في هذه الغزوة -غزوة بني المصطلق- أثناء رجوع النبي ( ص ) منها تحدث الناس عن عائشة بما يمس شرفها ويسيء إلى سمعتها ، واستغل المنافقون وعلى رأسهم عبد اللّه بن أبي ما تحدث به الناس فروجه بقصد ايذاء النبي وإيقاع الفتنة بين المسلمين .
ويتلخص ما جاء حولها أثناء رجوعها كما تروي هي هذه القصة ومنها اخذها المحدثون ودونوها في مجاميع الحديث والتفسير والتاريخ وجميع الرواة لها ينتهون إليها ، فقد روى عنها الرواة بأن رسول اللّه ( ص ) كان إذا أراد سفرا اقرع بين نسائه فأيهن خرج سهمها اخرجها معه ، فلما كانت غزوة بني المصطلق اقرع بينهن كما كان يصنع قالت فخرج سهمي فحملني رسول اللّه معه وكنت نحيفة خفيفة وقد أعد هودجا لمن تكون معه من نسائه كما كان المسلمون يصنعون إذا حمل أحدهم نساءه معه ، فإذا أرادوا المسير يأتون بالجمل عليه الهودج إلى باب خيمة النبي فيتنحى الناس فأدخل الهودج ويأخذ الرجال به فيضعونه على ظهر الجمل ويشدونه في الحبال ، وذهبت مع النبي في تلك الغزوة على هذا الحال ، فلما فرغ رسول اللّه من غزوته تلك ورجع منها في طريقه إلى المدينة وسار بمن معه تلك المسيرة الطويلة التي استمرت يوما وليلة وشطرا من اليوم الثاني ونزل منزلا بات فيه ثم اذن في الناس بالرحيل .
وجاء في كتب السيرة عنها انها في تلك الساعة التي اذن فيها بالرحيل كانت قد خرجت من خيمة النبي ( ص ) لبعض حاجتها ، والهودج على باب الخيمة قد أعد لها لتدخل فيه ، وكان في عنقها عقد قد انسل منها وهي تقضي حاجتها من غير أن تشعر بذلك ، فلما رجعت إلى الرحل أدركت ان العقد قد انسل منها فرجعت إلى حيث كانت من غير أن يعلم أحد بذلك كما تزعم هي في روايتها لتلك الحادثة وفتشت عنه طويلا حتى انهكها التعب ، وخلال تلك المدة ظن القوم انها قد دخلت هودجها فاحتملوه كعادتهم ووضعوه على الجمل وساروا به وهم لا يشكون انها في هودجها .
قالت عائشة فرجعت إلى المكان الذي كانوا فيه فلم أجد أحدا وظننت ان القوم سيعلمون بحالي ويرجعون مسرعين في طلبي فاخترت ان أبقى في مكاني ولا أسير على قدمي لا سيما وقد ابتعدوا مسافة عن المكان الذي كانوا فيه ، فألقيت علي جلبابي واضطجعت فيه منتظرة رجوعهم .
وفيما انا كذلك أترقب رجوعهم كما جاء في حديثها وإذا بصفوان بن المعطل السلمي يسير في اثرهم وكان قد تخلف لحاجته فبصر بي وهو يعرفني قبل ان يضرب الحجاب على نساء النبي ( ص ) ، فلما بصر بي اقبل نحوي وقال ظعينة رسول اللّه هذه ، وسألني عن أسباب تخلفي فلم أجبه ، فنزل عن بعيره وقدمه لي وتخلف ناحية ، وقال لي اركبي ، فلما ركبت البعير انطلق يقوده مسرعا رجاء ان يدرك المسلمين قبل وصولهم فلم يدركهم ، وكانوا قد اسرعوا في مسيرتهم يريدون المدينة ليستريحوا من عناء السير ، فدخلوا المدينة ولم يفقدوني الا بعد ان حطوا أثقالهم .
ودخل صفوان المدينة في وضح النهار وانا على ظهر بعيره فأنزلني ودخلت بيتي ولم أكن أظن أحدا يحتمل بي وبصفوان السلمي سوءا .
ويروي الرواة عنها ان الظنون حامت حولها وتهامس الناس في ذلك ولكنها لم تكن تعلم شيئا مما يجري على ألسنة الناس ، وانتهى حديث الناس إلى رسول اللّه ( ص ) وإلى أبويها أبي بكر وأم رومان زينب بنت عبد دهمان ، واشتكت من عارض طرأ عليها بعد رجوعها وأنكرت من رسول اللّه موقفه منها وعدم عنايته بها وهي مع ذلك لا تعلم ما قيل وما يجري على ألسنة الناس .
وتضيف الروايات عنها بأنها قالت كان رسول اللّه ( ص ) إذا دخل علي وعندي أمي تمرضني لا يزيد على قوله « كيف تيكم » ، في حين انه كان قبل ذلك يرعاني ويتلطف بي فضقت ذرعا بما رأيته منه من غير أن اعلم لذلك سببا فاستأذنته أمي بأن تنقلني إلى بيتها لتتولى تمريضي فأذن لها ، وانتقلت معها وفي نفسي من الدهشة لهذا الجفاء ما لم أكن أتصوره .
ويدعي الرواة عنها انها ظلت في بيت أمها أكثر من عشرين يوما في مرضها حتى برئت وهي لا تعرف شيئا مما يدور حولها ، وظنت ان جويرية بنت الحارث وكان زواج النبي منها خلال تلك المدة وهي وسيمة جميلة قد حلت في قلب النبي محلها .
ويدعي المؤلفون في السيرة ان عبد اللّه بن أبي قد استغل هذا الحادث ووجد فيه ما يشفي حقده على النبي وجعل يشيعه للفتنة وإيذاء النبي وساعده على ذلك حسان بن ثابت وحمنة شقيقة زينب بنت جحش ، وعوف الملقب بمسطح ، وكانت زينب حديثة عهد بزواجها من النبي ، ومع جمالها وقرابتها منه لم تبلغ من نفسه مكانة عائشة ، وكانت حمنة تنقل اخبار عائشة لعلي ( ع ) وتجده سميعا لها على زعم السيدة عائشة .
وتروي عائشة أيضا كما جاء في كتب السيرة ان النبي ( ص ) قد استشار جماعة بشأنها بعد ان تناقل الناس حديثها منهم أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب ، فاما اسامة فقد اثنى عليها خيرا وأكد للرسول براءتها من كل ما ينسب إليها ، واما علي بن أبي طالب فإنه قال له ، على حد زعمها ، يا رسول اللّه ان النساء لكثير وإنك لقادر على أن تستخلف غيرها .
وأضافت إلى ذلك الرواية عن عائشة أنه قال له سل الجارية فإنها ستصدقك ، فدعا رسول اللّه بريرة ليسألها وقام إليها علي ( ع ) فضربها ضربا شديدا وهو يقول لها : اصدقي رسول اللّه ، فقالت له واللّه لا اعلم منها إلا خيرا وما كنت لأعيب عليها شيئا إلا اني كنت اعجن العجين فأدعوها لتحفظه فتنام عنه فتأتي الشاة وتأكله .
اما كيف انتهى خبر تلك الأسطورة إلى عائشة ، فيدعي المؤلفون في السيرة ان الخبر انتهى إليها عن طريق امرأة من المهاجرين تدعى أم مسطح ، فلقد خرجت معها ليلا لقضاء حاجة فبينا هي تسير معها وإذا بها تتعثر في كسائها ، فقالت تعس مسطح : فقالت لها عائشة بئس ما قلت لرجل من المهاجرين شهد بدرا مع رسول اللّه ، فقالت أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر ، ثم أخبرتها بالذي كان ، فلما بلغها ذلك أحست كأن السماء قد أطبقت عليها ، وكأن قلبها قد تصدع ، وذهبت إلى أمها وقد أثقلها الهم والجزاع ، فقالت لها والعبرة تخنقها : تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا . فحاولت أمها التخفيف عنها والتقليل من شأن هذه الشائعة ، ومضت تقول لها : اي بنية خففي من شأن ما قيل ، واعلمي انه قلما تكون امرأة حسناء مثلك عند رجل قد حلت من قلبه المحل الذي حللته ولها ضرائر إلا أكثرن القول فيها وحاولن الوقيعة بها حسدا منهن لها ، ولكن عائشة لم تتعز بكل ذلك وأيقنت ان النبي ( ص ) قد تأثر بما قيل لا سيما وقد رأته تغير عليها ووجدت منه جفوة لم تعهدها منه منذ ان تزوج بها ، ولكن ما عساها تصنع وقد قيل ما قيل ولفظ فيه الكثيرون واهتم بإشاعته المنافقون حتى شق ذلك على رسول اللّه ووقف خطيبا في المسلمين ، وكان مما قال :
أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق واللّه ما علمت فيهم إلا خيرا ، وما علمت من ذلك الرجل سوءا ولم يدخل بيتا من بيوتي إلا وأنا معه .
ولما انتهى النبي من حديثه حول هذا الموضوع وقف أسيد بن جعفر وقيل سعد بن معاذ وقال يا رسول اللّه ان يكن الذين يتحدثون بهذا الحديث من الأوس نكفك إياهم ، وإن كانوا من اخواننا الخزرج فمرنا بأمرك فيهم ، فأثارت مقالته سعد بن عبادة زعيم الخزرج فقال واللّه انك لم تقل ما قلت إلا وأنت تعلم أنهم من الخزرج ، ولو كانوا من قومك لم تقل ذلك ، وكاد ان يقع بينهم الشر لولا ان رسول اللّه قد أمرهما بالسكوت ، وأظهر عدم المبالاة .
ودخل على زوجته وعندها أبوها وامرأة من الأنصار وهي تبكي ، والمرأة تبكي لبكائها ، فلما رأته كفكفت دموعها ولم تفاتحه بشيء ، ثم قال لها يا عائشة : انه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتقي اللّه ، وإن كنت قد قارفت سوءا كما يقولون فتوبي إلى اللّه فإن اللّه يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات ، وانتظرت عائشة من أبيها وأمها ان يجيبا رسول اللّه ( ص ) ولكنهما سكتا ولم ينبسا بكلمة واحدة ، والتفتت إليهما والحزن مطبق على صدرها وقالت لهما ألا تجيبان ، فقالا واللّه ما ندري بما نجيب وعادا إلى وجومهما المطبق ، فاتجهت عند ذلك إلى رسول اللّه وقالت ودموعها تنحدر من عينيها واللّه لا أتوب مما ذكرت أبدا لأني بريئة ولا أتوب مما لم يكن . وسكتت قليلا وعادت إلى القول فإذا أنكرت لا اخالكم تصدقونني وسأقول كما قال يعقوب لأولاده فصبرا جميلا واللّه المستعان على ما تصفون .
ومضت تقول كما حدث عنها الرواة وابن هشام في سيرته وكنت أرجو ان يرى رسول اللّه ( ص ) في نومه شيئا يكذب ما تحدث به الناس عني ، وكانت نفسي أحقر عندي من أن ينزل بشأني قرآن يبرئني من تلك التهمة ، فو اللّه ما برح رسول اللّه منزله حتى تغشاه من اللّه ما كان يتغشاه ساعة نزول الوحي فسجي بثوبه ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه ، فلما سرّي عنه جلس يتصبب عرقا فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول البشرى يا عائشة فقد انزل اللّه براءتك ، فقلت الحمد للّه لا بحمدك ولا بحمد أصحابك وفي رواية الطبري انها قالت له بحمد اللّه وذمكم ثم خرج إلى الناس وخطبهم وتلا عليهم ما انزل اللّه عليه في ذلك[1].
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ ( النور 11 ) .
لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ ( النور 12 ) .
لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ ( النور 13 ) .
وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ . إلى قوله يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( النور 14 - 17 ) .
وجاء في سيرة ابن هشام ان الذي تعنيه الآية والذي تولى كبره ، هو حسان بن ثابت ، ونقل عن ابن إسحاق انها تعني عبد اللّه بن أبي وأصحابه .
وفي تفسير الرازي انها تعني حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة . كما روى الرازي في أسباب نزولها عن الزهري عن عروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص عن عائشة ان حديث الإفك كان في غزوة غزاها النبي ( ص ) قبل غزوة بني المصطلق ، وأضاف إلى ذلك في خلال حديثه عن أسباب نزول الآية التي تشير إليه ، ان النبي قد استشار أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب ، ولم يزد على قوله : ان عليا قال له ان اللّه لم يضيق عليك والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدقك ، فدعا رسول اللّه جاريتها بريرة وسألها عن امرها فأكدت له انها لم تر عليها ما يريب ، ولم يذكر ان عليا ( ع ) ضربها أو أساء إليها كما يدعي المؤلفون في السيرة .
وبلا شك في أن السيدة عائشة التي تنتهي إليها جميع الأحاديث حول هذه الأسطورة تريد ان تدعي بأن عليا أراد ان يغتصب من الجارية اعترافا يسيء إلى سمعتها وشرفها وتقصد من ذلك أنه كان كارها لها وحاقدا عليها منذ ان اتصلت بالرسول ( ص ) لتبرر بذلك حقدها عليه ووقوفها بجانب المناوئين والمعارضين له .
وجاء في الطبري عن بعض الرواة ان حديث عائشة كان في عمرة القضاء .
هذا هو ملخص حديث الإفك الذي اتفق الرواة والمؤلفون في سيرة الرسول على مضمونه والقصة كما ترويها عائشة ويرويها الرواة عنها ليس بذلك الوضوح الذي يفرض على الباحث ان يمر عليها بدون محاكمة ولو لبعض جوانبها ويتغاضى عن عيوبها .
لقد جاء في بداية القصة ان النبي ( ص ) كان إذا خرج لحرب أو غزوة اقرع بين نسائه فأيتهن خرجت عليها القرعة اخذها معه ، وكانت القرعة قد خرجت على السيدة عائشة في تلك الغزوة فأعد لها هودجا حملها فيه وحيثما نزل ينزل وإياها في خيمة تكون قد أعدت لهما ، في حين ان السيرة لم تتحدث بأن أحدا من المسلمين كان يأخذ معه زوجته أو امرأة في الغالب ، ولا استبعد ان يكون حديث المؤرخين عن خروج زوجاته معه في حروبه وغزواته من المكذوبات على الرسول بقصد تصويره بأنه حتى في أوقات الحرب التي هي من أعسر الأوقات وأحرجها لا يترك الملذات ولا يستغني عن النساء ، مع العلم انه في غزواته وحروبه كان يقابل أعداء من أشرس خلق اللّه يستبيحون الإساءة إليه وإلى كل من يتصل به بنسب أو حسب ، وبلا شك لم يكن يخرج في غزوة من غزواته إلا وكان يحتمل الهزيمة كما يحتمل النصر ، لأنه كان يقاتل بالأسباب العادية لا بالخوارق والمعجزات ومع ذلك فمن المستبعد ان يأخذ معه احدى زوجاته في غزواته كما يدعون وهو يحتمل الهزيمة ولو قدرت ستكون فريسة لأعدائه الألداء بلا شك في ذلك .
على اني لا أتصور من رجل كمحمد بن عبد اللّه ( ص ) عظيم في تفكيره وقيادته وغيرته ان لا يفارق النساء حتى في مثل هذه الظروف في حين ان أصحابه يخرجون معه تاركين نساءهم وأولادهم من ورائهم لا يفكرون بغير القتال واستئصال الأعداء .
هذا بالإضافة إلى انا لو أردنا تمحيص أسانيد تلك المرويات التي نصت على أنه لم يكن ليغزو غزوة الا ومعه الواحدة أو الاثنتين من نسائه لا نجد في رواية منها محلا للوثوق والاطمئنان . ولو تغاضينا عن كل ذلك فمقتضى العادة ان القائد لا يأمر بالرحيل الا بعد ان يطمئن على أن جيشه بكامله قد أصبح جاهزا ومهيأ لذلك ، وقد كان هو وزوجته في خباء واحد كما تزعم المرويات ، فكيف جاز عليه ان يغفل عنها لمجرد انها ذهبت لقضاء حاجتها ورجعت تتفقد عقدا كان قد انفرط منها ، وعملية من هذا النوع لا تستوعب زمنا طويلا ينسيه أقرب زوجاته إلى قلبه كما يزعمون ، ولا يستغرق في الغالب إلا دقائق معدودات .
وكيف انه كان لا يأمر بالرحيل الا بعد ان يتفقد جيشه ويطمئن عليه وعلى أمتعته كما تنص على ذلك المرويات ولا يتفقد زوجته وهي وإياه في خيمة واحدة وقد خرجت لحاجتها من الخباء الذي كانت وإياه فيه ، ثم يأمرهم بتحميل هودجها قبل ان يطمئن لرجوعها وبتلك السرعة الخاطفة ، ومن البعيد جدا ان تخرج من الخيمة وتعود إليها ثم ترجع حيث كانت لتبحث عن عقدها وهو لا يعلم بشيء من ذلك .
ثم إن الحادث إذا كان وهو في طريقه إلى المدينة كما يدعي المؤلفون في السيرة فكيف طلب جاريتها وسألها عن الحادث مع أن الجارية كانت في المدينة ولم تكن معها في تلك الرحلة .
ولو افترضنا ان وزن السيدة عائشة كان يومذاك ثلاثين كيلو غراما وهو أقصى ما يمكن أن تكون عليه من النحافة والضعف فمن البعيد ان لا يترك عدم وجودها اثرا على المحمل ، بحيث يظنها الموكل بتحميل الهودج فيه وهي لا تزال في خارجه .
والآيات الكريمة التي يدعي المفسرون والمؤرخون انها نزلت بهذه المناسبة ليست صريحة في ذلك ، ولو كانت صريحة في هذا الأمر لوقفنا مؤمنين خاشعين لأنها من عند اللّه العزيز الحكيم الذي لا يغرب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء .
ولكنها تقول : إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ إلى آخر الآيات والإفك لا ينحصر بهذا النوع من التهم الباطلة بل يشمل كل ما كان مخالفا للواقع وكثيرا ما كان المنافقون يفتعلون ويكذبون وينسبون للرسول وإلى المسلمين والمسلمات ما ليس فيهم .
على أن الآيات السابقة على هذه الآية قد تعرضت لحكم الزاني والزانية والذين يتهمون زوجاتهم بالسوء ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم إلى غير ذلك من الأحكام والتشريعات شأنها شأن غيرها من الآيات التي كانت تنزل على النبي لبيان الأحكام اما عند حدوث بعض المناسبات ، أو ابتداء كما يبدو ذلك للمتتبع في آيات الأحكام .
ومن الجائز ان يكون المراد من الإفك في الآية هو ما حدث بين غلام عمر والأنصاري ، وان يكون ما حدث كان مصطنعا لإيقاع الفتنة بين المسلمين ، لكي يتاح لبني المصطلق ان ينقضوا على المسلمين وهم على تلك الحالة من الصراع ، ولذا فإن النبي ( ص ) اسرع في الرحيل وتابع مسيرته على خلاف ما هو المألوف من امره ، وظل يجد السير ليلا ونهارا حتى نزل بذلك المكان .
على أن جماعة من المفسرين ذهبوا إلى أن الآية : إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ نزلت فيمن اتهم مارية القبطية ، وجاء ذلك في مجمع البحرين للطريحي مادة افك وفي تفسير السيد عبد اللّه شبر ان الآية نزلت فيمن اتهم مارية القبطية لا في عائشة وجاء في تفسير القمي ان الخاصة رووا ان الآية نزلت في مارية القبطية وما رمتها به عائشة .
وروي عن الحسن بن علي أنه قال بسنده إلى زرارة أنه قال سمعت أبا جعفر الباقر ( ع ) يقول : لما هلك إبراهيم ابن رسول اللّه حزن عليه حزنا شديدا ، فقالت عائشة : ما الذي يحزنك عليه ما هو إلا ابن جريح .
وأضاف إلى ذلك ان هناك روايات تدل على مشاركة غيرها معها في قذف مارية ، وقد ارسل النبي عليا لقتله إذا وجده عندها وذهب علي ( ع ) فوجده في البيت فلما رآه خاف منه فصعد على جذع النخلة وألقى بنفسه وشفر برجليه فإذا هو مجبوب فرجع واخبر النبي بذلك وقد ذكرنا ما كان من امره في مناسبة سابقة .
وعلى اي الأحوال فاني أرجح ان هذا الحادث مفتعل من أساسه للأسباب التي ذكرناها .
والغريب في هذا الحادث المزعوم ان المسلمين ظلوا شهرا أو أكثر يلغطون ويتهامسون حول السيدة عائشة وصفوان بن المعطل واستغله المنافقون لإيذاء النبي وإيقاع الفتنة بين المسلمين ومع ذلك فجميع من رواه قد أنهاه إلى السيدة عائشة وإلى أمها أم رومان وعنها رواه جميع المؤرخين والمفسرين لكتاب اللّه ، ومجرد اتفاق المؤرخين والمحدثين على تدوين حادثة من الحوادث لا يمنع من التساؤل والتشكيك فيها وبخاصة إذا أحيطت بمثل هذه الملابسات ولو صح ان أحدا اتهم السيدة عائشة بما يسيء لشرفها وسمعتها فمن الجائز ان يكون ذلك من وضع المنافقين وهي في المدينة مع العلم بأنه لا يتردد أحد من الشيعة ببراءتها من هذه التهمة على تقدير وقوعها وقد جاءت الآيات الكريمة لتؤكد براءتها وتضع حدا لكل من يحاولون ان يعبثوا بأعراض الناس ويقذفوا غيرهم بما ليس فيه واللّه العالم بحقيقة الحال .
[1] انظر ص 70 من الجزء الثالث طبع دار القاموس الحديث بيروت .
الاكثر قراءة في قضايا عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة