منذ أن رفع الإنسان رأسه إلى السماء، كان البرق أحد أكثر الظواهر إثارة للدهشة والخوف معًا. وميض مفاجئ، حاد، يخترق ظلمة السحاب ويقسم السماء لجزء من الثانية، يتبعه صوت عميق يهزّ الأرض. لم يكن البرق حدثًا عابرًا، بل علامة على قوة الطبيعة. الإنسان الأول رأى في البرق شيئًا غامضًا وربطه بالغضب الإلهي أو علامة سماوية، ثم جاء العلم الحديث ليشرح لنا بالضبط ما يحدث، من تراكم الشحنات إلى التفريغ الكهربائي المفاجئ، خطوة خطوة.
القرآن وصف هذه الظاهرة بوصف يجمع بين التأثير النفسي والظاهرة الطبيعية، إذ يقول تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ﴾ (سورة الرعد، الآية 12)
هنا يظهر الجمع بين البُعد النفسي: الخوف من الصاعقة، والطمع في المطر، وبين البُعد الفيزيائي: السحاب الثِقال، أي السحاب المحمّل بالماء والجليد والطاقة، ما يجعله بيئة مثالية لحدوث البرق.
ليولد البرق، تحتاج العاصفة إلى سحب ركامية مزنية ضخمة، تمتد من القرب من سطح الأرض حتى طبقات جوية شديدة البرودة، أحيانًا لعشرات الكيلومترات. هذه السحب ليست مجرد بخار متراكم، بل نظام ديناميكي حي، فيه تيارات هوائية صاعدة وهابطة قوية، تجعل السحابة تتحرك من الداخل بشكل مستمر.
التيارات الصاعدة تحمل الهواء الدافئ الرطب إلى الأعلى، والتيارات الهابطة تعيد الهواء الأبرد للأسفل، محدثة دورانًا عنيفًا داخل السحابة. هذا الدوران يسمح بتصادم قطرات الماء مع البلورات الجليدية وحبيبات البَرَد، وهو ما يبدأ عملية فصل الشحنات الكهربائية.
القرآن وصف هذه السحب بأنها ثِقال، وهو وصف دقيق علميًا، فالسحابة محمّلة بالماء والجليد والطاقة، ما يجعلها ثقيلة من حيث الطاقة المختزنة، وليست مجرد سحب هوائية خفيفة.
في أعماق السحابة، تحدث ملايين التصادمات بين قطرات الماء، البلورات الجليدية، وحبيبات البَرَد الصغيرة. هذه التصادمات تولّد تراكمًا للشحنات: الشحنات الموجبة تتجمع في الأعلى، والسالبة في الأسفل.
مع تراكم الشحنات، تنشأ داخل السحابة مجالات كهربائية هائلة، ويبدأ تكوين مسارات ضعيفة للتفريغ. هذه المسارات غير مرئية للعين البشرية، لكنها أساس البرق الذي نراه لاحقًا.
مع ازدياد فرق الجهد، يصبح الهواء عاجزًا عن العزل. هنا تبدأ القنوات الكهربائية بالتشكل، ليست كوميض واحد، بل كسلسلة من الخطوات المتدرجة. هذا يفسر لماذا البرق لا يظهر فجأة كضربة واحدة، بل يتدرج قبل أن يظهر الوميض القوي النهائي.
خطوات قصيرة متقطعة، تبحث عن المسار الأقل مقاومة. هذا المصطلح شائع في دراسة الطقس وعلوم العواصف.
القائد المتدرج يتحرك بسرعة كبيرة جدًا، وينشأ عنه تفريعات صغيرة أحيانًا، ما يفسر شكل البرق المتعرج. هذه المرحلة تستمر أجزاء من الثانية قبل أن يبدأ التفريغ الرئيسي الذي نراه.
عندما يقترب القائد المتدرج من الأرض، تستجيب الأجسام المرتفعة: الأشجار، الأبراج، والمباني. تنشأ منها قنوات صاعدة قصيرة تلتقي بالقائد المتدرج، لتكتمل الدائرة الكهربائية. عندها يحدث التفريغ الرئيسي، الذي يطلق تيارًا هائلًا وينتج وميض البرق الشديد.
في لحظة التفريغ، يُسخّن الهواء داخل القناة إلى درجات حرارة تفوق سطح الشمس، في جزء من الثانية. يظهر البرق أبيض شديد الإضاءة، كما وصف القرآن:﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ (سورة النور، الآية 43)
هذا السنا هو الوميض المفاجئ الذي يخطف النظر، ويمثل اللحظة التي تتحول فيها الطاقة المختزنة داخل السحابة إلى ضوء وصوت.
الهواء المحيط بالقناة يتمدد بسرعة هائلة بسبب الحرارة، ثم يتقلص فجأة، مولّدًا موجة صوتية قوية، نسمعها كرعد. مثلاً، إذا شاهدت البرق ثم سمعت الرعد بعد 5 ثوانٍ، فهذا يدل على أن الصاعقة حدثت على بعد حوالي كيلومترين، لأن الصوت أبطأ بكثير من الضوء.
تفرعات البرق وطول القنوات، وطبيعة التضاريس المحيطة، تخلق أصواتًا متنوعة، ما يجعل لكل عاصفة طابعها الصوتي الخاص.
الضوء يصل إلى العين فور التفريغ، بينما الصوت يحتاج وقتًا. هذه الحقيقة العلمية تفسر تجربة مألوفة للجميع منذ القدم. وهنا يتجلى البُعد الإنساني، كما وصف القرآن:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾
(سورة الروم، الآية 24)
الخوف من الصاعقة، والطمع في المطر، يربطان الفيزياء بالتجربة البشرية.
هذا التنوع يوضح سبب اختلاف المظاهر، رغم أن كل البرق يعتمد على نفس المبادئ الفيزيائية.
الإنسان منذ القدم كان يرى البرق تجربة مزدوجة: رهبة الطبيعة وأمل الخير القادم من المطر. القرآن أكد هذا الشعور عبر الوصف النفسي والطبيعي معًا، مما يجعل فهم البرق تجربة شاملة لا مجرد ظاهرة كهربائية حيث كانت مشاعر الانسان متذبذبة بين الخوف والطمع .
يمكننا ان نقسم البرق الى ثلاث أنواع من حيث موقعه
1. داخل السحابة: لا يصل إلى الأرض، يضيء السماء.
2. بين السحب: يربط سحابتين ويخلق وميضًا واسعًا.
3. بين السحابة والأرض: النوع الأكثر شهرة وخطورة.
حيث ان البرق يبحث دائمًا عن المسار الأقل مقاومة. لذلك، الأشجار، الأبراج، والمباني العالية هي الأهداف الأكثر عرضة. الفيزياء تشرح لماذا يُصيب البرق هذه الأهداف أكثر من غيرها، دون أي عشوائية فعلية في الاختيار.
وكما نعلم ان البرق يحمل تيارات هائلة تصل أحيانًا لمئات آلاف الأمبير، ودرجات حرارة عالية. ضربته المباشرة على الإنسان غالبًا قاتلة، والأشجار والمباني معرضة للحرائق أو التلف.
التكنولوجيا الحديثة تحمي البشر والبنية التحتية باستخدام مانعات الصواعق، التي توجه التيار نحو الأرض بعيدًا عن المباني، وتحمي خطوط الكهرباء، الأقمار الصناعية، وشبكات الاتصالات. هذه الأجهزة لا تمنع البرق، لكنها تقلل أثره بشكل كبير، وتوضح كيف يمكن للعلم أن يخفف المخاطر الطبيعية.
اليوم، يُدرس البرق عبر الرصد الأرضي والأقمار الصناعية، لفهم العواصف ودورة المياه، ولتقدير الطاقة الكهربائية المنبعثة. العلماء يدرسون مراحل القائد المتدرج، القنوات الثانوية، وطفرات التيار لفهم التفريغ الكامل. هذه الدراسات تساعد على تحسين نظم الحماية الحديثة وتطوير فهمنا لدورة العواصف وتأثيرها على المناخ.
البرق لم يعد لغزًا أسطوريًا، لكنه لم يفقد رهبة المشهد. العلم شرح كيفية حدوثه، القرآن وصف كيف يُحس. بين التفسيرين، يقف الإنسان، يرفع رأسه للسماء حين تفرغ شحنتها، يشعر بالخوف، ويترقب المطر الذي يحيي الأرض.
الوميض الذي يكاد يخطف الأبصار سيبقى دائمًا تذكيرًا بأن الطبيعة، مهما فُهمت، لا تزال قادرة على إدهاشنا، وأن تجربة الإنسان مع البرق تجمع بين العلم والشعور، بين المعرفة والرهبة.







وائل الوائلي
منذ 3 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN