بقلم: الشيخ محمد ابراهيم الجناتي
يدعي بعض المستشرقين إنّ المسلمين في صدر الإسلام كانوا منهمكين بالفتوحات، والفقه الإسلامي تأثر بقوانين وأحكام الروم، بمعنى أنّه في زمن الصحابة - الذين يروون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وفي زمن تابعيهم -الذين يروون عن الصحابة- أُخذت بعض الأحكام الشرعية المستنبطة من قوانين وأحكام بلاد الروم. جاءت هذه الجماعة بدليلين على مدعاها:
الدليل الأول: كلام لأحد المستشرقين يقول فيه: عندما فتحت بلاد الشام على يد المسلمين، كانت مدارس الفقه الرومي لا تزال قائمة في القيصرة الواقعة على سواحل فلسطين وبيروت وكانت المحاكم القضائية تقضي على أساسه، واستمرت هذه القوانين إلى مدةٍ بعد الفتح. هذا الأمر دليل على أن المسلمين اعتبروا ذلك القانون رسمياً وأقرّوا به.
يتابع دليله فيقول: من الطبيعي أنّ المسلمين الذين لم يتمتعوا بقدر يذكر من المدنية، يجب أن يتبعوا مجتمعاً سبقهم بالثقافة والتمدن، وأن يجعلوا من تصرفاتهم وقوانينهم دستوراً لهم.
الدليل الثاني: إن مقايسة بعض أبواب الفقه الإسلامي، وبعض قوانين الروم تبين التشابه بينهما. بل يدلّ على أنّ متن بعض الأحكام نقل من قوانين الروم مثل القانون الذي يقول: "على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين".
وفي هذين الدليلين إشكالات واضحة:
أولاً: لا أحد من المسلمين حتى نفس المستشرقين يقول أن المسلمين أعم من الفقهاء وغيرهم أشاروا إلى الفقه والقوانين الرومية بنقدٍ أو تأييد وتصديق أو اقتباس واستناد. بناءً على هذا لم يكن يظهر كلام عن الفقه الرومي بين المسلمين فضلاً عن جعله مورداً للبحث والدراسة وإن ترجم بعض المسلمين فلسفة اليونان إلى العربية، ولكن لم يترجم كتاب واحد بل كلمة واحدة من الفقه الرومي إلى العربية.
بالنظر لهذا الأمر نحصل اليقين أن جميع الأحكام الرومية ألغيت بمجرد فتح تلك البلدان.
ثانياً: كان المستشرق المذكور يدعي أنّ مدارس الفقه الرومي كانت موجودة في بلاد الشام في ذلك الوقت، وأنّ المحاكم والقضاة كانوا يحكمون طبقاً له، ولكن يجب الانتباه إلى أنّه كان يوجد في الشام فقهاء وقضاة وولاة كبار، وفي هذه الحال لو كان هناك تأثير من ناحية القوانين الرومية لكان على هذه المجموعة من الفقهاء والقضاة لا على مجموع الفقه الإسلامي.
ثالثاً: المسلمون حاملوا رسالة سماوية عظيمة وقد كانوا يقومون بالفتوحات لتطبيق أحكام دينهم. بناء على هذا كيف يتصور أنّهم يفتتحون أرضاً ثم يخضعون لقوانين قاموا هم أنفسهم للقضاء عليها وسحقها وإقامة حكم الإسلام مكانها؟
رابعاً: ليس بالإمكان أبداً الإتيان بدليل على الادعاء بأنّ المسلمين في عصر الفتوحات يتمتعون بمستوى أقل من التمدن والثقافة نسبة لأهل تلك الأراضي. ولو كان الأمر كذلك لترك المسلمون ثقافتهم ورضخوا لثقافة وآداب تلك الأرض، لأنّ الفكرة العليا هي التي تتمتع بتأثير ونفوذ لا تلك التي تكون ضعيفة ودون مميزات، إضافةً إلى أنّ الإسلام رفض الإكراه في الدين ومنعه.
خامساً: إن جملة "على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين" هي حديث شريف، وجاءت أيضاً في رسالة أرسلها "عمر بن الخطاب" إلى "أبي موسى" في البصرة، بناءً عليه كيف يظن بأنها أُخذت من الأحكام الرومية.
ومما قيل يعلم أنّ دعوى "تأثير الفقه الرومي في الفقه الإسلامي" هي دسيسة من المستشرقين وادعاء لا أساس له، الفقه الإسلامي هو مجموعة أحكام استنبطت من الأدلة الشرعية، وما لم يكن مستنداً إلى دليل فهو ليس من مسائل الفقه الإسلامي