موقعة رفح
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج15 ص 361 ــ 365
2025-10-29
37
وفي ربيع عام 217ق.م أخذ «بطليموس الرابع» القيادة في يده، وزحف من الإسكندرية على رأس جيش قوامه ثلاثة وسبعون ألف مقاتل من المشاة وخمسة آلاف من الفرسان يعززهم ثلاثة وسبعون فيلًا من الفيلة الأفريقية، وصحبت «بطليموس» في هذه الحملة أخته «أرسنوي» أيضًا، وكان الوزير «سوسيبيوس» في هذه الحملة يقود الجنود المصريين القُحَّ، وهم الذين درَّبهم خصيصًا لهذه الحرب، والظاهر أن القواد الآخرين لم يكن في مقدورهم قيادتهم.
هذا ما كان من أمر الجيش المصري، أما «أنتيوكوس» الذي قضى الشتاء في «بطاليمايس» فإنه زود جنوده بمجندين جدد، وقد أعد كلَّ جيشه ليباغت به «بطليموس» وجنوده، وقد دلَّ الفحص على أن جيش «أنتيوكوس» كان خليطًا عجيبًا من كل الأمم المجاورة؛ فكان يحتوي على جنود من «داهس» ومن «كارمانيا» ومن الفرس، ومن «ميديا» ومن «كادوسيا» ومن العرب، و«سيلسيسيا» و«تراقيا»، و«كريت» و«ليديا» و«كرداسيا» وبلاد الغال، هذا بالإضافة إلى جنود مرتزقين من الهيلانيين، وكان عدد جيشه يبلغ حوالي اثنين وستين ألفًا من المشاة وستة آلاف من الفرسان ومائة واثنين من الفيلة، ومن ثَم نرى أن القوتين المتحاربتين كانتا متقاربتين بوجه عام من حيث العدد.
وتقابل الجيشان عند «رفح» التي تقع في منتصف الطريق المؤدية لغزة، ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن «رفح» هذه كانت ملتقى تطاحن جيوش منذ عهد «سرجون الثاني» ومن بعده في عهد «أسرحدون» الأشوري 672ق.م وقد تحدثنا عن ذلك في الجزء الثاني عشر من هذه الموسوعة.
وقد حدث أنه في خلال بضعة الأيام التي قضاها الجيشان يراقب الواحد منهما الآخر على مسافة حوالي خمسة أميال؛ أن أخطأت «بطليموس الرابع» طعنة خنجر وهو في سرادقه على يد «تيودوتوس» الأيتولي، وقد أخطأته الطعنة بوجه الصدفة؛ لأنه لم يكن موجودًا في سرادقه الرسمي أثناء تلك الليلة، وقد عاد «تيودوتوس» هذا مع شريكيه في الجريمة دون أن يمسَّهم أقل أذًى، ولكن بعد أن قتلوا خطأ «أندرياس» طبيب «بطليموس الرابع».
وعلى أية حال لم يؤثِّر هذا الحادث في نفس «بطليموس» ومضى فيما حضر من أجله، ولا غرابة في ذلك فإنه لم يكن في مقدوره أن يتخلَّى عن منازلة عدوه؛ لأن الصحراء المترامية الأطراف التي قطعها في خمسة أيام كانت وراءه، وليس فيها ماء إلا ما حمله معه، يضاف إلى ذلك أن جيشه لم يكن لديه ما يقتات منه إلا ما زُوِّد به في «بلوز» (الفرما)، وعلى ذلك وطَّد العزم على مهاجمة العدو، وقاد بنفسه جناحه الأيسر مواجهًا «أنتيوكوس» خصمه الذي كان يقود جناح جيشه الأيمن، وكان بجانب «بطليموس» أخته «أرسنوي» ملكة البلاد، وقد كان «بطليموس» وبلاطه قد أهملوا هذه الملكة بأن جعلوا ملك البلاد ينصرف عنها بالانغماس في الشهوات، غير أنها مع ذلك أَبَتْ أن تتخلَّى عن زوجها وأخيها في ساعة الخطر وفي وقت الشدة.
وهكذا تحدِّثنا المصادر التي في متناولنا أنه في جنوبي «رفح» واجه جيش «بطليموس» جيش عدوِّه وخصمه «أنتيوكوس» الثالث.
وكان كلٌّ من الفريقين قد وضع مُشاتَه حَمَلة الحراب في القلب، أما المشاة الآخرون فقد أخذوا مكانهم في الجناحين، في حين أن الفرسان كانوا قد احتلوا أماكنهم على الطرفين، وكان الملك «بطليموس» — وبجانبه أخته «أرسنوي» — يقود الجناح الأيسر، أي كان يواجه «أنتيوكوس» الذي كان يقود جناح جيشه الأيمن. هذا وكان أمامه أربعون فيلًا أفريقيًّا تواجه ستين فيلًا آسيويًّا رمى بها «أنتيوكوس» في ساحة القتال، وكان كلٌّ من العاهلين يصحب معه الجنود حملة الدرع الخاصين به والذين تحت قيادته، وبادر «بطليموس» بخوض غمار المعركة، ولكن «أنتيوكوس» تردَّد في بادئ الأمر غير أنه قبل خوض غمار الحرب على عدوه في 22 يونيو (1).
وعندما اقترب «بطليموس» من ميدان القتال ظهرت أخته «أرسنوي» على صهوة جوادها على طول خط القتال المصري في مقدمة الجيش حاثَّة الجنود على منازلة العدو بقوة وحماس، وكان أول نتائج المعركة أن كُسِر جناح الجيش المصري الأيسر الذي كان يقوده «بطليموس»؛ وذلك بقوة هجوم «أنتيوكوس» الذي كان يقود جناح جيشه الأيمن كما أسلفنا، وبذلك خرج هذا الجناح من الجيش المصري من ساحة القتال، يضاف إلى ذلك أن الفيلة التي كانت على يساره فرت أمام الفيلة الهندية التي انقضت على حَمَلة الدروع مخترقين صفوفهم، وعندئذٍ انقضَّ «أنتيوكوس» بجواده حول طرف الجيش المصري، وشتَّت البقيَّة الباقية من جناح العدو، ولما كان «أنتيوكوس» لا يزال غضَّ الإهاب تجرى في عروقه دم الشباب الحار فإنه ألقى بالقيادة في مهب الريح، ولم يفكر قط إلا في مطاردة «بطليموس» الذي ولَّى الأدبار مع فلول الجناح الذي كان يقوده، ولكن «بطليموس» في تلك الأثناء كان قد خلَّص نفسه من خيَّالته الفارِّين، وعاد إلى قلب الجيش الذي لم يكن قد دخل المعركة بعدُ وقاده بنفسه، ولم تلبث أن ظهرت نتيجة التدريب الطويل الذي قام به «سوسيبيوس» لإعداد الفرق المصرية أبناء النيل المنحدرين من أصلاب أبطال قادش وماجدو؛ إذ نرى جنودها يشتتون شمل فرقة حَمَلة الحِراب — من الإغريق المقدونيين — التي كانت أمامهم، وذلك بهجومهم الجبَّار يقودهم «سوسيبيوس» نفسه، يضاف إلى ذلك أن الملك «بطليموس» — على غير انتظار منهم — كان يقودهم في المعركة. هذا، ولمَّا عاد «أنتيوكوس» إلى ساحة القتال بعد مطاردته لفلول الجناح الأيسر المصري وجد أنه قد خسر المعركة؛ إذ ترك الجيش السوري على أرض المعركة عشرة آلاف من حَمَلة الحِراب وأكثر من ثلاثمائة فارس، كما وقع في الأسر أربعة آلاف جندي.
أما الجيش المصري فلم يخسر إلا حوالي 1500 مقاتل من حملة الحراب وسبعمائة من الفرسان، ومن الغريب أن «أنتيوكوس» عندما رجع إلى ساحة القتال ظنَّ في بادئ الأمر أنه هو المنتصر من وجهة نظره، وبعد أن اتضحت له الحقيقة، وعاتب رجال جيشه على تخاذلهم عاد أدراجه بكل سرعة إلى رفح، وفي اليوم التالي حاول أن يعيد تنظيم صفوفه، ويجعلها تواجه العدو كرَّة أخرى فلم يفلح، ورجع أدراجه متقهقرًا بفلول جيشه إلى غزة، ولكنه لم يمكث فيها إلا مدة قصيرة؛ ليحصل في خلالها من «بطليموس» على السماح له بدفن موتاه.
وبعد ذلك عاد «أنتيوكوس» يجرُّ ذيول الخيبة والهزيمة إلى أنطاكية على جناح السرعة وهو خائف يترقَّب وقوعه بين عدوَّيْه «بطليموس» و«آخاوس»، وقد أفاد «بطليموس» من انتصاره هذا على «أنتيوكوس» بعض الشيء بينما كان في إمكانه أن يحصل لنفسه على أشياء كثيرة من مثل هذا النصر الذي لم يكن يأمل يومًا ما في الحصول عليه، ولكن في الواقع كان «بطليموس» نفسه في دهشة، ولم يكد يصدِّق بما وضعه الحظ بين يديه، وعلى أية حال فإن هذا النصر كما يقول «بوليبيوس» قد أخرَّه فعلًا عن الرجوع إلى الإسكندرية؛ ليتابع عيشة الخلاعة والمجون التي كان متعوِّدًا عليها.
هذا ونجد أنه بعد أن تظاهر أولًا بمظاهر الكبرياء — ليخفي تعجله للأمور — منح المبعوثين الذين جاءوا من قبل «أنتيوكوس» هدنة مدتها سنة، وأوفد «سوسيبيوس» للمفاوضة في عقد هدنة نهائية، غير أننا — على أية حال — لا نعرف شروط هذه المعاهدة حتى الآن، ومهما يكن من أمر فإن «أنتيوكوس» أخلَّى «لبطليموس» الموقعين الهامَّين اللذين كان يحتلهما، وهما «بطاليمايس» و«صور» ولم يكن هناك ما يمنع «بطليموس» من الاستيلاء على «سوريا الجوفاء» دون أية حرب.
لهذا نجد أن «بطليموس» بعد أن كافأ «أندروماكوس» بتوليته حاكمًا على سوريا، كما كافأ رجال الجيش كذلك بمبلغ ثلاثمائة ألف قطعة من الذهب سار بنفسه وبصحبته أخته وزوجه «أرسنوي»، على رأس حملة في سوريا وفِلَسْطين لمدة ثلاثة أشهر تقريبًا؛ ليتمم إخضاعها لحكمه، وقد غَمَره جماهير كثيرة من المدن بترحابهم الحار؛ وذلك لأن أهالي سوريا كانوا يفضلون الحكم «البطلمي» على الحكم السليوكي، وقد أجابهم «بطليموس» على استقبالهم الرائع له بأن احترم معبوداتهم، وقدَّم لها القربات في المعابد، كما أعاد النظام والوئام في المدن.
ولا نزاع في أنه خلال تلك الجولة التي قام بها «بطليموس الرابع» قد ذهب إلى أورشليم، وهناك عرف عن تجربة شخصية تعصُّب اليهود؛ إذ إن مؤلف الكتاب الثالث للمكابيين يؤكِّد لنا أن «بطليموس الرابع» بعد أن قدَّم هدايا لإله اليهود «يهوه» أراد أن يدخل قدس الأقداس في معبدهم على الرغم من الكاهن الحارس له، وعند سماع هذا الخبر ثارت كل المدينة مما أدَّى إلى إصابة الملك بنوع من الفزع الخارق عن المألوف، لدرجة أن رجال حرسه حملوه مغشيًّا عليه، وقد تحدَّثنا عن هذا الحادث في غير هذا المكان في الجزء الرابع عشر من مصر القديمة.
وعلى أية حال عاد «بطليموس الرابع» بعد ثلاثة أشهر قضاها في سوريا — تاركًا حكمها في يد «أندروماكوس» — ومعه أخته وزوجه «أرسنوي» وسُمَّاره إلى الإسكندرية؛ حيث لم يدهش القوم كثيرًا عندما رأوا أن الملك ينقلب على حين غفلة إلى صاعقة حرب.
............................................
1- Polyb., V, 81.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة