الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
حلم الحرية
المؤلف:
محمد الصالح السليمان
المصدر:
الرحلات الخيالية في الشعر العربي الحديث
الجزء والصفحة:
ص71-75
24-03-2015
1442
لقد أراد الإنسان منذ أن خلقه الله إيجاد أدوات تضمن له البقاء والاستمرار في هذه الحياة، لكنّ هذه الحاجة لم تدفعه يوماً إلى إهمال روحه إلاّ عندما ازدادت أدواته تعقيداً، فصار واضحاً لديه أنّ للحضارة تأثيراً ضاراً على حياته الفكريّة والروحيّة، لما تخلّفه هذه الحضارة من أسباب الصراع المادي الذي خلّف وراءه أمراضاً نفسية وعقداً كثيرة.
لهذه الأسباب حلم بعض الشعراء بالابتعاد عن الواقع والغور بعيداً في ذواتهم أو الهروب إلى عوالم بعيدة يحقّقون فيها ما تصبو إليه أرواحهم المثقلة بأعباء الحياة الراسفة في قيود الماديّة، ويوجّهون النقد لأبناء مجتمعاتهم الذين انحرفوا عن المهام الجليلة التي خلقوا لأجلها، وكلّهم أمل أن يحقّقوا صورة الإنسان النقي البريء.
وقد كانت الحريّة هاجس فوزي معلوف الذي انطلق على أداة من أدوات الحضارة (الطيّارة) يروم الخلاص من واقعه، وعندما صار في الجوّ خفّت روحه وتطلّعت إلى كسر أغلال المادة وتحطيم قيود الجسد الذي أذاقها مرارة الكآبة والعبودية، حتّى بات الشاعر عبداً لكلّ ما حوله في الحياة، فيقول:
بينَ رُوحِي وجِسمِي الأَسيرِ
كانَ بُعْدٌ
ذُقْتُ مُرَّهْ
أَنَا في الأرْضِ وَهْي فَوقَ الأثيرِ أنا عَبْدٌ
وهْي حُرَّهْ(1)
فهذا المقطع يعبّر عن ذروة المعاناة الإنسانية عندما يستحوذ حسّ العبوديّة على الشاعر، لذا كان مطلب الحريّة وسيلة للارتقاء فوق الآلام، فوق الأرض التي يغطّي الشقاء كلّ بطاحها.
ويتجلّى الحلم في سيرورة الوحدة العضويّة للقصيدة، وهي تعبّر عنه في أناشيدها الأربعة عشر. ففي النشيد الأول يحدّد الشاعر أدوات وجوده الروحيّ باستخدامه ظروف المكان المعبّرة عن الفوقيّة، فيقول:
في عُبابِ الفَضاءِ فَوقَ غُيومِهْ
فَوقَ نَسْرِهْ
ونَجْمَتِهْ
أنْزلَتْهُ فِيهِ عَروسُ قوافِيْـ ... ـهِ بَعيداً عن الوُجُودِ وَظُلمِهْ(2)
ثمّ يصرّ على ما تلهج به نفسه من الانطلاق والحريّة، فيجعل النور موكباً له، ويتّخذ من الفضاء مسرحاً لسطوته وسلطانه، ثمّ إنّه يتردّد في بقيّة الأناشيد بين الأمل الطامح والواقع الثقيل، وربّما لجأ إلى الرمز مرّة وإلى التصريح مرّة أخرى، لكنّ مجموع الأناشيد يشكّل كلاً واحداً تمثّله الرغبة الطامحة إلى الانعتاق والحريّة، والروح الشاعرة وحدها القادرة على تحقيق هذه الغاية، فهي الروح الخلاّقة التي أرهفت سمعها لتصغي إلى أنغام الخلود العلويّة، فهي روح لا يقربها الإثم أو الشرّ، لذا يتوق الشاعر للوصول إليها عندما يجد نفسه يجوز الفضاء ويتخلّص من قيوده الأرضية، فيقول:
يا طُيورَ السَّماءِ في الرِّيحِ رُوحِيْ
بي جَرْياً
عَلى الجَلَدْ
وبِجِسمِي طِيرِيْ إلى حَيْثُ رُوحِي
فيهِ تَحْيَا
بِلا جَسَدْ(3)
لكنّ الحلم لا يأتي كما تشتهي النفس وتحبّ فلابدّ ممّا ينغّص عليه سعادته إنّها عقدة الذنب لكونه ابناً للحضارة الماديّة التي تلاحقه في كلّ منزل ينزل فيه وتحول دون تحقيق التوافق بينه وبين الطيور والنجوم والأرواح إلى أن تنبري روح الشاعر المتحرّرة من الجسد لتعانق هذا الشاعر الذي طالما اشتاقت للقائه، فيقول:
هِيَ رُوحي جَاءتْ تُخلْصْني مِنْ ... غَضَبِ العَالَمِ الفَخُورِ بشَمْسِهْ
طَوَّقَتْنِي بِكلِّ عَطْفٍ وصَاحَتْ ... أَخْواتِي: رِفْقاً بِهِ وببُؤسِهْ
إنَّ بينَّ السَّريرِ والنَّعشِ خُطوا ... تٍ دَعَوْهَا الوُجُودَ وهْيَ بِعكْسِهْ(4)
وفي تلك اللحظات تشرق الروح وتتحقّق هواجس الشاعر وتختصر المسافات وتتضاءل المجرات، فتصير المادة ظلاً هزيلاً باهتاً لا قيمة له ينظر إليها الشاعر باحتقار وازدراء، فيقول:
ونَرَى الطَودَ في السُّهولِ كمَا تُبْـ ... ـصِرُ فَوقَ التُّرابِ ظِلَّ حَصَاتِهْ
ونَرَى المَوجَ في الخِضَمِّ كمَا تَلْـ ... ـمَحُ جَوّاً والسُّحبُ في مِرآتِهْ(5)
ويستحثّ حلم الحريّة الشاعر محمد حسن فقّي في قصيدته ((الكون والشاعر)) حيث يستنهض الشاعر عرائس الشعر لتعرج بروحه بعيداً عن الأرض التي ملأ الشرُّ أرجاءها بعد أن صال على الخير صولة غادرة تركته صريعاً، فيقول:
عَرَّجْتَ بالرُّوحِ إلى عالمٍ ... أَنْكَرَ فِيهِ الرُّوحُ جُثْمَانَهُ
حَلَّقْ بِنَا فالأرضُ مَوْبُوءَةٌ ... وطُفْ بنا الجوَّ وَسُكّانَهُ
تنَمّرَ الشَّرُّ بِها عَارِمَاً ... فَجَنْدَلَ الخَيرَ وَأعْوَانَهُ(6)
وهو ينعى على الناس استحواذ الشرّ عليهم، وما على الشاعر إلاّ الفرار بروحه بعيداً لتخفّ في عالم الطهر والنقاء وتتخلّص من الأحقاد والضغائن. وفي الفضاء يلتقي الشاعر بعالم العجماوات من طيور وغيرها ثمّ ينطلق إلى عالم النجوم فالملائكة، وهناك يقارن بين هذه المخلوقات بفطرتها وبراءتها وبين الناس الذين يحكمهم قانون الصراع من أجل البقاء والتناحر والتنافر، فيقول:
الزَّيفُ في النَّاسِ وأَمّا هُنَا ... فالطَيرُ لا يَخْدَعُ إِخوانَهُ(7)
ويعزز الشاعر الفقي الرؤية التي لمسناها عند فوزي معلوف حين يرى أنّ الإنسان يرقى بصفاته ونقائه إلى ما لا تصل إليه نفس أيّ إنسان راسفة في أغلال اللحم ومطالب الجسد، كما يؤكّد خصوصيّة الشعر في تحقيق هذا الحلم الذي يرنو للوصول إليه، فيقول:
قَالَ مَلاكٌ إِيهِ يا شَاعِري ... مَا خَانَكَ السَّعيُ ولا خَانَهُ
فإنَّما الفِردوسُ في عَالمٍ ... تصوِّرُ الأحلامُ ضُحيانَهُ
سَوْاءٌ الأرضُ وهَذِي السَّما ... إنْ لم يُنَقَّ الرُّوحُ أدرانَهُ(8)
ويعود الشاعر الجسد إلى الأرض ليعاني آلام العبوديّة من عبوديّة جسد وقوانين وحاجات ماديّة، ولتبقى الروح محلّقة في سماء الحريّة لا تعرف ذلاً أو هواناً، ويبقى الشاعر الفقّي أكثر تفاؤلاً من فوزي معلوف لأنّه يؤمن أنّ الخير سينتصر على الشرّ وأنّ الشعر سبيل إلى تحقيق حلم الحريّة والخلاص، فيقول:
تَبَاركَ اللّهُ فَكَمْ شَاعِر ... يُطَاوِلُ المُلكَ وتيجانَهُ
لمْ يَعرِف الذّلَ ولا قَينَهُ ... ولا وَعى المكرَ وأشْطَانَهُ
فعَاشَ لا يُرهِبُهُ دُهْرُهُ ... إِسْرَارُهُ شَابَ إِعْلانَهُ(9)
وهكذا ظلّت الحريّة والخلاص من هموم الواقع هاجساً يحرّض الشعراء ويدفعهم حثيثاً للمضيّ قدماً في رحلاتهم الخيالية عسى أن يحققوا ما فقدوه في عالم الناس، غير أنّ هذا الحلم تلفّع بالسوداويّة والتشاؤم عند فوزي معلوف، في حين أخذ مسحة من التفاؤل الديني عند محمد حسن فقّي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) معلوف، فوزي، على بساط الريح، ص: 77.
(2) المصدر نفسه، ص:61.
(3) المصدر نفسه، ص: 85.
(4) المصدر نفسه، ص: 149.
(5) المصدر نفسه، ص: 159.
(6) ..؟..، عبد السلام طاهر، شعراء الحجاز في العصر الحديث، ص: 49.
(7) المصدر نفسه، ص: 51.
(8) المصدر نفسه، ص: 52.
(9) المصدر نفسه، ص: 53.
الاكثر قراءة في العصر الحديث
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
