بعد تلك الغزوات المتتالية والانتصارات التي حققها المسلمون بقيادة النبي ( ص ) وبعد النكسات التي اصابتهم في أحد والرجيع والبعث المؤلف من أربعين أو سبعين رجلا إلى نجد بناء لطلب أحد زعمائها عامر بن مالك المعروف بملاعب الأسنة ظل المسلمون يعيشون في جو يسيطر عليه الخوف والحذر من حملة واسعة تشترك فيها قريش بعد ما منيت بما يشبه الهزيمة في بدر الموعد ، تشترك فيها مع غطفان وهذيل والقبائل المتاخمة لحدود الشام ، ويهود بني قينقاع والنضير الذين أجلاهم النبي عن المدينة وشردهم في الآفاق ، وأصبحوا يتربصون به وبأصحابه ويودون لو يتاح لهم ولو بأغلى الأثمان ان يدركوا ثأرهم منه .
ان محمدا الذي فر من مكة مع أتباعه ، وأصبح في بضع سنوات مرهوب الجانب يهدد الجزيرة بكاملها ، ويمني قومه بأنهم سيحكمونها مع بلاد الفرس والرومان في المستقبل القريب وقريش تعرف كل ذلك وتهزها اخباره أكثر من جميع العرب واليهود ، وهي التي وقفت في طريقه منذ ان اعلن دعوته وظلت تكافحه وتطارده طيلة ثلاثة عشر عاما حتى هاجر لينجو من الموت الذي اختارته له .
وما عليها بعد ان أعياها امره إلا أن تمد يدها إلى اليهود والأعراب في مختلف انحاء الجزيرة عساهم ان اتفقوا عليه وهاجموه في البلد الذي آواه ونصره ، ان يدركوا ثأرهم منه ومن اتباعه في أيام معدودات . وتطوع اليهود في بادئ الأمر للقيام بتأليب الناس عليه وجمعهم لمهاجمته في المدينة في حين ان هذه الفكرة كانت تراود قريشا وغيرها من العرب ولكنها شكرت لهم هذه البادرة وباركت جهودهم في هذا السبيل بعد ان جمعتهم الغاية ووحدت بينهم الأهداف .
فقد جاء في كتب السيرة والتاريخ انه في شهور شوال من السنة الخامسة لهجرة النبي ( ص ) اتفقت قريش وجماعة من الأعراب واليهود على غزو محمد في المدينة .
وكان من امرهم ان جماعة من زعماء يهود بني النضير الذين أجلاهم النبي عن المدينة وصادر بعض ممتلكاتهم منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن اخطب ، وكنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس الوائلي وجماعة غيرهم وفدوا على قريش في مكة وحرضوهم على حرب المسلمين ووعدوهم بأن يكونوا معهم حتى يستأصلوا النبي وأصحابه ، فقالت لهم قريش : يا معشر اليهود انكم أهل الكتاب الأول وتعلمون بما أصبحنا عليه نحن ومحمد ، ونحن نسألكم أديننا خير أم دينه ، فقالوا : بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه وبهذه المناسبة نزلت الآية :
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا . أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ( النساء 51 - 52 ) .
ولما سمعت قريش من اليهود ذلك استبشرت وطمعت بهذا التكتل الجديد ان يحقق لها النصر النهائي على محمد واتباعه وتواعدوا وإياهم على حربه عندما يتيسر لهم من العرب من يناصرهم عليه .
ولم يكتف اليهود بتفضيل الوثنية على التوحيد الذي يدعو إليه محمد وجميع الأديان السماوية بما في ذلك اليهودية ، لم يكتفوا بذلك بل ذهبوا يتجولون بين الأعراب ويحرضون على حرب محمد ويخوفونهم منه ومن اتباعه ان استتب لهم الأمر ، وذكروا لهم ما دار بينهم وبين قريش ، وما تم عليه الاتفاق من غزو المدينة بأكبر عدد ممكن لا يمكن للمسلمين ان يواجهوه مهما بلغوا من القوة والبأس ، وتيسر لهؤلاء ان يستنفروا أكبر عدد من الأعراب لمساندتهم وفي الموعد المعين لخروجهم خرجت قريش بقيادة أبي سفيان في أربعة آلاف مقاتل ، بينهم ثلاثة آلاف فارس ، وعقدوا لواءهم في دار الندوة واعطوه إلى عثمان بن طلحة بن أبي طلحة وقادوا معهم ألفا وخمسمائة بعير ، وخرج من بني سليم سبعمائة بقيادة سفيان بن شمس حليف حرب بن أميّة وخرج معهم بنو أسد وفزارة في الف مقاتل بقيادة عيينة بن حصن ، وخرج معهم من أشجع وبني مرة بن عوف وغيرهم عدد كبير حتى بلغ مجموعهم أكثر من عشرة آلاف مقاتل .
وبلغ خبرهم رسول اللّه ( ص ) عن طريق جماعة من خزاعة وفدوا عليه وأخبروه بالتجمع الذي أعدته قريش واحلافها من العرب واليهود لغزوه ، فجمع النبي جماعة من أصحابه وأخبرهم بما اجتمعت عليه قريش واحلافها وحثهم على الجهاد والاستعداد لمقابلة الغزاة واستشارهم فيما يجب ان يتخذه لمنعهم من دخول المدينة ، فأشار عليه سلمان الفارسي بأن يحفر خندقا من الجهة التي يمكن للمشركين ان يدخلوا منها ، وقال له : يا رسول اللّه كنا بفارس إذا حوصرنا حفرنا خندقا يحول بيننا وبين عدونا ، فاستحسن النبي وأصحابه هذا الرأي وامر بحفره ، وبهذه المناسبة اجتمع المهاجرون والأنصار بسلمان الفارسي وكل يقول : سلمان منا ، فقال النبي : سلمان منا أهل البيت كما جاء في تاريخ الطبري .
ثم إن النبي حدد لكل عشرة من المسلمين ان يحفروا أربعين ذراعا ، وكان هو كأحدهم يحفر بيده ويجهد نفسه بالعمل وواصل المسلمون عملهم بإخلاص ونشاط إذا استثنينا جماعة ممن تظاهروا بالاسلام وأبطنوا الغدر والنفاق كانوا يتسللون إلى بيوتهم ومنهم من يأتي إلى النبي يطلب الاذن ويتذرع بأسباب لا تمت إلى الواقع بصلة ويدعون بأن بيوتهم مكشوفة إلى الغزاة ومعرضة للاحتلال .
يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً .
ومضى المخلصون يعملون ليلا ونهارا لا يتركون العمل الا لأسباب قاهرة ، ثم يعودون إلى عملهم ، وبهذه المناسبة انزل اللّه على النبي الآيات التالية :
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ .
وجاء في كتب السيرة انه بينما كان سلمان مع تسعة يحفرون في المساحة التي حددها الرسول لهم ، وإذا بصخرة بيضاء قد اعترضتهم وهم يحفرون فأعجزتهم ولم تصنع بها المعاول شيئا ، فقالوا لسلمان اذهب إلى رسول اللّه وأخبره بذلك فلعله يأمرنا بالعدول عنها ، فإنا لا نريد ان نتخطى امره .
ولما اخبره بذلك اقبل عليهم وهبط بنفسه إلى الخندق وأخذ المعول من سلمان وضرب الصخرة ضربة صدعتها وخرج منها بريق أضاء أجواء المدينة حتى لكأنها مصباح في بيت مظلم على حد تعبير الراوي فكبر رسول اللّه ، ثم ضربها ضربة ثانية فتصدعت وخرج منها نفس البريق الأول وفي الضربة الثالثة تكسرت وظهر لها بريق أضاء ما وراء المدينة ، فكبر رسول اللّه وأشرقت نفسه الكبيرة للنصر المؤمل في النهاية ، ثم اخذ بيده سلمان وصعد من الخندق ، فقال له بأبي وأمي أنت يا رسول اللّه لقد رأيت شيئا ما رأيته قط ، فالتفت رسول اللّه إلى القوم وقال : هل رأيتم ما يقول سلمان ؟ فقالوا نعم يا رسول اللّه بأبينا أنت وامنا لقد رأيناك تضرب فيخرج البريق كالموج فرأيناك تكبر فكبرنا ولم نر غير ذلك ، قال صدقتم لقد أضاءت لي في البرقة الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى وأخبرني جبريل بأن أمتي ظاهرة عليها ، ثم ضربت الثانية فأضاءت لي قصور الحمر من أرض الروم ، وأخبرني جبريل بأن أمتي ظاهرة عليها ، وفي الضربة الثالثة أضاءت لي قصور صنعاء وأخبرني جبريل بأن أمتي ظاهرة عليها فاستبشر المسلمون بذلك .
وقال المنافقون حينما سمعوا بذلك ألا تعجبون من محمد يحدثكم ويمنيكم ويخبركم بأنه يبصر من يثرب قصور الحيرة وصنعاء ومدائن كسرى وأنتم تحفرون خندقا ليحول بينكم وبين أعدائكم وأحدنا اليوم لا يأمن ان يذهب لقضاء حاجته فنزلت الآية :
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ( الأحزاب 12 ) .
ومضى المسلمون يشتدون في حفر الخندق حتى اتموه في ستة أيام كما جاء في رواية الطبري وغيره .
وأقبل المشركون بعدتهم وعددهم البالغ نحوا من عشرة آلاف مقاتل بين فارس وراجل حتى نزلوا بالجانب الآخر من الخندق .
ويبدو من بعض كتب السيرة ان المدينة كانت من سائر جوانبها محصنة بالبنيان والأشجار ما عدا الجانب الذي حفروا فيه الخندق ، ونزل النبي ومن معه وهم ثلاثة آلاف مقاتل كما نص على ذلك الطبري وغيره في مقابل القوم والخندق بينهما وذلك في سفح جبل يدعى سلع وأصبح الجبل من ورائهم وامر بالذراري والنساء ان تخرج إلى الآطام وهي المرتفعات والحصون لكي تكون أبعد عن الخطر ، واستخلف على المدينة ابن أمّ مكتوم . وكان يهود بني قريظة لا يزالون على عهدهم مع رسول اللّه الذي تم بينهم حينما دخل إلى المدينة ، فدس إليهم أبو سفيان حيي بن اخطب لينقضوا العهود وينضموا إلى صفوف المشركين وبذلك يشتد الحصار على النبي وأصحابه ، وكان زعيمهم كعب بن أسد القرظي هو الذي وقع العهد مع النبي ( ص ) ، فذهب إليه حيي بن اخطب ولما أحس به عرف غايته فأغلق الباب في وجهه فاستأذنه بالدخول فأبى ان يأذن له ، وقال له انك امرؤ مشئوم وقد عاهدت محمدا ولست بناقض عهده ، لأني لم أر منه الا وفاء وصدقا ، فقال له حيي بن اخطب : ويحك افتح فإني أريد ان أكلمك بأمر عسى ان يكون لك خيرا ، فأصر كعب بن أسد على موقفه ، وقال له حيي : انك لم تغلق بابك إلا خوفا من أن آكل من طعامك ، فافتح بابك أيها الرجل لقد جئتك بعز الدهر وببحر طام ، لقد جئتك بقريش وساداتها وغطفان واحلافها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال وقد عاهدوني وعاقدوني ان لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه ، فقال له :
جئتني واللّه بذل الدهر وبجهام قد اهرق ماؤه فهو يرعد ويبرق وليس فيه شيء ، ويحك يا حيي دعني وما انا عليه ، فاني لم ار من محمد إلا صدقا ووفاء ، فلم يزل حيي يفتله في الغدوة والغارب حتى سمح له بالدخول وأعطاه عهدا وميثاقا قال إذا رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا ان يدخل معه في حصنه ويواسيه بنفسه وقومه ، فنقض كعب عهده مع الرسول وبرئ مما كان عليه بينه وبين رسول اللّه .
ولما انتهى إلى النبي ( ص ) ان كعبا قد نقض العهد وانحاز إلى الغزاة بعث رسول اللّه سعد بن عبادة وعبد اللّه بن رواحة ، وخوان بن جبير أحد بني عوف ، وقال لهم انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ، فإن كان حقا فالحنوا إلي لحنا ولا تصرحوا ، وإن كان لا يزال على العهد الذي كان بيننا وبينه فاجهروا بذلك ليعلم الناس كذب ما بلغنا ، فلما انتهوا إليه وجدوا بني قريظة على أخبث ما بلغهم ، فنالوا من رسول اللّه وقالوا لا عقد بيننا وبين محمد فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه ، وعادوا إلى رسول اللّه وقالوا : ( عضل والقارة ) يعنون بذلك انهم غدروا كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع وهم خبيب بن عدي وأصحابه ، فقال رسول اللّه : اللّه أكبر أبشروا يا معشر المسلمين واشتد عند ذلك البلاء وعظم الخوف .
وجاء في كتب السيرة ان الغزاة ألفوا ثلاث كتائب لمحاربة المسلمين فأتت كتيبة ابن الأعور السلمي من فوق الوادي ، واتت كتيبة عيينة بن حصن من الجنب ووقف أبو سفيان بمن معه في الناحية الثانية للخندق .
وقال بعض المنافقين : كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر ، وأصبح أحدنا اليوم لا يأمن ان يذهب لقضاء حاجته ووصف اللّه سبحانه موقف المشركين والمسلمين بقوله :
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا . هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً . وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ( الأحزاب 11 ) .
وأقام المشركون أياما والمسلمون في مقابلهم يترامون أحيانا بالنبال ، واشتد الخوف والبلاء على المسلمين ، فبعث رسول اللّه إلى عيينة بن حصن ، والحارث بن عوف بن أبي حارثة المري وهما قائدا غطفان ، وبذل لهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما ، فوافقا على ذلك وكتبا فيه كتابا وقبل ان يتم التوقيع عليه من الطرفين استدعى النبي سعد بن معاذ وسعد بن عبادة زعيمي الأوس والخزرج وأخبرهما بما عزم عليه ، فقالا له أذلك شيء صنعته من نفسك ، أم امرك اللّه به ، فقال لا بل صنعته من نفسي حرصا عليكم لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وتكالبوا عليكم من كل جانب فأردت ان اكسر شوكتهم ، فقال له سعد بن معاذ : يا رسول اللّه لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك باللّه وهم لا يطمعون ان يأكلوا منا ثمرة واحدة إلا بيعا أو قرى أفحين أكرمنا اللّه بك وبالاسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ، واللّه لا نعطيهم الا السيف حتى يحكم اللّه بيننا وبينهم .
فقال رسول اللّه : فأنتم وذاك ، ثم تناول سعد الصحيفة ومحا ما فيها ، واستمر الحصار والخوف مسيطرين على المسلمين ، وفيما هم كذلك وإذا بعمرو بن ود العامري وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبد اللّه وضرار بن الخطاب بن مرداس قد خرجوا على خيولهم ومروا على بني كنانة وأمروهم بأن يستعدوا للحرب ، ثم اقبلوا نحو الخندق فلما رأوه قالوا إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تعرفها ، ووجدوا مكانا ضيقا في الخندق فضربوا خيولهم واقتحموه فعبرته خيولهم إلى الجانب الثاني وجعلوا يجولون بين الخندق وعسكر المسلمين .
وقال ابن هشام في سيرته والطبري في تاريخه وابن كثير وغيرهم : ان عمرو بن ود لما اقتحم الخندق من تلك الثغرة اقبل علي ( ع ) في نفر من المسلمين ورابطوا عليها حتى لا يقتحمها أحد غيرهم وأقبلت فرسان قريش تحاول العبور ، ولكن موقف علي إلى جانب تلك الثغرة صدهم عنها .
وأضافوا إلى ذلك ان عمرو بن ود العامري قاتل مع المشركين في معركة بدر وأصيب بجراحات بالغة منعته عن الاشتراك معهم في أحد ، وكان من فرسان العرب المبرزين ، فلما كان يوم الأحزاب خرج معلما ليرى مكانه على حد تعبير الطبري وابن هشام وغيرهما وجعل يدعو الناس إلى البراز والمسلمون يرتعدون من الخوف ولم يستطع أحد ان يرد عليه ، ولما سمعه علي ( ع ) يدعو إلى البراز ترك مكانه وجاء إلى النبي ( ص ) وقال له انا له يا رسول اللّه ، فقال له النبي : اجلس انه عمرو بن ود وكرر عمرو النداء فلم يتحرك له أحد من المسلمين غير علي ، والنبي ( ص ) يأمره بالجلوس ليرى مقدار التضحية والبذل والعطاء من المسلمين لا رغبة بعلي عن المخاطر ، ولما رأى عمرو ان أحدا لا يجيبه جعل يتحداهم ويقول اين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها ، أفلا يبرز إلي أحد وانشد كما في رواية الحلبي في سيرته والمفيد في ارشاده : ولقد بححت من النداء * بجمعكم هل من مبارز
اني كذلك لم أزل * متسرعا نحو الهزاهز
ان الشجاعة في الفتى * والجود من خير الغرائز
والنبي يلتفت يمنة ويسرة ويدعو المسلمين إلى مبارزته فلم يستجب له أحد ، فقام علي ( ع ) إلى النبي وقال انا له يا رسول اللّه والنبي يقول له اجلس انه عمرو ، فقال علي وإن كان ، فأذن له وأعطاه سيفه ذا الفقار وألبسه درعه وعممه بعمامته وقال كما جاء في بعض المرويات : اللهم انك قد اخذت مني عبيدة يوم بدر وحمزة يوم أحد وهذا علي أخي وابن عمي فلا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فبرز إليه علي وهو يقول :
لا تعجلن فقد اتاك مجيب صوتك غير عاجز * ذو نية وبصيرة والصدق منجي كل فائز
اني لأرجو ان أقيم عليك نائحة الجنائز * من ضربة نجلاء يبقى صيتها بعد الهزاهز
وقال النبي ( ص ) لما برز له علي ( ع ) برز الايمان كله إلى الشرك كله كما جاء في شرح النهج المجلد الرابع[1].
ولما تقابلا قال له عمرو من أنت ، قال انا علي بن أبي طالب ، فقال ليبرز إلي غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أشد منك ، فاني اكره ان أقتلك لأن أباك كان صديقا ونديما لي في الجاهلية .
وجاء في شرح النهج ان شيخنا ابا الخير مصدق بن شبيب النحوي كان يقول إذا مررنا في القراءة عليه إلى هذا الموضع : واللّه ما امره بالرجوع ابقاء عليه كما يدعي ، بل خوفا منه ، فلقد عرف قتلاه في بدر وأحد وعلم أنه إن ناهضه قتله فاستحيا ان يظهر الفشل فأظهر الابقاء والارعاء وإنه لكاذب فيهما .
وأضاف المؤلفون في السيرة ان عليا قال له لكني أحب ان أقتلك ، فقال يا ابن أخي اني لأكره ان اقتل الرجل الكريم مثلك فارجع وراءك خير لك ، فقال له علي ( ع ) ان قريشا تتحدث عنك انك تقول : لا يدعوني أحد إلى خلتين الا اخذت واحدة منهما ، وفي رواية ثانية إلى ثلاث إلا أجبت ولو إلى واحدة منها قال اجل ، فقال له علي : فإني أدعوك إلى الاسلام فقال دع عنك هذه ، قال فاني أدعوك إلى أن ترجع بمن تبعك من قريش إلى مكة ، قال اذن تتحدث عني نساء مكة ان غلاما مثلك خدعني ، قال فاني أدعوك إلى البراز فقال إني لا أحب ان أقتلك فقال له علي ولكني أحب أن أقتلك فأخذه الحماس عندئذ واقتحم عن فرسه وعقره ، ثم اقبل على علي ( ع ) فتنازلا وتجاولا فضربه عمرو بسيفه فاتقاه علي بدرقته فأثبت فيها السيف وأصاب رأسه كما جاء في بعض المرويات ، فضربه علي على حبل عاتقه فسقط يخور بدمه .
وجاء في بعض المؤلفات في السيرة عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري أنه قال : كنت قد تبعت عليا لأنظر ما يكون من امره ، ولما ضربه علي ثارت غبرة شديدة حالت بيني وبينهما غير اني سمعت تكبيرا فكبر المسلمون عند ذلك ، فعلمنا ان عليا قد قتله ، وانجلت الغبرة عنهما فإذا علي على صدره يحز رأسه وفر أصحابه ليعبروا الخندق فطفرت بهم خيلهم الا نوفل بن عبد اللّه فإنه قصر به فرسه فوقع في الخندق فرماه المسلمون بالحجارة ، فقال يا معشر المسلمين قتلة أكرم من هذه : فنزل إليه علي فقتله .
وجاء في سيرة ابن هشام عن الزهري انه كان مع عمرو بن ود ابنه مسحل بن عمرو بن ود فقتله علي ( ع ) ، ولحق علي بهبيرة بن أبي وهب وكان علي راجلا وهبيرة فارسا فضربه بالسيف فأصاب قربوس سرجه فسقطت درعه وانهزم عكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب ، وأصيب منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بسهم فمات منه بمكة كما جاء في رواية الطبري .
وفي سيرة ابن إسحاق ان المشركين بعثوا إلى رسول اللّه يعرضون عليه عشرة آلاف درهم في مقابل جثة عمرو بن ود فقال لهم لا حاجة لنا بها وإنا لا نأخذ ثمن الموتى ، وقيل إن العرض كان في مقابل جثة نوفل بن عبد اللّه بن المغيرة .
وفي الارشاد وغيره عن محمد بن إسحاق أنه قال : لما قتل علي ( ع ) عمرو بن ود واقبل نحو رسول اللّه ووجهه يتهلل ، فقال له عمر بن الخطاب : هلا سلبته درعه فإنه ليس في العرب درع مثلها ، فقال إني استحييت ان اكشف سوءته .
وفي شرح النهج ان مبارزة علي لعمرو بن ود يوم الخندق أعظم من أن يقال عنها عظيمة واجل من أن يقال عنها جليلة وما هي الا كما قال شيخنا أبو الهذيل وقد سأله سائل أيما أعظم منزلة عند اللّه علي أم أبو بكر ، فقال يا ابن أخي : واللّه لمبارزة علي عمرا يوم الخندق تعدل اعمال المهاجرين والأنصار وطاعاتهم كلها وتربي عليها فضلا عن أبي بكر وحده .
وفي المجلد الثاني من فضائل الخمسة من الصحاح الستة عن المجلد الثاني من مستدرك الصحيحين عن سفيان الثوري بسنده عن النبي ( ص ) أنه قال : لمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن ود يوم الخندق أفضل اعمال أمتي إلى يوم القيامة ورواه الخطيب البغدادي في تاريخه ج 13 ص 19 .
وذكر هذا الحديث بنصه الحرفي الرازي في تفسيره الكبير في الجزء الأخير خلال حديثه عن ليلة القدر وفضلها .
وجاء في الدر المنثور للسيوطي في تفسير قوله تعالى : وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ، جاء فيه عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر ان اللّه كفى المؤمنين القتال بعلي ( ع )[2].
وجاء في شرح النهج عن قيس بن الربيع بسنده اى ربعية بن مالك السعدي أنه قال : اتيت حذيفة بن اليمان فقلت يا عبد اللّه ان الناس يتحدثون عن علي بن أبي طالب ومناقبه ، فيقول لهم أهل البصرة انكم لتفرطون في تقريظ هذا الرجل ، فهل أنت محدثي بحديث عنه اذكره للناس فقال يا ربيعة وما الذي تسألني عن علي ، وما الذي أحدثك عنه ، والذي نفس حذيفة بيده لو وضعت جميع اعمال أمة محمد في كفة الميزان منذ بعث اللّه محمدا إلى يوم الناس هذا ووضع عمل واحد من اعمال علي في الكفة الأخرى لرجح على اعمالهم كلها .
قال ربيعة هذا المدح الذي لا يقام له ولا يقعد ولا يحمل واين كان المسلمون يوم الخندق وقد عبر إليهم عمرو وأصحابه فملكهم الهلع والجزع ودعاهم إلى المبارزة فأحجموا عنه حتى برز إليه علي فقتله ، والذي نفس حذيفة بيده لعلمه ذلك اليوم أعظم اجرا من اعمال أمة محمد إلى هذا اليوم ، وإلى أن تقوم الساعة .
وفي رواية ثانية أنه قال يا لكع وكيف لا يحمل هذا المدح ، وأين كان فلان وفلان وحذيفة وجميع أصحاب محمد ( ص )[3].
ولما نعي إلى أخته عمرة قالت من قتله ، من الذي اجترأ عليه ، قيل لها علي بن أبي طالب قالت لقد قتل الأبطال وبارز الأقران وكانت ميتته على يد كفء كريم من قومه ثم أنشأت تقول :
لو كان قاتل عمرو غير قاتله * لكنت أبكي عليه دائم الأبد
لكن قاتله من لا يعاب به * قد كان يدعى أبوه بيضة البلد
من هاشم في ذراها وهي صاعدة * إلى السماء تميت الناس بالحسد
قوم أبى اللّه إلا أن يكون لهم * كرامة الدين والدنيا بلا لدد
يا أمّ كلثوم ابكيه ولا تدعي * بكاء معولة حرى على ولد
ومع هذه الضربة القاسية التي لم تكن قريش واحلافها تنتظرها فقد بقي الغزاة على مواقفهم ، وتأزمت الأمور على المسلمين بعد ان نقض بنو قريظة العهد وانحازوا إلى جانب المشركين ، وخاف المسلمون ان يهاجموهم من حصونهم ، وقد بدءوا يتسللون لي المرتفعات التي فيها النساء .
فقد حدث يحيى بن عباد بن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه أنه قال : كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت وكان حسان مع النساء والأطفال ، وقالت صفية فمر بنا رجل من اليهود وجعل يطوف بالحصن وقريظة قد قطعت ما بينها وبين رسول اللّه من العهد وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ورسول اللّه والمسلمون في مقابل عدوهم ، والعدو كاد ان يحيط بالمدينة من جميع جهاتها لا سيما بعد ان انضم بنو قريظة إليهم وهم اعرف بالثغرات التي تمكنهم من التغلغل في شوارع المدينة وتنفذ بهم إلى مسجد الرسول وبيته ، وأدركت صفية ان اليهودي ربما يكون عينا لقومه بني قريظة ليجد منفذا إلى حصون النساء يدلهم عليه والنبي ( ص ) ومن معه في شغل عنهم بتلك الحشود الهائلة التي تصول وتجول لتجد منفذا للهجوم الشامل .
لقد أدركت صفية خطر هذا اليهودي الذي تلصص حول حصون النساء فقالت : يا حسان ان هذا اليهودي كما ترى يطوف حول حصوننا وإني واللّه ما آمنه ان يدل على عوراتنا من وراءنا ورسول اللّه في شغل عنا بمن أحاط به من المشركين ، فانزل إليه واقتله ، فقال يغفر اللّه لك يا ابنة عبد المطلب ، واللّه انك لتعلمين اني لست بصاحب هذا الأمر . قالت صفية فلما سمعت منه ذلك ويئست من خيره شددت وسطي بثوب كان علي واخذت عمودا ونزلت إليه من الحصن فضربته بالعمود حتى قتلته ، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن ، وقلت له يا حسان انزل إليه فاسلبه ، فإنه لا يمنعني من سلبه الا انه رجل ، فقال ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب .
وظل الحصار مضروبا على المدينة وفي كثير من المرويات ان بعض كتائب المشركين تسللت من جهة بني قريظة إلى داخل المدينة فدافعهم المسلمون فيها وثبت المؤمنون الصادقون يحدوهم الأمل بنصر اللّه سبحانه كما وعدهم الرسول وانزل اللّه فيهم قوله :
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً ( الأحزاب 22 ) .
واما المنافقون وضعاف الايمان من المهاجرين والأنصار فقد استغلوا تلك الأزمة للتضليل والتشكيك وجعلوا يتندرون بما كان النبي ( ص ) قد وعدهم به من دخول مكة فاتحين واحتلال قصور كسرى وقيصر فأنزل اللّه فيهم قوله :
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً .
وظل النبي ( ص ) يفكر ويعمل للخلاص من تلك الأزمة التي لم يعرف لها المسلمون نظيرا من قبل ، ولكنه لم يفكر في الاشتباك الشامل مع المشركين ولا وضعه في حسابه الا إذا اضطروه إليه ، لأن الحشود التي تجمعت وتكالبت قد اثرت إلى حد ما على معنويات المسلمين وأصبح من الصعب ان يثبتوا لهم ، لا سيما وان يهود بني قريظة قد انضموا إلى الغزاة وأصبحوا يهددون المدينة من الداخل ، ففكر أولا ان يصانع غطفان ومن معها بشيء من ثمار المدينة كما ذكرنا ، ووجد من غطفان استعدادا لذلك ، ولكنه لم يكن ليعقد اتفاقا من هذا النوع ، مع ما له من الفوائد بدون موافقة أصحاب تلك الثمار ، لأن ثمار المدينة لأهلها ، وما كان ليستبد عليهم في أموالهم ، وبعد ان عرض الفكرة على زعيمي الأوس والخزرج لم يجد منهما استجابة لطلبه كما ذكرنا من قبل .
وفيما هو يفكر في عمل يخفف من حدة الموقف ويؤدي إلى تشتيت القوم وبعث الخلاف بينهم ، وإذا بنعيم بن مسعود بن عامر ينسل من بين المهاجمين ويأتي النبي ( ص ) ليقول له اني قد أسلمت وآمنت برسالتك يا رسول اللّه ، وان قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت فوجد رسول اللّه ان يوجهه ليبثّ روح التفرقة بين القوم ، ما داموا يحترمون رأيه ويعتقدون بأنه منهم ، فقال له : انما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فان الحرب خدعة .
فخرج نعيم بن مسعود حتى انتهى إلى بني قريظة وكان لهم نديما من قبل ، فقال لهم : يا بني قريظة لقد عرفتم ودي لكم وصلتي بكم ، فقالوا قل ما تريد فلست عندنا بمتهم ، فقال لهم ان قريشا وغطفان ليسوا كأنتم البلد بلدكم وفيه أموالكم وأولادكم ونساؤكم ومن الصعب عليكم ان تتحولوا لغيره ، اما قريش وغطفان فقد جاءوا لحرب محمد وتركوا نساءهم وأموالهم وأولادهم في بلدهم آمنين ، فان قدر لهم ان يصيبوا محمدا وأصحابه فذاك ما يريدون ، وإن عجزوا رجعوا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبينه ، ولا طاقة لكم به ان خلا بكم ، وأرى لكم ان لا تقاتلوا مع القوم إلا أن تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونوا بأيديكم وعندها يضطرون ان لا يتخلوا عنكم ويرجعوا إلى بلادهم .
واقتنعت قريظة بهذا الرأي وقالوا له لقد أشرت بالصواب ، ثم خرج واتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا ، وقد بلغني امر رأيت علي حقا ان ابلغكموه فاكتموه علي ، فقالوا لك ذلك ، قال بلغني ان معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد وقد ارسلوا إليه بذلك وعرضوا عليه ان يأخذوا رجالا منكم ومن غطفان ويسلموه إياهم ليضرب أعناقهم ثم ينحازوا معه حتى يستأصلوكم ، فأجابهم هو لذلك ، فان بعث إليكم اليهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تسلموا لهم أحدا .
وخرج إلى غطفان وقال : يا معشر غطفان أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ، ولا أراكم تتهمونني في شيء ، فقالوا أنت لست بمتهم عندنا ، ثم قال لهم ما قاله لقريش وحذرهم من اليهود وغدرهم بهم ، واستطاع ان يشحن جو قريش وغطفان بالشك والريب في يهود بني قريظة .
وجاء في كتب السيرة انه لما كانت ليلة السبت من شوال ارسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل ومعه جماعة من قريش وغطفان فقالوا لهم انا لسنا بدار مقام ، وقد هلك الخف والحافر فاستعدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه ، فأرسلوا إليهم ان اليوم يوم السبت ونحن لا نعمل فيه شيئا ، وقد كان احدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ، ولسنا مع ذلك نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا يكون بأيدينا لنطمئن بأنكم ستقاتلونه إلى النهاية فانا نخشى ان ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال ان تسرعوا إلى بلادكم وتتركونا وإياه وهو في بلدنا ولا طاقة لنا به وحدنا .
فرجع عكرمة ومن معه إلى قريش وغطفان واخبروهما بمقالة القوم ، فقالوا عند ذلك صدق نعيم بما حدثنا به ، فأرسلوا إليهم انا لا ندفع لكم رجلا واحدا من رجالنا فان كنتم تريدون القتال فأخرجوا لنقاتله غدا واصر كل من الطرفين على موقفه ورفض اليهود ان يتعاونوا معهم إلا إذا دفعوا لهم الرهائن .
وصمم أبو سفيان ومن معه من غطفان على أن يناجزوا محمدا في صبيحة يومهم التالي بعد ان يئسوا من بني قريظة ، وكانت قبلها تحصل مناوشات بين الطرفين بالنبال والسهام ، فلما كان الليل عصفت ريح شديدة هو جاء مصحوبة بأمطار وصواعق لا عهد لأحد منهم بها وظلت العواصف والأمطار تشتد حتى اقتلعت خيامهم وكفأت قدورهم وداخلهم من الرعب والخوف ما لم يعهدوه في تاريخهم الطويل ، وخيل إليهم ان المسلمين سينتهزون هذه الفرصة للوثبة عليهم والتنكيل بهم .
فقام طلحة بن خويلد ونادى ان محمدا قد بدأكم بالشر فالنجاة النجاة ، وقال أبو سفيان : يا معشر قريش انكم واللّه ما اجتمعتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف واخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم ما نكره وقد لقينا من شدة الريح ما ترون فارتحلوا فاني راحل الساعة فأسرع القوم والعواصف تعبث بخيامهم وأمتعتهم واستخفوا ما أمكنهم حمله في تلك الحالة من أمتعتهم ، وانطلقوا بمن معهم من غطفان والأحزاب راجعين عن المدينة وقد استولى عليهم الخوف والرعب ولم يعد لهم طمع بالنجاة بأنفسهم تاركين الكثير من أمتعتهم حيث كانوا .
وجاء في كتب التاريخ والسيرة عن حذيفة بن اليمان ان رسول اللّه قد دعا عليهم وسأل اللّه سبحانه ان يكشف عنه ما أحاط به من البلاء ويصرف عنه شرهم ، ولما أحس ان القوم يتحركون مذعورين التفت إلى المسلمين وقال من منكم يذهب إليهم وينظر لنا ما فعلوا وأنا أضمن له ان يكون رفيقي في الجنة ، فلم يقم أحد ، فدعاني رسول اللّه لذلك ، فلم أجد بدا من تنفيذ امره ، فقمت وذهبت إلى القوم ودخلت بينهم والريح وجنود اللّه تفعل بهم ما تفعل وهم يستعدون للانصراف فما زلت بينهم حتى انصرفوا فرجعت وأخبرت رسول اللّه بحالهم فحمد اللّه سبحانه وإلى ذلك تشير الآية :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً ( الأحزاب 9 ) .
ورجع النبي ومعه أصحابه إلى المدينة بعد ان وقفوا في وجه الغزاة أكثر من عشرين يوما ليلا ونهارا قد أعياهم الجوع والسهر والخوف من تسلط العدو على نسائهم وذراريهم وتمنوا ان يخلدوا إلى الراحة ولو أياما قليلة بعد تلك الغزوة الطويلة التي لم يسبق للمسلمين وحتى ليثرب في تاريخها الطويل ان عانت ما عانته في تلك الأيام من الخوف والقلق والجوع كما ذكرنا ، وقد أوجز اللّه سبحانه حالتهم بالآية التالية :
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا . هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً ( الأحزاب 10 - 11 ) .
لقد تمنى المسلمون بعد تلك الجهود المضنية لو يتاح لهم ان يخلدوا إلى الراحة ولو بضعة أيام ، ولكن انى لهم الراحة والاطمئنان على مصيرهم ، واليهود الذين اغروا قريشا وغطفان وغيرهما من الأعراب بالوقوف إلى جانبهم في ذلك الغزو الذي كاد ان يقضي على المسلمين لولا العناية الإلهية التي وفرت للمشركين أسباب الهزيمة وبدت طلائعها ابتداء من قتل علي ( ع ) لعمرو بن ود العامري ونوفل بن عبد اللّه وفرار من معهما من الأبطال الذين استطاعوا عبور الخندق ، والتدابير الحكيمة التي اتخذها النبي ( ص ) بواسطة نعيم بن مسعود لتشتيت امرهم وتمزيق وحدتهم ، وانتهاء بتلك العواصف والصواعق والأمطار التي سدت عليهم جميع المنافذ ولم تترك لهم مجالا للاستقرار والبقاء ولا املا بالسلامة ، وامتلأت قلوبهم من الخوف والرعب .
هؤلاء الذين ساهموا في حشد تلك الألوف وانضموا إليهم متجاهلين معاهدتهم للنبي وعهودهم التي قطعوها على أنفسهم بالوفاء لجميع بنودها ، هؤلاء لا يزالون إلى جانبهم في المدينة ونفوسهم لا تنطوي على غير المكر والغدر والخداع وسيمثلون بالغد القريب نفس الدور الذي مثلوه بالأمس مع قريش واحلافها من الأعراب في غير ذلك الفصل الذي حدثت فيه تلك الأحداث التي روعت المشركين وزعزعت جميع آمالهم وأهدافهم .
ولو افترضنا ان النبي ( ص ) جدد العهد معهم في تلك الفترة ، فما الذي يمنعهم من نقضه والخروج عليه مرة ثانية كما فعلوا بالأمس ، في حين انهم لم يجدوا منه الا الصدق والوفاء كما اعترف بذلك زعيمهم حينما دعاه حيي بن اخطب للاشتراك مع الغزاة كما ذكرنا .
لقد التزم النبي ( ص ) بجميع بنود الاتفاق مع بني قريظة كما التزم بها مع بني النضير وبني قينقاع وظل وفيا كريما يحوطها ويرعاها بما انطوت عليه نفسه الكريمة من النبل والكرم والوفاء ، ومع كل ذلك فقد كانوا أداة سوء وشر لم يذق هو وأصحابه طعم الراحة إلا بعد ان اخرجهم منها ، وها هم بنو قريظة يمثلون نفس الدور الذي مثله بنو قينقاع والنضير وأسوأ منه .
[1] انظر ص 344 من المجلد المذكور .
[2] انظر فضائل الخمسة ج 2 ص 323 وانظر الرازي في تفسير سورة القدر الجزء الأخير ص 31 الطبعة الأولى جزء 32 .
[3] انظر شرح النهج ج 4 ص 344 و 345 ، وكل باحث مجرد يراقب مواقف المشركين المتغطرسين في ذلك اليوم والانهيار الذي أصاب المسلمين لا بد وان ينتهي إلى ذلك لان قتله لعمرو وأصحابه بدل الموقف رأسا على عقب وادخل الذعر واليأس على المشركين .
الاكثر قراءة في حاله بعد الهجرة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة