لو جلست يومًا على شاطئ البحر لساعة أو ساعتين ستلاحظ أن الماء لا يبقى على حاله. أحيانًا يتقدم بخطوات هادئة ليغطي الرمال والصخور، وأحيانًا أخرى يتراجع تاركًا خلفه أرضًا مبتلة. هذه الظاهرة البسيطة التي نراها جميعًا اسمها المد والجزر، وهي واحدة من أجمل الأمثلة على كيف يمكن لشيء بعيد في السماء – مثل القمر – أن يترك أثرًا ملموسًا في حياتنا اليومية.
القصة تبدأ مع الجاذبية. كل جسم في الكون، صغيرًا كان أو ضخمًا، يشد غيره نحوه بقوة الجاذبية. والأرض والقمر ليسا استثناءً. صحيح أن القمر أصغر بكثير من الأرض، لكن قربه الشديد يجعل جاذبيته كافية لسحب مياه المحيطات. وهنا يكمن السر: الماء ليس صلبًا مثل الصخور، بل هو سائل قابل للحركة، لذلك يستجيب بسرعة لهذه الجاذبية. النتيجة أن المياه على الجانب الأقرب للقمر تنتفخ قليلًا نحوه، وفي الجهة الأخرى من الأرض يحدث انتفاخ آخر بسبب اختلاف الشد بين القمر والأرض والماء.
بهذا نجد أن هناك مدّين متقابلين على سطح الأرض في الوقت نفسه، بينما تمر بقية المناطق بحالة جزر. ومع دوران الأرض حول محورها كل يوم، تتحرك القارات عبر هذه الانتفاخات المائية، فنشهد المد والجزر بشكل دوري. ولو دققت أكثر ستجد أن التوقيت لا يتكرر بدقة في نفس الساعة كل يوم، بل يتأخر بحوالي خمسين دقيقة. السبب ببساطة أن القمر نفسه يتحرك في مداره حول الأرض.
لكن القمر ليس وحده في المشهد. الشمس، رغم بعدها الكبير، تملك كتلة هائلة تجعل جاذبيتها مؤثرة أيضًا. أحيانًا يتعاون القمر والشمس معًا، خصوصًا في وقت البدر أو المحاق، فتصبح المدود أعلى من المعتاد ويُسمى ذلك "المد الربيعي". وأحيانًا يتعارضان في الشد، مثل وقت التربيع، فتظهر مدود أضعف نسميها "المد المحاقي".
هذه الظاهرة ليست مجرد مشهد طبيعي نتسلى بمراقبته. فهي تنظم حياة كاملة في البحر وعلى الشواطئ. كثير من الكائنات البحرية تعتمد على المد والجزر في غذائها وتكاثرها، والطيور تنتظر الجزر لتصطاد من الرمال المكشوفة. وحتى الإنسان وجد فيها موردًا مهمًا؛ فاليوم هناك محطات في عدة دول تستغل حركة المياه لتوليد طاقة نظيفة ومتجددة، وكل ذلك بفضل تفاعل القمر مع محيطات الأرض.
المد والجزر في النهاية ليس إلا تذكيرًا بأن الفيزياء ليست علمًا بعيدًا عنا أو محصورًا في المعادلات. إنها جزء من حياتنا اليومية. القمر الذي نراه مضيئًا في السماء كل ليلة هو في الحقيقة لاعب أساسي في حركة البحار. وبين كل مدّ وجزر، نكتشف أن الكون يعمل بتناغم عجيب، حيث تسحب الأجرام بعضها بعضًا بخيوط غير مرئية، فنعيش نحن نتائجها في صورة أمواج ترتفع وتنحسر أمام أعيننا.







وائل الوائلي
منذ 9 ساعات
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN