في الخامسِ والعشرينَ من ذي القعدةِ يولدُ الميرزا محمد حُسين النائينيّ إبنُ الشيخِ عبد الرحيم، وينشأُ بينَ أُسرةٍ عُلمائيةٍ رفيعةِ المستوى ، عاشَ بداياتِ حياتِهِ العلميةِ في مَسقطِ رأسهِ مدينةِ (نائين)، وبعدها انتقلَ لمدينةِ (أصفهان) ليدرسَ على يدِ أمهرِ أساتذتِها الشيخ أبي المعالي الكلباسي، فتأثّرَ بهِ جداً ، وكانَ من ثقةِ أستاذهِ بهِ أنْ طلبَهُ ذاتَ مرّةٍ للحضورِ في درسِ أحّدِ الفقهاءِ الكبارِ، لكنَّ الميرزا إمتنعَ تأدباً لصغرِ سنهِ لكنّهُ قَبِلَ في نهايةِ الأمرِ رضوخاً لرغبةِ أستاذهِ ، وكانَ في وقتِها لم يصلِ العشرينَ مِن عُمرِه.
واصلَ الميرزا رحلتَهُ العلميةَ بالذهابِ الى درسِ فقيهِ العصرِ ومرجعِ الزمانِ المجدِّدِ الشيرازيّ ، فانتقلَ من أصفهان بعدَ أن قضى فيها عشرةَ أعوامٍ كاملةٍ الى سامراءَ حيثُ حوزةُ العلمِ والتُّقى في حينِها ، فلازمَ السيّدَ مُحمّد حَسن الشيرازيّ واهتمَّ بدرسهِ كثيراً ، فقرَّبهُ السيّدُ إليهِ لما لاحظَ منهُ النبوغَ والعبقريةَ الفذَّةَ ، وهوَ لم يكملِ الثلاثينَ من عُمرِهِ.
إنَّ الظروفَ الحالكةَ والعصيبةَ التي مرّتْ بها سامراءُ بعدَ رحيلِ المُجدِّدِ حالتْ دونَ استمرارِ الميرزا فيها ، فغادرَها بمرارةٍ الى كربلاءَ المقدسةِ سنةَ ألفٍ وثلاثمئةٍ وأربعةَ عشر هجرية، فمكثَ فيها مُدةً يسيرةً ثُمَّ انتقلَ الى النجفِ الأشرفِ حاضرةِ العِلمِ والأدبِ ليبدأَ مشوارَهُ العلميَّ ، فأخذَ يُدرِّسُ الفقهَ والأصولَ متعرِّضاً لأعمقِ وأدقِّ المسائلِ، ومُحلّلاً ومُفصّلاً لأشهرِها ، مُنقِّحاً ما غابَ عنِ التنقيحِ بدقةٍ وإتقانٍ رفيعِ المستوى ، حتى أنَّ درسَهُ لعمقِهِ ودقتِهِ كانَ لا يحضرهُ إلا مَن اشتدَّ عودُهُ وقويَ ذهنُهُ ، فعُرِفَ على إثرِ ذلكَ بالمجدِّدِ.
قالَ العلّامةُ الطهرانيُّ في حقهِ: (كانَ لهُ تضلّعٌ وبراعةٌ في الآدابِ اللغويةِ ورسوخٌ في الكلامِ والفلسفةِ ، وتوحّدٌ في الفقهِ، أما في الأصولِ فأمرٌ عظيمٌ .. وقد رنَّ الفضاءَ بأقوالهِ ونظرياتهِ العميقةِ).
تُرجِمَ هذا التفوقُ الفكريُّ والتجدّدُ العلميُّ الى نفائسَ معرفيةٍ بشريٍة وورقيةٍ ، فأمّا مِن الأولِ ، فقد ربّى ودرَّسَ جيلاً من الفقهاءِ الكبارِ أمثالِ، الشيخ حُسين الحِليّ والسيد أبي القاسمِ الخوئيّ والسيد هادي الميلانّي والسيد محمّد تقي الخونساريّ والشيخ محمد حسن المظفّر والسيّد محمّد تقي بحر العلوم.
أما كُتبهُ فقد كانتْ مهمةً جِداً على الرغمِ من انشغالهِ بالرياسةِ الدينيةِ والزعامةِ الاجتماعيةِ ، ولعلَّ من أشهرِها: رسالةُالصلاة ِفي المشكوكِ ، تعليقةٌ على العروةِ الوثقى ، وسيلةُ النجاةِ ، تنبيهُ الأمّةِ وتنزيهُ المِلةِ ، وقد قررَ بحثَهُ غيرُ واحدٍ من أعاظِمِ تلامذتِهِ، ومِن ذلكَ: أجودُ التقريراتِ للسيّدِ الخوئيّ ، وفوائدُ الأصولِ للشيخِ الكاظميّ، ومُنيةُ الطالبِ للشيخِ موسى الخونساريّ.
إنَّ نبوغَ الشيخِ النائينيّ لم يتوقفْ عندَ حدودِ الفقهِ والأصولِ فحسبْ، بل كانتْ لهُ آراءٌ دقيقةٌ في نظامِ الحكمِ والقيادةِ ، ومَن يراجعُ كتابهُ تنبيهُ الأمةِ يجد ذلكَ بوضوحٍ ، وكانتْ لهُ وقفاتٌ اجتماعيةٌ ووطنيةٌ معروفةٌ، من أبرزِها وقوفهُ بوجهِ الاحتلالِ البريطانيّ ورافقهُ السيدُ الاصفهانيّ مما جعلَ الاحتلالَ يبادرُ لنفيهِما خارجَ العراقِ ، كما أنّهُ كانَ من الشخصياتِ المشاركةِ والداعمةِ للجهادِ ضدَّ الاحتلالِ الانكليزيّ سنةَ ألفٍ وتسعمائةٍ وأربعةَ عشر ميلادية .
إنَّ مشاعرَ طلابهِ لم تكنْ تضمرُها القلوبُ أو تَخفى في السرائرِ، بل بانتْ على ألسنهم فدونتْها الأقلامُ مدحاً ورفعةً ، يقولُ السيدُ الخوئيّ عن أستاذهِ الميراز: (شيخُنا الأستاذُ عَلمُ التحقيقِ ومنبعُ الفضيلةِ والتدقيقِ مَن إليهِ ألقتْ الرياسةُ العلميةُ زِمامَها وبفضلِ أبحاثهِ القيّمةِ تمَّ للعلومِ الدينيةِ نظامُها حضرةُ المولى الميرزا محمّد حُسين النائينيّ).
ولمّا كانَ من قوانينِ هذهِ الأرضِ الرحيلُ الى عالمِ الآخر ةِ جرى هذا الحقُّ على شيخِنا الميرزا فرحلَ عن عمرٍ ناهزَ الثمانينَ عاماً في السادسِ والعشرينَ من جمادي الأول سنة ألفٍ وثلاثمئةٍ وخمسٍ وخمسينَ للهجرة، وصلى عليهِ السيدُ أبو الحسنِ الأصفهانيّ ، ليمكثَ خالداً بجوارِ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلامُ) ، فأنشِدتِ القصائدَ وأبدعَ الأشعارِ في وفاتِهِ ، ولعلَّ في طليعةِ أولئكَ الشيخ المظفّرِ والشيخ عبد المنعمِ الفرطوسيّ والسيد مُسلم الحليّ، ولكنْ من الأجملِ أنْ ننقلَ ما قالهُ السيدُ الحبوبيّ فيهِ:
إنَّ الثمانينَ التي بِكَ قد مشتْ ... نحوَ الحقيقةِ في الصراطِ الأقومِ
بلغتْ بكَ الشرفَ العظيمَ وسؤدداً ... يُعزى لمُحرزهِ الفَخَارُ وينتمي
وحَدوتَها بالذكرِ سائرةً إلى ... أبقى مسراتٍ هناكَ وأدوَم
وحثثتَها فوصلتَ أبعدَ غايةٍ ... فاضتْ عليكَ بها هِباتُ المنعمِ
إنْ أُوحِشتْ منكَ المنابرُ أنّها * أنِسَتْ بشخصِ أبي الحليمِ الأكرمِ
وبهِ العَزا للدينِ بعدكَ ضيغمٌ * أودى وقد حُميَ العرينُ بضَيغَمِ
وأرّخَ وفاتهُ تلميذُهُ السيدُ علي نقي النقويّ بقولهِ :
وحيثُ زادَ الأسى نادى مؤرخُهُ... مضى حُسينٌ فحاكى طفَّهُ النجفُ