في ظل التغيرات السريعة التي يشهدها سوق العمل العالمي، أصبحت الشراكات بين الجامعات والقطاع الصناعي ركيزةً أساسية لإعداد كوادر بشرية قادرة على المنافسة، وتقديم حلول واقعية قائمة على الابتكار والبحث التطبيقي. وتُعد المملكة المتحدة من الدول الرائدة في تطوير نموذج مؤسسي متكامل يربط بين التعليم العالي والقطاع الخاص.
تتناول هذه المقالة تحليلاً نقديًا لمكونات هذا النموذج البريطاني، مع تسليط الضوء على فرص وإشكاليات تبنيه في البيئة العراقية، وما تتطلبه هذه العملية من إصلاحات تشريعية، إدارية، وثقافية.
1. المقدمة
تواجه العديد من الدول، ومنها العراق، أزمة حقيقية في المواءمة بين مخرجات التعليم العالي واحتياجات سوق العمل. هذه الأزمة تعود إلى بنى تعليمية جامدة، ومركزية مفرطة في اتخاذ القرار، وغياب الشراكة المؤسسية بين الجامعة والقطاع الخاص.
في المقابل، طوّرت المملكة المتحدة نموذجًا متقدمًا أثبت كفاءته في ردم فجوة المهارات، وتعزيز التوظيف، وتحفيز الابتكار. لكن هل يمكن نقل هذا النموذج إلى العراق وما هي الشروط والمتطلبات لتفعيله بنجاح
2. مكونات النموذج البريطاني
يقوم النموذج البريطاني على خمسة محاور رئيسية:
* المجالس الاستشارية المشتركة: تضم ممثلين عن كبرى الشركات والمؤسسات الصناعية، وتشارك في تطوير المناهج وربط البرامج الأكاديمية باحتياجات السوق.
* البرامج التعاونية (Sandwich Courses): حيث يُلزم الطالب بقضاء عام تدريبي داخل مؤسسة صناعية كجزء من دراسته الجامعية.
* البحث التطبيقي بتمويل مشترك: من خلال برامج مثل Innovate UK وKTPs، يتم ربط الجامعة بالصناعة لتنفيذ أبحاث موجهة نحو الابتكار والتطبيق العملي.
* حاضنات الأعمال الجامعية: توفر تمويلًا، وإرشادًا، ودعمًا لروّاد الأعمال من الطلبة والباحثين لتأسيس شركات ناشئة.
* دور حكومي مشجّع: من خلال سياسات دعم واضحة، وإعفاءات ضريبية، وبرامج تمويل رسمية لتعزيز التعاون بين القطاعين.
3. تحليل نقدي لعوامل النجاح
يعتمد نجاح النموذج البريطاني على مجموعة من المرتكزات:
أهمها استقلالية الجامعات، التي تمكنها من عقد شراكات مباشرة وتعديل مناهجها استنادًا لاحتياجات السوق، دون الرجوع إلى سلطة مركزية. يُضاف إلى ذلك نضج القطاع الصناعي، الذي يمتلك بنية احترافية ورؤية استراتيجية تُمكنه من لعب دور شريك فعّال في تطوير الكفاءات.
كما أن الحكومة البريطانية تلعب دورًا تنظيميًا ذكيًا؛ فهي لا تتدخل في التفاصيل التشغيلية للجامعات، بل تهيّئ بيئة داعمة عبر التشريعات، الحوافز، والتمويل، مما يعزز التعاون ويوفر مناخًا للابتكار. وتُتوّج هذه العوامل بثقافة مؤسسية متجذرة تؤمن بقيمة التعاون والتقييم المستمر.
4. التحديات البنيوية في السياق العراقي
عند محاولة تكييف هذا النموذج مع الواقع العراقي، تبرز عدة تحديات هيكلية:
أولها المركزية التشريعية والإدارية، حيث لا تتمتع الجامعات العراقية باستقلالية فعلية تسمح لها ببناء شراكات مرنة مع القطاع الخاص، في ظل خضوع معظم قراراتها إلى وزارة التعليم العالي.
كما أن القطاع الصناعي المحلي يعاني من ضعف بنيوي، إذ أن جزءًا كبيرًا منه تابع للدولة، بينما يعاني القطاع الخاص من محدودية البنية التحتية والتمويل والرؤية المستقبلية.
يُضاف إلى ذلك غياب الحوافز الحكومية التي تشجع الشركات على الدخول في شراكات مع الجامعات، فضلاً عن غياب تشريعات خاصة بحماية الملكية الفكرية أو تسهيل إنشاء شركات ناشئة من داخل الجامعات.
وتبقى ثقافة التدريب العملي والتجربة الواقعية غائبة عن معظم البرامج الجامعية، ما يضعف من قدرة الطلبة على الاندماج في سوق العمل بعد التخرج.
5. الحاضنات والدور الحكومي: بين النظرية والتطبيق
في التجربة البريطانية، تحتل حاضنات الأعمال الجامعية موقعًا محوريًا. فهي لا تقتصر على تقديم خدمات تقنية أو استشارية، بل تُعد بنية تحتية متكاملة تهدف إلى تحويل الأفكار البحثية إلى مشاريع تجارية قابلة للنمو. وتُدار هذه الحاضنات بشراكة مؤسسية بين الجامعة والقطاع الخاص، مدعومة من الدولة.
أما في العراق، فإن هذه المفاهيم لا تزال في أطوارها الأولية، وغالبًا ما تغيب تمامًا. فلا توجد في معظم الجامعات حاضنات فعلية مدعومة، ولا بيئة تشريعية تحمي حقوق المؤسسين أو تُسهل الإجراءات القانونية والتسجيل. ويرجع هذا الوضع ليس فقط إلى قلة الموارد، بل إلى غياب رؤية استراتيجية تؤمن بأن الجامعة يمكن أن تكون حاضنة للفرص، لا مجرد مكان لمنح الشهادات.
أما الدور الحكومي، ففي النموذج البريطاني يتسم بالذكاء والمرونة، حيث تعمل الدولة على خلق بيئة ممكنة عبر الإعفاءات الضريبية، وبرامج التمويل التنافسية، وتوفير أطر قانونية تشجع على الابتكار. في المقابل، يتسم الدور الحكومي في العراق بالمركزية والتقييد، وغالبًا ما تتحول المبادرات الواعدة إلى ضحية للتعقيد الإداري.
6. توصيات واقعية للتكييف
رغم التباين الكبير، إلا أن تكييف النموذج البريطاني في العراق ليس مستحيلاً، بل ممكن عبر مراحل تدريجية مدروسة:
* منح الجامعات استقلالًا إداريًا وماليًا حقيقيًا.
* إنشاء مجالس استشارية محلية ضمن كل جامعة، تضم ممثلين عن القطاع الصناعي.
* تفعيل التدريب العملي ضمن البرامج الأكاديمية بشكل إلزامي ومنظم.
* تأسيس حاضنات أعمال مصغّرة، بدعم حكومي أو منظمات دولية.
* تطوير ثقافة جامعية تعزز من قيمة التجريب والريادة، وتربط التعليم بالإنتاج.
الخاتمة
النموذج البريطاني في بناء شراكات استراتيجية بين الجامعات والقطاع الصناعي يُعد تجربة متكاملة قائمة على التوازن بين الحرية الأكاديمية، الدعم الحكومي، والشراكة المؤسسية مع السوق.
أما في العراق، فإن النجاح في استلهام هذا النموذج يتطلب إعادة تعريف دور الجامعة، وتحولاً جذريًا في التشريعات والمؤسسات، وبيئة تؤمن بأن الجامعة ليست فقط منبعًا للعلم، بل أيضًا مصدرًا للفرص الاقتصادية والاجتماعية. عندها فقط يمكن الحديث عن جامعة منتجة، وسوق عمل متجدد، ومجتمع يسير نحو التنمية المستدامة.







وائل الوائلي
منذ يومين
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN