في فضاءات القصيدة العراقية، ينهض فالح حسون الدراجي كصرحٍ شعريٍّ نادر، يُجسّد آلام أمةٍ وهموم وطنٍ مزقته رياحُ الظلم. إنه ليس مجرد شاعرٍ ينسج الكلمات، بل مؤرِّخٌ للجرح بصوته الشعبي الصادق، و مناضلٌ بالكلمة في ساحات المواجهة ضد الطغيان. فشعره سيفٌ مصقول من حقائق المعاناة، و مرآةٌ عاكسة لتاريخ العراق المضطرب، حيث تختلط دموع الأمهات المفجوعات بأنين الجرحى وصرخات المظلومين.
تميز أسلوب الدراجي بـ "السهل الممتنع" ، فجاءت مفرداته كالنبع الصافي، قريبةً من نبض الشارع العراقي، عميقةً كأعماق الفرات. لم تكن لغته حبيسة الأبراج العاجية، بل نزلت إلى الساحات والدرابين، تحاكي هموم الناس البسطاء وتُعَبِّر عن تطلعاتهم المحطمة. موسيقاه الداخلية كانت مزيجاً فريداً بين حزن الجنوب الريفي اللاّمحدود، وترانيم الأمهات الحزينات، وزفرات المقهورين، فخلقت إيقاعاً يشبه نبض القلب المجروح للعراق.
تتوجَّه إبداعات الدراجي السياسية بوصفها وثائقَ إدانةٍ صارخة لنظام صدام الفاشي. فقصيدة "سيمفونية المقابر" ليست مجرد أبياتٍ منثورة، بل صرخةٌ مدوية في وجه العالم:
"أرقام .. أرقام
أرقام عنده البشر .. وأكياس يم أكياس
حتى الدفن مو دفن .. جم كَبر ما بيه راس
وكَبور ماتنعرف .. تمشي عليها الناس "
هنا يتحول الرقم المجرد إلى رمزٍ للفظاعة، والمقابر المجهولة إلى شاهدٍ على الإبادة المنظمة. إنها تجسيدٌ مرعبٌ لسياسة "التسوية بالتساوي" في القمع:
"بالسجون وبالعذاب .. وبالدفن حدر التراب
شيب وأطفال وشباب .. اتساوو بكل الحصص "
ثم يأتي سؤاله الاستنكاري كالطلقة الأخيرة في جسد الظالم:
"وين تروح ياظالم .. من كل هذي المظالم
لاصارت ولادارت ..
ولا سلطة مثلك جارت
ولا جار مثلك حاكم
لك وين تروح ياظالم "
لم تُجدِ الغربةُ في إخماد جذوة الوطن في قلب الدراجي. شعره من بعيد تحوّل إلى جسرٍ من أشواقٍ متقدة :
"روحي راح تذوب من نار الفراق.... خاف أموت وما أشوفك يا عراق"
حتى ذكرياته البسيطة تتحول إلى ملاحم حنين:
"في بلادي المو حلو تلگاه حلو
وحتى طعم الثلج بشفافي دفو"
فهو يرى العراق - رغم جراحه - كـ "الشعر والحب والطرب" الذي لا ينطفئ.
لم يقتصر نضال الدراجي على القصيدة المكتوبة، بل امتد إلى:
الأوبريتات الملحمية: كـ "الشمس تشرق من هناك" و"بغداد أم الدنيا"، التي حوّلت المعاناة إلى فنٍّ جماعي مقاوم.
التعاون الفنّي الثوري: مع الرادود باسم الكربلائي، حيث التحمت كلماته المؤلمة بصوتٍ شجيٍّ، ليصل صدى المأساة إلى ملايين القلوب.
فالح حسون الدراجي ليس مجرد صوتٍ شاعريٍّ، بل ضميرٌ حيٌّ للعراق في أحلك لحظاته. قصائده السياسية هي الرواية الحقيقية التي سجّلها بدماء الضحايا ودموع الثكالى، بعيداً عن روايات المنتصرين الزائفة. لقد حوّل الوجعَ إلى فنٍّ، والمقاومةَ إلى إبداعٍ، والمنفى إلى جمرةٍ متّقدةٍ من الحنين. شعره يبقى شاهداً خالداً على عصر الدكتاتورية، ونبراساً للأجيال التي تؤمن بأن الكلمة الحقّة قد تكون أقوى من كل سيوف الظلم. إنه بحقٍّ: شاعر الوجع العراقي الذي حوّل أنين الوطن إلى ملحمةٍ خالدة.







وائل الوائلي
منذ 4 ساعات
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN