ان النظريات العلمية الاولى كانت بسيطة، لكنها ذات اهمية كبيرة ، ثم أتت نظريات أعمق وأشمل ، لا تخلو من تفاصيل دقيقة ، وأجزاء معقدة ، فركنت تلك النظريات جانبا ، وبدأ العلماء يتعاملون مع نظريات حديثة، ومع ذلك لا يمكن التخلي عن النظريات الأولى تخليا تاما ، فهي كانت البذرة الأولى لنمو النظريات الحديثة وتطورها، فالنظريات الحديثة قد تكون ترقيعا للنظريات الاولى في كثير من الاحيان ، لكن هذا الترقيع قد يكون فيه الكثير من العقبات ، فتؤدي هذه العقبات الى القضاء على النظرية الأولى ، وبناء نظرية حديثة، ولا ينبغي لنا ان نقول ان بناء نظرية جديدة يستلزم هدم النظريات السابقة من أساسها ، بل التحقق من خطأ عيوبها وتطويرها. فاذا اثبتت النظرية صحتها اليوم قد يثبت خطؤها غدا، وقد يثبت. نظرية ما في وقت من الأوقات ثم بعد ذلك يثبت صحتها. إن كل نظرية لها حدود تقف عندها مما يستدعي البحث عن نظريات أخرى، ولا يمكن أن نسلم بالنظريات تسليماً مطلقاً، وهذا ما يجعل العلم في تطور لا يتوقف عند حد.
إن الضرورة هي التي تؤدي الى دراسة الظواهر الطبيعية، وصياغة نظريات لها، أو هدم نظريات قديمة، وبناء نظريات جديدة حسبما يقتضيه التطور، والتجارب هي التي تصدر حكما بهدم نظرية، وبناء نظرية أخرى. يقول اينشتاين (يمكن اثبات النظرية بالتجربة، لكن لا يوجد مسار يقود من التجربة الى ولادة نظرية) ويقول عالم الفيزياء ريتشارد فاينمان: (ليس مهما مدى جمال نظريتك وكم أنك ذكي ... ما دامت النظرية لا تتفق مع التجربة فهي خاطئة).
ان بعض الظواهر الطبيعية لا تستند الى فرضية واحدة ؛ فحركة الكواكب حول الشمس مثلا تفسرها قوانين نيوتن ، ومع ذلك فهناك قوانين اخرى مبنية على فروض مختلفة تنجح في ذلك ايضا وكثيراً ما نرى بعض النظريات وضعت لتفسير ظاهرة معينة ، ونجحت في تفسير ظواهر اخرى ، فتتحول النظرية من تفسير حالة فردية الى تفسير حالات متعددة ، فتكون النظرية أشمل وأوسع ؛ وبذلك تزداد اهميتها بقدر ما تفسر من ظواهر ، وهي كلما كانت مفهومة أكثر زادت ثقة الناس بها.
استندت بعض النظريات الاولى الى أدلة ضعيفة ، وقد تكون مفتعلة في تفسير بعض الظواهر ؛ فأدى ذلك الى نشوء نظريات دقيقة بأدلة قوية ، وقد تكون الأدلة في بعض النظريات أكثر وضوحا إن النظريات الحديثة استطاعت أن تفسر أغلب الظواهر الطبيعية ، وجعلت معلومتنا أوسع ، ووصلت الى حلول أشمل ، لكن كلما توصلت النظرية الى حلول ظهرت مشاكل جديدة ؛ وبذلك تكون شكوكنا وصعوباتنا أكبر كلما كانت معلوماتنا أوسع ، وكلما تعمقنا في التفاصيل ظهرت تفاصيل اخرى ؛ وهذا الذي يجعل النظريات في تطور مستمر لا يتوقف، ويبدو انه لن يتوقف ، والانسان لا يمكن له ان يتوصل الى المعرفة التامة ، والانسان الذي يدعي المعرفة التامة اشبه بالذي يتقن سياقة السيارة ، ولا يعرف كثيرا عن عمل آلاتها وربما كلما فكر في عمل آلات السيارة لم يزدد الاحيرة ، وارتباكا.
وبعض العلماء ازالوا الافتراضات المفتعلة ، وأضافوا حلقات الى سلسلة النظرية ، والتجربة للوصول الى فهم أعمق للحقائق ، وهذه الحلقات : رغم أنها حلقات اساسية لكنها زادت النظرية تعقيداً في الجانب الرياضي منها ؛ فصار الطريق من النظرية الى التجربة اطول واكثر تعقيداً ، ورغم ذلك فان علم الطبيعة الحديث اسهل من علم الطبيعة القديم ، ونحن كلما كانت صورتنا عن العالم الخارجي اكثر وضوحًا كلما ازدادت قوة ايماننا بنظام الكون الدقيق ، وتناسقه ؛ لذلك تحتاج بعض النظريات الى مهارة عالية في الرياضيات ؛ فكل نظرية حديثة تصاغ بلغة الرياضيات ؛ فالرياضيات هي وسيلة منطقية ، لكنني في هذا الكتاب سأتجنب استعمال لغة الرياضيات ؛ لأن ذلك يستلزم على القارئ الالمام بالرياضيات ، وسأركز على الأفكار الأساسية للنظريات العلمية دون ذكر البرهان الرياضي مما يجعل الكتاب مفهوما للفيزيائي، وغير الفيزيائي، وكثيرا ما تكون افكار النظرية ناتجة من الخيال الواسع والتفكير المبدع للعلماء ، اما الرياضيات فهي تطبيق لتلك الافكار.
الغرض من اي نظرية جديدة هو أن تؤدي الى اكتشاف ، وتفسير ظواهر جديدة بقوانين جديدة ، ولا توجد في العلم نظريات دائمة ، فبعض الحقائق التي تأتي بها نظرية ما تنمو ، وتزدهر تدريجياً ، ثم تتداعى سريعاً ؛ أثر فشلها في التجربة ، وبعض النظريات تنجح في عشرات التجارب ، وتفشل في تجربة واحدة ؛ وهنا لا نستطيع الحكم على النظرية بالفشل التام.
ان كل نظرية تمكننا من اشتقاق قوانين جديدة لابد من أن تؤدي الى تقدم كبير في العلم، وعكس ذلك، فهي نظرية جامدة لا يمكن أن يبنى عليها نظرية جديدة. فنظرية النسبية مثلا سمحت باشتقاق قوانين جديدة، وفسرت ظواهر عديدة، ولو أنها اقتصرت على مجموعة قوانين غير قابلة للتوسع لما كان لها هذا التأثير الثوري. إن بعض الظواهر الطبيعية تجري حسبما تقتضيه الظروف وكأن لها من الوعي ما يجعلها تتكيف مع الظروف المحيطة بها ، واحياناً يكون سلوكها في ظروف معينة مناقضا لسلوكها في ظروف اخرى ، فالضوء مثلا يتصرف كموجة في ظروف معينة ، ويتصرف كجسيم في ظروف أخرى ؛ ولذلك اضطر العلماء الى وضع آراء ، ونظريات جديدة ، لتخطي حواجز التناقضات التي تعترض طريق التقدم العلمي، فنحن لا نستطيع أن نرغم الظواهر على افتراضاتنا ، بل هي من تفرض علينا وعلى الفكر البشري أن يكتشف النظرية حسب فرضيات الظواهر وهذا التناقض في سلوك بعض الظواهر ولد آراء علمية عديدة وقد تكون صحيحة كلها ، لكن الرأي الأقرب للصحة هو الذي يوفق بين السلوكيات المتناقضة قدر الامكان.
تصنف القوانين الفيزيائية إلى تجريبية ، ونظرية ، فالقوانين التجريبية هي التي تنتج بالتجربة بشكل مباشر ، أو غير مباشر ، كما أن الظواهر التي تثبت بالتجربة تسمى الظواهر المرصودة للإشارة الى أنها يمكن رصدها بشكل مباشر ، وبهذا يمكن لنا أن نعرف القوانين التي تدور حول المرصودات بالقوانين التجريبية؛ أما القوانين النظرية فهي القوانين التي لا تنتج بالتجربة ، أو بالأحرى لا يمكن إجراء تجربة دقيقة لاستنباطها ؛ فهي تستنبط اعتمادا على نظريات رياضية ؛ ذلك لأنها تختص بالأشياء التي لا يمكن رصدها.
إن علماء الفيزياء يعبرون عن الظواهر الطبيعية بمقدار كمي وفقا للقوانين التجريبية ، والنظرية ، ويصغونها بلغة الأرقام. أما الفلاسفة فلا يهتمون للمقدار الكمي ، ويكتفون بوصف الظواهر بالكلمة ، فهم يصفون الجسم الحار بكلمة حار ، والجسم البارد بكلمة بارد ، وهذا الجسم ازرق اللون ، وذاك الجسم احمر اللون. ان هذه المسميات التي يتشدق بها الفلاسفة لا معنى لها في لغة الفيزياء.
فالفيزيائي لا يقول هذا الجسم حار أو بارد، وانما يعبر عن تلك المسميات بالأرقام ، فيقول درجة حرارة الجسم هي كذا درجة مئوية او فهرنهايتية او غيرها من الوحدات، ويعبر عن لون الجسم بالقيمة العددية لطوله الموجي ، بدلا من أن يقول ارزق ، أو احمر ، فالمسميات إذن لاتهم الفيزيائي ، وهي لا تعني شيئاً في لغة العلم الحديث ؛ فالذي يعنيهم هو الأرقام لا الكلمات .
ان من الأسباب التي جعلت الفلاسفة يميلون إلى التعبير عن الظواهر بلغة الوصف هو علاقتهم السيكولوجية بكلمات اللغة ؛ ولذلك نراهم لا يهتمون للتعبير عن الظواهر بلغة الأرقام ، وهم في ذلك لا يختلفون عن العامة في هذه الناحية .
فالعامة يميلون إلى وصف الشيء بالكلمة وينبذون الأرقام ، والرموز العلمية فنراهم يوصفون الجسم الأزرق بعبارة لونه ازرق ، بدلا من أن يوصفوه بالقيمة العددية لطوله الموجي .فالوصف بالكلمة مألوف لدى العامة ، اما الوصف بالعدد فهو يعد أمراً طارئاً على ثقافتهم التي نشؤوا عليها ، والإنسان بطبيعته ميال نحو المألوف.
إن الفلاسفة لا يستخدمون قوانين الرياضيات البحتة ، كقاعدة أساسية للتفسير العلمي ، ولذلك نجد نظرياتهم كثيرا ما تخلو من طابع اليقين الذي نجده في كثير من النظريات الفيزيائية المعتمدة على القوانين الرياضية ؛ ولذلك بقيت نظريات الفلاسفة في الظواهر الطبيعية ذات نفع ضئيل يكاد يكون معدوما لمئات السنين ، ولعلها أضرت التقدم العلمي في كثير من الأحيان ، فالجمود العلمي في الفكر الإنساني ؛ سببه تسليم عامة الناس بتلك النظريات الفلسفية التي تعتمد على سحر الكلمة ، والناس ازاء الفلاسفة صامتون لا يناقشونهم ، ولا يجادلونهم ، احتراما ، وتقديسا لهم او مخافة أن يتهموهم بالغباوة ، والجهل ؛ ولذلك صدق العامة بكل ما جاء به الفلاسفة القدماء ، وسلموا تسليما ، فلا يحتجون ولا يصرخون .
ان الثورة العلمية التي حصلت منذ عهد نيوتن ، وغاليليو هي ثورة ضد نظريات الفلسفة القديمة ، وقد حلت القوانين الرياضية محل النظريات الفلسفية الجوفاء ، وأحدثت انقلابا هائلا في نمو التفكير ، فالفيزيائيون ادخلوا لغة الأرقام بدل الوصف الكلامي . وأحدثت هذه الثورة تطورا سريعا في العلم ؛ وبذلك استطاع الإنسان أن يستبدل السيارة ، والطائرة بالبعير ، والحصان ولو لم تحدث تلك الثورة العلمية ، وبقينا على النظرية الفلسفية القديمة لبقينا نتنقل على البعير والحصان الى اليوم ، ونعدها خير وسيلة للنقل.
كان الفلاسفة يبحثون ميتافيزيقية الأشياء التي لا تسمن ولا تغني وجاء علماء الفيزياء وخلصوا العلم من براثن الميتافيزيقيا، واكتفوا بتفسير الظواهر الطبيعية وفق قوانين رياضية حتى أعلن علماء ألمان في القرن التاسع عشر أمثال جوستاف، وكيرشوف (Gustav Kirchoff)، وارنست ماخ (Ernst mach) انه لا يحق للعلم أن يبحث في ((لماذا))؟ ولكن يحق عليه أن يبحث في ((كيف))؟
وكانوا يعنون انه لا ينبغي للعلم أن يبحث عن عوامل ميتافيزيقية مجهولة تكون مسؤولة عن حوادث معينة ، وإنما ينبغي فقط أن توصف مثل هذه الحوادث في إطار قوانين وكان فلاسفة ألمان يبحثون عن عوامل ميتافيزيقية تكمن خلف الظواهر الطبيعية ، وهي ليست في متناول المنهج العلمي ، وقد قاوم علماء الفيزياء وجهة النظر هذه بقولهم : "دعونا، وشأننا ، وخذوا معكم أسئلتكم (لماذا؟) فليست ثمة اجابة عنها في حدود القوانين الفيزيائية". وبذلك تضاءلت أسئلة (لماذا) تدريجيا ، وحلت محلها أسئلة (كيف) وبهذا صار المناخ الفيزيائي العالمي مبنيا على الواقع التجريبي، بدلا من الميتافيزيقيا؛ وبذلك نسفوا نظريات الفلاسفة نسفا شاملا. كان الفلاسفة القدامى يثقون ثقة مطلقة بالعقل ، وقدرته على اكتشاف الحقيقة ، اما الحس ، فهو بنظرهم معرض للخطأ دائما ؛ ولذلك كانوا يهملونه، ويستخفون به، ويلجؤون إلى العقل في تفسير اي ظاهرة طبيعية ظنا منهم أنه الطريق الأمثل للمعرفة الصحيحة، ولا يوجد سبيل غيره، فيكتفون بما يأتي به التفكير المجرد، ويستنبطون منه النتائج المطلوبة؛ وبذلك أخذت النزعة العقلانية تطغي على معظم الفلاسفة.
ان هؤلاء العقلانيين يعتقدون أن العقل البشري قادر على الوصول إلى الحقيقة دون الحاجة إلى التجربة، وبذلك صاغوا معظم نظرياتهم على التفكير، والتفكير وحده؛ فهم يعتقدون أن التفكير السليم يجعل الحقيقة قد تتمثل في أذهانهم كاملة؛ وبذلك فهم يفضلون حساب أسنان الحصان من طريق التفكير، بدلًا من الذهاب إلى الحصان وحساب أسنانه كما حصل عند فلاسفة القرون الوسطى في اوروبا، وهم بهذا الاعتقاد ظلموا أنفسهم، وظلموا البشرية معهم، فقد صرفوا الكثير من وقتهم في التفكير دون جدوى.
شد ارخميدس من بينهم عن هذه القاعدة ونبغ في العلوم التجريبية، وصنع الآلات فكان الفلاسفة العقلانيون ينظرون اليه نظرة احتقار ، اذ هم يحتقرون كل ما من شأنه استخدام الحواس ؛ فلا يليق بالمفكر النزول إلى مستوى الحس ليستقريء الحقائق على حد تصورهم. ان العلوم التجريبية لم تتقدم الا بعد أن هبطت النزعة العقلانية المجردة من عرشها ، وأخذت النزعة الحسية ترافقها تدريجياً ؛ فالعلوم التجريبية تبنى على العقل والحس. يقول عالم الفيزياء العربي الحسن بن الهيثم في كتابه المناظر : ...... فحصت لذلك في ضروب الآراء ، والاعتقادات ، فلم ألحظ من شيء بطائل، ولا عرفت منه للحق منهجا ولا الى الرأي اليقيني مسلكا جيدا ، فرأيت انني لا أصل إلى الحق إلا من آراء يكون عنصرها الأمور الحسية ، وصورتها الامور العقلية". وكان ابن الهيثم يعني : ان العلم الحقيقي هو العلم الذي يبنى على التجربة والتفكير ؛ فالعلوم الحقيقية هي علوم تجريبية ، اما البراهين العقلية ، فهي امور ظنية مقدرة في الاذهان قد تكون صائبة ، وقد تكون خاطئة ، ومتى ما اتفق التفكير في الشيء مع الحس كانت النظرية أقرب الى الصواب منه إلى الخطأ.
لكن الفلاسفة يظنون أن النظرية الناتجة من التفكير السليم لا تحتاج إلى برهان تجريبي ؛ وهذا الظن ناتج من تسليمهم بالمقدرة العقلية تسليماً مطلقاً واعتبارهم العقل مرآة
الحقيقة.
ظهر مبدأ النسبية علاوة على مبدأ العقلانية في العصور القديمة، وما زالت الى اليوم وفي هذا المبدأ الكثير من العراقيل التي تقف بوجه التقدم العلمي ، فاذا حدث حادث لسبب غير معروف؛ لجأ الفلاسفة إلى انكاره ، وتكذبيه حالا ؛ فهم لا يصدقونه ما داموا لا يعرفون سببه ، حتى لو شهده الناس جميعاً.
إن الأسباب قد تكون احيانا سرًا من أسرار الطبيعة الخفية التي لم يكتشفها العلم بعد ، لكن جهلهم بتلك الأسباب ؛ يجعلهم ينكرونه انكارا تاما ، ويعدونه مستحيلا غير مدركين أن عقولهم محدودة، ولابد أن يأتي اليوم الذي يجعل من المستحيل ممكنا ، فالعلم في تطور مستمر ، والغريب أن الكثير من المتعلمين اليوم ينكرون الوقائع ؛ لمجرد جهلهم بأسبابها ، أو يعزونها إلى الخرافات والأساطير ؛ ذلك لأنهم اعتادوا على أن يكذبوا كل أمر لا تستطيع عقولهم تعليله. أنكر مبدأ السببية كثيراً من الأمور في القرون القديمة ، والوسطى ، ثم ثبتت
صحتها في العصر الحديث إن علماء الفيزياء إذا اكتشفوا شيئا لا يستطيعون تفسيره لا يتركونه ، ولا يكذبونه ، بل يقرونه حال اكتشافه ، ثم يبحثون عن اسبابه ، وربما يستمر البحث عن أسبابه عشرات السنين ، ويتعاقب على البحث عليها جيل بعد جيل ، فعالم الفيزياء بلانك مثلاً ، لم يستطع أن يجد تفسيراً للثابت الذي اكتشفه في معادلته الشهيرة لطاقة الإشعاع الا بعد سنوات من البحث ، والتقصي.
إن علماء الفيزياء لا يدرسون صور المادة، بل يدرسون محتواها اما الفلاسفة ، فيهتمون بصورة المادة اكثر من اهتمامهم بمحتواها، فالصورة في نظرهم تعكس محتوى المادة وهم في هذا أشبه بالطفل الذي يدخل الى محل الشكولاتة ، فيختار الشكولاتة ، ذات الغلاف الملون بالوان زاهية جذابة ؛ حيث يظن ان كل ما كان الغلاف جميلًا جذابا كان ما في داخله لذيذا.
نرى بعض من المثقفين اليوم متأثرين بالفلسفة القديمة إذ يظنون إن الكتب القديمة أتت بالقول الفصل فلا يخرجون ؛ ولا يهتمون بما اكتشف العلماء من نظريات حديثة ونراهم يتجادلون في مجالسهم ومحافلهم ، كما يتجادل الفلاسفة غافلين عما جاء به من العلم الحديث من نظريات جعلت من بعض أقوال الفلاسفة القدماء ساذجة وسخيفة لا يقرها علم ولايستسيغها عقل ، ومن الظلم أن نطالب الإنسان الذي يعيش بين الكتب القديمة أن يؤمن بما جاء به نیوتن ، و اینشتاين من نظريات حديثة.
كان الفلاسفة القدماء بارعين في الإتيان بأي فكرة يستطيعون من خلالها تفنيد كل شيء يخالف منطقهم واثبات كل شيء يلاءم منطقهم؛ ولذلك كانت أفكارهم مطية لأغراضهم وميولهم يستخدمونها متى شاءوا، ويفندونها متى شاءوا، حسبما تقتضيه حاجاتهم ، ومن المؤسف ان نجد بعض فلاسفة الإسلام يعتمدون على الفلسفة القديمة في الكثير من طروحاتهم، وينظرون إليها نظرة إعجاب ، وتقديس.
كان الفلاسفة القدماء يقدسون العقل ويحتقرون البدن؛ ولذلك كانوا يلجؤون الى التفكير ويعدونه وسيلة لتنقية الانسان من اوهام الحس، فالتفكير نتاج العقل والحس نتاج البدن؛ والعقل في نظرهم لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه ، أما البدن فهو كثير التأثر بالأوهام ولذلك كانوا يقدسون العقل، ويحتقرون البدن.
مات الفلاسفة القدماء وتركوا بعدهم أثرا هائلا في نفوس الكثير من الناس وأخذ الناس يرجعون إلى ذكراهم فيشيدون بفضلهم ويغالون في تمجيدهم.
لا ننكر أن لأفكار الفلاسفة القدماء فضلا في نمو التفكير ، وسير العلم ، لكنها وضعت صخره كبيرة في منتصف الطريق ، لا يمكن للعلم أن يتعداها ، فبقي الإنسان لمئات السنين يراوح في مكانه أو يرجع إلى الوراء وكانت سبباً في عدم ظهور التكنولوجيا الا بعد ما حدثت الثورة العلمية في القرون الأخيرة ؛ فقد استطاعت تفتيت تلك الصخرة ، وسارت في طريق العلم بخطى سريعة ، ونما نموا كبيرا ، كما لا ننسى أن للعوامل الاقتصادية ، والسياسية دوراً كبيراً في تأخر التكنولوجيا. وعلينا أن نعلم أن العلماء هم بشر اولا واخيرا ولهم عقائد دينية و موروثات اجتماعية ولا يختلفون عن عامة الناس، فضلا عن الفلاسفة في التأثر بالعقائد الدينية والموروثات الاجتماعية، وقد نجد احدهم قد ساهم مساهمة كبيرة في تطور البشرية ونمو حضارتهم، وفي الوقت نفسه نجده يتبرك بالبقرة، ويقدس النار، ويسجد الحجر.
سنتطرق في فصول هذا الكتاب إلى أفكار الفلاسفة الإغريق حول بعض الظواهر الطبيعية ، طالما هي محاولات للفكر البشري في تفسير الظواهر الطبيعية سواء كانت ناجحة او فاشلة
الاكثر قراءة في علماء الفيزياء
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة