أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-10-01
998
التاريخ: 2023-09-27
996
التاريخ: 2023-10-05
914
التاريخ: 2023-10-03
928
|
تعتبر محاكم التفتيش من الوسائل السلبية التي لجأت اليها كنيسة روما في حركتها الاصلاحية. ومع ان جذور هذه المؤسسة تمتد الى القرن الثاني عشر عندما أقرها مجمع فيرونا سنة 1183 ووضع لها الاسس التي بنيت عليها. فان بابوية العصور الوسطى استخدمتها للقضاء على الحركات الدينية الملحدة التي خرجت على تعاليم الكنيسة الكاثوليكية. وفعلاً اشتد عمل هذه المحاكم في القرن الخامس عشر في اسبانيا عندما بدأت الملكية فيها تستخدمها من اجل تنفيذ اغراضها السياسية وتدعيم سلطانها المطلق في القضاء على جذور المسلمين واليهود الذين كانوا يؤخذون بتهمة (الهرطقة) أو الردة. ولما كان قضاة هذه المحاكم يرشحهم الملوك ويثبتهم البابا بقراراته فقد ظل الدين في اسبانيا خاضعاً للسلطة الزمنية طيلة ثلاثة قرون تقريباً.
لقد نشأت محاكم التفتيش من الناحية النظرية ضد المتهرطقين المسيحيين فقط. ولم تمس في الظاهر اليهود والمسلمين الذين لم يتنصروا بل ضد المتنصرين منهم الذين يتهمون بأنهم ارتدوا عن المسيحية. وقد أكد هذا الأمر مراسيم البابوات المتعددة وخاصة المراسيم التي اصدرتها بابوية كلمنت الثالث. التي نصت على عدم القيام بتعميد يهودي ما لم يكن يريد ذلك. كما نصت على عدم قتل أو جرح او مصادرة املاك اي واحد من غير المسيحيين لم تسمح السلطات المدنية بذلك. فلليهود حريتهم الشخصية ومدافنهم ورؤسائهم الروحيين ومعابدهم ومدارسهم الدينية التي لا يجب ان يتعرض لها أحد (1).
ومما يجدر ذكره قيام معارضة قوية في عدة مدن منها تولوز البي، ناربون كاركاسون ضد محاكم التفتيش في القرن الثالث عشر لم يهدىء من حدتها سوى تدخل فيليب الجميل، الذي وجد فيها فرصة للتدخل وفرض سلطته الزمنية عليها. مما وضعه بمواجهة البابا بونيفاس الثامن الذي ادان جميع حجج ملك فرنسا (2).
اما في انكلترا فان اجراءات محاكمة جان دارك قد اثبتت مدى استخدام السلطة الزمنية لمحاكم التفتيش. فقد حصل الحكام الانكليز من الكنيسة نفسها على ادانة صريحة بحقها وقد أعلن أسقف بوده (Beauvais) نفسه عن سلطة الحكام الانكليز المباشرة عندما اعترضت جان دارك على الحكم مصرحاً ان الملك قد امر أن اتهمك وقد فعلت ذلك!) (3).
لقد شملت التشريعات التي وضعت لهذه المحاكم جميع المسيحيين في اسبانيا. ومع ان هذه المحاكم قد جددت بمراسيم بابوية متعددة منها مرسوم البابا سكستوس الرابع (sixte IV) الذي صدر سنة 1477 الا ان اهم المراسيم التي صدرت بهذا الشأن هو المنشور البابوي الذي اصدره بولس الثالث سنة 1542 ايماناً منه باستطاعة هذه المحاكم وأد الحركات الدينية التي من الممكن ان تظهر في اسبانيا قبل ان يستفحل امرها كما حصل في المانيا وسويسرا وغيرها من دول اوروبا. وقد نص فعلا هذا المنشور على تعيين لجنة من ستة كرادلة يطلق عليها «اللجنة المقدسة» وخولهم سلطات واسعة. فكان لهم الحق في اصدار حكم الاعدام ومصادرة املاك الافراد المتهمين بالهرطقة. مهما كانت مراكزهم او رتبهم او درجتهم او صدارتهم في المجتمع. وقد اتسعت سلطات محاكم التفتيش في عهد البابا بولس الرابع (1555-1559) الذي ينسب اليه القول: «يجب القضاء على الهرطقة بكل شدة وبكل عنف كما يقضي الانسان على الطاعون، لأن الهرطقة هي مرض يصيب الروح وإذا كانت الخرق والملابس الملوثة بالطاعون ترفع من اماكنها وتحرق فلماذا لا يجب علينا ان نستأصل وان نمحق وان نزيل الهرطقة بنفس الشدة ان الهرطقة مرض يصيب العقل، وهو أغلى واثمن جزء في جسم الانسان، ولا يمكن مقارنته باي جزء آخر في الانسان (4).
مارست محاكم التفتيش اعمالها بكل عنف وشدة وباتت تصدر الاحكام الجماعية بأحراق المتهمين احياء بالإضافة الى استخدامها وسائل التنكيل والتعذيب ومصادرة الممتلكات لإكراه المتهم على الاعتراف لكون محاكماتها سرية واحكامها غير قابلة للاستئناف مما جعلها على حد تعبير بعضهم صورة مفزعة رهيبة استقرت في اذهان الاجيال المتعاقبة وأصبح اسم هذه المحاكم مرادفاً لمعاني الاسفاف في الظلم والقسوة وهدر آدمية الانسان.
اما عن وسائل التعذيب التي اتبعتها هذه المحاكم فقد اتى على ذكرها جميع المعاصرين مع ما كانوا يجدونه في حينها من تحريم شدید لوصف عملیات
التعذيب. ويذكر ديورانت عن احدى هذه الوسائل التي كانت تختلف باختلاف الزمان والمكان بقوله: (وقد توثق يد الضحية خلف ظهرها ويعلق منها أو يربط وثاقه حتى يعجز عن الحركة تماماً، ثم يقطر الماء في حلقه يشرف على الاختناق، وقد تربط يداه ورجلاه بالحبال ربطاً وثيقاً حتى تقطع اللحم الى العظام. ولقد انبئنا ان وسائل التعذيب التي استعملتها محكمة التفتيش الاسبانية كانت أخف مما استخدمته محاكم التفتيش السابقة، أو مما توسلت به المحاكم المدنية في ذلك العصر. وكان اهم وسائل التعذيب السجن الطويل الأمد (5). وتشير بعض المصادر الأوروبية الى كثرة النفقات التي كان اعضاء محاكم التفتيش والحكام يدفعونها من مصادرات الأموال والممتلكات لإضفاء الشرعية على اعمال هذه المحاكم ولتكون عبرة لكل من يفكر في مناوأة السلطة.
جدول بالمصاريف التي انفقت في احتفال جرى في اشبيلية في 30 كانون الثاني سنة 1624 بمناسبة صدور بعض الاحكام بشأن بعض ضحايا محاكم التفتيش.
اما احتفالات سنة 1648 في نفس المدينة فقد بلغت كلفتها 811588 مرافيدس اما في ماجورك فقد بلغت نفقة احتفال سنة 1675 ما يساوي مليون وخمسمائة ألف مرافيدس (7).
اما عن ضحايا المحاكم فقد بلغت حداً يكاد يوازي ما خسرته المسيحية في حروبها الصليبية المنظمة، اذ بلغت ما مجموعه في مدينة توليدو وحدها بين سنتي 1485 و1610 ما يزيد عن سبعة الآف. انسان. وفي مدينة فالنس أدين بين سنتي 1485 و1592 حوالي اربعة الآف (8). ويذكر أحد الامناء العامين لمحكمة التفتيش بأن الضحايا بلغوا في اسبانيا بين عامي 1480 و1488 ثمانية الآف وثمانمائة احرقوا، وستة وتسعين الفاً واربعمائة وتسعين الفاً عوقبوا. اما بين عامي 1480 و1508 فقد بلغوا واحد وثلاثين واثني عشر احرقوا ومائتين وواحد وتسعين الفاً واربعمائة واربعة وتسعين حكم عليهم بعقوبات صارمة (9). وأهم الصور الحية لإجراءات محكمة التفتيش عند تنفيذ احكامها ويطلق على هذه المناسبة اسم افراح الموت( Les fetes de la Port ) قد سطرها ديورانت بقوله : ( كان الاجراء في أول أمره بسيطاً فإن الذين يحكم بإعدامهم يقادون الى الساحة العامة، وكانوا يوثقون بأربطة على كومة حطب، بينما يجلس قضاة التفتيش في أبهة على منصة تواجهها ، ويطلب للمرة الأخيرة الى المحكوم عليه ان يدلي باعترافه، وتقرأ عليه الاحكام، وتشعل النيران، ويبلغ الفزع منتهاه بيد ان كثرة الاحراق وفقد بعض سلطانها النفسي ، جعل الاحتفال اكثر تعقيداً ورهبة وعني بإظهاره بكل اسباب العناية والنفقة ، التي يتطلبها اخراج مسر كبير . وكان يحدد ميعاده كلما أمكن ذلك للاحتفال بالاعتلاء على العرش او الزواج او الزيارة من ملك أو ملكة او امير. اسباني. وكان يدعى موظفو البلديات والحكومة وهيئة محكمة التفتيش والقسس والرهبان المحليون بل في الواقع كان يطلب حضورهم. وفي أمسية التنفيذ ينضم هؤلاء الاماثل الى موكب كئيب يسير في طرق المدينة الرئيسية ليضع صليب محكمة التفتيش الأخضر فـوق مـذبـح الكاتدرائية أو الكنيسة الرئيسية. وتبذل محاولة أخيرة للحصول على اعترافات المحكوم عليهم، فيستسلم كثيرون منهم، وتخفف أحكامهم الى السجن فترة من الزمن او مدى الحياة وفي الصباح التالي يساق المسجونون وسط الجموع الغفيرة الى احدى ساحات المدينة. وفيهم الدجالون والمجدفون في الدين والمضارون المتزوج من امرأتين والهراطقة والمرتدون وفي الأيام المتأخرة كان يساق معهم البروتستانت وينتظم الموكب احياناً دمى تمثل المحكوم عليهم غيابياً أو - صناديق تحمل عظام الذين حكم عليهم بعد الموت. وفي الساحة على مدرج مرتفع او أكثر، يجلس قضاة محكمة التفتيش ورجال الدين من قساوسة ورهبان وموظفو المدينة والدولة، يرأسهم الملك بين حين وآخر. وتذاع عظة، يؤمر بعدها جميع الحضور بترديد يمين الطاعة لحكام محكمة التفتيش المقدس وعهد ينكر ويحارب الهرطقة بجميع اشكالها وفي كل مكان. ثم يساق المسجونون واحداً بعد واحد، امام المحكمة، وتتلى عليهم الاحكام الخاصة بهم. ويجب علينا الا نتخيل معارضة باسلة لذلك، وربما كان كل سجين في هذه المرحلة مشرفاً على التلف الروحي والانهيار البدني. بل انه قد ينقذ حياته في هذه اللحظة بالاعتراف. وفي تلك الحالة تقنع محكمة التفتيش بجلده ومصادرة امواله وسجنه مدى الحياة. وإذا لم يعترف الا بعد صدور الحكم عليه، فانه يغنم الرحمة بشنقه قبل احراقه، ولما كانت الاعترافات في اللحظة الأخيرة كثيرة، فقد أصبح احراق الاحياء نادراً نسبياً، اما الذين يحكم عليهم بالهرطقة الكبيرة وينكرون ذلك الى النهاية، يحرمون (وظل ذلك مرعياً الى عام 1725) من الكنيسة المقدسة، ويتركون برغبة محكمة التفتيش للجحيم الأبدي. اما الذين تخفف احكامهم فيعادون الى السجن، والذين لم تقبل توبتهم فيدفع بهم الى السلطة المدنية، تحفظ مع وردع بعدم اراقة دم. ويساقون الى خارج المدينة وسط حشود تجمعت من مسافات بعيدة للفرجة على هذا المشهد من مشاهد العطلة. حتى إذا وصلوا الى مكان التنفيذ شنق المعترفون ثم احرقوا بينما يحرق المعاندون احياء. وتظل النيران تغذى بالوقود حتى تصير العظام رمادا، ينتثر على الحقول والجداول. ثم يعود القساوسة والمشاهدون الى مذابحهم ودورهم مقتنعين بأن قرباناً قدم استعطافاً غاضب من الهرطقة، وهكذا أعيد القربان البشري (10).
وفعلاً استطاعت محكمة التفتيش ان توقف المد البروتستانتي في كل من اسبانيا وايطاليا الا انها زرعت الهلع في نفوس بروتستانت المانيا وشمال اوروبا وجعلتهم اشد مقاومة لعودة الكاثوليكية حيث ادت الى خروج هولندا من السيطرة الاسبانية. ومما يؤخذ عليها أيضاً انها كانت احدى الوسائل القوية لتثبيت مراكز الحكام الزمنيين الذين استغلوها كأداة لقمع المناوئين السياسيين. وخاصة تلك الطبقات الاجتماعية التي كانت تشعل نار الثورة ضد الاقطاعيين بين فترة وأخرى.
.............................................
1- GUIRAUD. J.: L'Inquisition Mediévale. Tallandier Paris 1978. P. 193
2- Ibid. P. 207.
3- Ibid. P. 238.
4- عبد العزيز الشناوي: المرجع نفسه ص 508.
5- ول ديورانت: قصة الحضارة الجزء (23) ص82.
لمعرفة طرق التعذيب التي اتبعتها محاكم التفتيش انظر KAMEN. H.: Histoire de l'Inquisition espagnol. Albin Michel Paris 1966 P. 184.
6- عملة اسبانية تساوي ربع بنس انكليزي فاذا كانت ذهبية بلغت قيمتها 14 شلناً.
للمقارنة: كان خراج الدولة الاسبانية على جميع أملاكها عام 1474 يبلغ 885 ألف ميرا فيدس.
7- KAMEN. H.: Op. Cit. P. P 206 – 207.
8- Ibid: P. 298.
9- ول ديورانت قصة الحضارة جزء (23) ص90.
10- المرجع السابق الصفحتان 84 و85.
|
|
في اليوم العالمي للصحة النفسية.. نصائح لتحسين مزاجك اليومي
|
|
|
|
|
آلاف الأشخاص يحاولون الهروب من فلوريدا بسبب إعصار ميلتون
|
|
|
|
|
ورقة بحثية تتناول الطبيعة الفقهية لبيعة الإمام الحسن (عليه السلام) والتزاماتها
|
|
|