مقدمة: فجرٌ جديد أم غسق الإنسانية
تقف الحضارة الإنسانية اليوم على عتبة تحول وجودي، حيث لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مبتكرة، بل أصبح كيانًا معرفيًا يطرق أبواب قلاع التجربة البشرية: الصحة والحياة والموت. وفي هذا السياق، يبرز قطاع الرعاية الصحية كمسرح ملحمي تتصارع فيه سرديتان متناقضتان: سردية الخلاص التكنولوجي التي تبشر بعهد من الطب الدقيق الخالي من الخطأ، وسردية القلق الوجودي التي تخشى على جوهر اللمسة الإنسانية من الذوبان في محيط البيانات البارد. هذه المقالة ليست مجرد استعراض للآراء، بل هي محاولة للغوص في أعماق هذا التحول، مستخدمين بيانات استطلاع رأي كمسبار لاستكشاف التوترات الدفينة، والآمال العريضة، والمخاوف الصامتة التي تشكل وعي المجتمع تجاه مستقبل لم يعد على الأبواب، بل اقتحم بهو الحاضر بالفعل.
وصف العينة: جيل رقمي يرسم ملامح المستقبل
لفهم أبعاد هذا التحول، تم تطبيق استبانة على عينة طبقية عشوائية استطلاعية كشفت عن هيمنة لافتة للجيل الشاب (19-25 عامًا)، الذي شكّل 74.81من المشاركين. هذا المتغير ليس مجرد رقم، بل هو نافذة نطل منه على عقلية جيل وُلدت أنامله على لوحات المفاتيح، وتشكل وعيه في فضاءات الإنترنت المفتوحة. وأظهرت البيانات أن 80.15من المشاركين في الاستبانة ليسوا مجرد مستهلكين سلبيين للتكنولوجيا، بل هم مستخدمون نشطون لأدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، معتمدين عليها كرافعة معرفية في مسيرتهم التعليمية. هذا الاندماج العضوي مع التقنية يمنح آراءهم ثقلاً خاصًا، فهي لا تنبع من تصورات نظرية، بل من تجربة حية ومعاشه، مما يجعلهم بمثابة البوصلة التي تشير إلى اتجاه التحولات القادمة.
تشريح النتائج: بين يقين الدقة وهاجس الضمير
عند تفكيك البيانات، تبرز أربعة محاور رئيسية تشكل معًا صورة بانورامية معقدة لمستقبل الطب، وهي محاور يتردد صداها في الأوساط الأكاديمية والبحثية العالمية.
1. حتمية الكفاءة: الإيمان المطلق بالوعد التكنولوجي
إن الإجماع الذي وصل إلى 95في عينتنا حول قدرة الذكاء الاصطناعي على تعزيز كفاءة الرعاية الصحية، لا يأتي من فراغ، بل هو انعكاس لواقع ملموس تشهده كبرى المؤسسات البحثية. فالوعد التكنولوجي لم يعد مجرد حبر على ورق. على سبيل المثال، في دراسة علمية نشرتها مجلة (Nature) عام 2020، تمكن نظام ذكاء اصطناعي طورته جوجل من تشخيص سرطان الثدي من صور الماموغرام بدقة تضاهي، بل وتتفوق في بعض الحالات، على دقة أخصائيي الأشعة البشرية. هذا ليس مجرد تحسين هامشي، بل هو قفزة نوعية. يتجاوز الأمر الأشعة ليصل إلى علم الأمراض، حيث تستطيع الخوارزميات تحليل شرائح الأنسجة وتحديد الخلايا السرطانية بسرعة ودقة تفوق العين البشرية المجهدة. إن ما نراه هنا هو بزوغ فجر (الطب الدقيق Precision Medicine) ، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل الجينوم البشري للمريض، وتاريخه الطبي، وعوامل نمط حياته، ليقترح خططًا علاجية ودوائية مصممة خصيصًا له، محولاً الطب من فن قائم على التقدير إلى علم يستند إلى اليقين الرياضي.
2. شبح الأخلاق: القلق من الصندوق الأسود (المتحيز)
في مقابل هذا اليقين المشرق، يقف ظل كثيف من القلق الأخلاقي الذي أعرب عنه 74.05من المشاركين. هذا القلق يجد جذوره في معضلتين أساسيتين: مشكلة (الصندوق الأسود) والتحيز الخوارزمي. فالعديد من نماذج التعلم العميق تعمل كـ (صندوق أسود)، حيث تقدم نتائج مذهلة دون أن يتمكن مبتكروها من تفسير منطقها الداخلي بشكل كامل. هذا الغموض يمثل كارثة محتملة في مجال الطب، فكيف يمكن لطبيب أن يثق في توصية لا يستطيع شرحها لمريضه والأخطر من ذلك هو (لتحيز الخوارزمي). ففي دراسة صادمة نشرتها مجلة (Science) عام 2019، تم اكتشاف أن خوارزمية مستخدمة على نطاق واسع في المستشفيات الأمريكية كانت متحيزة بشكل منهجي ضد المرضى السود، حيث كانت أقل ميلاً لتوجيههم نحو برامج الرعاية الإضافية مقارنة بالمرضى البيض الذين يعانون من نفس درجة المرض. السبب تم تدريب الخوارزمية على بيانات تعكس الإنفاق الصحي التاريخي، والذي كان أقل بالنسبة للمرضى السود، فاعتبرت الخوارزمية أنهم (قل مرضًا). هذا المثال يوضح كيف يمكن للذكاء الاصطناعي، إن لم يتم تصميمه ومراقبته بحذر شديد، ألا يكتفي بتكرار التفاوتات الصحية الموجودة في مجتمعاتنا، بل أن يضخمها ويمنحها شرعية علمية زائفة.
3. ضرورة التمكين البشري: نحو نموذج (الطبيب القنطور)
إن الإجماع بنسبة 91.60على ضرورة تعزيز المهارات التكنولوجية للكوادر الصحية هو صوت العقل. إنه رفض لفكرة الاستبدال، ودعوة صريحة لنموذج (التكافل المعرفي). يطلق بعض المفكرين على هذا النموذج اسم (الطبيب القنطور The Centaur Clinician) ، مستلهمين الفكرة من عالم الشطرنج، حيث أثبت اللاعبون (القناطير) وهم فريق من إنسان وحاسوب تفوقهم على أقوى الحواسيب وأمهر البشر كل على حدة. في هذا النموذج، لا يحل الذكاء الاصطناعي محل الطبيب، بل يحرره من المهام الروتينية والمضنية - كتحليل آلاف الصور أو مراجعة السجلات الطبية - ليتفرغ لما يجيده الإنسان دون منازع: التفكير النقدي، والحدس المبني على الخبرة، والتواصل الإنساني، والتعاطف، واتخاذ القرارات الأخلاقية المعقدة. إن كليات الطب الرائدة حول العالم بدأت بالفعل في دمج علوم البيانات وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي في مناهجها، مدركة أن طبيب المستقبل لن يكون مجرد معالج، بل (منسقًا للمعرفة) يدير سيمفونية متناغمة بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي.
4. مفارقة العمل: بين التحرير والاستبدال
يبقى مستقبل القوى العاملة هو الساحة الأكثر ضبابية، وهو ما يعكسه الانقسام في آراء المشاركين (50 مقابل 50). تقارير مؤسسات مثل المنتدى الاقتصادي العالمي وماكينزي تشير إلى أن الذكاء الاصطناعي لن يؤدي إلى (بطالة جماعية) في القطاع الصحي على المدى القريب، بل إلى (إعادة هيكلة هائلة للمهام). فالمهام الإدارية، وإدخال البيانات، والتحليل الأولي للصور، هي الأكثر عرضة للأتمتة. هذا يمكن أن يحرر الممرضين والأطباء لقضاء وقت أطول مع المرضى. لكن على المدى البعيد، لا يمكن استبعاد اندثار بعض التخصصات (قد يكون أخصائي الأشعة الذي يقتصر عمله على التشخيص الروتيني هو أول المهددين). تطرح هذه المفارقة السؤال الأهم: هل نحن كَمجتمعات مستعدون لهذا التحول هل لدينا خطط لإعادة تدريب الملايين من العاملين إن التحدي لا يكمن في إيقاف موجة التكنولوجيا، بل في تعلم كيفية ركوبها وتوجيهها نحو شاطئ يضمن الكرامة والفرص للجميع.
خاتمة: صياغة ميثاق جديد بين الإنسان والآلة
إن البيانات التي بين أيدينا، مدعومة بالأبحاث العالمية، لا ترسم خارطة طريق واضحة، بل تعكس بالأحرى تضاريس مرحلة انتقالية مليئة بالوعود والمخاطر. إن مستقبل الطب لن يتشكل في مختبرات السيليكون ومراكز البيانات فحسب، بل سيتشكل في الساحة العامة، من خلال حوار مجتمعي عميق حول القيم التي نريد أن نحافظ عليها. إن التحدي الأكبر ليس تحديًا تكنولوجيًا، بل هو تحدٍ إنساني بامتياز: هل سنتمكن من صياغة ميثاق جديد بيننا وبين إبداعاتنا الذكية ميثاق يضمن أن يظل المشرط الخوارزمي أداة في يد الطبيب، لا أن تصبح يد الطبيب مجرد امتداد لإرادة الخوارزمية. إن مستقبل الرعاية الصحية لن يقاس فقط بقدرتنا على إطالة أمد الحياة، بل بقدرتنا على إثرائها بالمعنى والكرامة والرحمة.







وائل الوائلي
منذ يومين
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN