التاريخ والحضارة
التاريخ
الحضارة
ابرز المؤرخين
اقوام وادي الرافدين
السومريون
الساميون
اقوام مجهولة
العصور الحجرية
عصر ماقبل التاريخ
العصور الحجرية في العراق
العصور القديمة في مصر
العصور القديمة في الشام
العصور القديمة في العالم
العصر الشبيه بالكتابي
العصر الحجري المعدني
العصر البابلي القديم
عصر فجر السلالات
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
الاراميون
الاشوريون
الاكديون
بابل
لكش
سلالة اور
العهود الاجنبية القديمة في العراق
الاخمينيون
المقدونيون
السلوقيون
الفرثيون
الساسانيون
احوال العرب قبل الاسلام
عرب قبل الاسلام
ايام العرب قبل الاسلام
مدن عربية قديمة
الحضر
الحميريون
الغساسنة
المعينيون
المناذرة
اليمن
بطرا والانباط
تدمر
حضرموت
سبأ
قتبان
كندة
مكة
التاريخ الاسلامي
السيرة النبوية
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الاسلام
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد الاسلام
الخلفاء الاربعة
ابو بكر بن ابي قحافة
عمربن الخطاب
عثمان بن عفان
علي ابن ابي طالب (عليه السلام)
الامام علي (عليه السلام)
اصحاب الامام علي (عليه السلام)
الدولة الاموية
الدولة الاموية *
الدولة الاموية في الشام
معاوية بن ابي سفيان
يزيد بن معاوية
معاوية بن يزيد بن ابي سفيان
مروان بن الحكم
عبد الملك بن مروان
الوليد بن عبد الملك
سليمان بن عبد الملك
عمر بن عبد العزيز
يزيد بن عبد الملك بن مروان
هشام بن عبد الملك
الوليد بن يزيد بن عبد الملك
يزيد بن الوليد بن عبد الملك
ابراهيم بن الوليد بن عبد الملك
مروان بن محمد
الدولة الاموية في الاندلس
احوال الاندلس في الدولة الاموية
امراء الاندلس في الدولة الاموية
الدولة العباسية
الدولة العباسية *
خلفاء الدولة العباسية في المرحلة الاولى
ابو العباس السفاح
ابو جعفر المنصور
المهدي
الهادي
هارون الرشيد
الامين
المأمون
المعتصم
الواثق
المتوكل
خلفاء بني العباس المرحلة الثانية
عصر سيطرة العسكريين الترك
المنتصر بالله
المستعين بالله
المعتزبالله
المهتدي بالله
المعتمد بالله
المعتضد بالله
المكتفي بالله
المقتدر بالله
القاهر بالله
الراضي بالله
المتقي بالله
المستكفي بالله
عصر السيطرة البويهية العسكرية
المطيع لله
الطائع لله
القادر بالله
القائم بامرالله
عصر سيطرة السلاجقة
المقتدي بالله
المستظهر بالله
المسترشد بالله
الراشد بالله
المقتفي لامر الله
المستنجد بالله
المستضيء بامر الله
الناصر لدين الله
الظاهر لدين الله
المستنصر بامر الله
المستعصم بالله
تاريخ اهل البيت (الاثنى عشر) عليهم السلام
شخصيات تاريخية مهمة
تاريخ الأندلس
طرف ونوادر تاريخية
التاريخ الحديث والمعاصر
التاريخ الحديث والمعاصر للعراق
تاريخ العراق أثناء الأحتلال المغولي
تاريخ العراق اثناء الاحتلال العثماني الاول و الثاني
تاريخ الاحتلال الصفوي للعراق
تاريخ العراق اثناء الاحتلال البريطاني والحرب العالمية الاولى
العهد الملكي للعراق
الحرب العالمية الثانية وعودة الاحتلال البريطاني للعراق
قيام الجهورية العراقية
الاحتلال المغولي للبلاد العربية
الاحتلال العثماني للوطن العربي
الاحتلال البريطاني والفرنسي للبلاد العربية
الثورة الصناعية في اوربا
تاريخ الحضارة الأوربية
التاريخ الأوربي القديم و الوسيط
التاريخ الأوربي الحديث والمعاصر
موقف اليهود السياسي في مصر
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج14 ص 686 ــ 694
2025-09-02
46
ونظرتنا العامة عن النشاط الاقتصادي ليهود مصر تحمل في طياتها عدة مسائل خارجة عن نطاق الحياة الاقتصادية، والآن يتساءل الإنسان عما إذا كانت حكومة البطالمة قد تعرفت على قيمة العمل الذي كان يؤديه اليهود أم لا؟ وهل شجعته أو وقفت في طريقه؟ ثم ماذا كان موقف السكان الوطنيين والإغريق بالنسبة لليهود؟ كل هذه الأسئلة تنقلنا من المسألة الاقتصادية إلى السؤال الكبير الواسع الخاص بالتطور السياسي اليهودي في عهد البطالمة.
إن تاريخ اليهود السياسي في مصر في عهد البطالمة ينقسم بوضوح إلى عصرين، ويعد حكم بطليموس السادس فيلومتور (181–145ق.م) الخط الفاصل بين هذين العصرين، ومعلوماتنا عن العصر الأول لا تكاد تُذكر، وقد رأينا أن أول المهاجرين من اليهود إلى مصر كانوا أسرى حرب، وأن عددًا منهم وُضعوا في حاميات مصرية، والظاهر أن أسرى الحرب هؤلاء حتى بعد إطلاق سراحهم في عهد بطليموس الثاني كان في استطاعتهم أن يقوموا بنشاط ملحوظ في حياة البلاد السياسية، ويعد العهد الذي يقع بين حكم بطليموس الأول وبطليموس السادس بالنسبة لليهود عهد استقرار في مكان جديد؛ إذ الواقع أنهم انتشروا في كل أنحاء البلاد ووطدوا أنفسهم في أعمال منوعة وأسسوا مجتمعاتهم الخاصة بهم، وقد انقضى أكثر من قرن من الزمان على هذه العملية وهي تسير في طريقها دون أن يشعر بها أحد، وفي عهد «بطليموس السادس» (فيلومتور) بدأ عهد جديد في تاريخ لليهود كان الدافع له علتين مميزتين وقعتا في وقت واحد؛ العلة الأولى ميل الملك للساميين، والثانية تدفق نهر جديد من المهاجرين اليهود إلى مصر وفدوا من فلسطين.
وقد أخبرنا «جوزيفس»، أن «فيلومتور» وزوجه «كليوبترا» قد وكلَا أمر مملكتهما ليهود، بل ووضعا كل الجيش المصري تحت قيادة «أونياس» و«دوسيثوس» ولا شك في أن ما رواه «جوزيفس» يعد ضربًا من المبالغة لا تَقِلُّ في كذبها عما أكده مؤلف يهودي آخر من أن فيلسوفًا يهوديًّا يُدعَى «أريستوبولوس» Aristoboulos كان معلم «فيلومتور» ومع ذلك فإنه كانت توجد أمور تدل صراحة على ميل «فيلومتور» لليهود إلى حد ما؛ فقد أنشئت وحدة حربية يهودية، ووُضعت تحت قيادة قائد يهودي يُدعَى «أونياس» وقد صرح «لأونياس» أن يعسكر بجنوده على أرض مصر وأن يبني معبدًا لإله اليهود، وكذلك وكل هذا الملك لليهود أن يعملوا في إدارة البلاد المالية بمثابة مؤجرين للضرائب وموظفين، وكان ذلك على أية حال في الوجه القبلي، يضاف إلى ذلك أن ممثلي اليهود من الطبقة الراقية المتعلمة مثل الفيلسوف «أريستوبولوس» قد سمح لهم بالدخول في بلاط الملك كما سمح لهم أن يُعرفوا الملك عن أمور لها علاقة بالدين اليهودي، فقد قيل إن الفيلسوف اليهودي «أريستوبولوس» أهدى كتابه الذي وضعه عن التوراة إلى «بطليموس فيلومتور» وألقى بعض فقرات منه أمام الملك، وإذا أمكن أن نصدق ما رواه «جوزيفس»، فإن اليهود والسامرين كانوا يناقشون مسائل دينية في حضرة الملك، وإن «فيلومتور» قد أعلن ميله لليهود، وإنه لمن الخطأ أن نسلم أن الملك الفتي قد حابى اليهود بسبب دينهم، بل كانت هناك أسباب أخرى مادية دعت إلى ميله إلى حب السامية.
والواقع أن عهد «فيلومتور» على أية حال كان عهد استقرار وسلام، وذلك لأنه عندما مات والده كان لا يزال طفلًا في الخامسة أو السادسة من عمره، وعندما أُعلن ملكًا رسميًّا على البلاد كان في الخامسة عشرة، وقد ظلت إدارة البلاد بسبب ذلك مدة طويلة في أيدي رجال البلاط الذين كانوا من أصول وضيعة وأصحاب شهرة سيئة، يضاف إلى ذلك أنه قد نشأت عداوة وبغضاء بين «فيلومتور» وأخيه الصغير، وهو الذي أصبح فيما بعدُ «أيرجيتيس الثاني»، وقد كان من نتائج هذه العداوة انفجار ثورات علنية أحيانًا أضرت بالبلاد جميعها، وأخيرًا غزا «أنتيكوس الرابع» ملك سوريا البلاد المصرية مرتين، وكان من نتائج هذا الغزو أنه فتح البلاد المصرية كلها وأعلن نفسه ملكًا على المصريين، ولم يُنْجِ مصرَ من «أنتيوكوس» إلا تدخُّلُ روما التي أمرته أن يغادر البلاد المصرية فورًا، وبذلك نجت دولة البطالمة في مصر من السقوط النهائي، وكان على الملك الفتَى في هذه الأوقات العصيبة أن يبحث عن حلفاء أقوياء يركن إليهم، وفي هذه اللحظة نجد أنه لم يكن في استطاعة أهل الإسكندريين من الإغريق ولا في استطاعة سكان مصر الأصليين أن يعطفوا على رغبات الملك بتقديم يد العون له، وذلك لأن أهالي الإسكندرية كانوا منقسمين فيما بينهم في حروبهم الداخلية التي وقعت بين الإغريق والمقدونيين، أما الوطنيون المصريون فكانوا يُظهرون العداء صراحة لكل الأجانب من الإغريق والمقدونيين على السواء، وكان اليهود في تلك الفترة هم العنصر الثالث في البلاد، غير أنهم كانوا ضعفاء إذا ما قُورنوا بالإغريق والمصريين، وكانوا يرغبون بطبيعة الحال في قيام حكومة مركزية قوية، وفي هذا الوقت بالذات قَوِيَ العنصر اليهودي، وذلك بتدفق عدد عظيم من المهاجرين اليهود ومن بينهم «أونياس» وأتباعه، وكان اليهود الجدد صالحين بوجه خاص لتأليف جماعة من الأشخاص المخلصين للملك لأنهم كانوا غرباء، وبذلك لم يكونوا تابعين لأي حزب في داخل المملكة البطلمية، والواقع أن هؤلاء كانوا يبحثون عن مكان يُؤيهم ويكون حماية لهم، ومن أجل ذلك كانوا متكلين على قوة الملك كلية، ومن المرجح أن «أونياس» كان قائدًا صاحب قدرة عظيمة؛ مما جعل لرأيه بعض الأثر على قرارات الملك، ومن ثم عقد بين «فيلومتور» واليهود ما يشبه المحالفة، وكانت الوحدة الحربية التي سمح بها «لأونياس» تحتوي على أشخاص كانوا قد صاحبوه من يهوذا إلى مصر، ومن المحتمل أنه قد زِيد في عددها من يهود مصر، وقد استولى «أونياس» على بعض الأراضي في مقاطعة «هليوبوليس» ليعسكر فيها جيشه الجديد من اليهود، وقد سُميت هذه القطعة التي استولى عليها «أرض أونياس»، وقد بقيت مدة أجيال في حوزة اليهود، وكان «أونياس» من جهته مستعدًّا ليقود جنوده إلى حومة الوغى لحماية الملك من أعدائه، والظاهر أن الحاجة لم تَدْعُ لظهوره على رأس جيشه مدة حياة فيلومتور، ولكن بعد موته ظهر «أونياس» على رأس جيشه في العاصمة، وذلك عندما اشتبكت «كليوبترا» أرملة «فيلومتور» في حرب خطيرة مع أهالي الإسكندرية الذين كان يعاضدهم إخوة «أيرجيتيس الثاني».
ومن المحتمل أن سكان «أرض أونياس» كانوا يعاضدون قضية الملكة كليوبترا، وتدل شواهد الأحوال على أن هذه المساعدة لم تكن تدبيرًا سياسيًّا بل كانت من باب الولاء، وقد انتهت هذه الحرب بنتائج لم تكن في صالح يهود الإسكندرية المكروهين من الأهالي عامة، وهذا شأنهم في كل مكان حَلُّوا فيه، والواقع أنه ليس لدينا تفاصيل تدل على ميول «فيلومتور» نحو اليهود، ولكن يمكن القول بأن عواطفه نحوهم كشف عنها في مناسبات مختلفة؛ فقد ذكرنا فيما سبق أن بعض اليهود كانوا يلقبون أنفسهم مقدونيين؛ أي إنهم كانوا قد أُدمجوا في الحامية المقدونية التابعة للإسكندرية، والآن يتساءل الإنسان عن أي وقت مناسب بصورة حسنة لهذا الإجراء الحربي أكثر من عهد «فيلومتور»، عندما نظم جيشًا يهوديًّا بقيادة قواد يهود؟ وقد ذكر لنا جوزيفس اسم دوسيثيوس Dositheos وهو قائد يهودي آخر من عهد فيلومتور، فهل كان من المحتمل أنه كان رئيس «اليهود المقدونيين» الذين كونوا ما يشبه حرسًا للملك، مثل ألمان «هرود» و«كاليجولا» Caligula ومثل هذا الفرض يمكن أن يفسر المبالغة العجيبة التي ذكرها «جوزيفس» عندما قال: «كل البلاد قد وكل أمرها «فيلومتور» لليهود.» على أن ظهور الملك أمام الشعب يتعين حرسه من اليهود يمكن أن يمثل بسهولة ما يشبه سيطرة اليهود على مصر، ولا غرابة في ذلك فإن دسائسهم كانت لا تنفد، وقد كان صدى رد الفعل لذلك لا محالة واقع، وذلك أن الملك الجديد المنتصر «أيرجيتيس» الثاني «فيسكون» Physcon لم يكن في مقدوره أن يغفر تدخل اليهود الحربي غير المنتظر في شئون دولته، ولذلك فإن أول اضطهاد في مصر الهيلانستيكية الرومانية كان له علاقة باسمه، فقد حدثنا «جوزيفس» (C. AP. 2. 53–55) أن «أيرجيتيس» عندما كان يتأهب لمهاجمة «أونياس» أمر أن يُلقَى كل اليهود الإسكندريين ومعهم أزواجهم وأطفالهم أمام فِيَلة كانت قد أُسكرت من قبل لهذا الغرض، ومع ذلك فإن الفِيَلة لم تهاجم اليهود ولكنها هاجمت أصحاب «أيرجيتيس»، وعلى ذلك فإن الكثير منهم قد دِيسوا حتى الموت، ولكن لما كان «أيرجيتيس» قد تأثر بهذا المنظر فإنه استسلم لتوسلات حظيته إتاكا Ithaka أو إيرين Eirene وأوقف الاضطهاد وقد حفظ يهود الإسكندرية ذكرى هذا اليوم فكان يعتبر عيدًا سنويًّا، ولا جدال في أن قصة «جوزيفس» ليست إلا حديث خرافة أُلِّفت على طريقة الإنتاجات الأدبية للعصر الهيلانستيكي، وقد نُسبت نفس القصة مبالَغًا فيها إلى عهد بطليموس الرابع، وقد أعيدت في الكتاب الثالث للمكابيين، وستسنح لنا الفرصة للتحدث عن هذه المقالة الغريبة التي يكنفها بعض الغموض، ومع ذلك فإن هذا العيد الذي يحتفل به يهود الإسكندرية سنويًّا في يوم محدد، يظهر بجلاء أن هناك حقيقة تاريخية ترتكز عليها هذه القصة الخرافية.
هذا ونجد أن اسمَيْ «أيرجيتيس الثاني»، و«أونياس» يوافقان بصورة ممتازة الموقف التاريخي لهذه الحقيقة، والظاهر أن بعض الأحاديث التاريخية قد حُفظت في هذه القصة حتى في صورتها المُبالَغ فيها في كتاب المكابيين الثالث، وهناك فقرات أخرى في نفس الكتاب نفهم منها أن العراك الذي قام بين «أيرجيتيس» الثاني واليهود كان في الواقع تصادمًا بين المقدونيين والجيش اليهودي، ومن المرجح أن ذلك قد وقع بسبب التدخل الحربي الذي قام به «أونياس»، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، أما عدم تنفيذ هذا الاضطهاد وإيقافه فجأة فيمكن أن يُستنبط من أن هذا العيد قد احتُفل به سنويًّا لحدوث معجزة لم تكن في الحسبان، ويمكن أن نقترح ترتيب حوادث هذه القصة على الوجه الآتي: وذلك أن «أيرجيتيس الثاني» بعد أن دخل العاصمة ظافرًا استعد لمعاقبة اليهود على مساعدتهم «كليوبترا»، وتدل الظواهر على أن بعض اليهود قد قُبض عليهم كما يُحتمل أنه قد نُفذ فيهم حكم الإعدام، ومن المحتمل كذلك أن جيش «أونياس» قد غادر العاصمة قبل أن يدخلها الملك، وارتد إلى «أرض أونياس» واستعد لمواجهة انتقام الملك، وكان يهود مصر وقتئذ في حزن فزعين من قيام الملك باضطهاد طويل الأمد، غير أنه حدث على حين غفلة شيء لم يكن منتظرًا، وذلك أن الملك أمر بإطلاق سراح اليهود المقبوض عليهم في الإسكندرية، هذا فضلًا عن أنه لم يوقع أي عقاب على جنود «أونياس» وحتى جماعة المقدونيين من الجنود اليهود في الإسكندرية فإنهم لم يُشَتَّتوا، غير أنهم على ما يُظَنُّ قد حُرموا من امتيازاتهم؛ إذا كانت لهم أية امتيازات، والسبب في هذا التحول المفاجئ في سير الأمور ليس من الصعب معرفته، وآية ذلك أن «أيرجيتيس الثاني» بعد أن فتح الإسكندرية بزمن قصير عقد صلحًا مع «كليوبترا» وتزوج منها، وعلى ذلك فإنه إذا كان الملك قد أمكنه أن يصلح ما بينه وبين الملكة بالزواج منها وكانت عدوه الأولى، فلماذا يقوم باضطهاد أعوانها الذين لم يصبحوا بعدُ خطرًا عليه؟ ومن المحتمل أن الملك في يوم حفل الزواج منح عفوًا عامًّا لكل حلفاء كليوبترا السابقين. والواقع أن مثل هذا العفو وما تبعه من تغير لم يكن منتظرًا في مصير اليهود، وكان من الممكن أن يُوجِد تأثيرًا في نفوس اليهود كأنه معجزة، فقد تدخل إلههم نفسه وحمى شعبه من كارثة لم يكن من المستطاع تفاديها.
ومما سبق نفهم أن العهد الجديد (145–116ق.م) على الرغم من العراك الخطير مع الجيش اليهودي في بدايته لم يكن من الضروري معاديًا لليهود، بل على العكس نجد أن هناك بعض حقائق يمكن أن تفسَّر بأنها فأْلٌ حسن وذلك للمشاعر الحسنة بينهم وبين الملك.
والواقع أن الحالة العامة في عهد «أيرجيتيس الثاني» قد عادت ثانية في جانب اليهود، وذلك لأن البلاد كانت ترزح كثيرًا تحت عبء ثورات عدة قام بها المصريون وكان الدافع إليها الشعور القومي في حين أن السكان الإغريق في الإسكندرية لم يكونوا بحالةٍ ما موالين للملك، وكانت الخطوط الرئيسية التي تسير عليها سياسة «أيرجيتس الثاني» هي القضاء بقسوة على أية مظاهرة ذات صبغة ثورية في الإسكندرية، والسعي ببعض الطرق لمهادنة المصريين ومصالحتهم، وكان اليهود ثانية بوصفهم العنصر الثالث المحايد من سكان البلاد يمكن أن يرحب بهم الملك كحلفاء وبخاصة في عراكه مع إغريق مدينة الإسكندرية، والواقع أن اليهود والإغريق في مصر لم يكونوا قط أصدقاء الملك، ومن ثم نجد أن الكره الفظيع الذي كان باديًا بين الأمتين في العهد الروماني لا بد أن بدايته التاريخية كانت في عهد البطالمة، ومن المحتمل إذن أن السياسة القوية القاسية التي سلكها «أيرجيتيس» نحو إغريق الإسكندرية كان لها أثر حسن على يهود الإسكندرية، ومن الجائز كذلك أن هذا الملك قد منح اليهود حقوقًا مدنية كثيرة في الإسكندرية لأجل أن يضعف العنصر الإغريقي في هذه المدينة.
ومن ذلك نرى أن مستوى اليهود المصريين العالي لم يكن قد انخفض بأية حال في عهد «أيرجيتيس الثاني»، وبعد موت هذا العاهل بقليل نسمع ثانية بالدور الهام الذي لعبه اليهود في تطور الحوادث السياسية في مصر، وآية ذلك أن أرملة «أيرجيتيس الثاني» وهي كليوبترا الثالثة (116–101ق.م) قد اشتبكت في معركة طويلة الأمد مع ابنها «بطليموس التاسع» «لاثيروس» Lathyros فعلى حسب البيان الهام جدًّا الذي ذكره لنا «إسترابون» واقتبسه عنه «جوزيفس» نفهم أن الجزء الأعظم من جنود الملكة الذين أُرسلوا لمحاربة «لاثيروس» خانوها وانضموا إلى ابنها، وعلى أية حال فإن طائفة اليهود الذين كانوا من «أرض أونياس» قد بَقُوا موالين للملكة، وسبب ذلك أن قائديهما «هلكياس» Helkias، و«أنانياس» Ananias كان لهم حظوة كبيرة لدى الملكة، ويقول «جوزيفس» (Ant. 13. 285) إن هذين القائدين كانا ابنَيْ «أونياس» وكانت الملكة من وقت لآخر تركن إليهما في القيام بعمليات حربية هامة، ومن المرجح أن اشتراك القائدين «هكلياس» و«أنانياس» في الحرب مع «بطليموس التاسع» كان هامًّا، وإن كان المؤرخ «جوزيفس» قد بالغ ثانية عندما قال إن «كليوبترا الثالثة» قد وضعت هذه القائدين على رأس الجيش، هذا ونعلم أن أحدهما وهو «هلكياس» قد لقي حتفه عندما كان يطارد العدو في «سوريا الجوفاء»، أما الثاني وهو «أنانياس» فقد سنحت له الفرصة أن يفرض نفوذه على مجرى الحرب في فلسطين، هذا ولما أحسَّ بعض أصدقاء الملكة بشيء من عدم الرضا لازدياد قوة طائفة الهسمونيين اليهودية نصحوا الملكة أن تستولي على ممتلكات الملك «إسكندر يناي» Jannai في فلسطين وتسير الأمور فيها بنفسها، وقد عارض «أنانياس» هذا الاقتراح محذرًا الملكة بقوله إنه إذا حدث عدوان دون مبرر له على «إسكندر» فإن كل يهود مصر سيصبحون أعداءها، وقد كان لهذا التهديد أثره، وعلى ذلك فإنه بتدخل هذا القائد اليهودي الجسور، نجد أن نصيحة رجال البلاط التي كان الغرض منها القضاء على دولة اليهود في فلسطين قد رُفضت.
على أنه ليس من المعقول أن عظماء رجال الإغريق كانوا يقفون موقف الضعف والخنوع يرقبون اليهود وهم يمدون نفوذهم وسلطانهم حتى في ميدان السياسة الدولية، بل الواقع كانت هناك معارضة شديدة لليهود في البلاط والجيش وبين موظفي الحكومة، وأخيرًا وليس آخرًا كانت هناك معارضة المواطنين الإغريق الإسكندريين، وليس من باب الصدفة أن نجد في الترجمة الإغريقية لكتاب «أستر» أن هامان الوزير الذي يكره اليهود قد لقب بالمقدوني وأن التصادم الذي وقع بينه وبين «موردكاي» Mordecai قد وُصف بأنه عراك بين وزيرين أحدهما يهودي والآخر مقدوني، وذلك في موضوع ولائهما للدولة، ولم تكن كراهة الساميين ظاهرة جديدة في مصر، وذلك أنه منذ عهد «بطليموس الثاني» كان نشْر تاريخ مصر الذي كتبه كاهن مصر يُدعَى «مانيتون» يعتبر أول تاريخ يحتوي للمرة الأولى على رواية مضادة لسفر الخروج، وقد ذكرت هذه الرواية لتكون جوابًا وتكذيبًا للقصة التي وردت في التوراة عن هذه الرواية، وفي القرن الثاني ق.م احتفل بدخول هذا الإنتاج الأدبي في الأدب الإغريقي، وقد ذكر كُتاب منوعون (مثل ليزيماكوس) مرات عدة قصة «مانيتون» وأضافوا إليها تفاصيل جديدة، يضاف إلى ذلك أن كُتابًا آخرين مثل مناساس Mnaseas ، اخترعوا قصصا أخرى كان القصد منها تحقير اليهود وفضيحتهم.
وليس هنا مكان بحث في أصل كره الساميين وانتشارهم في العالم القديم، ويكفي أن نذكر هنا أنه يوجد لها عدة مراكز من بينها مصر، وقد كانت هناك أسباب محلية مختلفة لظهورها هما حبهم للمال ودسائسهم التي كانت لا تنقطع، وفي خلال العصر الهيلانستيكي كله كان كره الساميين لا يتعدى ما وراء الحدود الأدبية المحضة، وفي مصر على أية حال نجد بعض تلميحات تظهر أنها بدأت تطورًا جديدًا من صورتها الأدبية إلى استفزاز قوي عملي ذي صبغة سياسية واجتماعية، وعلى ذلك لدينا بعض معلومات عن اضطهاد لليهود حوالي عام 88ق.م، وقد قام بهذا الاضطهاد الإسكندريون يعاضدهم أحد أولاد كليوباترا الثالثة وهو بطليموس التاسع «لاثيروس» (حمص) أو بطليموس العاشر الإسكندر، هذا ونجد في بعض الأوراق البردية المؤرخة بحوالي عام 58ق.م أنه قد جاء ذكر اضطرابات محلية، ويعتقد بعض العلماء أن هذه الحوادث تشبه في صبغتها الاضطرابات التي قامت مناهِضة لليهود، ومن الأوراق الهامة جدًّا الورقة رقم 141، ولكن مما يؤسف له أنها ممزقة تمزيقًا سيئًا، وقد جاء فيها أن بعض أشخاص غير معروفين لنا ولكنهم مُيزوا بأنهم «يمقتون اليهود»، وهذه العبارة يمكن أن تُستخدم بوصفها مقدمة للعهد الروماني فعندما ظهر كره اليهود بمثابة منهاج منظم تمامًا لطرد اليهود من كل المراكز التي وصلوا إليها في عهد البطالمة سواء أكانت سياسية أو اجتماعية.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
