبيخه لزعماء قريش عامة ، ولأبي جهل خاصة ، وهذا أشد عليهم من ضربة حمزة له في نادي قريش ، مما يعني أن ميزان القوة بعد هلاك الفراعنة الخمسة مال بشكل واضح لمصلحة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فقد انخذل زعماء قريش وسكتوا أمام ما فعله حمزة وما فعله أبو طالب ، وما فعله علي ( عليه السلام ) الذي : « كان يقضم آذان صبيانهم وأنوفهم ! فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم ويقولون : قضمنا عليٌّ ، قضمنا علي . تفسير القمي : 1 / 114 ! ويسكت الآباء على فعل علي ( عليه السلام ) !
ومنها : أن أحد أعيان بني مخزوم أسلم ، فبادر بنو مخزوم ورئيسهم أبو جهل ليؤذوه ، فتدخل أبو طالب « رحمه الله » وخلصه من تعذيبهم لأن أمه من بني هاشم » !
ففي سيرة ابن إسحاق 2 / 145 : « عَدَتْ قريش على من أسلم منهم فأوثقوه وآذوه ، واشتد البلاء عليهم وعظمت الفتنة فيهم وزلزلوا زلزالاً شديداً ، وعدت بنو جمح على عثمان بن مظعون ، وفرَّ أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم إلى أبي طالب ليمنعه وكان خاله ، فجاء بنو مخزوم ليأخذوه فمنعهم فقالوا : يا أبا طالب منعت منا ابن أخيك أتمنع منا ابن أخينا ؟ فقال أبو طالب : أمنع ابن أختي مما أمنع ابن أخي ! فقال أبو لهب - ولم يتكلم بكلام خير قط ليس يومئذ - : صدق أبو طالب لايسلمه إليكم ! فطمع فيه أبو طالب حين سمع منه ما سمع ورجا نصره والقيام معه ، فقال شعراً استجلبه بذلك :
وإن امرأً أبو عتيبة عمه * لفي روضة من أن يسام المظالما
أقول له وأين مني نصيحتي * أبا معتب ثبت سوادك قائما
ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة * تسب بها أما هبطت المواسم
[ وول سبيل العجز غيرك منهم * فإنك لم تخلق على العجز لازما ]
وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى * أخا الحرب يعطي الضيم إلا يسالما
وولى سبيل العجز غيرك منهم * فإنك لن تلحق على العجز لازما »
[ وكيف ولم يجنوا عليك عظيمةً * ولم يخذلوك غانماً أو مغارما ]
[ جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً * وتيماً ومخزوماً عقوقاً ومأثما ]
[ بتفريقهم من بعد ود وألفة * جماعتنا كيما ينالوا المحارما ]
[ كذبتم وبيت الله نُبزي محمداً * ولما تروا يوماً لدى الشعب قائما ] »
أقول : ما بين المعقوفين من نسخة ابن هشام : 1 / 248 مع أنه نقلها عن ابن إسحاق ، وليست في نسخته التي بأيدينا ، فدل على أنها ناقصة أو محرفة » !
وقال ابن هشام : « وبقي منها بيت تركناه » . والبيت الذي حذفه رواه القاضي النعمان في المناقب / 123 ، قال : « فقام إليهم أبو لهب فقال : قد والله أكثرتم على هذا الشيخ ! ما تزالون توثَّبون عليه في جواره من بين قومه ، والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه فيما قام حتى يبلغ ما أراد ! فقالوا : بل ننصرف عمّا تكره يا أبا عتبة . وخافوا أن يجتمع أمره مع أبي طالب فيعظم الأمر عليهم ، ولم يكن من أبي لهب قبل ذلك خير . فلما سمع منه أبو طالب ما سمع طمع فيه فقال . . وروى البيت الذي حذفه ابن هشام :
أطاعوا ابن ذكوان وقيساً ودَيْسماً فضلوا وذاقوا بالجميع المياسما .
وقال : يعني بابن ذكوان : عقبة بن أبي معيط . ودَيْسم : الوليد بن المغيرة . وقيس : قيس بن عاقل » . والدَّيْسَم : ابن الذئب من الكلبة ! لسان العرب : 12 / 201 .
وكان أبو طالب « رحمه الله » يطعن في نسب الوليد بن المغيرة ، وقد صدَّقه الله تعالى فوصفه في سورة القلم بأنه : مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ . « فتح الباري 8 / 507 » .
أي دعي ملحق بأبيه وليس له ! العين : 1 / 375 .
فترك ابن هشام هذا البيت ليغطي على أصل الذين حكموا هذه الأمة المسكينة ! ومنه تعرف لماذا يكرهون شعر أبي طالب « رحمه الله » ! ويظهر أن قيس بن عاقل كان رئيس بني جمح ، فقد ذمهم أبو طالب ووصفهم بأنهم عبيده . ابن هشام : 1 / 179 .
كما يظهر أن ابن أبي معيط الأموي كان له تأثير على أبي سفيان وبني أمية عامة في عداوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ونسبوا آل معيط إلى ذكوان بن أمية ، وقال عنه النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « ما أنت وقريش ، وهل أنت إلا يهودي من صفورية ؟ ! » البكري : 3 / 131 .
ومنها : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان أحياناً يذهب بعد هلاك المستهزئين إلى المسجد وحده بدون حراسة ، كما دل حديث إعلان حمزة إسلامه عندما استفرد به أبو جهل وشتمه ! وكما دل تحريكهم الأولاد ليؤذوه في طريق ذهابه ، أو عودته !
روى في تفسير القمي : 1 / 114 ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه سئل عن معنى قول طلحة بن أبي طلحة لما بارزه علي : يا قضيم ، قال : « إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان بمكة لم يجسر عليه أحد لموضع أبي طالب وأغروا به الصبيان ، وكانوا إذا خرج رسول الله يرمونه بالحجارة والتراب ، فشكى ذلك إلى علي فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله إذا خرجت فأخرجني معك ، فخرج رسول الله ومعه أمير المؤمنين فتعرض الصبيان لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كعادتهم فحمل عليهم أمير المؤمنين وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم ! فكانوا يرجعون باكين إلى آبائهم ويقولون : قضمنا عليٌّ ، قضمنا علي ! فسمي لذلك : القضيم » .
وفي نهاية ابن الأثير : 1 / 402 و 4 / 78 : « ومنه حديث علي رضي الله عنه : كانت قريش إذا رأته قالت : إحذروا الحطم ، إحذروا القضم ! أي الذي يقضم الناس فيهلكهم » . وفي أدب الكاتب لابن قتيبة / 171 : « الخَضْم بالفم كله ، والقَضْمُ بأطراف الأسنان . قال
أبو ذر « رحمه الله » : تَخْضِمُونَ وَنَقْضَمُ ، والمَوْعِدُ الله » .
ويظهر أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان أغلب الأحيان يتحرك إلى المسجد بحراسة ويصلي فيه ، ويتلو القرآن بصوت هادئ أو مرتفع أحياناً ، ويدعو الناس إلى الإسلام علناً .
كما كان يذهب إلى القبائل في موسم الحج ، وفي عمرة رجب ، وسوق عكاظ ، يعرض عليهم أن يذهب إلى بلادهم فيحموه حتى يبلغ رسالة ربه ، فكانوا يرفضون ذلك خوفاً من قريش ، أو يشرطون عليه أن يكون الأمر لهم من بعده ، فيجيبهم إن الأمر لله وقد وضعه في أهله ، ويطلب منهم أن يبايعوه على أن لاينازعوا الأمر أهله .
|
|
في اليوم العالمي للصحة النفسية.. نصائح لتحسين مزاجك اليومي
|
|
|
|
|
آلاف الأشخاص يحاولون الهروب من فلوريدا بسبب إعصار ميلتون
|
|
|
|
|
ورقة بحثية تتناول الطبيعة الفقهية لبيعة الإمام الحسن (عليه السلام) والتزاماتها
|
|
|