صديقي الاسمر المولع بقراءة الكُتب و الا ستشهاد بالأمثال والحِكم حتى باتت جزءً من مفرداتهِ وحديثه اليومي ذات يوم كنا في المرحلة المتوسطة من الدراسة وكانت حينها الحياة بالنسبة لنا كرة قدم ودراسة بائسة، فلا مستقبل ينتظِرُك بعد التخرُج ولا حلم يجترُّكَ الى الواقع . الوظيفة لا تختلف عن كرة القدم فهي تؤدي نفس الهدف في مرمى الزمن ، والكل يخرج بعد ذلك خاسر أمام الوقت بسنوات عديدة مقابل لا شيء . هكذا كانت الحياة حين كنّا في الصف الثاني المتوسط ، نفكر بطريقة سلبية بعد أن شاهدنا الاقدار المتساقطة كأوراق فصل الخريف على من يكبرنا سِناً ، إلا أن صديقي ورغم ان مشواره الدراسي توقف عند هذه السنة ، كان يغرق بين عناوين كتبه لدرجة بُتّ أراه كل يوم مع كتاب ، وقد اعترف لي مؤخرا ولظرفٍ خاص أنه سوّف لن يكملَ دراستهُ ولن يلتَحِق بسربِ الشباب المهاجر الى الحياة الجديدةِ في الجامعة على الرغم من امتلاكه شخصيّة الطالب الجامعيّ المتميّز والاسلوب الحواريّ العفوي المليء بالجُمل الأدبية ذات الانسيابيّة العذِبة والتي كُنّا نُشاهد المثقفين يتحدثون بها على شاشة التلفاز فما إن دار حوار بيننا عن موضوع معيّن او تناقشنا في مسألةٍ ما حتى وراح مُطِلقاً مفردتهُ الشهيرة ( بالمُناسبة ) والتي كان أصبحت كمتلازمة في نقاشاته حتى بتنا كثيراً ما نمازحه بها وتعودنا عليها في بدء جميع نقاشاته . او الجملة التي كانت تليها احيانا ( لدي شيء أقوله ) ثم يتصدر الجلسة من فرط ثقافته وبين جملة واخرى تنفلت من لسانه المفردة خاصته أو عبارة ( على سبيل المثال ) ، فكان مولعا بضرب الامثال كثيرا كشواهد لحديثه واحيانا ليضفي زخرفة جمالية للحوار كي لا يُصاب بالملل . اتذكر حين كنّا نقّتُل الوقت في لعبة كرة القدم كانت تدهشني ذاكرته بعد نهاية كل مباراة وهي تحتفظ بالتفاصيل الصغيرة لليوم الثاني وبنفس الحماسة، وكثير ما كان يذكّرني ونحن في صفّ الجغرافيّة قائلا .
- بالمناسبة ، لو كنت قد مررّت الكرة بصورةٍ أفضل - يوم أمس - لكانت النتيجة لصالحنا و لأصبح وضع فريقنا جيدا ، تماماً كما يقول المثل ( كلّ شيء جيد ..اذا انتهى بشكل جيد )
أعجبني المثل كثيراً لدرجة كان نقطة تحّول في حياتي، فلم استفد ممن كنت اناديهم أساتذتي بقدر استفادتي من صديقي الأسمر ، دارّت السنوات وانكشفت الستارة السوداء التي ابتاعها لنا القدر لتقف سنوات عدة على نافذة البلاد تحت إمّرة نظام فاشل أمسك بعنق الثقافة في بلاد وزج بها في سواتر الخطوط الاماميّة للحروب التي كان يقودها بهمجية ، وصديقي الاسمر لازال يحتفظ بذات الشخصية وتسريحة الشعر والحديث الماطر بمفردات الكُتّب كما كان يحلو لنا تسميتها عند مجالسته بإحدى مقاهي المنطقة .
المسافة المرسومة على جدار صداقتنا كانت أعمق من أن يصفها كاتب قصة من مدينتي حتى المبدعون منهم كـ(علاء سعدون) أو (زين) مثلاً وذات مساء لم يجب (صديقنا الاسمر) على مكالماتنا الهاتفية حين كنا كعادتنا جالسين على بوابة المقهى و كنا نريد منه - نحن اصدقاء طفولته - ان يفسر لنا ما سمعناه في خطبة الجمعة واعلان فتوى ( جهاد كفائي ) من قبل المرجعية الدينية العليا في النجف الاشرف ، سمعنا قبل ذلك بالجهاد وقرأنا في كتاب التاريخ ، عن معركة بدر وعن ثورة العشرين ، فمثل هكذا فتوى لا تصدر حتى كل مئة سنة .
عرفنا لاحقا انه كان قد التحق مباشرة بالحشود التي اكتظت بها الشوارع من الملتحقين بأمر المرجعية العليا وبعد مرور شهور عدة جاءني ذات مساء طارقاً الباب مجازفاً بسماع كومة العتاب التي كانت قد اكتظ القلب بها ، فهو لم يحاول حتى توديعي باتصال هاتفي على الاقل .. لا بل قام بغلق جواله لا مباليا بالعلاقة الوطيدة التي كانت تربطني به .فتحت له الباب وقبل ان يلقي السلام :
- بالمناسبة .. لم أتصل بكَ لأنني بعت جوّالي في الإجازة السابقة وسددت مبلغاً كنت قد اقترضته لأدفع أُجور سيارة التكسي الذاهبة الى المُعسكر .
عرف كيف يمتص موجة الغضب العاصفة بداخلي ولا عِلم لي إن كانت هذه القدرة هي مفعوّل الكُتب التي كان يَقرأُها .. فهو لم يتفوه اكثر من هذه الكلمات ، حتى انه لم يستغرق أكثر من تسع ثوان فقط . جلسنا على باب البيت بعد ان رفض الدخول معللا أمره بضيق الوقت دار بيننا حديث اشبه بذلك الذي كنا نتداوله في المقهى ، السواتر لم تغير شيء من فكاهة روحة وعفويته . سألته :
- اين انت الان .
- في السجارية .
- وهل ذكرت الكتب التي قرأتها هذه المدينة ..
- حدثني انت في الاول ، من هو الاكبر عمرا في بلادك الجبل أم النهر . طالما كنّا قد درسنا التضاريس معا ً ورسمنا الخارطة معاً أعرف انك لا تمتلك الإجابة وانا مثلك إلا إنني استطعت ان افهم شيئاً وحيداً ، اتعرف ما هو يا صديقي .. ان الخارطة والتضاريس واسماء المدن كانت جميعها للعراق .
عجبت للطريقة التي كان يفكر فيها ، كيف لشاب لم يكمل الصف الثالث المتوسط ان يرمي مخزوني المعلوماتي بهكذا سؤال .
ثم يقف على أول الطريق حيث تسير قافلة الافكار في رأسي ليقاطعها هاماً بالرحيل ، يمسك بي من كتفي ويحملني سلام لبقية الاصدقاء ويغادر .
اشتبكت الاحداث وتضاربت الاخبار المنقولة بقنوات حكومية واخرى متحزبة ، تتحرر السجارية صباحا على الشاشة الحكومية ، لتشهد انسحابا في المساء على شاشة قناة اخرى تطلق على العدو تسمية (التنظيم) تنام السجارية وتستيقظ متحررة صباحا ، الناحية التابعة لقضاء الرمادي شرقا كانت الكتاب الاخير الذي أمسك صديقي الاسمر بمحتواه قبل ان يختفي وتنقطع اخباره ، اشتياقي له جعلني أبحث في كل العناوين وكتب مفردة كان يرددها ولا اعلم من اي كتاب استلها .
الكل يتجه صوب الموصل يا صديقي إلا انت ، تعرفت على اصدقاء جدد في شارع المتنبي ببغداد، قراء ، ومثقفين ، وبائعي كتب ، عسى ان المح بائعا للكتب يبتاع رواية لشاب اسمر او كتاب يتحدث عن الفلسفة التي علمتك ان تكون في الصدارة حتى وانت غائب ، اتصفح المواقع الالكترونية ولا اعلم شيئا عن جادتي في التصفح ، فسقطت عيناي على المثل الذي كان نقطة تحول في حياتي ، لم اتذكرك فحسب ، الان عرفت انه كان مثلا انكليزيا ، وبالمناسبة قرأتــ ... هل قلت ( بالمناسبة ) . ، قرأتَ كل الكتب التي تتحدث عن السجارية ، ويبدو انك الان حياً على سبيلِ الشهادة .







وائل الوائلي
منذ يومين
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN