حكم المؤرخين على إيرجيتيس الثاني
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج16 ص 355 ــ 358
2025-12-17
30
إن من يتتبع تاريخ «إيرجيتيس الثاني» في أول أمره يجد أنه — على حسب ما رواه الكتاب القدامى — كان سلسلة جرائم من أبشع ما عرفه التاريخ، ولكن نجد أنه بعد أن تقدمت به السن ظهر بمظهر الرجل المدقق اليقظ الذي كان يعمل على راحة شعبه والنظر في شكاوى رعاياه عن طيب خاطر؛ فكان يحميهم من عبث الموظفين ومظالمهم. والواقع أن من يقرأ مرسوم العفو الذي أصدره في عام 118ق.م — وهو الذي أوردناه فيما سبق — يجد أنه على طرفي نقيض بالنسبة للصورة التي صورها لنا المؤرخون عن أخلاقه، والتي تناقلها الكتاب الأقدمون؛ ومن ثم تُعَدُّ صورة كاذبة أو على الأقل تُعْتَبَرُ صورة مبالغًا فيها إلى حد بعيد؛ ففي هذا المرسوم نجد بدلًا من الملك الطاغية الذي قتل أولاده وحصل على كل ما كان يريد أن يصل إليه بالدس والقتل كما ذكرت لنا التقاليد التي وصلت إلينا؛ قد مثل في صورة الإنسان الذي كان يسهر على راحة شعبه بوضع الإصلاحات الممتازة، كما كان يبذل جل همه في إقامة العدل بين الإغريق والمصريين على قدم المساواة؛ بل كان يقوم بنفسه في فحص شكوى الأفراد. وفي اعتقادي أن ما نُسِبَ إليه من قسوة وغلظة وتقتيل وتعذيب قد يكون بعضه صحيحًا، ويشفع له في ارتكاب مثل هذه الإجراءات — إلى حد ما — ما كانت عليه حالة البلاد من فتن داخلية واضطرابات متعددة ومفاجآت خارجية جعلته يقسو ويخرج عن حدود الإنسانية. وعلى أية حال فإن معظم ما نُسِبَ إليه من تقتيل وتعذيب لا يرتكن إلى حقائق تاريخية أكيدة محسة في عدد من الأحوال.
ومن الأشياء التي تدعو إلى الدهشة ما رُوِيَ عنه من تناقض في سلوكه، وأبرز مثال لذلك أنه بعد الذي حُكِيَ عنه من تشتيت شمل علماء الإسكندرية الذين فروا من البلاد المصرية خوفًا من عنفه وقسوته وسوء معاملته لهم؛ أن نعلم أنه كان أديبًا كبيرًا، وأنه من تلاميذ العالم النحوي الناقد «أريستاركوس»، وأنه كان صاحب ذوق، عالمًا بالمناقشات الخاصة بالألفاظ اللغوية وبالشعر والأساطير الهومرية؛ يدل على ذلك أنه قد اقتُبِسَ عنه تصحيح بيت شعر للشاعر «هومر». والواقع أن هذا الاتجاه كان هو النحو المتبع في عصره. فقد كان معاصره من الملوك هو «أتالوس الثالث فيلومتور» ملك «برجام»، وعلى الرغم مما اشْتُهِرَ به من رذائل كان في آن واحد يتصف بنفس الذوق الأدبي الذي اتصف به «بطليموس السابع»، ولا غرابة إذن أن نجد «بطليموس» قد لقب نفسه باللغوي، وهذا اللقب كان بلا نزاع يُعْتَبَرُ أشرف الألقاب التي كان يحملها. والواقع أنه اهتم بتنمية المكتبة و«الميزيون» وحماهما من المنافسة، وذلك بما ذُكِرَ عنه من منع تصدير البردي إلى الخارج، وإضافة كتب من مؤلفاته إليها؛ فقد ذُكِرَ أنه ألف مذكرات في أربعة وعشرين مجلدًا، وتعتبر هذه المجلدات موسوعة كدس فيها — على غير نظام — معلومات منوعة؛ هذا بالإضافة إلى بعض قطع خاصة بترجمته لنفسه وحكايات عن معاصريه، كما دون فيها كل ما يعرفه من معلومات في التاريخ الطبيعي والجغرافية وعلم السلالات (1). وقد قص علينا في موسوعته هذه الأمور الشاذة والخلاعة التي كان يظهر بها عمه «أنتيوكوس إبيفانس»، كما وصف أدوات المائدة الخاصة بملك النوقديين «ماسينيسا» Massinissa ومدرسته للأطفال، كما كان يبتهج بذوق «بومنيبس» للخنازير السمينة التي كان يدفع عن الواحد منها 4000 درخمة، وغير ذلك من السخافات. هذا، وكان «بطليموس السابع» مؤلف كتب في السحر أيضًا (2)، وقد قيل عن «بطليموس البطين» هذا أنه كان يرغب في أن يحل بمفرده محل العلماء الذين جعلهم يفرون من الإسكندرية. على أنه كان قد بقي بعضهم بالإسكندرية، ولم يكن لديهم ما يشكون منه من سوء تصرف «بطليموس»، نخص بالذكر منهم «باناريتوس» Panaretos تلميذ «أرسيسيلاس» Arcesilas وكان يتقاضى مرتبًا سنويًّا قدره اثني عشر تالنتا؛ وقد كان مشهورًا بصغر جسمه، وكان صديقًا حميمًا ﻟ «بطليموس إيرجيتيس الثاني». أما أستاذه «أرسيسيلاس» فهو المؤسس للأكاديمية الجديدة، وقد عاش في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد. هذا، ويقول «بوزيدونيوس» الذي نقل عنه «سترابون» مع بعض الشك إن الملك «إيرجيتيس الثاني» هو الذي صرف على رحلة أُرْسِلَتْ لارتياد بلاد الهند، وكان يقودها الجغرافي «يدووكس» Eudoxe من أهالي «سيزيك» Cyzique، ويقال إنه عاد بسفنه محملة عن آخرها بالعطور والأحجار الثمينة، غير أن «إيرجيتيس الثاني» خيب آماله لاستيلائه على كل ما جلبه معه (3).
ومن الجائز أن «بطليموس السابع» قد يمكن أن يكون أكثر سخاء لو لم يكن في حاجة إلى مبالغ باهظة للصرف منها على المباني التي كان يقيمها في طول البلاد وعرضها، وقد كان يشجعه على ذلك ميله لإقامة المباني الدينية، هذا فضلًا عن أنه كان يريد أن يرضي الكهنة الذين كان في أيديهم زمام الشعب المصري كله. وسنتحدث عن مبانيه في فصل خاص.
ولا نزاع في أنه بعد موت «بطليموس السابع» أخذت مصر تنحدر نحو هاوية سحيقة إلى حتفها، ومن ثم فإن ما بقي من عهد البطالمة لم يكن إلا فترة نزاع موت طويلة امتد أجلها حوالي أقل من قرن من الزمان كانت في خلالها الأسرة الحاكمة قد لحق بها الدمار، وكان مثلها في ذلك كمثل دولة السليوكيين؛ فقد كانت كل من هاتين الدولتين جريحة بجراح لا يُرْجَى برؤها، وهذه الجروح ترجع في أصولها إلى المنافسات الأسرية، وقد كان «إيرجيتيس الثاني» هو الذي سبب لها هذه الجراح الفتاكة التي أصبحت لا يُرْجَى شفاؤها بعد موته، وانتهى أمرها بالقضاء على الأسرة نهائيًّا، وبخاصة عندما نعلم أن الرومان قد صوبوا أنظارهم نحو مصر، وأرسلوا البعوث لفحص كل نواحي حياتها وما فيها من خيرات لا تُجَارَى ووضعوا التقارير عنها، ومن ثم أخذوا يتدخلون في شئونها بصورة سافرة حتى وضعوا أيديهم عليها، وأصبحت درة في تاج الإمبراطورية الرومانية كما سنرى بعد.
والآن قبل أن نتحدث عن آثار هذا الملك التي خلفها في مصر يجب أن نقف هنا وقفة قصيرة لنفحص بعض الشيء مكانة شخصيتين غامضتين وإن شئت ثلاث شخصيات اختلط أمرهم على المؤرخين، ولا يزال الوصول إلى حل مرضًى بشأنهم من الأمور المستعصية في تاريخ البطالمة، وأعني بهم «يوباتور» و«نيوس فيلوباتور» وأخيرًا «بطليموس المنفي»، وسنستعرض فيما يلي كل ما وصلت إليه معلوماتنا عن هؤلاء الأشخاص حتى يومنا هذا.
......................................................
1- راجع: Fragments, extraits Athenée in Carl Muller Historicom Graecorum III, p. 186–189
2- راجع: Diterich in Jahrbb., f. Kl. Phil., Supplb. XVI (1886). p. 754, 9
3- راجع: Strab., II, p. 98.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة