منذ فجر التاريخ والإنسان يحاول فهم القوى التي تحرك الطبيعة وتسيّر الظواهر من حوله. فمشاهدة سقوط الأجسام، تدفق المياه، اشتعال النار أو دوران الكواكب، كلها طرحت سؤالًا جوهريًا: هل هناك مبدأ شامل يحكم التغيرات ويضمن أن ما يضيع في عملية ما يظهر في أخرى جاءت الإجابة الفيزيائية على هذا السؤال عبر واحد من أهم القوانين الكونية، وهو قانون حفظ الطاقة، الذي يعدّ حجر الزاوية في الفيزياء الكلاسيكية والمعاصرة على حد سواء. هذا القانون لا يقتصر على كونه صياغة رياضية بسيطة، بل هو مبدأ فلسفي عميق يفترض أن الكون منظم بطريقة تجعل الطاقة لا تُفنى ولا تُستحدث من العدم، بل تتحول من صورة إلى أخرى مع بقاء كميتها الكلية ثابتة.
يمكن إرجاع البذور الأولى لفكرة حفظ الطاقة إلى محاولات الإغريق لفهم الحركة والاتزان، حيث افترض أرسطو أن القوى هي التي تُبقي الأجسام في حركة. غير أن هذه الرؤية لم تكن دقيقة. لاحقًا، جاء غاليلو غاليلي في القرن السابع عشر ليبرهن أن الأجسام تحتفظ بحالتها من الحركة ما لم تؤثر عليها قوة خارجية، مما مهّد الطريق لفكرة كمية محفوظة. ثم جاء إسحاق نيوتن ليضع قوانينه الثلاثة للحركة، التي أكدت أن الحركة مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالقوة والكتلة والتسارع.
لكن المفهوم الأقرب إلى حفظ الطاقة ظهر بوضوح في القرن السابع عشر مع دراسة غوتفريد لايبنتس الذي قدّم مفهوم "القوة الحية" وعرّفها بأنها حاصل ضرب الكتلة في مربع السرعة. كانت هذه المحاولة الأولى لتحديد كمية يمكن أن تبقى محفوظة في التفاعلات. وعلى الرغم من أن "القوة الحية" لم تكن مطابقة لما نعرفه اليوم بالطاقة الحركية، إلا أنها كانت نواة لفكرة بقاء مقدار فيزيائي ثابت.
مع الثورة الصناعية وتقدم الميكانيكا الحرارية في القرن التاسع عشر، أصبح من الضروري فهم العلاقة بين الحرارة والعمل. فقد بيّن جيمس بريسكوت جول من خلال تجاربه الشهيرة على تسخين الماء بواسطة تحريك أوزان ساقطة أن الحرارة ليست مادة غامضة كما كان يعتقد في نظرية "الكالوريك"، وإنما هي صورة من صور الطاقة يمكن تحويلها من ميكانيكية إلى حرارية. وهنا تبلور المبدأ العام: الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم، بل تتحول من شكل إلى آخر، ومجموعها الكلي ثابت.
مع دخول القرن العشرين، أخذ قانون حفظ الطاقة بعدًا أوسع عبر اندماجه مع نظريات جديدة.
النسبية الخاصة لأينشتاين قدّمت أشهر صياغة لعلاقة الطاقة بالكتلةحيث نصت عل ان الطاقة تساوي الكتلة مضروبة بمربع ثابت سرعة الضووء في الفراغ مما أظهر أن الكتلة نفسها ما هي إلا صورة من صور الطاقة، وأن الفناء أو الاستحداث الظاهري للكتلة ما هو إلا تحويل مباشر إلى طاقة إشعاعية أو حركية.
الميكانيكا الكمية أكدت بدورها أن الطاقة تظل محفوظة حتى في أكثر التفاعلات دقة، مثل امتصاص وانبعاث الفوتونات في الذرات. بل إن مبدأ الحفظ هذا هو الذي يحدد مستويات الطاقة في الذرات ويجعل الطيف الذري مميزًا لكل عنصر.
الفيزياء الفلكية تستند كذلك على حفظ الطاقة لفهم الظواهر الكونية، مثل اندماج النجوم، إشعاع الثقوب السوداء، وتطور المجرات.
يُعتبر قانون حفظ الطاقة حجر الأساس في جميع التطبيقات العلمية والهندسية:
1.المحركات الحرارية: من المحركات البخارية إلى محركات السيارات الحديثة، حيث تتحول الطاقة الكيميائية للوقود إلى طاقة حرارية ثم ميكانيكية.
2.المولدات الكهربائية: تحويل الطاقة الميكانيكية إلى طاقة كهربائية وفق مبدأ الحث الكهرومغناطيسي.
3.الأجهزة الإلكترونية: تصميم الدوائر يعتمد على موازنة الطاقة الداخلة والخارجة لضمان الكفاءة.
4.الطاقة المتجددة: الألواح الشمسية تحول الطاقة الضوئية إلى كهربائية، والعنفات الهوائية تحول الطاقة الحركية للرياح إلى كهرباء.
5.الطب: أجهزة الأشعة السينية والرنين المغناطيسي النووي تستند إلى مبادئ التحولات الطاقية الدقيقة.
لقانون حفظ الطاقة أيضًا بعد فلسفي، إذ يشير إلى أن الكون ليس فوضويًا بالكامل، بل يخضع لمبدأ انتظام أساسي. فإذا كانت الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث، فهذا يوحي بوجود نظام شامل يحكم التغيرات. وقد ناقش الفلاسفة والعلماء هذه الفكرة باعتبارها مبدأً كونيًا لا ينفصم عن طبيعة الوجود نفسه. بل إن بعض المدارس رأت فيه أساسًا للتفكير في مفهوم السببية، حيث لا يمكن لشيء أن يظهر دون أصل طاقي سابق.







وائل الوائلي
منذ 1 يوم
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN