الوضع الليلي
انماط الصفحة الرئيسية

النمط الأول

النمط الثاني

0

تنويه

تمت اضافة الميزات التالية

1

الوضع الليلي جربه الآن

2

انماط الصفحة الرئيسية

النمط الاول

النمط الثاني

يمكنك تغيير الاعدادات مستقبلاً من خلال الايقونة على يسار الشاشة

EN
1
المرجع الالكتروني للمعلوماتية

النبي الأعظم محمد بن عبد الله

أسرة النبي (صلى الله عليه وآله)

آبائه

زوجاته واولاده

الولادة والنشأة

حاله قبل البعثة

حاله بعد البعثة

حاله بعد الهجرة

شهادة النبي وآخر الأيام

التراث النبوي الشريف

معجزاته

قضايا عامة

الإمام علي بن أبي طالب

الولادة والنشأة

مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)

حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله

حياته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)

حياته في عهد الخلفاء الثلاثة

بيعته و ماجرى في حكمه

أولاد الامام علي (عليه السلام) و زوجاته

شهادة أمير المؤمنين والأيام الأخيرة

التراث العلوي الشريف

قضايا عامة

السيدة فاطمة الزهراء

الولادة والنشأة

مناقبها

شهادتها والأيام الأخيرة

التراث الفاطمي الشريف

قضايا عامة

الإمام الحسن بن علي المجتبى

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الحسن (عليه السّلام)

التراث الحسني الشريف

صلح الامام الحسن (عليه السّلام)

أولاد الامام الحسن (عليه السلام) و زوجاته

شهادة الإمام الحسن والأيام الأخيرة

قضايا عامة

الإمام الحسين بن علي الشهيد

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الحسين (عليه السّلام)

الأحداث ما قبل عاشوراء

استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ويوم عاشوراء

الأحداث ما بعد عاشوراء

التراث الحسينيّ الشريف

قضايا عامة

الإمام علي بن الحسين السجّاد

الولادة والنشأة

مناقب الإمام السجّاد (عليه السّلام)

شهادة الإمام السجّاد (عليه السّلام)

التراث السجّاديّ الشريف

قضايا عامة

الإمام محمد بن علي الباقر

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الباقر (عليه السلام)

شهادة الامام الباقر (عليه السلام)

التراث الباقريّ الشريف

قضايا عامة

الإمام جعفر بن محمد الصادق

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الصادق (عليه السلام)

شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)

التراث الصادقيّ الشريف

قضايا عامة

الإمام موسى بن جعفر الكاظم

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الكاظم (عليه السلام)

شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)

التراث الكاظميّ الشريف

قضايا عامة

الإمام علي بن موسى الرّضا

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الرضا (عليه السّلام)

موقفه السياسي وولاية العهد

شهادة الإمام الرضا والأيام الأخيرة

التراث الرضوي الشريف

قضايا عامة

الإمام محمد بن علي الجواد

الولادة والنشأة

مناقب الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)

شهادة الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)

التراث الجواديّ الشريف

قضايا عامة

الإمام علي بن محمد الهادي

الولادة والنشأة

مناقب الإمام علي الهادي (عليه السّلام)

شهادة الإمام علي الهادي (عليه السّلام)

التراث الهاديّ الشريف

قضايا عامة

الإمام الحسن بن علي العسكري

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)

شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)

التراث العسكري الشريف

قضايا عامة

الإمام محمد بن الحسن المهدي

الولادة والنشأة

خصائصه ومناقبه

الغيبة الصغرى

السفراء الاربعة

الغيبة الكبرى

علامات الظهور

تكاليف المؤمنين في الغيبة الكبرى

مشاهدة الإمام المهدي (ع)

الدولة المهدوية

قضايا عامة

وجه الشبه بين النبي عيسى "ع" والإمام المهدي "عج"

المؤلف :   الشيخ محمد السند

المصدر :   الإمام المهدي "عج" والظواهر القرآنية

الجزء والصفحة :   ص255-304

2025-05-21

50

الظاهرة السادسة ، وهي ظاهرة النبيّ عيسى عليه السلام وصلتها الوطيدة جدَّاً بظاهرة الاعتقاد والعقيدة بالإمام المهدي وغيبته ، يذكرها القرآن الكريم في جملة من السور ، منها ما في سورة النساء ، حيث يقول الباري تعالى عن اليهود : ( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ) ( النساء : 155 ) ، هنا تمهّد الآيات في سورة النساء إلى مطلع هذه الآية ، ( وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ) ( النساء : 156 ) ، حيث لم يؤمنوا بأنَّ عيسى بن مريم قد ولد بإعجاز من الله تعالى ، بل قذفوا مريم بالبهتان والفاحشة العظيمة عندما ولدت عيسى من غير أب ومن غير زواج .

فطبع الله على قلوبهم بسبب كفرهم وبسبب قولهم بهتاناً على مريم ، لماذا يطبع الله على القلوب ولا يجعلها مؤمنة ولا يجعلها راشدة ولا يجعلها مهتدية ؟ هنا يبيّن القرآن الكريم ، أنَّه بسبب قولهم : ( إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ ) ، فلم يعبّر القرآن أنَّه بسبب قتلهم المسيح ، أو محاولتهم قتل المسيح ، فالتعبير القرآني ظريف ودقيق ، وهو نفس دعواهم بأنّا قد أبدنا المسيح ، أو إنّا قد أبعدناه عن الوجود ، فهذا أحد أسباب الطبع على قلوبهم .

فهنا يبيّن القرآن لنا أنَّ المقولة والزعم بأنَّ النبيّ عيسى قُتل وليس بحيّ ، هذه المقولة تسبّب فقد الإيمان ، وهذه المقالة تسبّب طبع الله على قلوبهم فلا يؤمنون ، فالقول بعدم حياة حجّة الله التي ضمنت السماء والرسالة السماوية حفظه وإبقاءه ، يتصادم مع قدرة الله تعالى ، ( إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ) ( الطلاق : 3 ) ، إذ قام الدليل من الوحي الإلهي على وجود حجّة من حجج الله في أرضه ، ثمّ حصلت شبهة من قِبَل الظالمين حول استئصال ذلك الحجّة ، فترك تلك البراهين والحجج الإلهية القائمة على أنَّ الحجّة حيّ ، وأنَّ الخليفة حيّ باقٍ ، مقابل بعض الأحداث المشبهة والموهمة أنَّ الظالمين استطاعوا أن يستأصلوا خليفة الله في الأرض أو استطاعوا أن يبيدوا حجّة الله في الأرض ، هذا هو السبب لأن يطبع الله على قلب الفرد الإنساني فلا يؤمن ، فإذا أنبئنا القرآن الكريم أنَّ لله عز وجل في كلّ زمن خليفة له في الأرض كمعادلة دائمة من أوّل بدء الخليقة البشرية إلى آخر حياة البشر ، ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة : 30 ) ، هذا الخليفة لا بدَّ أن يكون موجوداً دائماً ، كما ينبئنا القرآن الكريم أيضاً في ذرّية آل إبراهيم بأنَّ الإمامة لن تعدم فيهم إلى يوم القيامة في قوله تعالى : ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) ، فليس التعبير في الآية الكريم أو اللفظ في الآية الكريمة : إنّي جاعلك للناس نبيّاً ، أو رسولًا ، ذاك مقام آخر ، وهذا مقام ثالث : ( قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ( البقرة : 124 ) ، أي إنَّ الإمامة تبقى في غير الظالمين من ذرّيته ، وإبراهيم مستجاب الدعوة ، وهو نبيّ من أنبياء أولي العزم ، وقد استجاب الله دعوته ، ومن ذرّيته إسماعيل وآل إسماعيل ، وهم النبيّ وأهل بيته عليهم السلام ، كما في آخر الآية من سورة الحجّ : ( هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا ) ، يعني في الاجتهاد والاصطفاء من الله لكم بالإمامة ، وهي دعوة إبراهيم في ذلك ، ( لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) ( الحجّ : 78 ) ، إذن أنبأنا القرآن الكريم على أنَّ الإمامة بهذا المقام باقية في آل إبراهيم وذرّية إسماعيل ، وقوله تعالى : ( رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ) ، دعوة إبراهيم وإسماعيل عندما كانا يبنيان قواعد البيت ، ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا ) ، ذرّية إسماعيل التي فيها الإمامة وليس ذرّية إسحاق ، ( أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ) ، يعني نفس درجة الإسلام والتسليم لله عز وجل التي طلبها إبراهيم وإسماعيل بعد أن كانا نبيّين فهي درجة تسليم من درجات العصمة العالية ، وهي درجة تضاهي الإمامة ، ( وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ( البقرة : 128 و 129 ) ، وهو خاتم النبيّين ، وكذلك تدلُّ آخر آية من سورة الحجّ : ( هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) حيث يخاطب ثلّة من هذه الأمّة ، ( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ) ، فهم من نسل إبراهيم ، مجتبَون ، لهم صلة بسيّد الأنبياء ، وهو الذي دعا أن تكون الإمامة في ذرّيته وفي آل إسماعيل ، ( مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) ، على أهل البيت ، وتكونوا شهداء على الناس ، وهو مقام الإمامة .

وهناك الكثير من الآيات التي تدلُّ على إمامة أهل البيت ، وأنَّ الإمامة لن تقطع ولن تبتر في أهل البيت الذين وصفهم الله بالتطهير في هذه الأمّة ، واعزي إليهم مقدرات الأرض ، حيث قال تعالى في سورة ( الحشر : 6 ) : ( ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ) ، الفيء في تعبير القرآن الكريم وحتَّى في فقه مذاهب المسلمين يمثّل كلّ ثروات الأرض وعائدات الأرض ، فإدارتها وتدبيرها وولاية تدبيرها لصرفها في الطبقات المحرومة من البشرية ولصرفها وتوزيعها العادل لترسو العدالة ، ( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ) ، أي كي لا يكون هناك فارق طبقي فاحش أو إقطاع كما عليه البشرية اليوم ، فالشيوعية فشلت في معالجة الإقطاع والرأسمالية كذلك ، وتجارب بشرية كثيرة فشلت ، ولا زالت الأطروحة الإسلاميّة خالدة ، وهي التي تستطيع أن تؤهّل من يملأها قسطاً وعدلًا ، وهو ولد من ذرّية الرسول ومن ذرّية فاطمة وعلي عليهم السلام ، وهو المهدي عليه السلام يظهره الله ليملأ الأرض قسطاً وعدلًا .

والآيات كثيرة في القرآن الكريم تدلّل على بقاء إمامة أهل البيت وحياة صاحب العترة الإمام في أهل البيت دائماً ، فمن يقول بعدم وجود إمام حيّ من العترة ، وهو صاحب الأمر وإمام المسلمين تضاهي مقولته مقولة اليهود التي استعرضها لنا القرآن الكريم ، بأنَّ الله تعالى طبع على قلوبهم بسبب قولهم : ( إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ ) . وللأسف هناك الكثير من الكتابات الإسلاميّة تقول بأنَّ محمّد بن الحسن المهدي قد قُتل .

دور عيسى المسيح في الإصلاح العالمي :

ظاهرة النبيّ عيسى عليه السلام ظاهرة وطيدة الصلة جدَّاً وقريبة جدَّاً في بدئها وختمها بقضيّة الإمام المهدي عليه السلام ؛ لأنَّه قد بات واضحاً لدى المسلمين ولدى حتَّى أتباع الديانات السماوية أنَّه عليه السلام ينزل لتكون له مساهمة ما ومشاركة ودور ما في تلك الدولة الإلهية التي ستقام على الأرض لإصلاحها ، وقد بات واضحاً لدى المسلمين في أحاديثهم المتواترة أنَّ النبيّ عيسى عليه السلام إنَّما ينزل في ذلك الحين لإقامة الإصلاح في الأرض في دولة الإمام المهدي عليه السلام ، تلك الدولة التي يصلّي فيها خلف الإمام المهدي عليه السلام . فنزوله فصل من العقيدة بظهور الإمام المهدي ، أي شقّان لعقيدةٍ واحدة ، وحقيقة بيّنة ثابتة يعتقد بها المسلمون ويعتقد بشطر منها النصارى واليهود ، وبالتالي فإنَّ استعراض هذه الظاهرة في القرآن الكريم ذو صلة وثيقة وأكيدة بظهور الإمام المهدي عليه السلام وبحياة الإمام المهدي في الغيبة ؛ لأنَّه قرن اسم عيسى باسم المهدي في بيانات القرآن الكريم وبيانات بصائر الحديث النبوي المتواتر مستفيضاً عند فِرَق المسلمين . ومن ثَمَّ يسلّط القرآن الكريم الضوء على ظاهرة النبيّ عيسى ويبيّن أنَّ بني إسرائيل ورغم وجود براهين الوحي الإلهي لديهم بالبشارة بدور النبيّ عيسى ، وأنَّه لن يُقتل حتَّى يشارك في ثلّة تُعيَّن من قبل السماء في الأرض بشكل معلن للإصلاح واستتباب وانتشار العدالة ودين الحقّ في أرجاء الأرض كافّة ، رغم وجود هذه البراهين لديهم كيف يزعمون ويقولون بهذه المقالة بأنَّهم قد قتلوه ، وأنَّه ليس بحيّ الآن ، ولأجل ذلك طبع الله على قلوبهم .

( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ) ( النساء : 159 ) ، هذه الآية تبيّن أنَّ النبيّ عيسى سوف يكون له نزول بعد ما رُفع إلى السماء ، وأنَّه سيشارك في بسط ونشر الإيمان الحقّ في الأرض ، فهناك اقتران وثيق ووطيد الصلة في نفس بيانات القرآن الكريم بين ما سبق في شأن نزول النبيّ عيسى وبين وعد الله تعالى في قوله : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) ( التوبة : 33 ) ، أي إظهار دين الإسلام على أرجاء الأرض كافّة وملؤها قسطاً وعدلًا ، وأنَّ المهدي من ذرّية فاطمة وذرّية الرسول وذرّية علي ، هاتان الحقيقتان القرآنيتان هي حقيقة واحدة متطابقة .

إذن هنا ظاهرتان تبثّهما عدسة القرآن الكريم كبصائر للبشرية .

المحطّة الأولى : إنكار البراهين اليقينية يستلزم انتكاس القلوب :

وفي أوّل محطّة من ظاهرة النبيّ عيسى يؤكّد القرآن الكريم على أنَّ من قامت لديهم البراهين على حياة النبيّ عيسى وأنَّه حيّ وأنَّه سيبعث في دولة الإمام المهدي ليكون له دور في تلك الدولة وبإمامة الإمام المهدي وهو رجل من عترة النبيّ ، فالقول إذن بعدم حياته وبأنَّه قد قتل وبأنَّ قوى الشرّ في ذلك الزمن قبل أكثر من عشرين قرناً قد استأصلته ، هذه المقالة والتكذيب في الواقع تتسبَّب بأن يطبع الله على تلك القلوب ويسلبها الإيمان ، هذا الدرس القرآني يعطينا هذه النتيجة : بأنَّ البشارة بالنبيّ عيسى قبل أن يولد وأنَّه سوف يأتي ليكون له دور ، واليهود في الحقيقة وبنو إسرائيل لا زالوا حتَّى في العهد القديم يؤمنون بمجيء النبيّ عيسى ، وإن كانوا يجحدون النبيّ عيسى الذي ولد من غير أب ، ويتَّهمونه بالسحر ، وأنَّ كلّ ما قام به من أمور هي من السحر ، ويبهتون ويفترون على مريم بهتاناً عظيماً ، ولكن رغم ذلك وإلى جانب جحودهم وتكذيبهم بالنبيّ عيسى يقولون بمقالة عودته إلى الأرض لما ورد عندهم من البشارات بأنَّ النبيّ عيسى سوف يكون له دور مشاركة ومساهمة مهمّة ، وفي أسفار العهد القديم ، وهي التوراة رغم أنَّها حُرّفت ، إلَّا أنَّ فيها تلك المقطوعات التي تدلّل على دور النبيّ عيسى في الدولة الإلهية التي ستقام في الأرض ، حينئذٍ يقول لهم القرآن الكريم : رغم إيمانكم بهذه البشارة وهذه البراهين التي أتتكم فلِمَ تجحدون حياة النبيّ عيسى إلى الآن ! ؟ هذه الوقفة القرآنية العظيمة في الواقع هي تنبيه للمسلمين على أنَّ الكتاب العزيز قد بشَّرهم بأنَّ الدين سوف يظهر على الأرض ، وأنَّ رجلًا من العترة هو الذي يملأها قسطاً وعدلًا .

قد يقول القائل بأنَّ هذا جاء في الحديث النبوي ! فنقول : نعم ، وهو متواتر ، بأنَّ المهدي من ولد وذرّية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وذرّية فاطمة عليها السلام ، يظهره الله ليملأ الأرض قسطاً وعدلًا ، ويحقّق على يديه الإنجاز الإلهي العظيم من نشر الدين والعدل والقسط من أرجاء الأرض كافّة ، وهي الدولة التي يقيمها ، ولكن القرآن الكريم أيضاً يبشّرنا بهذه البشارة عن رجل من العترة أيضاً ، حيث يقول في سورة ( الحشر : 7 ) : ( ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) ، إذ أنَّ الفيء وثروات الأرض تكون صلاحية إدارتها وولاية تدبيرها في التشريع الإلهي بيد القربى وعترة النبيّ ، وهم الذين يؤهّلون للتوزيع العادل للفيء وهو ثروات الأرض ، في اليتامى والمساكين وابن السبيل ، أي الطبقات المحرومة .

إذن البراهين القرآنية قائمة أيضاً على أنَّ المصلح هو من العترة ، والذي يقيم العدالة في الأرض هو من العترة ، وغيرها من الآيات القرآنية الدالّة على بقاء رجل من العترة في طيلة الأزمان ، يقوم بأدوار الإمامة والخلافة والإصلاح في الأرض ، فالتكذيب بحياته وببقائه هو تكذيب بالوعد الإلهي ، وتكذيب بهذا الميثاق الإلهي والوعد الإلهي الذي أكَّده وضمَّنه الباري تعالى من الإصلاح .

إذن هناك حلقات عديدة تربط وتوثّق الصلة بين العقيدة بحياة النبيّ عيسى عليه السلام ، وبنزوله للمشاركة والمساهمة في دولة الحقّ لإقامة وإرساء العدالة الإلهية وإظهار دين الحقّ على أرجاء الأرض كافّة . صلة وطيدة تبيّنها آيات القرآن الكريم فضلًا عن الأحاديث النبوية القطعية المتواترة بين فِرَق المسلمين على هذا الارتباط وهذا الاقتران . فالقرآن الكريم كما مرَّ بنا في سورة الحشر يؤكّد على أنَّ العدالة لم ولن تستتب في الأرض إلَّا بيد ذوي القربى من أهل البيت عليهم السلام ، فلينظر المسلم إلى قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ( لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّى يبعث فيه رجلًا من ولدي يواطئ اسمه اسمي ، يملأها قسطاً وعدلًا كما ملئت جوراً وظلماً )[1] ، المهدي الذي أخبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عنه في أحاديثه المتواترة عند المسلمين بأنَّه يملأ الأرض قسطاً وعدلًا ويظهر الدين في أرجاء الأرض كافّة ، ويحقّق إنجاز الوعد الإلهي للنبيّ في ثلاث سور من القرآن الكريم .

هذا النصّ النبوي المقطعي العقيدي عند المسلمين متطابق مع البشارة الإلهية في القرآن الكريم ، بأنَّ العدل لا ينشر إلَّا بيد ذوي قربى النبيّ ، لماذا ، وما الحكمة في ذلك ؟ لكي يديرها ويوزّعها على اليتامى والمساكين وابن السبيل ، أي الطبقات المحرومة ؟ ويعلّل القرآن ذلك بقوله تعالى : ( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ) ( الحشر : 7 ) ، أي أنتم أيّها البشر ، أيّها المسلمون ، إذا أردتم أن لا تحتكر الأموال في طبقات غنية ، وأن لا يكون الفارق الطبقي بينها وبين الطبقات المحرومة فارقاً فاحشاً استئثارياً احتكارياً ، فلن تنجو البشرية من الإقطاعات ومن استئثار الأموال إلَّا على يد إدارة وإمامة وحاكمية ودولة ذوي القربى ، فإذا أوعزت وأسندت إدارة وتدبير أمور النظام البشري ونظام المعيشة الأرضية في العلن وعلى المكشوف إلى العترة وذوي القربى من أهل بيت النبيّ ، حينئذٍ سوف لن تكون الأموال دولة بين الأغنياء ، وحينئذٍ سوف تنقطع وتنبتر الرأسمالية ، ويستأصل الإقطاع والاستئثار والاحتكار البشري ، وهذه نبوءة قرآنية تدلّل على أنَّ الذي يدير دولة الإصلاح الإلهي في الأرض لاستتباب العدالة وبسط العدالة والقسط والعدل هو رجل من عترة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وليس النبيّ عيسى ، وإنَّما النبيّ عيسى سوف يكون له دور مساهمة ومعين ومؤازر للمهدي عليه السلام فالبراهين القرآنية متطابقة على أنَّه سيكون لعيسى دور في نزوله ، وإسهام ومؤازرة ومناصرة للدور الرئيسي والمركزي الذي يقوم به رجل من ذوي قربى النبيّ ليفشي العدل والقسط في الأرض وهو المهدي عليه السلام ، لأنَّ الآيات القرآنية أيضاً دلَّت على أنَّ هناك بقاءً دائماً لخليفة الله في الأرض ، وهو رجل من العترة ، وهو الذي يبسط العدل والقسط في الأرض ، وتكون الإمامة دائماً في ذرّية آل إبراهيم وآل إسماعيل ، وبراهين وآيات قرآنية غفيرة دالّة على إمامة العترة وأنَّها باقية لا تنقطع ، فالتكذيب بهذه البراهين القرآنية يُنذرنا عنه القرآن الكريم ويحذّرنا منه لكي لا نكون كاليهود وبني إسرائيل الذين طبع الله على قلوبهم وسلب الإيمان من قلوبهم بسبب مقالتهم وجحودهم للبشارة الإلهية ، وذلك بأن أنكروا حياة عيسى ، فإنكار حياة النبيّ عيسى يمثّل إنكار البشارة الإلهية ، فهذا إنذار بمن اقترن اسمه باسم عيسى وهو المهدي عليه السلام الذي دلَّت البراهين القرآنية والإلهية على حياته وبقائه .

وما أجمل ما تفصّله وتبيّنه هذه الآية ، وهو أنَّ هناك ثلاثة أنماط في المجتمع من لا يقوى بنفسه على تحصيل المعيشة والمكسب كاليتامى الصغار ، والمساكين الذين هم من الطبقات المسحوقة ، وأيضاً من أوتي القدرة على تحصيل المعيشة والمكسب ولكن طرأت عليه الطوارئ كسفر وإفلاس وغيره ، فهذه نماذج مهمّة لطيفة تذكرها الآية ، على أنَّها مصرف لتوزيع الثروة العادلة ، والظريف في الآية الكريمة أنَّه مع كون القرآن الكريم يبشّر بنزول عيسى ، إلَّا أنَّه لا يسند التوزيع العادل للثروات للنبيّ عيسى ، وإنَّما إلى رجل من عترة النبيّ ، فالآية الكريمة في سورة الحشر كما مرَّ بنا تعطي البشارة للمسلمين بأنَّ العدالة لن تستتب على وجه الأرض بتوزيع الثروات بنحو عادل إلَّا على يد رجل من عترة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ( ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ ) ، ولذلك يقول الإمام الصادق : إنَّ في آية الفيء والأنفال جذع الأنف ، يعني أنَّها تطوّع الجاحدين والمنكرين لمقام أهل البيت عليهم السلام لكي يسلّموا بمفاد هذه الآية الكريمة ، إذ إسناد هذا التصرّف لله يعني حاكمية الله عز وجل ، ومن ثَمَّ حاكمية الرسول ، وتصرّفه يكون امتداداً لحاكمية الله ، وثمّ لذي قربى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حاكمية ، وهي امتداد لحاكمية الرسول ممَّا يدلّل على أنَّ الحقّ في تدبير الأمور في الأمّة الإسلاميّة هو لأهل البيت عليهم السلام ، وليس ذلك عصبية قبلية يروّجها القرآن الكريم ، وليس هي نظرية أو دعوة عرقية وقومية يدعو إليها القرآن الكريم ، حاشا وكلَّا ، تعالى ربّ العزّة عن ذلك ، بل يعلّلها أنَّه كي تصرف هذه الثروات في اليتامى والمساكين وابن السبيل ، أي الطبقات المحرومة في الأرض ، ولا تكون دولة بين الأغنياء ، يعني أنَّ كلّ من يتنصَّب ويتولّى سدّة الحكم من غير عترة النبيّ المطهّرة سوف يكون معرضاً للأثرة والاستئثار والاحتكار والطبقية والتفرقة في العطاء ، إلى أن ينقض المسلمون على خليفتهم ويقتلوه كما حدث في التاريخ مرَّات وكرّات .

فالقرآن الكريم كما يبشّر بنزول النبيّ عيسى ودوره في بثّ الإيمان وفي قمع الجحود والإنكار لرسالة سيّد الرسل الذي ابتلي به النصارى واليهود وبنو إسرائيل ، يبشّر كذلك بأنَّه سيظهر هذا الدين على أرجاء الأرض كافّة ، لكن القرآن أسند الإمامة والخلافة للمهدي دون النبيّ عيسى ؛ لأنَّه لا نبيّ يأتي بشريعة جديدة بعد سيّد الرسل ، فيكون النبيّ عيسى عليه السلام تابعاً لسيّد الأنبياء وتابعاً لأئمّة الدين في هذه الشريعة ، وقد ذكر الكثير من الروايات في كتب الحديث عند فِرَق المسلمين أنَّ عيسى يصلّي خلف المهدي . ومنه ما رواه ابن حجر في الصواعق المحرقة ، وابن الأبري المتوفّى في القرن الرابع ، وأيضاً ابن قيم الجوزية ، وأيضاً الشيخ ملَّا علي القاري الهروي ، والسيوطي ، في كون عيسى يصلّي خلف المهدي ، فهذه أمور كثيرة ذكرت في هذا المضمار[2].

ومن ثَمَّ أكَّدت الروايات النبوية كما أكَّد القرآن الكريم أنَّ الخلافة والإمامة والقيادة تكون بيد الإمام المهدي ، وهو الذي يملأها قسطاً وعدلًا ، ويكون النبيّ عيسى مؤازراً ومناصراً ومعاضداً للإمام المهدي ضمن بقيّة أصحاب الإمام المهدي في نصرته ، ويبثّ وينشر ويبسط راية العدل في أرجاء الأرض كافّة .

إذن أوّل محطّة يستعرضها لنا القرآن الكريم في ظاهرة النبيّ عيسى أنَّ الله عز وجل قد طبع على قلوب اليهود بكفرهم وببهتانهم لمريم وقولهم بأنَّهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله ، وأنَّ الله طبع عليهم بسبب هذه المقالة ، وإصرارهم على جحود بقائه وعلى التمرّد ، ولكن سياق الآية يدلُّ على أنَّ ذمّ القرآن لمقالتهم هذه ليس فقط من جهة التمرّد على الله عز وجل ، بل لأجل أنَّ نفس الاعتقاد بهذه المقالة وهو كون النبيّ عيسى ليس على قيد الحياة يكون سبباً لسلب الإيمان من قلوب بني إسرائيل ، ولطبع الله على قلوبهم بالكفر ، ومن ثَمَّ فالقرآن الكريم يتابع هذه المقالة المنكرة في قوله تعالى : ( وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ ) ( النساء : 157 ) ، بنفي وإنكار هذه المقالة ، فيقول : ( وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) ( النساء : 157 ) ، ويصرّ القرآن الكريم على إبطال هذه المقالة ، ليس فقط من جهة تمرّدهم على الله ، بل من جهة أنَّ هذه المقالة زيف وباطل ، أنظر كيف يكرّر القرآن الكريم جملة : ( وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ ) ، وجملة : ( وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) ، وجملة ثالثة : ( وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ) ، وجملة رابعة : ( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ) ، وجملة خامسة : ( إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ ) ، وجملة سادسة : ( وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً ) ، ستّ جمل يركّز ويؤكّد عليها القرآن الكريم ، ويوثّق على زيف هذه المقالة ، لا من جهة تمرّدهم فقط ، كلَّا ، بل النقطة المركزية التي يشدّد ويؤكّد عليها القرآن الكريم بشكل أكثر هي زيف هذه المقالة ، بأنَّ النبيّ عيسى ليس بحيّ ، هذا التركيز من القرآن الكريم يهدف إلى أن يبصرنا وأن ينبّهنا وأن يوقظ اليهود ويوقظ النصارى ويوقظ البشرية كافّة إلى أنَّ إنكار حياة حجج الله الذين ادّخرهم الله عز وجل لوعده الإلهي بنشر العدل والقسط والعدالة والإيمان وإظهار الدين ، وحياة وبقاء هؤلاء الحجج في ظلّ خفائهم واستتارهم ، هذا الإنكار يؤدّي إلى سلب الإيمان ويطبع الله بسببه على القلوب .

وقد اتَّفقت اليهود والنصارى على دعوى وزعم قتل وصلب النبيّ عيسى ، غاية الأمر أنَّ النصارى كانوا يعتقدون بنبوّته ويعتقدون بأنَّ اليهود قد قتلوه ، لكن الله محييه مرَّة أخرى وسيعيد إنزاله إلى الأرض ليساهم في بسط دولة العدل ، وأمَّا اليهود فهم على اعتقاد ببشارة مجيء النبيّ عيسى ، ولكنَّهم يدَّعون أنَّ الذي قتلوه كان يزعم أنَّه النبيّ عيسى ، واتّهموا نبيّ الله بتهم ، منها أنَّه ساحر وابن ساحرة ، ورموا مريم بالبهتان والفاحشة والعياذ بالله ، فأيّاً ما كان فكلٌّ من اليهود على اختلاف معتقدهم في النبيّ عيسى ومن النصارى متَّفقون على أنَّه قد قتل ، وأنَّه قد صلب ومات ، إلَّا أنَّ القرآن الكريم يؤكّد أنَّ هذه المزعمة باطلة ، حيث في قوله تعالى : ( وَمَكَرُوا ) يعني بني إسرائيل واليهود ، ( وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ * إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ) ( آل عمران : 54 و 55 ) ، وقال تعالى : ( وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ) ( النساء : 155 ) ، يعني طبع الله على قلوب بني إسرائيل ، الجملة السابعة : ( بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) ، والجملة الثامنة : ( وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) ( النساء : 157 و 158 ) ، وهذه الجملة الثامنة في الواقع للتأكيد على عزّة وقدرة الله ، فهناك ثمانية جمل في سورة النساء تؤكّد وتدحض مزعمة اليهود والنصارى ، وبالذات مزعمة بني إسرائيل في عدم بقاء النبيّ عيسى عليه السلام على قيد الحياة ، وكذلك في سورة آل عمران .

وهنا يطرح هذا السؤال الذي يطرحه الكثير من الناكرين والجاحدين لحياة وبقاء الإمام المهدي من عترة النبيّ المطهّر المدَّخر الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلًا ، الكثيرون يجحدون حياته وبقاءه ، يقولون : ما فائدة إبقاء حياة إمام مدَّخر طول هذه المدّة لينشر ويبسط العدل في الأرض ؟ وهذا السؤال يقال حتَّى عن هذه العقيدة ، وهو السؤال المنكِر الجاحد لعقيدة حياة وبقاء الإمام المهدي الذي نبَّأنا القرآن الكريم في سورة الحشر وفي سور أخرى بأنَّه هو المصلح من عترة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأنَّه رجل يبثّ الله على يديه العدل ويملأ الأرض على يديه قسطاً وعدلًا ويظهر الدين على أرجاء الأرض كافّة ، هذا السؤال في الواقع يُثار أيضاً على هذه العقيدة القرآنية الأصيلة التي تدلّل على أنَّ النبيّ عيسى سينزل : ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) ( النساء : 159 ) ، ويبثّ الإيمان ويزيل ويبيد انحراف النصارى في إنكارهم وجحودهم لرسالة سيّد الرسل ولدين الإسلام ، وجحود اليهود وإنكارهم بقاء هذا المصلح الإلهي المدَّخر من قبل الله .

هذه المحطّة وهذا الموقف العقائدي المهمّ هو في الواقع أوّل المواقف وأولى المحطّات المهمّة التي يركّز ويؤكّد عليه القرآن الكريم في ظاهرة النبيّ عيسى عليه السلام التي هي مقترنة بظاهرة الإمام المهدي ؛ لأنَّ أتباع الديانات السماوية سواء اليهود أو النصارى أو المسلمين ، يتطَّلعون إلى نزوله للمساهمة والمشاركة في دولة الإصلاح التي يقودها كما في عقيدة المسلمين الإمام المهدي عليه السلام ، ويكون خليفة البشرية في الأرض ، رغم وجود نبيّ من أولي العزم ، لأنَّه لا نبيّ صاحب شريعة بعد سيّد الأنبياء ، فيكون تابعاً لشريعة سيّد المرسلين وللإمام المنصوب في هذه الشريعة وهو الإمام المهدي عليه السلام الثاني عشر من خلفاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، كما اعترف بذلك ( ابن كثير ) في تفسيره في سورة المائدة في ذيل قوله تعالى : ( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ) ( المائدة : 12 )[3].

ومن الجدير بالذكر أنَّ القرآن الكريم حينما يذكر الخلافة الإلهية يكون العدد اثنا عشر فيها رمزاً مقدَّساً في السنن الإلهية ، ويذكر ( ابن كثير ) في ذيل ذلك في تفسيره الأحاديث المعتبرة التي رواها المسلمون رغم اختلاف فِرَقهم أنَّ خلفاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشر ، فالقرآن الكريم إذن يؤكّد على هذه الحقيقة المهمّة التي يجب أن يتَّعظ بها المسلمون والمؤمنون من أنَّ المدَّخرين للإصلاح الإلهي والمُعدّين من قبل الله تعالى لإرساء العدالة في الأرض كالنبيّ عيسى ، وكالمهدي الذي هو رجل من عترة النبيّ ، ومن ثَمَّ أكَّد القرآن الكريم على مرتبة القلب لا مرتبة اللسان ، فهم وإن كانوا أهل الكتاب ، وإن كان المسلم في ظاهر الإسلام من أتباع الديانة الإسلاميّة ولا ينفي عنه هذا الانتماء ولا يسلب القرآن الكريم عنه هذا الانتماء ، ولكن يسلب عنه الإيمان ، والكفر في مقابل الإيمان ؛ لأنَّ الكفر يطلق في القرآن الكريم على معاني عديدة ، فهناك كفر مقابل ظاهر الإسلام ، وفي مقابل ظاهر أتباع الكتاب ، وهناك كفر مقابل الإيمان : ( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) ( الحجرات : 14 ) ، ففرَّق القرآن الكريم بين الإيمان والإسلام ، فظاهر الإسلام بالإقرار بالشهادتين ، ولكن الإيمان يحتاج إلى الاعتقاد بأصول متعدّدة ، فظاهر الإسلام هو بالإقرار بالشهادتين ليدخل الفرد في حظيرة وبيئة الإسلام ، ولكن إذا أراد أن يدخل في حظيرة وبيئة الإيمان التي هي أرفع درجة فلا بدَّ أن يقرّ بأصول الإيمان ، وهناك يؤكّد القرآن الكريم أنَّ الاعتقاد ببقاء حياة المصلح الإلهي المدَّخر من قبل الله تعالى لبثّ الإصلاح في الأرض هو من أصول الإيمان ، وإن لم يكن من أصول ظاهر الإسلام أو من أصول ظاهر اتّباع الكتاب في أهل الكتاب .

وهذه المحطّة الأولى التي نشاهدها في ظاهرة النبيّ عيسى وغيبته مهمّة جدَّاً . والذي نستوحيه من إفادات القرآن العظيم وبياناته البيّنة أنَّه يجب الاعتقاد بعد قيام الدليل والبراهين القرآنية على ادّخار مصلحين إلهيين وحجج إلهيين ادَّخرهم الله ليقيم بهم دولة العدل ودولة الإصلاح ، ويجب الاعتقاد ببقاء حياتهم في ظلّ غيبتهم وظلّ خفائهم ، فهذه عبرة مهمّة نستفيدها من ظاهرة الاعتقاد بالنبيّ عيسى التي يأمرنا القرآن الكريم بالإيمان بها ، وأن لا نحذوا حذو اليهود والنصارى في إنكار وجحد بقاء حياة النبيّ عيسى رغم خفائه ورغم غيبته ورغم عدم وصول عقولنا لفوائد وثمار هذا الخفاء وهذه الغيبة ، وهذا الإعداد الإلهي العظيم لساعة الظهور ولساعة الإصلاح رغم عدم وصول عقولنا لذلك رغم كلّ ذلك إلَّا أنَّه يجب أن نعتقد لكي نكون مؤمنين ببقاء حياة هذا المصلح عند الله عز وجل في السماء للإعداد للإصلاح ، فهذه نقطة مهمّة .

المحطّة الثانية : مفارقات في الغيبة :

ومع أنَّ كلا الغيبتين غيبة خفاء وليست غيبة زوال وجود ، إلَّا أنَّ هناك مفارقة واضحة بين غيبة النبيّ عيسى وغيبة الإمام المهدي عليه السلام ، حيث إنَّ غيبة النبيّ عيسى كما يصرّح القرآن الكريم هي الرفع ، كما قال تعالى : ( يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ( آل عمران : 55 ) ، والمقصود بذلك أنَّ النبيّ عيسى لا زال على قيد الحياة ولكنَّه في السماء عند الله عز وجل ، إلَّا أنَّ غيبة الإمام المهدي ليست في السماء ، وليست خفاءاً واستتاراً في السماء ، وإنَّما هي استتار في الأرض ، وليس استتاراً في بقعة خاصّة عن بقيّة البقاع ، وإنَّما المراد منها خفاء هويّته ، خفاء الشعور به ، فهي ليست غيبة نأي ولا ابتعاد ولا مزايلة عن ساحة الحدث ، بخلاف غيبة النبيّ عيسى ، فهي استتار في السماء .

وهذا فارق آخر بين غيبة النبيّ عيسى وغيبة الإمام المهدي عليه السلام ، وهو أنَّ الإمام المهدي في ظلّ غيبته هو الإمام الذي يضطلع ويقوم بأدوار ومسؤولية الإمامة والخلافة في الأرض عبر ما حدَّثنا القرآن الكريم من نماذج كما في غيبة النبيّ يوسف والنبيّ موسى والخضر عليهم السلام ، فهناك أجهزة متعدّدة يقوم بها الإمام المهدي في أدواره في النظام البشري وفي الأدوار السياسية للنظام البشري بنحو خفي ، والدوائر التي تحيط به من أولياء الله ورجال الغيب ، أي رجال الخفاء والسرّية من أولياء الله وأصفيائه ، كالخضر ومجموعته ومجاميع أخرى من الدوائر والأبدال والسيّاح والأركان والأوتاد وما شابه ذلك ، هؤلاء في الواقع يقومون بأدوار متعدّدة . ورغم هذا التخفيف في غيبة الإمام المهدي والشدّة في الطرف الآخر في غيبة النبيّ عيسى عليه السلام ، مع ذلك يطالبنا القرآن بأن نعتقد ونؤمن بحياة وبحجّية النبيّ عيسى وبنبوّته وبدوره المساهم في دولة الإصلاح ، دولة الإمام المهدي ، هذه الحجّية لم يأتِ آتٍ من المسلمين وينكرها ويقول : كيف أعتقد بحجّية النبيّ عيسى وهو في السماء ولا يمارس دوراً ؟ وهو إذن مبتعد عنّا ! رغم كلّ ذلك نشاهد الاعتقاد ببقاء حياة وحجّية النبيّ عيسى وبالإيمان بأنَّه سينزله الله ليبسط العدل ويُعين الإمام المهدي في نشر الدين ومؤازرته على بسط القسط والعدل .

وهناك مفارقة ثالثة بين غيبة النبيّ عيسى وغيبة الإمام المهدي ، ففي ظلّ غيبة النبيّ عيسى في السماء ربَّما يعسر تصوّر ممارسته لدور في النظام البشري طيلة حقبة غيبته وهي أطول من غيبة الإمام المهدي ، فقد تمادت وتطاولت غيبة النبيّ عيسى عليه السلام وإعداد الله وادّخار الله له لينزل ويظهر في دولة الإمام المهدي ، فهناك نوع من المفارقة الموجودة في المدّة الزمانية ، وهذه مفارقة ثالثة وهي طول مدّة غيبة النبيّ عيسى وقصر مدّة غيبة الإمام المهدي بالقياس لها .

وقد أثبت القرآن الكريم أنَّ للحجّية معنى يتلاءم ولا يتنافى مع الغيبة .

هذه محطّة ثانية مهمّة استفدناها من ظاهرة النبيّ عيسى المقرون اسمه باسم الإمام المهدي غيبةً وظهوراً ونزولًا وإصلاحاً .

المحطّة الثالثة : الحراسة الإلهية لوليّ الله :

المحطّة الثالثة التي يستعرضها لنا القرآن الكريم أيضاً في ظاهرة النبيّ عيسى وهي محطّة خلّابة وأخّاذة في نور البصائر القرآنية الاعتقادية ، وهي قوله تعالى : ( وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) ( النساء : 157 ) ، يريد القرآن الكريم إثبات أنَّ في قدرة الله وعزّة الباري تعالى أن يحفظ أولياءه ، وأن يحفظ حجّته رغم محاولة إقدام سلطات الوقت على تصفيته جسدياً ، فقد كان الملك الطاغية في بني إسرائيل يلاحق عيسى للإعدام والاستئصال بتحريك من بني إسرائيل ومن اليهود في عداوتهم له ، كما يحدّثنا القرآن الكريم إخباراً من الله للنبيّ عيسى : ( وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ ) ( المائدة : 110 ) ، فأبدوا له العداوة ومحاولة التصفية والإبادة كما يقول القرآن أيضاً : ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ * إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ) ، طبعاً هذا التوفّي ليس بمعنى الإماتة ، وسنأتي إلى شرح معناه : ( إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ( آل عمران : 54 و 55 ) ، فيبيّن لنا القرآن الكريم أنَّ ما حاول بنو إسرائيل واليهود ارتكابه من قتل وصلب النبيّ عيسى ، هو جحود لوجود الحراسة والضمانة الإلهية ، وهذا درس مهمّ . وهذا بنفسه جرى في ظاهرة الإمام المهدي ، وهي ظاهرة عامّة أنَّ سلطات الشرّ وأنظمة الشرّ وحكومة الظلم عندما تتوجَّس خيفة من مصلح ، وسيّما أنَّ النبيّ عيسى عندهم مبشّر وأنَّه يساهم في إقامة دولة الإصلاح ، ولذلك فإنَّ ملوك الشرّ وملوك الظلم وملوك الاستبداد يتوجَّسون خيفة من ظهور هذا المصلح ، ولذلك تنبري قوّة الشرّ لتصفية النبيّ عيسى وقتله ، كما هو الحال في العبّاسيين ، حيث سجنوا الإمام الهادي جدّ الإمام المهدي وسجنوا والد الإمام المهدي وهاجموا بيت الإمام الحسن العسكري مرَّات وكرّات ليقتلوه .

فالقرآن الكريم يحدّثنا عن محطّات عديدة فيها كبس الظالمون على أولياء الله وحججه الذين بُشّروا بأن يكونوا مصلحين . فكم من درس قرآني يُتّعظ به تجاه أولياء الله ، فهذا درس ثالث ومحطّة ثالثة .

ويحدّثنا التاريخ أنَّ الإمام الحسن العسكري كان يقطن بيته المحاصر في سُرَّ من رأى التي كانت قاعدة عسكرية خمسة فقهاء من فقهاء البلاط العبّاسي من وعّاظ السلاطين ليراقبوا الإمام الحسن العسكري . هكذا كانت الرقابة شديدة جدَّاً ، وكانت نسوة وجواري وبعض إماء الإمام الحسن العسكري يراقب حملهنَّ ، كما فعل فرعون مع نسوة بني إسرائيل كي يقتل كلّ ولد ذكر يولد في عصره ، ومع ذلك حقَّق الله عز وجل الإنجاز بوعده لتولّد النبيّ موسى وظهوره وإصلاحه وغيبته ثمّ ظهوره ثمّ دكدكته وإطاحته بعروش الفراعنة وهي أكبر عروش ظالمة آنذاك في الحقبة البشرية .

ولا يخفى أنَّ هناك من يروقه المسلك العلماني لإنكار الأحاديث النبويّة والتمرّد على دلالات القرآن الكريم في حقائق الوعد الإلهي ، وهذا أمر آخر ، ولكن الظالمين والأنظمة والعروش تتحسَّب كامل التحسّب ؛ لأنَّ هذا أمر يمسّ عروشها ، فكان لدى العبّاسيين توجّس وخيفة شاملة ، ولذلك كان عندهم تعبئة مهمّة للحيلولة دون تولّد الإمام المهدي ، أو إذا تولّد يكبسونه بالتصفية والإبادة ، كما فعل بنو إسرائيل بالنبيّ عيسى المبشّر بالإصلاح ، والإنجيل في اللغة العبرية يعني البشارة الملكوتية .

المحطّة الرابعة : التأكيد على بقاء عيسى عليه السلام حيّاً :

المحطّة الرابعة التي تطالعنا فيها الآيات من ظاهرة النبيّ عيسى هي : ( وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ ) ، إذن لا زال باقياً على قيد الحياة ، ( وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) ( النساء : 157 ) ، هذه ملحمة قرآنية مهمّة احتدمت فيها آراء المفسّرين وأقوالهم في قوله تعالى : ( شُبِّهَ لَهُمْ ) ؟ وكيف يحصل التشبيه ؟

إجمال ما يستعرضه لنا القرآن الكريم وما استعرضته الروايات لا سيّما روايات أهل البيت عليهم السلام والتي أخذ وانتهل منها بقيّة المفسّرين من الفِرَق الإسلاميّة كما يحدّثنا الإمام الباقر عليه السلام : أنَّ الجلاوزة حاصروا عيسى وكان مع حواريّيه الاثني عشر في بستان وفي دار ، وكان بإيعاز من بني إسرائيل واليهود ، وتقلقل الملك الذي كان مستبدّاً وغاشماً من بشارة كون النبيّ عيسى مصلحاً وأنَّه سوف يكون هو مبشّراً بالإصلاح وإقامة دولة الإصلاح والمساهمة فيها ، وما بثّه عنه اليهود ، فحوصر النبيّ عيسى ، وكان قد أخبره الله عز وجل بهذا الأمر وبكيد الكائدين ، كما تحدّثنا بذلك سورة آل عمران : ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ * إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ( آل عمران : 54 و 55 ) ، والتوفّي ليس الإماتة كما سنذكر وذكرته روايات أهل البيت عليهم السلام في تفسير بيان ظاهر هذه الآية ، حينها أخبر النبيّ عيسى حوارييه بما سيجري وأنَّ الله رافعه ، فمن منهم يضحّي ويفدي نفسه بأن يلقى عليه شبه عيسى ويقتل ويصلب ولكي يكون في درجة النبيّ عيسى في الآخرة ؟ فبادر أحدهم إلى ذلك ، وقال له النبيّ عيسى : كن أنت ذلك ، أي الذي يضحّي ويفدي نفسه ويلقى عليه شبه النبيّ عيسى ليحسبه اليهود هو ، فحينئذٍ أتى جلاوزة ذلك النظام ودهموا تلك الدار لقتل النبيّ عيسى ، إلَّا أنَّ النبيّ عيسى رفعه جبرئيل من روزنة الدار إلى السماء[4].

وفي روايات أهل البيت أنَّ وفاة النبيّ عيسى ليس بمعنى الإماتة ، وإنَّما قُبضت روحه في أثناء عملية الرفع ، ثمّ أعيدت له في السماء ، كما يتوفّى الله الأنفس في المنام ، فهي شبه الحالة المنامية ، كما تحدّثنا الآية الكريمة : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ) ( الزمر : 42 ) .

فاستعمل القرآن الكريم التوفّي في المنام ، كما استعمله في حالة نزع الروح ، فكلّ منهما يعبّر عنه القرآن الكريم ب - ( التوفّي ) ؛ لأنَّه يتمّ نوع ودرجة من نزع الروح ، وهنا التعبير بالتوفّي ( إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ) ليس معنى وفاة الموت ، وإنَّما هو وفاة شبه الحالة المنامية أو غيرها ، ولمَّا رفع إلى السماء ، أعيدت إليه الروح كما يستيقظ النائم مثلًا ، وهو حيّ باقٍ في سماء ربّ العالمين ، إلى أن ينزله الله لإصلاح الأرض ، كما تحدّثنا بذلك سورة النساء .

كما دهمت جلاوزة بني العبّاس عدّة مرَّات بيت الإمام العسكري لكبس وقتل الإمام المهدي ، وأحد المرَّات التي دهموا فيها بيت الإمام الحسن العسكري الذي كان مشتملًا على طابق سفلي تحت سطح الأرض كما هو متَّخذ في جملة من البلدان في العراق وإيران لأجل التبريد من حرارة الشمس ومتّصل ببقيّة طبقات المبنى والذي يدعى الآن ب - ( سرداب الغيبة ) ، والمراد منه أنَّه كان عليه السلام موجوداً في ذلك البيت ، وقام جلاوزة بني العبّاس بكبس ومداهمة البيت ، إلَّا أنَّ الله أعماهم كما أعمى قريشاً عندما دهمت بيت النبيّ ليلة مبيت علي في فراش النبيّ صلى الله عليه وآله ، فهم قد دهموا بيت النبيّ ، إلَّا أنَّه خرج من بين أيديهم فعمى الله أبصارهم ، هكذا حصل ، وعندنا في روايات أهل البيت مداهمة جلاوزة بني العبّاس لبيت الإمام الحسن العسكري المشتمل على الطابق الذي يُدعى بالسرداب ، إلَّا أنَّ الله غيّب شعورهم بالإمام المهدي ، فسمّي هذا السرداب ب - ( سرداب الغيبة ) ، وليس معنى سرداب الغيبة اختفاء الإمام المهدي فيه ، وإنَّما إخفاء وخفاء الشعور به ، كما أخفى الله شعور قريش الحاقدة المعاندة للنبيّ صلى الله عليه وآله ، عندما خرج من بين أيديهم في ليلة المبيت ، ثمّ هاجر وغاب في غار الثور ثلاثة أيّام ثمّ هاجر إلى المدينة المنوَّرة ، هكذا صنع الله ، وهكذا يخبرنا القرآن الكريم بأنَّ ذلك ليس عزيزاً على قدرة الله ، حيث إنَّ النبيّ عيسى عندما دهمه وكبسه جلاوزة الملك الظالم في ذلك الحين لتصفيته وإبادته حال الله دون أن يصلوا إلى ذلك ، ورفعه إليه وحرسه عن أن يصل إليه مكر الماكرين وكيد الكائدين ، وصنع الباري تعالى في ذلك أن ألقى شبه عيسى على أحد حوارييه الذي كان مفدّياً نفسه ، كما فدّى عليٌّ الرسول صلى الله عليه وآله بنفسه ليلة المبيت ، فألقى الله شبه عيسى على ذلك الحواري ، فأخذه جلاوزة النظام ظنّاً منهم بأنَّه عيسى ، فقتلوه وصلبوه ، وهنا تتبيَّن القدرة الإلهية ، فهذه محطّة مهمّة جدَّاً مرتبطة بغيبة النبيّ عيسى .

وهي قدرة الله تعالى في تغييب وإخفاء الحجج والأولياء بأن يعطّل الباري تعالى قدرات البشر في الإحساس والشعور والإدراك عن درك الحقيقة ، هذا هو الذي تحدّثنا به هذه الآية : ( وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) ( النساء : 157 ) ، فهل هذه خرافة والعياذ بالله ! هل هذا خيال داعب خيال البشر ! ؟ حاشا للقرآن عن ذلك ، إذن ما هو الواقع ؟ الواقع أنَّ هناك سُنّة إلهية وقدرة إلهية تفوق قدرة البشر رغم ما أوتوا من قدرة ، قدرة الله عز وجل على سلب البشر إدراكهم ، وهو الإدراك بالحسّ ، حيث يستطيع الله عز وجل أن يعطّله وأن يغيّبه عن الفاعلية والنشاط .

فماذا ينكر هؤلاء المنكرون والجاحدون لوجود الإمام المهدي عليه السلام وبقاء حياته ، ووجود مثل الخضر ومجموعته التي يحدّثنا القرآن الكريم عنها ؟ !

ماذا ينكرون في قدرة الله ؟ وماذا ينكرون في سُنّة الله ؟ فهذه سُنّة إلهية يخبرنا وينبئنا بها القرآن الكريم ، أنَّ في قدرة الله حفظ وحراسة أوليائه ، وتعطيل وإعجاز إدراك البشر وقدرتهم على الإحساس ، وهذا ليس هو الموضوع الوحيد الذي يحدّثنا به القرآن الكريم ، وهذه محطّة رابعة وملحمة ذات إثارات عقائدية عديدة ، فلينظر القرّاء الأعزّاء التفاسير في ذيل سورة النساء الآية مائة وسبعة وخمسون[5]، وفي سورة آل عمران الآية خمسة وخمسون[6]، هذا التشبيه من الله عز وجل على بني إسرائيل وعلى الظالمين هو حيلولة منه تعالى عن أن ينالوا وليّ الله وحجّته ، يُري الله المسلمين أنَّ الكافرين قِلَّة ، فقد كانوا يناهزون الألف ، ولكن قدَّر الله أن يُري المسلمين الكافرين قليلًا ، وأن يقلّل الكافرين في عيون المسلمين : ( وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ) ، أيضاً قلَّل الباري تعالى المسلمين في عين الكافرين ، لماذا ؟ وما الحكمة في ذلك ؟ الجواب : ( لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) ( الأنفال : 44 ) .

هل يدعو القرآن للسفسطة ؟

هل يدعو القرآن الكريم للتشكيك في الحسّ والسوق إلى السفسطة ؟

وهل يشكّك القرآن الكريم في الأخبار الحسّية والخبر الحسّي ؟

وهل يسقط القرآن الكريم حجّية الخبر المتواتر ، وهذا ينجم عنه الطعن في مصادر نقل الشريعة للبشرية ؟

في هذا البحث من الظواهر القرآنية والعقيدة بالإمام المهدي وغيبته ، ونحن لا زلنا في الظاهرة السادسة وهي ظاهرة النبيّ عيسى عليه السلام ، هنا يؤكّد القرآن الكريم أنَّ يد اليهود ويد الظالمين انحسرت عن أن تصل بسوء أو بإيذاء إلى النبيّ عيسى وهو النبيّ المدَّخر في الوعد الإلهي والبشارة الإلهية عند اليهود وعند النصارى ، وكذلك عند المسلمين ، ويؤكّد لنا القرآن الكريم أنَّ أحد نماذج القدرة الإلهية والعزّة الإلهية المنيعة هو أن تُزوي الإدراك الحسّي البشري عن أن يكون فاعلًا ، أو أن يكون نشيطاً مع المحيط الخارجي الذي يعيش فيه ، هذا الإدراك الحسّي المتمثّل بالحواس الخمسة قد يُعطَّل في قدرة الله ، أو يُزوى عن أن ينفذ الظالمون وقوى الشرّ مكرهم للحيلولة دون بلوغ التدبير الإلهي للغايات ، ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) ( آل عمران : 54 ) ، لأنَّ هذه القدرات من الله عز وجل ينعم بها على عباده ، ويزوّد بها عباده ، فإذا حجب هذه النعم فإنَّها تتعطَّل .

ففي عزّة الله وقدرته أن يحفظ أولياءه ، ويُعجِز قدرة البشر عن أن تصل إلى أوليائه بسوء ، حينئذٍ تُطرح هذه الأسئلة : أنَّه إذا كان زعم النصارى واليهود أنَّ عندهم خبراً حسّياً متواتراً بقتل اليهود للنبيّ عيسى عليه السلام ، وصلبه فكيف إذن يخطَّأ ويفنَّد هذا الخبر المتواتر ؟ وإذا فنّدت الأخبار المتواترة والحسّ ، فهل هذه سفسطة ؟ وبالتالي يكون طعناً فيما ينقل من تراث الشرائع السماوية إلى الأجيال اللاحقة ، فهل القرآن يدعو إلى كلّ ذلك ؟ حاشا للقرآن عن ذلك ، فإذن ما مغزى طعن القرآن الكريم فيما يدَّعيه اليهود والنصارى من إدراكهم الحسّي لقتل وصلب النبيّ عيسى : ( وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) ( النساء : 157 ) ؟

والجواب أنَّ هناك حقائق في فعل الله بأن يزوي الحسّ عن أن يبصر كلّ شيء ، وعن أن يدرك ؛ لأنَّ قدرة الإحساس هي في سبيل إفاضة إنعام من الله على البشر ، فإذا قطع الله سببه فإنَّ السبيل ينضب ، لا أنَّه يشكل لهم شيئاً آخر ، كتخييل السحر والتلاعب في الخيال لحجب الواقع عن حقيقة البصر ، كلَّا فليس الحال كذلك في قدرة الله ، وإنَّما في قدرة الله ينضبها ويعجزها ويفترها ويحجب عن إعمالها ، فهل هذا حينئذٍ دعوى من القرآن إلى التشكيك بالحسّ أو السفسطة ؟ كلَّا ، وإلى ماذا يريد أن يشير لنا القرآن الكريم ؟

في الحقيقة هذه الأسئلة المحتدمة ذكرها المفسّرون في هذه الآية : ( وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) ( الأنفال : 44 ) ، وحتَّى أصحاب السير حول حجب الله أبصار قريش والقبائل العربية عن أن تنال النبيّ صلى الله عليه وآله بسوء يوم خرج للهجرة ، حيث كانوا متواطئين ومتآمرين ليقتلوا النبيّ صلى الله عليه وآله أو يحبسوه ويسيطروا عليه ، فالسُنّة الإلهية هنا تريد أن تعطي للمؤمن وللمسلم مغزى ودرساً تبرزه لنا ، ويريد القرآن الكريم أن يقول : إنَّ عقائد الشريعة وأصول الإيمان بالشريعة ليست كلّها بمقتضى الحسّ ، أو أن تحبس في هذا المنبع الضيّق فقط ، نعم الحسّ يعوَّل عليه وهو منبع ومصدر ، ولكنَّه ليس كلّ شيء ، وبعبارة أخرى يريد القرآن الكريم أن يفنّد أصالة الحسّ ، لأنَّ القائلين بأصالة الحسّ يذهبون إلى أنَّ ما أوصلنا إليه الحسّ نؤمن به ، وما غاب عن الحسّ لا نؤمن به ، وهذا يؤدّي إلى الكفر ، مع أنَّ الغيب ليس من الضروري أن يكون في عوالم أخرى غير عالم الدنيا وعالم الأرض ، فكلَّما يغيب عن حسّ الإنسان يكون غيباً ، وكلَّما يغيب عن حسّ البشر وإن كان موجوداً في كينونة الأرض يكون غيباً بالنسبة إليه ، فإذا عوَّل البشر في مصادر المعارف الدينية على حكر وحصر المصادر في الحسّ فهنا تكون الطامة الكبرى وهنا تكون الرزيّة كلّ الرزيّة وهنا الداهية الدهياء .

والقرآن الكريم في هذه الحقيقة الثانية يريد أن يسلّط الضوء ويدقّ الجرس للتنبيه والإنذار للمؤمنين والمسلمين واليهود والنصارى ولكلّ أتباع الديانات السماوية ، أنَّ الحسّ ليس هو الأمر والمصدر الأوّل والأخير والوحيد للمعرفة ، فإنَّ ذلك يسبّب أزمة في المعرفة الدينية وغيرها . نعم هنا حيث يؤكّد القرآن الكريم تخطئة اليهود والنصارى فيما ادّعوه من الخبر المتواتر الحسّي من قتل النبيّ عيسى وصلبه ، وطبعاً اختلف بعد ذلك اليهود والنصارى في أنَّ النبيّ عيسى أحيي بعد ذلك وهو على قيد الحياة كما يذهب إلى ذلك النصارى ، أو كما يذهب إلى غير ذلك اليهود ، حيث يقولون : إنَّ الذي زعم أنَّ هذا هو النبيّ عيسى فإنَّه قد مات ، وأمَّا النبيّ عيسى الموعود بالبشارة الإلهية الذي يساهم في دولة الإصلاح في آخر الزمان فإنَّه سينزل ويبعث بعد ذلك ، فهم يتَّفقون في بعض النقاط ويختلفون في جملة منها ، يتَّفقون في أنَّ النبيّ عيسى سيظهر في آخر الزمان وينزله الله عز وجل للمساهمة في دولة الإصلاح الإلهي الشامل ، ويتَّفقون أيضاً في أنَّ الذي أنبأ الناس بنبوّته هو عيسى بن مريم وقد قتل وصلب ، نعم يختلفون بأنَّ الذي قُتل وصُلب هل هو النبيّ عيسى حقيقة كما تؤمن بذلك النصارى وتكفر بذلك اليهود ، وأنَّ هذا الذي قُتل وصُلب هو باقٍ على قيد الحياة ، فهذه موارد ونقاط اختلاف بينهم كما أنَّ هناك موارد ونقاط وفاق أيضاً . على أيّ تقدير فالقرآن يخطّئهم فيما زعموه من الخبر المتواتر والخبر الحسّي بأنَّ النبيّ عيسى قتل أو صلب : ( وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) ، ألقى شبهه على أحد حوارييه فظنّوا أنَّه عيسى ، ( وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) ( النساء : 157 و 158 ) .

هنا يأتي هذا السؤال : هل أنَّ القرآن يطعن في الحسّ بكونه مصدراً من مصادر المعرفة ، ومصدراً من مصادر نقل الشريعة إلى الأجيال الأخرى ؟

كلَّا ، فالقرآن الكريم ليس في صدد الطعن في الحسّ ، بل في صدد الطعن في مذهب أصالة الحسّ ، يعني المذهب الذي يقول بأنَّ ما يؤدّي إليه حسّنا فهو حقّ ، وما لا يؤدّي إليه حسّنا فهو باطل ، هذا المذهب الحسّي يقف القرآن الكريم في صدد إبطاله وتخطئته ، أي إنَّ الحسّ ليس هو المصدر الأوّل والآخِر في المعرفة الإيمانية الدينية . والحقيقة الثانية أيضاً التي يؤكّدها ويشيّدها القرآن الكريم من خلال هذه الملحمة أنَّ هناك حججاً وبراهين تعلو حجّية الحسّ ، فليس للحسّ المرتبة الأولى وأنَّ ما يكون من حجج أخرى هي في المراتب الدنيا ، بل هناك جملة من الحجج والبراهين تفوق وتعلو الحسّ ، فإذا أدَّت تلك الحجج إلى غير ما يؤدّي إليها الحسّ ، فيجب أن يؤمن الفرد البشري مؤمناً كان أو مسلماً بما تؤدّي إليه تلك الحجج ، لا أنَّه يُنكر ويجحد ما تقوم به البراهين ذات الحجج الأعلى والمراتب الأعلى ، كأن ينكرها لأجل نوع من المشاغبة الحسّية لتلك الحجج مثلًا ، ولو نظر الإنسان وبصر إلى طرفي شارع ممتد طولًا إلى الأفق يرى الواقف في الحقيقة أن طرفي الشارع وجنبتيه في نهاية امتداده في الأفق قد التقتا وكأنَّما أصبح كالمثلث ، ولكن هل العقل يصدّق هذه الصورة البصرية التي يلتقطها الحسّ ؟ بالتأكيد لا يمكن أن يصدّقها العقل ؛ وذلك لأنَّ البرهان قد قام لدى العقل على خلاف ما يتراءى في الحسّ ، فهذا لا يعني أنَّ الحسّ لا يعوَّل عليه ، لكن إذا قام البرهان الذي يفوق حجّية الحسّ فإنَّه يعوّل على ذلك البرهان ، فالتعويل على الحسّ محدود لا مطلق ولا منحصر فيه .

مثال آخر نضربه في الحسّ : أنَّه لو مسك شخص شعلة من النار وأدار تلك الشعلة بقوّة ، فماذا سيبصر الإنسان الناظر لذلك المحرّك والحامل للشعلة ، سيرى أنَّ الشعلة من بعيد كحلقة نارية ، لكن هل العقل يصدّق أنَّ هناك حلقة نارية ؟ كلَّا ، لا يصدّقها العقل ؛ لأنَّه يعلم بأنَّ هذه الشعلة هي واحدة كنقطة ، لكن بسرعة دورانها تكون في خلايا شبكية العين والبصر بنحو تعاقبي صوراً متعدّدة للنار فتلتئم فيتراءى في خداع البصر لدى الإنسان أنَّ هناك حلقة نارية . هذه ليست تشكيكات في الحسّ تؤدّي إلى السفسطة ، كلَّا ، فهذه الأمور ليست ظواهر ولا شواهد للطعن في الحسّ مطلقاً ، ولا إسقاط الحسّ عن المعرفة ومصدر المعرفة من رأس بالمرَّة ، كلَّا وليس الحال كذلك كما يقول السفسطائيون ، وإنَّما هذه الظواهر وهذه البيانات من القرآن الكريم ومن تجربة عقل البشر تبيّن وتبرز أنَّ الحسّ ليس المصدر الوحيد للمعرفة ، بل المعرفة البشرية في الحقيقة لها مصادر ومنابع متعدّدة أخرى ، هذه حقيقة .

وحقيقة ثانية هي أنَّ تلك المصادر للمعرفة قد تعلو الحسّ رتبةً ، ولا توافق حجّية الحسّ عندما تتصادم مؤدّيات ونتائج تلك الحجج مع الحسّ فيعوَّل عليها دون الحسّ ، وهذا درس عقائدي معرفي عظيم يكشفه القرآن الكريم في ظاهرة النبيّ عيسى وغيبته ، وهو أنَّه قد وصلكم من سيّد الأنبياء وسيّد الأنام أنَّ خلفاءه اثنا عشر ، وأنَّ الأرض لا تخلو من حجّة ، وأنَّ الله عز وجل أخبركم أنَّه جاعل في الأرض خليفة .

هناك بيّنات وبراهين عديدة لدى اليهود والنصارى من التوراة ومن قول وإنباءات النبيّ موسى على أنَّ النبيّ عيسى هو الذي سيساهم في دولة الإصلاح الشامل ومؤازرة الإمام المهدي ، وإنَّما يزعم اليهود أنَّ عيسى بن مريم كان يدَّعي ذلك المقام وأنَّه ليس هو النبيّ عيسى ، فمن ثَمَّ برَّروا لأنفسهم الإقدام على قتله وصلبه واتّهموه بأنَّه ساحر كذّاب والعياذ بالله هكذا قذفوا النبيّ عيسى ، وإلَّا فهم متَّفقون مع النصارى بأنَّ الله سيظهره ، فقد كان كل من اليهود والنصارى على إيمان بهذا الوعد الإلهي الذي قد تلقّوه على لسان النبيّ موسى ، وأيضاً على لسان النبيّ عيسى بالنسبة للنصارى حيث يعتقدون بنبوّته ، وكانوا هم على بيّنة ويقين من هذا الوحي الإلهي ، فكيف يتركونه ويركنون إلى الحسّ ، وإن كان أمام أعينهم كأنَّما النبيّ عيسى قتل وصلب ، لكن كيف يستندون ويركنون إلى الحسّ ويتركون الوحي الذي هو فوقه ؟ فهنا يعالج القرآن الكريم هذه الجدلية ويعالج هذه المجاذبة ويرسم هذه الموازنة الخطيرة جدَّاً في معركة المعرفة البشرية وفي المعركة الدينية ويقدّمها عبرة للمسلمين وللمؤمنين القارئين للقرآن الكريم ، أنَّه إذا كانت لديكم هناك براهين من الوحي الإلهي على أمر ما عقدي واعتقادي فيجب أن تتمسَّكوا بمثل هذا البرهان الوحياني ، ومن غير الصحيح الركون إلى الحسّ ومشاغبات الحسّ التي تؤول نتيجة لزلزلة الإيمان ، وإنَّما يجب الاعتقاد بتلك البراهين الوحيانية التي هي أقوى درجة . من هنا احتدم الاختلاف في أقوال المفسّرين من كلّ المذاهب الإسلاميّة حول تفسير هذه الآية : ( وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ) ( النساء : 157 ) ، وما هو مراد القرآن الكريم ؟ وما هي حكمة الله عز وجل في إلقاء هذا التشبيه ؟ فقد حاصوا وباصوا وتشتَّتت وتكثَّرت أقوالهم في تفسير هذه الآية ؟ وما هو تفسير هذه الظاهرة ، بأن يلقي الله سبحانه وتعالى شَبَه النبيّ عيسى على فرد آخر ، وبالتالي يفنّد مزعمة اليهود والنصارى بقوله عز وجل : ( وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً ) ؟ فالقرآن الكريم يعبّر عن الركون إلى الحسّ أنَّه ركون إلى الظنّ في مقابل يقين الحسّ ، فكيف يمكن أن يكون ظنّاً ولا يكون يقيناً[7]؟ هذه إضاءة هامّة شديدة في القرآن الكريم لبيان أنَّ الاستناد إلى الحجّة الدنيا وترك الحجّة العليا والركون إلى مستند أضعف ومتاركة المستند الأقوى هو نوع من اتّباع الظنّ وترك اليقين ، رغم أنَّه في حدّ نفسه ذو درجة محدودة من اليقين ، ولكن هناك ما هو أشدّ درجة وأوسع في اليقين وهي المستندات الفطرية والعقلية والوحيانية الشرعية ، فمتاركة تلك المستندات والحجج الأقوى والانتقال إلى ما هو دونها يعتبر اتّباعاً للظنّ ؛ لأنَّه دائماً حيطة المستند والحجّية الأدنى هي دون حيطة ودائرة وهيمنة وقدرة المستند الأعلى ، وإلَّا فترتيب المستندات والحجج والبراهين كما مرَّ بنا منتظمة والمغزى فيها أنَّ الحجج والبراهين حيطتها محدودة ، ودائرتها ليست واسعة ، وقدرة الإبصار والاستكشاف بها والاستطلاع بها محدودة ، فلا تجعلوه غير محدود ، ولا تغالوا في الحسّ ، وليست هذه دعوة من القرآن بالتفريط بالحسّ ، ولكن لا تعطوا الحسّ فوق قدره ولا فوق شأوه . فالحسّ له درجات محدودة ومنظار يمكن النظر به إلى بقعة محدودة ، وإذا أردتم أن تنظروا بمنظار إلى بقاع أوسع وحدود أشمل فعليكم الاستناد إلى حجج أخرى أعلى شأناً ، كالأمور الفطرية في الإنسان ، وكالرجوع إلى معرفة نفسه ، وكالرجوع إلى البراهين والحجج الوحيانية ، فالإنسان المؤمن الموحّد يؤمن بالله ، مع أنَّ الإيمان بالله ، وكثيراً من المعارف ليس في متناول آلية الحسّ ولا قدرة الحسّ ولا محدودة الحسّ ، ومع ذلك يشير القرآن الكريم كما مرَّ في سورة البقرة : ( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) ( البقرة : 2 ) ، أوّل صفة بارزة فيهم هو الإيمان بالغيب ، والقرآن كتاب هداية لمن يؤسّس المعرفة لديه ، لا على أساس الحصر في الحسّ ، فإذا أريد أن يؤسّس العقل الإسلامي ، وهيكل العقل الإسلامي ونظامه على الحسّ حينئذٍ سوف تنحسر آفاق في المعرفة كثيرة ، فالإنسان العارف والإنسان الواعد هو الذي يستند إلى العلم ، فمن مدائح القرآن العظيم هي المدائح العلمية ، والإنسان قد يمدح بصفات علمية ، ويمدح بفضائل علمية . ومن مدائح القرآن العظيم الكبيرة للمتّقين الذين يستطيعون أن ينهلوا من هدى الكتاب ، في أوّل مطلع سورة البقرة ، أوّل صفة بارزة علمية أنَّهم : ( يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ، يعني أنَّهم لا يجعلون تمام مستند معرفتهم ولا يحصرون حصراً حكرياً منبع معرفتهم في الحسّ ، فالإنسان الذي يقبع في سجن الحسّ هو دون البهيمة ؛ لأنَّنا نرى في الحيوانات بعض الصفات التي تدلُّ على أنَّها تشعر بكثير من ما وراء الحسّ ، كما في بعض الحالات التي رصدت في علم الأحياء . فالمقصود أنَّ أبرز صفة في تكامل الإنسان هو الإيمان بالغيب ، أي إنَّ منبع المعرفة أصلًا ، والأجهزة التي زوّد بها الإنسان تكويناً في ذاته هي في الواقع تتخطّى الحسّ ، فكيف يسجن الإنسان نفسه في الحسّ ويقبع فيه مع أنَّه مصدر كأحد المصادر للمعرفة وليس هذا محلّ طعن من الآيات الكريمة في ذلك ، وإنَّما المراد أنَّه ليس من الصحيح إعطاء الحسّ فوق دوره وفوق درجته ، فإذا أراد الإنسان أن يوسّع دائرة إدراكه ودائرة اطلاعه يجب أن يتزوَّد بآليات أقوى من الحسّ ، كالروح ، القلب ، الضمير ، الوجدان ، فيدرك العقل ما لا يدرك الحسّ ، والآن في العلوم التجربية الحديثة يدركون أشياء لا يدركها الحسّ ، فالذرّة مثلًا إلى الآن ورغم وجود الانشطار النووي والمفاعل النووي والدمج النووي إلَّا أنَّ علماء الذرّة والبحوث النووية يعترفون أنَّهم لم يتوصَّلوا إلى إدراك الذرّة ونواة الذرّة بأجهزة حسّية كالميكروسكوب أو المجاهر المتطوّرة ، وإنَّما يتعاطون مع الذرّة من خلال آثارها وتداعياتها ونتائجها ، ولم يستطع الإنسان أن يبصر الذرّة بالحسّ ، فكيف وصل إلى استثمار هذه النتائج الكبيرة من البحوث النووية العلمية ؟ أليس ذلك كان بإدراك عقله حيث يرى آثاراً وتداعيات يستنتج العقل بها أنَّ هناك شيئاً . كذلك نجد كثيراً من بحوث الطاقة وكثيراً من بحوث البيئة وبحوث الطبيعة حتَّى المادية لا تكون متناولًا ليد وقدرة الحسّ وآلية الحسّ وإنَّما هي متناول لآلة العقل .

فمن الظلم أن يجعل الإنسان الحسّ هو الأمير والكبير والرئيس في مصدر المعرفة ، وإنَّما الحسّ خادم من خدم مَلِك المعرفة ، والعقل له درجات من الوجدان والقلب والروح ، فهنا نجد القرآن الكريم يؤكّد على هذه الظاهرة ، وهي أنَّ الاستناد إلى الحسّ كمصدر أصلي ومركزي وعمومي للمعرفة يؤدّي إلى الغواية والضلال ، ومن ثَمَّ يعيب على النصارى واليهود أنَّهم رغم وجود المعاجز والبراهين الوحيانية لديهم على لسان النبيّ موسى ولسان النبيّ عيسى بأنَّ النبيّ عيسى سوف يبقى ويشارك في دولة الإصلاح ويبقيه الله حيّاً ويدَّخره لذلك ، رغم كلّ هذه البراهين والمعاجز الوحيانية استندوا إلى الحسّ ، وقالوا بأنَّ الذي قُتل في صورة النبيّ عيسى هو الذي قُتل ، ولم يحتملوا أنَّ الحسّ يمكن أن يشتبه فيه ، وأنَّه إذا جُعلت المحورية للحسّ فسوف يدبُّ التشكيك فيه وسوف يعطى حجماً أكبر من حجمه ، بخلاف ما لو جعل العقل مهيمناً عليه واستند العقل إلى براهين بيّنة .

وقد رصد العلماء ما يقارب من أربعمائة أو خمسمائة مورداً للحسّ يخطئ فيه ويصحّح له العقل ، وليس هذا تهاوناً أو استهانة بالحسّ ، وليس هذا تشكيكاً بالحسّ ، ففرق بين المنهج السفسطي والمنهج الإيماني ، والمنهج العقلاني ، فالمنهج السفسطي يريد أن ينسب الحسّ إليه ، أمَّا المنهج العقلاني والمنهج القرآني فيريد أن يعطي الحسّ مساحة محدودة . والصحيح أن لا يغالي فيه ولا أن يفرط فيه ، فالجادّة الوسطى هي الاعتدال ، الحسّ له قيمته لكن بقدره الذي لا يجعل من الحس ملك المعرفة ، وإلَّا سوف يؤدّي به إلى إنكار نتائج هي فوق طاقته وقدرته ، وهذا ما لا يستطيع حتَّى علماء العلوم الحديثة التجريبية الركون إليه ، لأنَّ كثيراً من النتائج التي يتوصَّلون إليها ويبنون عليها بعض النظريات ليست في متناول يد الحسّ ، وإنَّما هي في متناول يد العقل والاستنتاج العقلي .

فهناك وسطية ، وهي أنَّ الحسّ لا يفرّط فيه كالسفسطة حيث تنسفه نسفاً ، ولا يغالى فيه ، بل يعطى درجته ويعطى للعقل هيمنة فوقه ، وللروح وللوجدان وللعيان الغيبي والإعجازي الذي يدركه الإنسان بتوسّط أجهزة يزوّد بها الإنسان بذاته تكويناً وخلقة ، وهذا يحلُّ المشكلة حينئذٍ ، فأحد الإشكالات التي يترنَّم بها الكثيرون الجاحدون للعقيدة بالإمام المهدي وحياته وغيبته أنَّه لِمَ لا يرى ؟ وكيف لا يرى وهو إمام ؟ وكيف ؟ وكيف ؟ كلّها استناد إلى الحسّ ، وأمَّا إذا قامت لديك البراهين من القرآن الكريم على أنَّ إمامة أهل البيت باقية ، وأنَّ للقرآن عِدلًا وشريكاً أمر الرسول صلى الله عليه وآله بالتمسّك بهما : ( إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، فإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا علىَّ الحوض )[8]، يعلمون كلّ تأويل الكتاب ، وإلَّا لكان بعض الكتاب معطَّلًا ، وحاشا للقرآن أن ينزل ويكون معطَّلًا .

وهناك آيات وبيّنات عديدة تبيّن استمرار بقاء العترة النبوية ، وكذلك آيات الإمامة في ذرّية إسماعيل وقد مرَّ استعراضها دالّة على بقاء الإمامة في عترة النبيّ صلى الله عليه وآله وبقاء إمامتهم ، فكيف يتَّجه الإنسان إلى مشاغبات الحسّ وينكر ويجحد عقيدة قرآنية أصيلة وهي بقاء العترة قرينة وعدلًا للقرآن الكريم ومفسّرة لتأويل الكتاب .

القرآن لا يفتأ يؤكّد على أنَّ الذي لا ينتظم إليه المخروط الهرمي لنظام المعرفة ، سوف تأخذه دلالات بعض المصادر في المعرفة يميناً وشمالًا ، وتأخذه في سوح التيه وبحار الظُلمة ، وأنَّه لا بدَّ أن يكون نظام المعرفة لدى الإنسان أو لدى المؤمن رتيباً منتظماً منظومياً ، لذلك يخطّئ القرآن الكريم هنا ويضلّل اليهود والنصارى في استنادهم للحسّ ومتاركتهم للبيّنات السابقة ، وقد مرَّ بنا أنَّ اليهود لا زالت تعتقد أنَّه سوف يظهر النبيّ عيسى ، وأنَّ الذي ادّعى أنَّه النبيّ عيسى في السابق هو ساحر كذّاب دجّال والعياذ بالله ، هكذا يقذفون النبيّ عيسى ، مع أنَّ لديهم البشائر الوحيانية الإلهية ببقاء النبيّ عيسى باعتباره مشاركاً مهمّاً وكبيراً في دولة الإصلاح للإمام المهدي عليه السلام ، كما نقل عن بعض نصوص الإنجيل التي فيها البشائر بخلق الله اثني عشر عظيماً من سلالة إسماعيل ، ويكون عليهم سيّدٌ وهو سيّد الأنبياء محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وشريعته لأرجاء الأرض كافّة ، فالخلاصة أنَّهم لديهم بشارات متعدّدة وبيّنات وحي ، وكيف تترك ويعرض عن بيّنات الوحي إذا كانت بيّنة وبرهانية وإعجازية مع مسرح حسّي قد تدخل في الالتباس أو قد يدخل في الستار أو قد يسدل عليه بشيء من الإبهام والهلامية ، كما نرى المشاهد الحسّية البعيدة جدَّاً كأنَّها صغيرة ، كالمجرّات العظيمة تُرى صغيرة الحجم ، فهل هي في الواقع بهذا الحجم الصغير ؟ كلَّا هذه في الواقع معطيات الحسّ ، فإذا أراد الإنسان أن يستنتج ويقصر استنتاجه عليها ، وليس على بصيرة العقل ومحاسبة المعادلات الرياضية والهندسية فسوف يخطئ حينئذٍ في النتيجة .

إذن لا يمكن الركون والاتّكال على معطيات الحسّ بما هي ، لأنَّ هذه المعطيات لها أفق معيَّن هو بالنسبة إلى أفق معرفة الإنسان يعتبر أفقاً قزمياً ؛ لأنَّ أفق معرفة الإنسان ذو شموخ علياوي ، وله منابع أكثر ثروة في مصدر المعرفة ، فالذي يريد أن يؤكّده القرآن الكريم ، هو أنَّ الالتباسات الحسّية لا توجب زعزعة إيمانكم بحجّة الله وببقائه وبادّخاره وبحياته .

إذن في هذا المقطع وهذا المحور من ظاهرة النبيّ عيسى يشدّد القرآن من نكيره وتخطئته وتضليله لمقالة اليهود والنصارى في تصفيته وإبادته ؛ لاستنادهم إلى الحسّ ، مع أنَّه قد تبيَّنت لهم معطيات حياتية وعقلانية من معاجز النبيّ عيسى ، ومعاجز النبيّ موسى أنَّه سوف يدَّخره الله حيّاً باقياً لدولة الإصلاح ، فكيف يستندون إلى حسّ قابل للتأويل العقلي ، وهذا ليس من تلاعب العقل بالحسّ ، بل هذا من ترشيد العقل للحسّ ، وكما ذكرنا أنَّ المجرّات تُرى من بعيد كأنَّها صغيرة ، فلا بدَّ أن تعطي تفسيراً عقلياً رياضياً يدلّل بأنَّها ليست من الصغر كما يشاهدها الإنسان حسّاً ، وإنَّما هذا الحسّ يحكم لدى الإنسان ، ولكن بسبب تفسير العقل وترشيد العقل لمعطيات الحسّ هنا تصبح المعلومات أدقّ تفسيراً . يريد القرآن الكريم أن يؤكّد لنا على ابتلائنا بمحنة وعقيدة تستمرّ قروناً ، ألا وهي بقاء رجل من العترة صاحب القرآن وقرين القرآن وعدل القرآن ، كلّ هذه البينات الكثيرة التي لسنا بصدد التفصيل فيها عندما يلتقي بها المسلم ، نشاهد كثيراً من كبار أصحاب الأسماء اللامعة من المذاهب الإسلاميّة الأخرى ذوي الكتابات العريضة الطويلة يشكّك في مثل هذه المصادر الوحيانية والبيّنات العقلية بسبب التباس حسّي لديه كابن خلدون ، وتنظر صاحب كتاب ( تاريخ الإسلام ) وغيره يقولون : إنَّ ابن الحسن العسكري قد قتل أو عدم . وأنَّه قد داهمت جلاوزة بني العبّاس بيت الإمام الحسن العسكري وصفّوا من فيه ، وكان الإمام الحسن العسكري تحت المراقبة الشديدة من السلطة العبّاسية ، فكيف يمكن أن يفرّ منهم ابن الإمام الحسن العسكري ؟ وكيف يمكن أن يبقى سالماً ؟ وكيف يمكن أن يكون هو المهدي ؟ فلا بدَّ أن ننساق مع ما أشيع آنذاك من الدولة العبّاسية أنَّهم قد صفّوا ابن الإمام الحسن العسكري وكبسوه في البيت وأعدموه واغتالوه ، وهل يمكن أن يفلت إنسان من هذه المراقبة الشديدة التي تقيمها دولة عظمى تمثّل أكبر دولة عظمى آنذاك والتي تساوي مساحتها مساحة أربعين أو خمسين دولة الآن ، والحال أنَّ الإمام الحسن العسكري كان مسجوناً عسكرياً تحت قبضة بني العبّاس ، وكذلك أبوه الإمام الهادي ، تحسّباً من تولّد ابنهم الموعود بأن يكون مهدي هذه الأمّة وعلى يده ينتشر القسط والعدل ، فترى ابن خلدون يقول عبارته التي قرأناها فيصف أتباع مدرسة أهل البيت وإن كان الوصف في الحقيقة لائق به لا بهم بقوله : ( وهؤلاء من الجهل بحيث ينتظرون من يقطع بموته )[9]، هكذا يبرز لديه القطع المستند إلى مثل هذه العناصر الحسّية ، هذا هو الذي يخطّئه ، فبيّنات إمامة أهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم كثيرة ، وزعزعة التمسّك بهذه البيّنات والتنكّر لهذه البيّنات الوحيانية في الأحاديث النبوية المتواترة مقابل دعوة حسّية رصدها المؤرّخون أو رصدتها الدولة العبّاسية بأنَّها كبست بيت الإمام الحسن العسكري وصفَّت من فيه وقتلت إحدى جواري الإمام الحسن العسكري التي كانت حاملًا وأسقطت الحمل أو أعدم أو غير ذلك ، هذه ملحمة في الحقيقة ، فإذا استندنا إلى الحسّ وركنّا إليه ونبذنا آيات الكتاب في القرآن الكريم ونبذنا الأحاديث النبوية سنكون قد وقعنا فيما قد وقع فيه نفس اليهود والنصارى الذين ضلَّلهم القرآن الكريم في هذا الفعل الخاطئ ، حيث استندوا في المعرفة إلى الحسّ الملتبس وتركوا بيّنات الوحي ، وتركوا بيّنات العقل وتركوا بيّنات الفطرة ، وتركوا منابع المعرفة والعقيدة والإيمان ، وهذه طامّة كبرى ، وكان أحدهم يقول : إنَّ اعتقادي بالإمام المهدي لا بدَّ أن يكون مستنداً إلى الحسّ ، فإن لم يكن هناك أيّ معطية حسّية مع أنَّها موجودة بحمد الله فيما روته الإماميّة من مدرسة أهل البيت من بيّنات كثيرة على ولادته حسّاً واختفائه عليه السلام وما شابه ذلك ولكنَّنا نجاري هذا القائل حيث يقول : إن لم تتكوَّن لدي معطيات حسّية فلا أؤمن به ! ، أنظر لهذه المقالة التي يفنّدها القرآن أشدّ تفنيداً ، إنَّ المستند للإيمان والمعرفة بحجج الله وبقائهم هؤلاء المدَّخرون للإصلاح في الوعد الإلهي يجب أن لا يكون حبيس الحسّ .

الأدلّة والمعطيات الحسّية في ولادة الإمام المهدي عليه السلام :

الكثير من التساؤلات بأقلام الكتّاب السابقين واللاحقين من الكتّاب الإسلاميّين يرفعون هذا الاعتراض ، وهو : لماذا لا يكون في الإيمان والاعتقاد بالإمام المهدي عليه السلام معطية حسّية ؟

إنَّ المعطية الحسّية موجودة فيما تناقلته وروته الإماميّة من أتباع مدرسة أهل البيت في ظلّ الظروف القاهرة الأمنية الكابسة الخانقة من دولة بني العبّاس ، وهذا بيّن لدى كلّ المسلمين ، أنَّ الدولة العبّاسية استقدمت الإمام الهادي والإمام الحسن العسكري من المدينة المنوَّرة ، وأقامت عليهما رقابة عسكرية حتَّى في بيتهما عليهما السلام ، وفي بعض الأخبار الروائية والتاريخية التي يروونها أنَّ عشرة من جلاوزة وعلماء بلاط بني العبّاس كانوا يمكثون في بيت الإمام الحسن العسكري للرقابة ، إلى هذا الحدّ كان هناك استنفار أمني بدرجة قصوى لدى الدولة العبّاسية تجاه الإمام الحسن العسكري وتجاه الإمام الهادي ، خمداً لأنفاس الإمامة حسب ما يتوهَّمون لإطفاء نور إمامة أهل البيت عليهم السلام ، وتحسّباً من مجيء ولدهم الثاني عشر الموعود بأن يملأ الأرض قسطاً وعدلًا ، ضمن هذه الظروف القاهرة الخانقة الكابسة الظالمة لدولة عظيمة آنذاك ، يقول : لِمَ لا تبدي لي مسحة حسّية وردية ؟ ! وكأنَّما هو يتنكَّر إلى المعطيات الموجودة التي أجمعت عليها البشرية والمسلمون آنذاك في ذلك الظرف التاريخي الخانق ، ورغم ذلك هناك معطيات حسّية كثيرة ، لكن كيف يسوغ لمسلم يقرأ القرآن الكريم ويهتدي ويسترشد من القرآن الكريم أن يجعل من الحسّ المحور الأوّل والأخير ويترك الدلائل الوحيانية البرهانية الأخرى ، وهذا القرآن يفنّد اليهود والنصارى ويضلّلهم ويسلب عنهم الإيمان بسبب أنَّهم جعلوا الحسّ مصدراً لمعرفتهم واعتقادهم وإنكارهم لبقاء حياة النبيّ عيسى ، وأنَّه صفّي وقتل وأعدم وأبيد ، وكان ذلك نتيجة للركون إلى الحسّ ، والقرآن الكريم يقول : أتتكم البيّنات في التوراة والإنجيل ، وها هي في القرآن الكريم البيّنات الوحيانية التي هي أرفع شأناً ودرجةً وحجّيةً وبياناً ونوراً وهدىً من ضآلة مستوى الحسّ ، فالقرآن الكريم كما مرَّ بنا دائماً يشدّد النكير على حصر الاستناد إلى هذا المنهج المعرفي الخاطئ ، بأن يستند الإنسان إلى مصدر معرفي نازل ويجعل منه المحور الأوّل ويترك مصادر المعرفة العالية ، رغم كلّ ذلك فيأتي في مثل هذا القرن وفي قرون عديدة أخرى من الكتّاب الإسلاميّين من يقول : أين المعطيات الحسّية ؟ ! ، وهذا القرآن ينادي بأنَّ الحسّ ليس هو كلّ المصدر للمعرفة ، وهلَّا قال : أين البيّنات من القرآن ؟ أو أين البيّنات من الأحاديث النبوية ؟ فربَّما يكف عن الترنّم واللهج بهذا الإشكال ، لأنَّه يرى في الآيات القرآنية وفي الأحاديث النبوية بيّنات ساطعة ناصعة نيّرة هادية إلى هذه العقيدة الشريفة ، لكنَّه أخذته العزّة بالإثم فيقول : ومن أحالك على غائب لم ينصفك ، فكيف بمن أحالك على مستحيل[10]؟ ! وهذا القرآن الكريم ينبئنا عن أنَّ عمر النبيّ نوح زاد على الألف ؛ لأنَّ دعوته كانت تقلُّ عن ألف سنة إلَّا قليلًا ، أمَّا حياته فأكثر من ذلك ، وها هو القرآن الكريم ينبئنا عن حياة النبيّ عيسى وبقائه عند الله عز وجل ونزوله للمشاركة والإسهام في دولة الإصلاح الشاملة في الكرة الأرضية ، ومع ذلك ترى التشرنق بشرنقات حسّية ملبوسة يجعل منها الركن الأصيل لمنبع العقيدة ، لو أتونا وناقشونا في الأحاديث النبوية الدالّة ، ولو أتونا وناقشونا في الأحاديث المتواترة ، أو في البيّنات القرآنية على ذلك ، لكنّا نعمل به ، أمَّا أن يتشدَّقوا ويتشرنقوا من خلال لفيف حسّي محبوس ، فهذا هو الذي يخطّئه القرآن الكريم ، إذ يقول : ( وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ) ، هذا اختلاف جارٍ في الأمّة الآن ، كالذي حصل من اختلاف في حياة النبيّ عيسى وظهوره وامتداد عمره ، إذ هو مثل ضربه الله في القرآن للمهدي من آل محمّد ليكون لنا عظة وعبرة ، ومنهجية معرفية سطَّرها لنا لكي نحتذي ونتربّى عليها ، فلماذا ننبذ القرآن وراء ظهورنا ، فتعالوا بنا نستمسك بالرؤية المنهجية المعرفية التي يرسمها القرآن الكريم لهيكلة العقل الإسلامي ، فلا يمكن أن نقزّم العقل الإسلامي والعقل البشري في الإدراك الحسّي وملابساته وهيولاه الهلامية المحدودة ، أبداً ، بل لا بدَّ أن ننطلق إلى مصادر معرفية كثيرة ، ترى كثيراً من نقاشاتهم وقد جمعت في كثير من المصادر تستند إلى وسوسات الحسّ ومصادر حسّية من القتل والإعدام والتصفية ، وأنَّ الدولة العبّاسية كانوا في حصار آبائه وأجداده ، فكيف إذن يتمكَّن من التخلّص والتملّص منهم ؟ ! وما شابه ذلك من هذه الإشكالات التي ينبغي للمسلم أن ينأى عن البناء والتبنّي والاستمساك بها .

فأحدهم يرى أنَّ الاعتقاد بالنبيّ عيسى وحياته وأنَّه سوف ينزل ويظهره الله بعد هذا الأمد الطويل من تغييبه وبقاء حياته لإنجاء البشرية ما هو إلَّا تخدير ! ، وهذه المقالة ليست حديثة ، بل يتردَّد ويتشدَّق بها الكثير في الكتب القديمة في قبال العقيدة بالإمام المهدي ، مع أنَّ هذا الارتباط والعقيدة بحياة وبقاء النبيّ عيسى ونزوله وظهوره لمساندة الإمام المهدي هو برهان قرآني قويم ، وهناك تقارن لهاتين العقيدتين اللتين هما عقيدتان قرآنيتان ، بل هما عقيدة واحدة ، ومع كلّ ذلك يذهب إلى أنَّ الاعتقاد بحياة النبيّ عيسى وظهوره مخدّر ، ويقول بموته ويستدلّ عليه بقوله تعالى : ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ * إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ) ( آل عمران : 54 و 55 ) ، فقد توفّاه الله ومات ، ولا تقع نجاة البشرية على يده ويد الإمام المهدي في دولة الإصلاح الشامل ، بل يجب أن لا نخدّر عزائمنا وهممنا وطاقاتنا وتفكيرنا بمثل هذه العقائد ، هذا القائل يريد أن يجحد وينكر هذه العقيدة تحت ذريعة أنَّها عقيدة مخدّرة عن الحيوية والحركة والنشاط والفعالية ، وأنَّ الاعتقاد بأنَّ النبيّ عيسى حيّ ليس له أصل ، مع أنَّ كلمة ( مُتَوَفِّيكَ ) ليست بمعنى وفاة الموت ؛ لأنَّ القرآن الكريم كما مرَّ بنا يستعمل الوفاة سواء في الحالة المنامية أو في حالة الموت المعهودة : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ) ( الزمر : 42 ) ، فيطلق عليه التوفّى ، فهذا التوفّي هو نوع من حالة منامية ، باعتبار عروج النبيّ عيسى في الفضاء يلازم نوعاً من الإرباك البدني أو الفسيلوجي ، فحيطة من الله للنبيّ عيسى جعلت له مثل حالة منامية أو حالة المثالية التي هي قريبة من حالة الموت ، إلى أن رفعه إليه ، وهو عند الله باقٍ ، هذا القرآن الكريم يعدنا : ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) ( النساء : 159 ) ، يعني أنَّ القرآن الكريم يعد بظهور ونزول النبيّ عيسى ، وكذلك في سورة الزخرف : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ . . . ) ، إلى أن تقول الآيات : ( وَإِنَّهُ ) ، يعني ابن مريم النبيّ عيسى عليه السلام ، ( لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) ( الزخرف : 61 57 ) ، فجعل نزول النبيّ عيسى علماً للساعة ، وهذه أحاديث الفريقين المتواترة في ذلك ، وهذه الآيات المتعدّدة الدالّة على ذلك ، وهذه عقيدة أصيلة في القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية ، بل وفي التوراة والإنجيل أيضاً .

فهذا التنكّر والجحود لهذه العقيدة من هذا القائل ، وهذه المقالة كما مرَّ مذكورة في كتب قديمة عديدة ، نظراً لما وجدوه من الصلة الوطيدة الوثيقة بين الاعتقاد بحياة النبيّ عيسى وظهوره باعتباره مصلحاً معدّاً ومدَّخراً من قبل الله تعالى مع العقيدة بحياة الإمام المهدي وبقائه وخفائه وإعداده الإلهي ليكون مصلحاً في نهاية المطاف للبشرية ، وإن كان هو يمارس دوره إلى الآن في ظلّ الخفاء والسرّية ، وأمَّا إشكالية الخمود أو إشكالية التخدير والخدر والتسويف الذي ربَّما ينتاب الأمّة نتيجة الاعتقاد بهذه العقيدة ، فهذا توهّم بارد ، وهذا مقال كاسد ؛ لأنَّ هذه العقيدة ليست هي مصدراً ومبعثاً للخمود ، بالعكس فهي منطلق ومنشأ للحركة والحيوية ولبقاء الأمل ، وعدم اليأس وعدم الإحباط ، وأن يكون الإنسان دوماً في ضخ أمل رحب واسع الأفق ينطلق فيه ؛ لأنَّ المنهج في سُنّة الله في الإصلاح لا على الجبر ولا على التفويض ، والسرّ والحكمة الإلهية في جعل سنن التغيير الاجتماعي والإصلاح الاجتماعي في الأمر بين الأمرين ؟ لأنَّه لو كانت جبرية أوجبت التخدير والخمود ، وأنَّ الله هو الذي يفعل كلّ شيء ، وبالتالي ليست هناك مسؤولية ملقاة على عاتق الأمّة لتقوم بدورها في الإصلاح والإعداد للإصلاح العالمي الشامل الإلهي ، وإن كان تفويضاً فسوف يسبب الجمود والخدر والإحباط ، لأنَّه إذا كانت المعطيات هي بمقدار ما هو موجود في أيدي البشر والمجتمعات البشرية ، فإذا تغلَّب الظالمون وتغلَّبت تلك الأنظمة الجائرة والرأسمالية والإقطاعية وتغلَّبت قوى الشرّ ، ولم يكن هناك من منفّس فالمفروض أنَّه ليس بيد الله أي إسهام والعياذ بالله فلو افترضنا هذه المقالة ، فالتفويض أيضاً سوف يسبب انقطاع الأمل والإحباط ، وهذا على خلاف القول بأنَّه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين ، هذه ديناميكية محرّكة حيوية دائماً للقيام بالمسؤولية ، ولعدم التخاذل وعدم التهرّب من ساحة المسؤولية وساحة الحدث .

فالاعتقاد بعقيدة الإمام المهدي وعقيدة النبيّ عيسى وأنَّهما حيّان في قدرة الله ، وأنَّهما معدّان ومدَّخران للإصلاح الإلهي العامّ الشامل الكبير ، هذا الطابع وهذا المجال في الحقيقة لا يدعو إلى التخدير ، وإنَّما يكون مبعثاً للأمر ومنطلقاً لفسح رحب الأفق ، وبالتالي يكون هناك نوع من الدور المتزاوج البشري والإلهي في إعطاء مسار التغيير يد إسهام فيه ، فلا تفويض ولا جبر وهذه هي نظرية وعقيدة مدرسة أهل البيت ، ليست فقط في الفعل الفردي ، بل حتَّى في الفعل الاجتماعي كما مرَّ أنَّ الإصلاح لا يرسمه القرآن الكريم أو ترسمه الأحاديث النبوية ، أو ترسمه الكتب السماوية بأنَّه نحو إلجاء وإكراه من الله وب - ( كُنْ فَيَكُونُ ) ، فليس من سنن الله ذلك ، بل سنن الله أنَّه أمر بين أمرين ، إسهام من السماء ، وإسهام بشري أيضاً في الإصلاح البشري ، وليس تفويضاً يوكل إلى البشر لكي يحبط أو ييأس عند عجزهم ؛ لأنَّه لا معين ولا ناصر لهم ، ولا هو إلجاء . إذن هذه الحالة الحيوية الناشطة وهذه الحالة المتحرّكة باعثة دائماً النشاط وعدم اليأس وعدم الاغترار بعجز النفس أو عجز البشر ، بل هي أمر بين أمرين ، فالحيوية إذن كامنة في الاعتقاد بعقيدة الإمام المهدي وظاهرة النبيّ عيسى عليهما السلام .

المحطّة الخامسة : الهجرة عن الفساد :

بعد ذلك يواصل لنا القرآن الكريم محطّة مهمّة في ظاهرة النبيّ عيسى ، وهي الظاهرة السادسة ، وهذه المحطّة ربَّما نقتصر بجعلها الأخيرة في ظاهرة النبيّ عيسى عليه السلام ، وإن كانت هناك محطّات عديدة يمكن للباحث والمحقّق والمتدبّر أن يجدها في ظاهرة النبيّ عيسى وهي محطّات أخرى لها اتّصال وثيق بالعقيدة بالإمام المهدي وحياته وظهوره ودولة الإصلاح الشامل ، ولكن نقتضب الحديث ونقتصر على ما تقدَّم ، وما نذكره من هذه المحطّة الأخيرة التي تتناولها الآية الكريمة : ( بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) ( النساء : 158 ) ، هذه المحطّة تفتح علينا ظاهرة سابعة مشتركة في جميع الأنبياء ، وسوف نقوم بالخوض فيها .

وهي ظاهرة الهجرة عن المجتمعات الفاسدة ، والغياب الحسّي عنها .

قال تعالى : ( بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) .

هذه السُنّة التي تتعرَّض إلى بيانها الآية الكريمة من رفع النبيّ عيسى في آية أخرى : ( وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ( آل عمران : 55 ) ، هنا تبيّن الآية حكمة رفع النبيّ عيسى وإبقائه على قيد الحياة إلى أن يحلّ أوان الظهور والنزول والإصلاح الشامل ، وهو تطهير الله لأنبيائه ورسله وخلفائه الأئمّة عن التلوّث بالبيئة الفاسدة الظالمة المنحرفة ، فالسرّ والسبب الكبير المبيَّن في القرآن الكريم لغيبة النبيّ عيسى هو أن لا يتلوَّث بدرن النظام الاجتماعي الظالم الكافر ، وهنا يبيّن القرآن الكريم بأنَّ الشخص في السُنّة الإلهية الذي هو حجّة من حجج الله والموعود بأن يقوم بالإصلاح الشامل لا ينصاع ويتكبَّل ويتقيَّد بأغلال وأدران النظام الظالم ؛ لأنَّ هذا التكبّل بهذه القيود وهذا الانحباس في ظلّ هذه المنظومة الفاسدة من النظام غير العادل والنظام الذي لا يسير مسار العدالة السماوية يعتبره القرآن الكريم بيئة فاسدة وبيئة فيها رجس ، والمفروض في سُنّة الله كما تبيّنه الآيات الكريمة كمثل وكآية للنبيّ عيسى ، حيث وعد البشر وبشَّرهم في التوراة والإنجيل والزبور وفي القرآن الكريم بمساهمة النبيّ عيسى : ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) ( الزخرف : 61 ) ، كما قرأناه في الآية السابقة ، وأيضاً في هذه الآية : ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ) ( النساء : 159 ) ، وعد إلهي بنزول النبيّ عيسى ومشاركته في الإصلاح ، وآيات كثيرة تتعرَّض إلى ذلك في بيانات القرآن الكريم ، وبالضبط هذه السُنّة الإلهية في ظاهرة النبيّ عيسى قد بيَّنها أهل البيت في أحد العلل والحكم المهمّة الكبرى في غيبة الإمام المهدي ، وهو أنَّه إذا ظهر لا تكون في عنقه بيعة لحاكم ظالم[11] ، فيبدأ بدولة الإصلاح .

إذن هذه سُنّة قرآنية ، وهي الغيبة للموعود بدورهم في الإصلاح ، سُنّة إلهية أصيلة وعقدية مصدرها القرآن ، وهذا يفتح لنا الباب على ظاهرة سابعة في جميع الأنبياء ، فندخل في هذه الظاهرة السابعة من الظواهر القرآنية المتَّصلة والمرتبطة بظاهرة العقيدة المتَّصلة بالإمام المهدي عليه السلام وغيبته .

 

[1] رواه العامّة والخاصّة على اختلاف في اللفظ واتّحاد في المعنى ، راجع : كمال الدين : 318 / باب 31 / ح 4 ؛ روضة الواعظين : 261 ؛ سنن أبي داود 31 : 2 ؛ سنن الترمذي 343 : 3 .

[2] للاستزادة راجع كتاب شرح إحقاق الحقّ 195 : 13 ، و 302 : 29 ، وفيه سرد لعلماء ومحدّثي القوم ممَّن روى ذلك وأقرَّ به ، مع ذكر أسماء تصانيفهم وطبعاتها وأرقام الصفحات .

[3] قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ، وبعد أن أورد حديث : ( الخلفاء الاثني عشر ) ، وأقرَّ بأنَّه الثاني عشر : ( والظاهر أنَّ منهم المهدي المبشَّر به في الأحاديث الواردة بذكره فذكر أنَّه يواطئ اسمه اسم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ) . أنظر : ( تفسير ابن كثير 34 : 2 ) .

[4] في الرواية عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : ( إنَّ عيسى عليه السلام وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه ، فاجتمعوا إليه عند المساء وهم اثنا عشر رجلًا ، فأدخلهم بيتاً ثمّ خرج عليهم من عين في زاوية البيت وهو ينقض رأسه من الماء ، فقال : إنَّ الله أوحى إليَّ أنَّه رافعي إليه الساعة ومطهّري من اليهود ، فأيّكم يلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي ، فقال شاب منهم : أنا يا روح الله ، قال : فأنت هوذا ، فقال لهم عيسى عليه السلام : أمَا إنَّ منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة ، فقال له رجل منهم : أنا هو يا نبيّ الله ؟ فقال عيسى : إن تحسّ بذلك في نفسك فلتكن هو ، ثمّ قال لهم عيسى عليه السلام : أمَا إنَّكم ستفترقون بعدي على ثلاث فِرَق فرقتين مفتريتين على الله في النار وفرقة تتَّبع شمعون صادقة على الله في الجنّة ، ثمّ رفع الله عيسى إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه ) .

ثمّ قال أبو جعفر عليه السلام : ( إنَّ اليهود جاءت في طلب عيسى عليه السلام من ليلتهم ، فأخذوا الرجل الذي قال له عيسى عليه السلام : إنَّ منكم لمن يكفر بي من قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة ، وأخذوا الشاب الذي ألقي عليه شبح عيسى فقتل وصلب ، وكفر الذي قال له عيسى عليه السلام : تكفر قبل أن تصبح اثنتي عشرة كفرة ) ، ( تفسير القمي 103 : 1 ) .

[5] وهي قوله تعالى : وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً .

[6] وهي قوله تعالى : إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ .

[7] من ذلك ما أورده الطبرسي في تفسيره ( مجمع البيان 232 : 3 - 235 ) بعد تفسيره لقوله تعالى : وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ، وبعد أن ذكر ما روي في حادثة إلقاء الشبه والاختلاف في كيفية التشبيه ، قال في تفسير قوله تعالى : وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ : ( قيل : يعني بذلك عامّتهم ، لأنَّ علماءهم علموا أنَّه غير مقتول ، عن الجبائي . وقيل : أراد بذلك جماعة اختلفوا ، فقال بعضهم : قتلناه ، وقال بعضهم : لم نقتله .

ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ أي : لم يكن لهم بمن قتلوه علم ، لكنَّهم اتَّبعوا ظنّهم ، فقتلوه ظنّاً منهم أنَّه عيسى ، ولم يكن به ، وإنَّما شكّوا في ذلك ، لأنَّهم عرفوا عدّة من في البيت ، فلمَّا دخلوا عليهم وفقدوا واحداً منهم التبس عليهم أمر عيسى ، وقتلوا من قتلوه على شكّ منهم في أمر عيسى ، هذا على قول من قال : لم يتفرَّق أصحابه ، حتَّى دخل عليهم اليهود . وأمَّا من قال : تفرَّق أصحابه عنه ، فإنَّه يقول : كان اختلافهم في أنَّ عيسى هل كان فيمن بقي ، أو كان فيمن خرج ، اشتبه الأمر عليهم . وقال الحسن : معناه فاختلفوا في عيسى ، فقالوا مرَّة : هو عبد الله ، ومرَّة : هو ابن الله ، ومرَّة : هو الله . وقال الزجّاج : معنى اختلاف النصارى فيه أنَّ منهم من ادّعى أنَّه إله لم يقتل ، ومنهم من قال : قتل . وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً اختلف في الهاء في قَتَلُوهُ فقيل : إنَّه يعود إلى الظنّ ، أي : ما قتلوا ظنّهم يقيناً ، كما يقال : ما قتله علماً ، عن ابن عبّاس ، وجويبر . ومعناه : ما قتلوا ظنّهم الذي اتَّبعوه في المقتول الذي قتلوه ، وهم يحسبونه عيسى ، يقيناً أنَّه عيسى ، ولا أنَّه غيره ، لكنَّهم كانوا منه على شبهة . وقيل : إنَّ الهاء عائد إلى عيسى ، يعني : ما قتلوه يقيناً ، أي : حقّاً ، فهو من باب تأكيد الخبر ، عن الحسن : أراد أنَّ الله تعالى نفى عن عيسى القتل على وجه التحقيق واليقين . بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ يعني : بل رفع الله عيسى إليه ، ولم يصلبوه ، ولم يقتلوه . . .

إلى أن قال : وما مرَّ في تفسير هذه الآية من أنَّ الله ألقى شبه عيسى على غيره ، فإنَّ ذلك من مقدور الله بلا خلاف بين المسلمين فيه ، ويجوز أن يفعله الله سبحانه على وجه التغليظ للمحنة ، والتشديد في التكليف ، وإن كان ذلك خارقاً للعادة ، فإنَّه يكون معجزاً للمسيح ، كما روي أنَّ جبرائيل كان يأتي نبيّنا في صورة دحية الكلبي . وممَّا يسأل عن هذه الآية أن يقال : قد تواترت اليهود والنصارى مع كثرتهم وأجمعت على أنَّ المسيح قد قتل وصلب ، فكيف يجوز عليهم أن يخبروا عن الشيء بخلاف ما هو به ؟ ولو جاز ذلك ، فكيف يوثق بشيء من الأخبار ؟ والجواب : إنَّ هؤلاء دخلت عليهم الشبهة ، كما أخبر الله سبحانه عنهم بذلك ، فلم يكن اليهود يعرفون عيسى بعينه ، وإنَّما أخبروا أنَّهم قتلوا رجلًا . قيل لهم : إنَّه عيسى ، فهم في خبرهم صادقون ، وإن لم يكن المقتول عيسى ، وإنَّما اشتبه الأمر على النصارى ؛ لأنَّ شبه عيسى ألقي على غيره ، فرأوا من هو على صورته مقتولًا مصلوباً ، فلم يخبر أحد من الفريقين إلَّا عمَّا رآه ، وظنَّ أنَّ الأمر على ما أخبر به ، فلا يؤدّي ذلك إلى بطلان الأخبار بحال ) .

[8] أنظر : كمال الدين : 240 / باب 22 / ح 61 ؛ مسند أحمد 14 : 3 .

[9] يقول ابن خلدون في تاريخه ( ج 4 / ص 29 و 30 ) : ( ويزعمون ( أي الشيعة ) أنَّ الإمام بعده ( أي : الإمام علي الهادي ) ابنه الحسن ويلقَّب : العسكري ؛ لأنَّه ولد بسُرَّ من رأى ، وكانت تسمّى العسكر ، وحبس بها بعد أبيه ، إلى أن هلك سنة ستّين ومائتين ودفن إلى جنب أبيه في المشهد ، وترك حملًا ولد منه ابنه محمّد ، فاعتقل ويقال : دخل مع امّه في السرداب بدار أبيه وفقد ، فزعمت شيعتهم أنَّه الإمام بعد أبيه ولقَّبوه : المهدي والحجّة ، وزعموا أنَّه حيّ لم يمت ، وهم الآن ينتظرونه ووقفوا عند هذا الانتظار ، وهو الثاني عشر من ولد علي ، ولذلك سمّيت شيعته الاثني عشرية ، وهذا المذهب في المدينة والكرخ والشام والعراق ، وهم حتَّى الآن على ما بلغنا يصلّون المغرب ، فإذا قضوا الصلاة قدَّموا مركباً إلى دار السرداب بجهازه وحليته ونادوا بأصوات متوسّطة : أيّها الإمام اخرج إلينا فإنَّ الناس منتظرون والخلق حائرون والظلم عامّ والحقّ مفقود فأخرج إلينا ، فتقرّب الرحمة من الله في آثارك ، ويكرّرون ذلك إلى أن تبدوا النجوم ، ثمّ ينصرفون إلى الليلة القابلة ، هكذا دأبهم ، وهؤلاء من الجهل بحيث ينتظرون من يقطع بموته مع طول الأمد ، لكن التعصّب حملهم على ذلك ، وربَّما يحتجّون لذلك بقصَّة الخضر ، والأخرى أيضاً باطلة ، والصحيح أنَّ الخضر قد مات ! ! ) .

[10] قال الذهبي في كتابه ( سير أعلام النبلاء 119 : 13 و 120 ) تحت عنوان : المنتظر : الشريف ، أبو القاسم ، محمّد بن الحسن العسكري بن علي الهادي بن محمّد الجواد بن علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين الشهيد بن الإمام علي بن أبي طالب ، العلوي الحسيني . خاتمة الاثني عشر سيّد الذين تدّعي الإماميّة عصمتهم - ولا عصمة إلَّا لنبيّ - ومحمّد هذا هو الذي يزعمون أنَّه الخلف الحجّة ، وأنَّه صاحب الزمان ، وأنَّه صاحب السرداب بسامراء ، وأنَّه حيّ لا يموت ، حتَّى يخرج فيملأ الأرض عدلًا وقسطاً ، كما ملئت ظلماً وجورًا . فوددنا ذلك - والله - وهم في انتظاره من أربع مئة وسبعين سنة ، ومن أحالك على غائب لم ينصفك ، فكيف بمن أحال على مستحيل ؟ ! والإنصاف عزيز . فنعوذ بالله من الجهل والهوى . ( هذا نصّ كلامه ) .

[11] في الرواية عن علي بن الحسن بن علي بن فضال ، عن أبيه ، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام أنَّه قال : ( كأنّي بالشيعة عند فقدهم الثالث من ولدى يطلبون المرعى ولا يجدونه ) ، قلت له : ولِمَ ذلك يا بن رسول الله ؟ قال : ( لأنَّ إمامهم يغيب عنهم ) ، قلت : ولِمَ ؟ قال : ( لئلَّا يكون في عنقه لأحد بيعة إذا قام بالسيف ) . ( عيون أخبار الرضا عليه السلام 247 : 2 / باب 28 / ح 6 ) .

EN