دور التضحية في التقدم الحضاري، وهل يكفي عطاء الدم؟

بقلم: السيد عباس نورالدين
بعض المفكرين ينظرون إلى المجتمع المضحي على أنّه قد بلغ أعلى مراتب القيم وأرفع درجات التقدم. "فَوْقَ كُلِّ ذِي بِرٍّ بَرٌّ حَتَّى يُقْتَلَ الرَّجُلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِذَا قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَيْسَ فَوْقَهُ بِر".[1]
المجتمع الذي يكون الحال الغالب على أهله الاستعداد التام للتضحية بالأنفس وبذل المُهج وتقديم الأعزة هو المجتمع الذي بلغ بحسب هذه النظرة الدرجة العليا التي ليس فوقها درجة.. ربما يخلط هؤلاء بين البعد الفردي والبعد الاجتماعي هنا. من الصعب تحديد موقعية القيم وترتيبها حين يتعلق الأمر بالمجتمعات. المنظومة القيمية قد تختلف بين الفرد والمجتمع.
هناك مؤشرات واضحة وملموسة تدل على مدى تقدم المجتمع وازدهاره ورقيه الحضاري. لا يُفترض أن يتنازع خبيران في هذا المجال. ربما يحصل بعض النقاش فيما يتعلق بالمدة المطلوبة لقطف الثمار ورؤية النتائج. هناك من يرى أنّ بعض النتائج الاجتماعية تحتاج إلى عقود حتى تظهر. لكن لا شيء من هذه يحصل دفعة واحدة أيضًا. التغيرات الاجتماعية يمكن ملاحظة تحققها بالعين المجردة، ولذلك فهي غير دفعية البتة.
هناك عدة عوامل تدفع أبناء أي مجتمع لتقديم مثل هذا المستوى من التضحيات. يحكي القرآن الكريم عن استعداد بني إسرائيل للقتال ومواجهة الجبابرة في سورة البقرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَني إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكًا نُقاتِلْ في سَبيلِ اللَّهِ}.[2]
لكنّه يبين لنا دوافعهم مباشرةً ويقول عنهم: {قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلّا نُقاتِلَ في سَبيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلّا قَليلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَليمٌ بِالظَّالِمينَ}.
يمكن أن نعتبر هذا النوع من الدوافع بأنّه تضحية مَن لم يعُد لديه ما يخسره. هل يكفي هذا لكي ينجحوا في المراحل التي يُفترض أن تنتهي بهم إلى بناء المجتمع المثالي؟ لم يتحقق ذلك في الخطوات التي تلت هذا الاستعداد. فلم يتقبلوا أن يكون شخصٌ من خارج الطبقة العليا قائدًا عليهم رغم أنّ الله تعالى زاده بسطة في العلم والجسم. وبعد إنزال الآيات عليهم والمعجزات لم ينجحوا أيضًا في امتحان الانقياد والثقة بالقيادة، وهو أمر غاية في الأهمية لمرحلة البناء.
يمكننا أن نتصور إذًا أنّ بعض المجتمعات قد تضحي وتبذل الدماء، لا لأنّها واعية لمتطلبات المشروع الحضاري وعملية بناء الدولة وقيام المجتمع وتحقيق الانتصار على العدو. لا يُفترض أن نعتبر أنّ كل دماء تُبذل سيكون لها الأثر نفسه على هذا الصعيد. مقولة "يكفي عطاء الدم" يجب إعادة النظر فيها بعمق.
كان مجتمع الكوفة في بدايات عهد أمير المؤمنين عليٍ عليه السلام قد نجح في موقفٍ عظيم وهو تلك الفتنة العمياء الطخياء التي اشتد كلبها وماج غيهبها إلى الدرجة التي لم يكن ليجرؤ أحدٌ عليها سوى هذا الإمام الهمام: "فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا وَاشْتَدَّ كَلَبُهَا".[3]
يبدو أنّ عددًا كبيرًا من خواص المجتمع المُسلم آنذاك لم يقدروا على تحليل الوضع وفهم خطورته وتداعياته على الرسالة بسبب النقص الحاد في البصيرة. لكنّ التاريخ يحكي لنا أنّ الكوفة قدمت في معركة الجمل أكثر من خمسة آلاف شهيد. هل هذا بالأمر البسيط في مثل هذه المحنة الكبرى؟ يُفترض أن يُسجل التاريخ لهذه الكوفة مجدًا تليدًا وفخرًا عظيمًا. ولكن هذا المجتمع المضحي المُنتج للشهداء المقتولين تحت راية علي بن أبي طالب نفسه وبعد عدة أشهر تكشّف عن ضعفٍ وتراخ ووهن وقلة بصيرة مما لم يزل يتردد صداه في مسامع كل من يقرأ للإمام في نهج البلاغة. من قرأ نهج البلاغة ولم يلاحظ آهات أمير المؤمنين وأوجاعه وشكواه بحق أهل الكوفة فكأنّه لم يقرأ نهج البلاغة. لماذا لم ينفعهم عطاء الدم الكبير ذاك؟
يجب أن نُعيد النظر في عطاء الدم إن كنّا نريد توظيفه ليكون عاملًا للانتصار النهائي والرُقي الحضاري والغلبة.
الذين يرون في هذا المستوى من التضحية والإيثار أعلى ما يمكن أن يقدمه أي مجتمع، ربما يتوقعون أن يؤدي ذلك إلى إيجاد تحوّلات مهمة في النفوس ولو بعد عشرات السنين (في عصرنا هذا، السنة لم تعد ترفًا فكيف بعشرات السنين). يتصورون أنّ لكل دم شهيد أثره في نفوس من عرفوه أو سيتعرفون إليه، وأنّ هذا الأثر سيتضاعف حتى يأخذ بيد المجتمع إلى شاطئ النصر والأمان. ربما لا يغض هؤلاء المفكرون النظر عن المستلزمات القيمية للنهضة الاجتماعية، لكنّهم يعتبرون عطاء الدم سببًا مهمًّا لتحققها ورسوخها جميعًا واحدة تلو أخرى. يُقال هنا: يكفي أن نضحي وننتظر حتى تنبعث القيم الطيبة واحدة بعد أخرى.
لا ينكر هؤلاء المفكرون ضرورة حُسن التدبير لأيّ تقدُّمٍ اجتماعي. التخطيط البعيد المدى والدقة في المتابعة والتطبيق والمحاسبة الجيدة والاهتمام الفائق بالموارد البشرية والزمنية وغيرها من شؤون حُسن التدبير؛ لكنّهم يعتبرون ذلك كلّه آتٍ لا محالة طالما أنّ المجتمع مستعدٌّ لبذل الغالي والرخيص في مواجهة أعدائه. يصعب ملاحظة العلاقة السببية بين قيمة التضحية والقيم العقلانية التي تنبع من العلم والوعي والبصيرة ومن ثقافة عقلانية متأصلة!
هل يمكن أن تنشأ قيمة التضحية من منبعٍ آخر يختلف عن منبع العقلانية؟ بالتأكيد، ولمَ لا؟!
هناك عشرات الأسباب التي تحرك عواطف الناس في لحظات تاريخية معينة فتدفعهم نحو بذل الدماء وتقديم التضحيات الأسطورية. النظرة العقلانية للحياة والتعامل العقلاني مع المصير ربما يحتاج إلى الكثير من العلم والتجربة والوعي والخبرة والحكمة. هذه المعارف لا تنبع من استعدادنا للتضحية والإيثار.
هناك شعوب كثيرة بذلت وضحت ولا تزال، لكنها لا تسير على طريق التقدم والرقي. حتى إنّ بعض هذه المجتمعات تعاني من تضخُّم في ثقافة التضحية. يمكن للفنون بكل أشكالها أن تلهب العواطف إلى درجة يكون هذا المستوى من العواطف بمثابة الحلم الذي يراه القائد الصالح في منامه كلّ يوم. لا ينبغي أن ننسى تاريخ الخوارج ومواقفهم في البطولة والبأس والثبات وهم يقاتلون ولي الله الأعظم ووصي رسول رب العالمين.
أجل إنّ قيمة الدم الذي يُنثر في المجتمع المهتدي هو أنّه يبدأ من النقطة التي يُفترض أن تمضي به نحو الهدف الأعلى، وهذه النقطة هي العلم والمعرفة والبصيرة. ولذلك جاء في الحديث: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَوُضِعَتِ الْمَوَازِينُ فَتُوزَنُ دِمَاءُ الشُّهَدَاءِ مَعَ مِدَادِ الْعُلَمَاءِ فَيَرْجَحُ مِدَادُ الْعُلَمَاءِ عَلَى دِمَاءِ الشُّهَدَاءِ".[4]
فالمداد الأسود الذي يمثل العلم هو الذي يحوّل الدم الأحمر الذي يمثل التضحية إلى شعاعٍ أبيض يسطع على العالم فيضيء سبله التي تنتهي إلى الله.
1