تأملات قرآنية
مصطلحات قرآنية
هل تعلم
علوم القرآن
أسباب النزول
التفسير والمفسرون
التفسير
مفهوم التفسير
التفسير الموضوعي
التأويل
مناهج التفسير
منهج تفسير القرآن بالقرآن
منهج التفسير الفقهي
منهج التفسير الأثري أو الروائي
منهج التفسير الإجتهادي
منهج التفسير الأدبي
منهج التفسير اللغوي
منهج التفسير العرفاني
منهج التفسير بالرأي
منهج التفسير العلمي
مواضيع عامة في المناهج
التفاسير وتراجم مفسريها
التفاسير
تراجم المفسرين
القراء والقراءات
القرآء
رأي المفسرين في القراءات
تحليل النص القرآني
أحكام التلاوة
تاريخ القرآن
جمع وتدوين القرآن
التحريف ونفيه عن القرآن
نزول القرآن
الناسخ والمنسوخ
المحكم والمتشابه
المكي والمدني
الأمثال في القرآن
فضائل السور
مواضيع عامة في علوم القرآن
فضائل اهل البيت القرآنية
الشفاء في القرآن
رسم وحركات القرآن
القسم في القرآن
اشباه ونظائر
آداب قراءة القرآن
الإعجاز القرآني
الوحي القرآني
الصرفة وموضوعاتها
الإعجاز الغيبي
الإعجاز العلمي والطبيعي
الإعجاز البلاغي والبياني
الإعجاز العددي
مواضيع إعجازية عامة
قصص قرآنية
قصص الأنبياء
قصة النبي ابراهيم وقومه
قصة النبي إدريس وقومه
قصة النبي اسماعيل
قصة النبي ذو الكفل
قصة النبي لوط وقومه
قصة النبي موسى وهارون وقومهم
قصة النبي داوود وقومه
قصة النبي زكريا وابنه يحيى
قصة النبي شعيب وقومه
قصة النبي سليمان وقومه
قصة النبي صالح وقومه
قصة النبي نوح وقومه
قصة النبي هود وقومه
قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف
قصة النبي يونس وقومه
قصة النبي إلياس واليسع
قصة ذي القرنين وقصص أخرى
قصة نبي الله آدم
قصة نبي الله عيسى وقومه
قصة النبي أيوب وقومه
قصة النبي محمد صلى الله عليه وآله
سيرة النبي والائمة
سيرة الإمام المهدي ـ عليه السلام
سيرة الامام علي ـ عليه السلام
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله
مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة
حضارات
مقالات عامة من التاريخ الإسلامي
العصر الجاهلي قبل الإسلام
اليهود
مواضيع عامة في القصص القرآنية
العقائد في القرآن
أصول
التوحيد
النبوة
العدل
الامامة
المعاد
سؤال وجواب
شبهات وردود
فرق واديان ومذاهب
الشفاعة والتوسل
مقالات عقائدية عامة
قضايا أخلاقية في القرآن الكريم
قضايا إجتماعية في القرآن الكريم
مقالات قرآنية
التفسير الجامع
حرف الألف
سورة آل عمران
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة إبراهيم
سورة الإسراء
سورة الأنبياء
سورة الأحزاب
سورة الأحقاف
سورة الإنسان
سورة الانفطار
سورة الإنشقاق
سورة الأعلى
سورة الإخلاص
حرف الباء
سورة البقرة
سورة البروج
سورة البلد
سورة البينة
حرف التاء
سورة التوبة
سورة التغابن
سورة التحريم
سورة التكوير
سورة التين
سورة التكاثر
حرف الجيم
سورة الجاثية
سورة الجمعة
سورة الجن
حرف الحاء
سورة الحجر
سورة الحج
سورة الحديد
سورة الحشر
سورة الحاقة
الحجرات
حرف الدال
سورة الدخان
حرف الذال
سورة الذاريات
حرف الراء
سورة الرعد
سورة الروم
سورة الرحمن
حرف الزاي
سورة الزمر
سورة الزخرف
سورة الزلزلة
حرف السين
سورة السجدة
سورة سبأ
حرف الشين
سورة الشعراء
سورة الشورى
سورة الشمس
سورة الشرح
حرف الصاد
سورة الصافات
سورة ص
سورة الصف
حرف الضاد
سورة الضحى
حرف الطاء
سورة طه
سورة الطور
سورة الطلاق
سورة الطارق
حرف العين
سورة العنكبوت
سورة عبس
سورة العلق
سورة العاديات
سورة العصر
حرف الغين
سورة غافر
سورة الغاشية
حرف الفاء
سورة الفاتحة
سورة الفرقان
سورة فاطر
سورة فصلت
سورة الفتح
سورة الفجر
سورة الفيل
سورة الفلق
حرف القاف
سورة القصص
سورة ق
سورة القمر
سورة القلم
سورة القيامة
سورة القدر
سورة القارعة
سورة قريش
حرف الكاف
سورة الكهف
سورة الكوثر
سورة الكافرون
حرف اللام
سورة لقمان
سورة الليل
حرف الميم
سورة المائدة
سورة مريم
سورة المؤمنين
سورة محمد
سورة المجادلة
سورة الممتحنة
سورة المنافقين
سورة المُلك
سورة المعارج
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة المرسلات
سورة المطففين
سورة الماعون
سورة المسد
حرف النون
سورة النساء
سورة النحل
سورة النور
سورة النمل
سورة النجم
سورة نوح
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة النصر
سورة الناس
حرف الهاء
سورة هود
سورة الهمزة
حرف الواو
سورة الواقعة
حرف الياء
سورة يونس
سورة يوسف
سورة يس
آيات الأحكام
العبادات
المعاملات
مُنْكِرِي لِقَاءِ اللهِ هُمُ الأخْسَرُونَ
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج2/ ص3-74
2025-07-14
1
الآيات القرآنيّة دالّة على إفلاس منكري لقاء الله وبؤسهم
قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابِهِ الكَرِيمِ: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً، أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ولِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً، ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا واتَّخَذُوا آياتِي ورُسُلِي هُزُواً.[1]
تفسير العلّامة الطباطبائيّ لآية: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أعْمَالًا
يقول استاذُنا الأعظمُ آية الله على الإطلاق، العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله تُربته في تفسيره للآية: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً:
قوله تعالى «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» إنباء بالأخسرين أعمالًا وهم الذين عرض في الآية السابقة على المشركين أن ينبّئهم بهم ويعرّفهم إيّاهم فعرّفهم بأنّهم الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، وضلال السعي خسران، ثمّ عقّبه بقوله: «و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا» وبذلك تمّ كونهم أخسرين.
بيان ذلك: أنّ الخسران والخسار في المكاسب والمساعي المأخوذة لغاية الاسترباح إنّما يتحقّق إذا لم يُصب الكسب والسعي غرضه وانتهى إلى نقص في رأس المال أو ضيعة السعي وهو المعبّر عنه في الآية بضلال السعي، كأنّه ضلّ الطريق فانتهى به السير إلى خلاف غرضه. والإنسان ربّما يخسر في كسبه وسعيه لعدم تدرّب في العمل أو جهل بالطريق أو لعوامل اخر اتّفاقيّة وهي خسران يرجى زواله، فإنّ المرجو أن يتنبّه به صاحبه ثمّ يستأنف العمل فيتدارك ما ضاع منه ويقضي ما فات، وربّما يخسر وهو يذعن بأنّه يربح، ويتضرّر وهو يعتقد أنّه ينتفع لا يرى غير ذلك، وهو أشدّ الخسران لا رجاء لزواله.
ثمّ الإنسان في حياته الدنيا لا شأن له إلّا السعي لسعادته ولا همّ له فيما وراء ذلك، فإن ركب طريق الحقّ وأصاب الغرض وهو حقّ السعادة فهو، وإن أخطأ الطريق وهو لا يعلم بخطأه فهو خاسر سعياً لكنّه مرجوّ النجاة، وإن أخطأ الطريق وأصاب غير الحقّ وسكن إليه فصار كلما لاح له لائح من الحقّ ضربت عليه نفسه بحجاب الإعراض وزيّنت له ما هو فيه من الاستكبار وعصبيّة الجاهليّة، فهو أخسر عملًا وأخيب سعياً، لأنّه خسران لا يُرجى زواله ولا مطمع في أن يتبدّل يوماً سعادة، وهو قوله تعالى في تفسير الأخسرين أعمالًا: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.
و حسبانهم عملهم حسناً مع ظهور الحقّ وتبيّن بطلان أعمالهم لهم إنّما هو من جهة انجذاب نفوسهم إلى زينات الدنيا وزخارفها وانغمارهم في الشهوات، فيحبسهم ذلك عن الميل إلى اتّباع الحقّ والإصغاء إلى داعي الحقّ ومنادي الفطرة؛ قال تعالى: وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ؛[2] وقال: وإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ.[3] فاتّباعهم هوى أنفسهم ومضيّهم على ما هم عليه من الإعراض عن الحقّ عناداً واستكباراً والانغمار في شهوات النفس ليس إلّا رضى منهم بما هم عليه واستحساناً منهم لصنعهم.
و أمّا بشأن تفسير الآية: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ولِقائِهِ، فيقول: تعريف ثان وتفسير بعد تفسير بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا، والمراد بالآيات- على ما يقتضيه إطلاق الكلمة- آياته تعالى في الآفاق والأنفس وما يأتي به الأنبياء والرسل من المعجزات لتأييد رسالتهم، فالكفر بالآيات كفر بالنبوّة، على أن النبيّ نفسه من الآيات، والمراد بلقاء الله الرجوع إليه وهو المعاد.
فآل تعريف بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا إلى أنّهم المنكرون للنبوّة والمعاد، وهذا من خواصّ الوثنيّين.
تفسير العلّامة؛ إنكار لقاء الله يسبّب حبط أعمال المنكرين
قوله تعالى: فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً، وجه حبط أعمالهم أنّهم لا يعملون عملًا لوجه الله ولا يريدون ثواب الدار الآخرة وسعادة حياتها ولا أنّ الباعث لهم على العمل ذكر يوم الحساب، وقد مرّ كلام في الحبط في مباحث الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
و قوله: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً تفريع على حبط أعمالهم والوزن يوم القيامة بثقل الحسنات على ما يدلّ عليه قوله تعالى: والْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، ومَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ،[4] وإذ لا حسنة للحبط فلا ثقل فلا وزن.
وفيما يخصّ تفسير الآية: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا واتَّخَذُوا آياتِي ورُسُلِي هُزُواً، قال: الإشارة إلى ما أورده من وصفهم، واسم الإشارة خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: الأمر ذلك، اي حالهم ما وصفناه وهو تأكيد. وقوله: جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ كلام مستأنف ينبئ عن عاقبة أمرهم. وقوله: بِما كَفَرُوا واتَّخَذُوا آياتِي ورُسُلِي هُزُواً في معنى بما كفروا وازدادوا كفراً باستهزاء آياتي ورسلي.[5]
وعلى العموم، تشير الآية الكريمة بوضوح صريح إلى العذاب والثبور الشديدين اللذين ينتظران اولئك الذين ينكرون لقاء الله، فطبقاً للقواعد العقليّة والأدلّة الشرعيّة، لا يوجد هناك كسر وانكسار بين الأعمال السيّئة والأعمال الحسنة، وكما ذكرنا في سلسلة «معرفة المعاد»، ففي يوم القيامة، حين يُحشر الخلق وتُعرض أعمالهم أمام البارئ جلّ شأنه وتعالى مجده، فإنّ هذه الأعمال تكون محفوظة حيث لا تُغادر صغيرة ولا كبيرة، وحيث تُجزى كلّ نفس بما كسبت، ولا تُحبط الأعمال إلّا في مواضع معيّنة، وذلك بالنصّ الصريح للآيات القرآنيّة، اي بمعنى أن تُمحى الأعمال الحسنة للإنسان في الدنيا وتُعدم، وتكون الذنوب من الشدّة بحيث تحرق كلّ الحسنات، وأحد هذه المواضع، هو موضع الشرك بالله، وإنكار آياته ولقائه، فلا يبقى لهؤلاء عمل يُرجى ولا يُقام لهم وزنٌ، حيث أنّ للعمل الصالح وزن وثِقل، والعمل السيّئ أجوف، وهو هباء منثور.
وكما بيّن استاذنا العلّامة، فإنّ هاتين الآيتين هما في تبيان حال منكري الرسل ويوم المعاد، حيث يتحقّق اللقاء بالله، ولكن في هذه الآية، اقترنَ إنكار المعاد مع مسألة الكفر بلِقاء الله، ويستفاد من ذلك أنّه مع كون معنى لقاء الله قد ورد في هذه الآية بصفة عامّة، وأنّ جريان المعاني القرآنيّة هو جريان الشمس والقمر، فإنّ كل من يكفر بآيات الله ولقائه، بأيّ شكل أو صورة كانت. فهو ينضوي تحت حكم هذه الآية، وسيشمله حبط العمل وعدم إقامة وزن له.
وقد جاء بيان ووصف المنكرين لله وللقائه بعبارات بليغة وأمثلة محيّرة ومضامين فلسفيّة وبرهانيّة عجيبة وإيراد شواهد واقعيّة وعرفانيّة، وهذا البيان كان واضحاً لدرجة تزيد في إيمان المؤمنين وفي كفر الكافرين على حدّ سواء.
النكات البليغة الواردة في الآية بياناً لمراميها
انظر إلى هذه الآيات الأخيرة، كيف تقوم بإيصال هذه الحقيقة بلهجة وخطاب يقرعان القلوب وبأسلوب أدبيّ رفيع، وفصاحة وبلاغة شديدتين.
أوّلًا: فهو يأمر نبيّه بكلمة قل ليقوم بإبلاغ هذا الأمر الخطير بهذه الكيفيّة.
ثانياً: بكلمة الاستفهام هل وكأنّ خطورة وثِقَل هذا الأمر هي من الجدّيّة بحيث أنّ تفهيمه للمخاطب يحتاج إلى إذن للشروع فيه.
ثالثاً: اختيار ننبئكم بصيغة الجمع من لدن مقام العزّة الإلهيّة، واستعمال إنباء بدلًا من ألفاظ الإخبار والإعلام المستعملة في الصياغة البلاغيّة.
رابعاً: اختيار كلمة الأخسرين، وكأنّه لا يوجد أحد أكثر تضرّراً ولا خسارة من هؤلاء.
خامساً: ذكر كلمة الأعمال لصفة الأخسر على نحوٍ يُفهم فيه الناس، بأنّ أعمال الإنسان، وإن كانت تبدو كالجبل من جهة الوجاهة والرياء والخداع، إلّا أنّ قيمتها عند الله صفر، ولا وزن لها، من حيث إنّه لا يؤمن بلقاء الله وزيارته.
سادساً: تشبيه هذه المجموعة بعبارة الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ، اي أنّ جهودهم ومحاولاتهم وعلومهم وكنوزهم ونصيبهم من الدنيا وحظّهم الوافر من المال والبنون وما إلى ذلك، لا ينفعهم مثقال ذرّة، لأنّهم أنكروا أصل الوجود، ومعدن الجود ولبّ الحقيقة، وهي لقاء الله، وركضوا وراء لقاء غيره من المخلوقات الفانية وربطوا قلوبهم برموز العدم والبطلان.
سابعاً: وقد ربط هذا الضلال ب- في الحياة الدنيا، اي في الدنيا الدنيّة الوضيعة، وهي في مقابل الحياة العليا، اي الحياة الأغلى والأعلى والأرفع.
واعلم أنّ الحياة الدنيا، ليست هي العيش على سطح الأرض، وفي أحضان الطبيعة، ذلك أنّ هذه الحياة يشترك فيها جميع الناس والأنبياء والأئمّة، ولكنّ المراد من ذلك هو العيش على مستوى البهيميّة والوحشيّة والشيطنة، حيث تظهر فيها أخلاق وصفات وأفعال البهائم والسباع والشياطين، وأمّا الحياة الآخرة، فهي تعني المستوى الأسمى للحياة، وهي العيش على مستوى الإنسانيّة والكمال العقلانيّ والفطريّ، وهو طريق وسنّة الأنبياء والمرسلين والأئمّة المعصومين والأولياء المقرّبين إلى ساحة لقاء الله، وامناء سرّ حَريم كِبرياء أحَديّته.
تلك هي أسوأ حياة، وأقبح نمط معيشة، والتي ورد ذكرها في القرآن الكريم والروايات باسم الحياة الدنيا، وهذه هي أجمل وأسمى وأكرم حياة ونمط معيشة، والتي اشير إليها بالحياة العقبى والحياة الأخرى، وتكمن في بطن هذه الحياة الدنيا.
وعلى هذا، فإنّ هذه الآية الكريمة تدلّ دلالة واضحة على أنّ منكري لقاء الله يعيشون في بيئة ملؤها الظلمات، وتكتنفها الأدران والتعفّنات الروحيّة والنفسيّة والخياليّة، وهي قطعاً أظلم العوالم.
ثامناً: استخدام عبارة وهُمْ يَحْسَبُونَ، والحسبان يعني الظنّ والاعتقاد، في مقابل يَعْلَمونَ ويَعْتَقِدُونَ ويَجْزِمون- وأمثال ذلك من التعابير، وتشير كلمة الحسبان بوضوح إلى أنّ أعمال وأفعال منكري لقاء الله لا تتعدّى الظنّ والحدس والخيال، على مدى سنيّ عمرهم وإن تخلّلت تلك الأعمال، أعمالٌ مهمّة وحيويّة. وفي هذا الصدد، هناك الكثير من الآيات في الكتاب المبين التي تصرّح على أنّ أفعال أولياء الله فقط، التي تنجز على سبيل اليقين، وأمّا الآخرين، فلا تتجاوز أفعالهم إلى أبعد من الخيال والوهم والظنّ.
تاسعاً: عبارة أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً، وتعني أنّ هذه المجموعة تعتقد بصواب أعمالها، وأنّ أفعالها تصطبغ بصبغة حسنة، وعلى هذا، فهم لا يحاولون معالجة أمراضهم النفسيّة، لأنّهم يجزمون بصحة أمزجتهم، واعتدال نفوسهم، وهكذا فهم يقيمون في هذا الوباء المُهلك، حتى يفنون فيه، وإلّا، فإنّ العلم بالمرض، هو الخطوة الاولى في مرحلة علاجه.
با مدّعى مگوئيد اسرار عشق ومستي *** تا بى خبر بميرد در درد خودپرستى[6]
عاشق شو ار نه روزى كار جهان سر آيد *** ناخوانده نقش مقصود از كارگاه هستى
دوش آن صنم چه خوش گفت در مجلس مغانم *** با كافران چه كارت گر بت نميپرستى
سلطان من خدا را زلفت شكست ما را *** تا كى كند سياهى چندين دراز دستى
در گوشه سلامت مستور چون توان بود *** تا نرگس تو با ما گويد رموز مستى
آن روز ديده بودم اين فتنهها كه برخاست *** كز سركشى زمانى با ما نمينشستى
عشقت به دست طوفان خواهد سپرد حافظ *** چون برق ازين كشاكش پنداشتى كه جستى[7]
عاشراً: تفسير ذلك بعبارة اولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه. الجملة أوّلًا، مخاطبة النبيّ بأنّه هو موضع العناية الإلهيّة، وليس اولئك البعيدون، غير الجديرين بالخطاب.
وثانياً، الإشارة بالبعيد لا القريب، مثل هؤلاء، ذلك أنّ هذا التعبير يدلّ على فناء اولئك وعدمهم ومهجوريّتهم، وذلك بمخاطبتهم من مكان بعيد أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ.[8]
فأولئك الكفّار يُنادون من مكان بعيد، ومن وراء حجاب، لا من مكان قريب، كما هو الحال في مخاطبة المقرّبين والأحبّة.
وثالثاً، التوكيد المتكرّر، كالبدء بجملة اسميّة: اولَئِكَ، وكذلك استخدام المعرفة في خبر هذا المبتدأ اولئك: الذين كفروا، والتي تفيد الحصر بمعنى أنّهم وحدهم الكافرون.
حادي عشر: استخدام الحبط والفناء بالنسبة للعمل، والذي ينتج عن ذلك عدم اعتدال ميزان الأعمال في اليوم الآخر.
ثاني عشر: إيراد الجملة التعليليّة وبيان علّة ذلك العمل لجهنّم، كعقاب وجزاء الأعمال، وكذلك، البدء بجملة اسميّة محذوفة المبتدأ: والأمْرُ ذَلِكَ، ومخاطبة النبيّ ب- «الكاف»، والإتيان بجملة اسميّة ثانويّة: جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ، والتي تعني جملة استئنافيّة أو تفسيريّة لجملة الأمْرُ ذَلِكَ.
تفسير آية: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ
ومن جملة تلك الآيات التي تحتوي على مثال خاصّ وتعبير رائع، الآيات التالية:
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ.[9]
ففي هذه الآيات، يشبّه الله سبحانه وتعالى اولئك الذين يتعاملون مع غير الله، ويُنشئون علائق وروابط معهم، ويتولّونهم، ويُقيمون لهم سلطاناً وشأناً، بالعنكبوت التي تُقيم بيتاً وتسكن فيه بشوق، متربّصة بصيدها من ذباب وحشرات، فأيّ عالم ذلك الذي تعيش فيه هذه العناكب.
فإذا عَلِقَت ذبابة أو حشرة بنسيجها في غفلة، اندفعت العنكبوت نحوها وجعلت منها لقمة سائغة لها.
فهذه العنكبوت، تظنّ أنّ بيتها أحكم البيوت، وأنّ نسيجها الذي نسجته بلعابها أقوى القلاع، ولا ترى شيئاً أقوى منه.
ولا يختصّ هذا المثال بنسيج العنكبوت وحده، بل أنّ كلّ كائن في هذا العالم له مصيدته الخاصّة به، والتي يسعى بواسطتها الحصول على صيده المفضّل.
كُلُّ مَنْ في الوُجُودِ يَطْلُبُ صَيْداً *** إنَّمَا الاخْتِلَافُ في الشَّبَكَاتِ
وهذه العنكبوت تجهل أنّ بيتها المصنوع من لعابها، وَهِن وضعيف، وأنّ دارها مهدّدة بالفناء بمجرّد هبوب نسمة عليه، أو نفخة من نَفَس الإنسان.
إلّا أنّ هذه العنكبوت ببنائها لذلك البيت وتلك المصيدة، لم ترتكب سوءاً، بل إنّها مجبولة على ذلك، وفقاً لنظام تكوينها وغريزتها الطبيعيّة، فهذا المخلوق بريء، لأنّه يؤدّي ذلك حسب ما تمليه عليه طبيعته، بدون زيادة.
أمّا الإنسان الذي يسير عكس مشيئة الله وسيره الفطريّ، وضدّ طريق ومنهج الحقّ، فيُنكر لقاء الله، ويتّخذ من دونه أولياء، سواء كانوا صُمّاً كالأصنام، أو ناطقين كالمتجبّرين والمعتدين على حقوق الله والخلق، ويُلزم نفسه طاعتهم وولايتهم، مقترفاً كلّ ذلك عن علم منه بالخطيئة والمعصية، ويضع الغشاوة على عينيه، مع علمه بعدم ثبات ودوام هذه الولاية المتهرِّئة والخياليّة. ويعجز عن رؤية الحقّ والحقيقة، ويربط نفسه وحياته ومصيره وإنسانيّته والأبديّة- وهو أفضل وأشرف المخلوقات- بخيوط وهنة من لعاب وأفكار نفسانيّة رديّة ومعتقدات شيطانيّة، ليحسب المرء أنّ هذه الخيالات والأوهام والظنون التي لا أساس لها، هي أفضل وأقوى وأمتن ما موجود في عالم الوجود، وما إن تهبّ ريح حتى تذهب بما بناه، وتحيل حياته وعيشه إلى خراب وكأنّ شيئاً لم يكن كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ[10]، ناگهان بانگى برآمد خواجه مُرد،[11]
والآن، أ لا يشبه هذا التوكّل والاعتماد على غير الله، واليأس من لقائه، ضعف ووهن بيت العنكبوت التي ضرب بها المثل في هذه الآية؟ ومضافاً إلى ذلك، فهذه الآية تشير بوضوح إلى أنّ هذا النمط من الناس قد فقد عقله، وخسر وجدانه، فأعمي عينيه، وأصمّ أذنيه، وأفرغ قلبه من حبّ الله، وأفرغ عقله من كلّ أمل بزيارة ورؤية المحبوب الحقيقيّ، والرجوع إلى الموطن الأصليّ، فلا عقل لهم يعقلون به، ولا فكر لهم يفكّرون به، وإلّا لما انتهجوا هذا الطريق المعوجّ والمنحرف.
وقد ذكر أعلام وأساطين الأدب أنّه لو وُضع حرف لو في بداية الجملة الشرطيّة، لأفاد تعليق الجملة الجزائيّة بالجملة الشرطيّة في مقام الإثبات، وكذلك امتناع تحقّق الجملة الشرطيّة، فمثلًا لو قيل لَوْ جَاءَ زَيْدٌ لأكْرَمْتُكَ، فهذه الجملة تفيد أوّلًا: في حال مجيء زيد يتحقّق الإكرام، وثانياً، تفيد أنّ زيداً لم يحضر بعد.
على العكس من (إن) الشرطيّة، والتي تفيد الثبوت عند الثبوت، والنفي عند النفي، فمثلًا لو قيل أن جَاءَ زَيْدٌ لأكْرَمْتُكَ، فإنّها تفيد ثبوت الإكرام عند مجيء زيد وعدم الإكرام عند عدم مجيئه، ومن ناحية أخرى، فلا تفيد أنّ زيداً قد جاء فتمّ الإكرام، أو أنّه لم يأت، فلم يتحقّق، فمفادها التعليق وحسب، وأمّا في حالة استخدام لو، ففي هذه الحال يتمّ الإشارة إلى تعليق الثبوت عند الثبوت، ولا دخل لها بالنفي عند النفي، إلّا أنّها تفيد أنّ زيد لم يأت بعد، وأنّ الجملة الشرطيّة لم تتحقّق، بل كانت ممتنعة الصدور.
وفي الآية، موضوع البحث، يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، ولكنّهم لا يعلمون، وأنّ علمهم بذلك ممتنع التحقّق وعديم الصدور.
ويفيد هذا الأمر، على أنّ هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولقائه، والذين اتّخذوا أولياء من دونه تعالى، لا عقل لهم ولا علم.
واستطراداً للآية السابقة يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»، ثمّ يقول تعالى بعد ذلك: «و تلك الأمثال (أيّها النبيّ) نضربها للناس وما يعقلها إلّا العالمون». ويستفاد من ذلك أيضاً أنّ مسألة اتّخاذ الولاية الإلهيّة هي متعلّقة بدرك الخاصّة من الأولياء والذين اشير إليهم هنا بعقل العالمين بالله، وبعقل الأصفياء والمقرّبين والمخلصين.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أعْمَالهمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ ... أوْ كَظُلُمَاتٍ في بَحْرٍ لُّجِّيّ
ومن بين الآيات ذات التعبير والتمثيل العجيب قوله تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ووَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ واللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ.
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها ومَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.[12]
وقد ذكر أصحاب التفاسير: أنّ الله سبحانه ذكر مثالين لبيان أعمال الكافرين في هاتين الآيتين: الأوّل: السراب، والثاني: الظلمات في بحر لجّيّ.
أمّا المثال الأوّل: فهو عن اولئك الذين يعتبرون أنّ أعمالهم حسنة ويحسبون أنّ أفعالهم مرضية، وأنّها مستحسنة من قبل الناس، وتستحقّ التمجيد، إلّا أنّ أعمالهم تلك كلّها باطلة، مثلها كمثل السراب، وتتبيّن حقيقتها جليّة بعد انكشاف الحقّ.
الثاني: يخصّ اولئك الذين يعتدون، ويخرجون عن جادّة الحقّ، عن علم منهم بذلك ويقين، مدركين العاقبةَ الوخيمة لأعمالهم ومصرّين على جحود وإنكار ربّ العالمين، والتكبّر إزائه فيحرفون الأمّة من خلال استقطابها.
وأيّاً كان الأمر، فإنّ هذين المثالين مثيران للإعجاب، فأمّا الأوّل، وهو مثال السراب، فإنّ الظمآن حين ينظر إلى السراب في الصحراء يحسبه ماءً، فيمضي نحوه مسرعاً، إلّا أنّ السراب يبتعد عنه كلّما دنا منه، ذلك أنّ شرط رؤية السراب هو وجود مسافة معيّنة بين عين الناظر وذلك السراب، فكلّما اقترب الناظر ابتعد السراب بنفس المسافة. وخلاصة القول فإذا افترضنا أنّ الصحراء واسعة جدّا، فلو سار الناظر وراء السراب من الصباح حتى المساء في بحثه عن الماء لظلّ السراب على نفس البعد عن الناظر، واستمرّ تلألؤ ولمعان شعاع الشمس المنعكس عن الرمال، والذي يتسبّب بظهور هذا السراب، ولقضى الظمآن نهاره كلّه في ذلك عطشاناً حتى تخور قواه، ويلفظ أنفاسه.
وأعجب من ذلك مشهد البستان ذي الأشجار العالية الذي نراه في بعض الصحاري والفلوات، التي لا تحمل إلّا أشواكاً كصحراء الجزيرة العربيّة المحرقة التي تغطّيها أشواك الغيلان، إذ تبدو كأشجار باسقة عن بعيد، وذلك بانعكاس ضوء الشمس عليها فيحسبها الناظر إليها بستاناً نضرة فيسعى جاهداً للوصول إليها، فإذا به لا يرى إلّا أشواكاً.
فأمّا في المثال الثاني، بما أنّ النور هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة اي علم أو حياة، فلولا وجود النور لكان العالم عدم مطلق، فالإنسان يحتاج إلى نور عود الثقاب في الليلة المظلمة، فبدونه، يتعثّر في الظلام، ويهوي ساقطاً في حفرة، أو يغوص في الطين، أو قد يسقط من مرتفع، ويقع في شَرَك حيوان مفترس، أو بِيَد عدوٍّ لدود، وهلمّ جرّاً.
فتأمّل في مدى فائدة هذا النور الضئيل له! فما بالك في الأشدّ وهجاً، وكذا في الأنوار الأخلاقيّة والصفاتيّة، وكذلك، الأنوار العقلانيّة والذاتيّة، التي لو فقد الإنسان إحداها، لصار كالأعمى، فهو أعمى برغم امتلاكه لعينين، فالعين تُبصر بالنور الحِسّيّ، وأمّا العقل والشهود، فيُبصران بالنور العقلانيّ والشهوديّ.
الكفّار غارقون في ظلمات ثلاث: الخيال والوهم، والعقل، والذات
إن المنكر للّه ولقائه، والذي يرتكب كلّ ما يخالف السنن الأوّليّة والاصول الفطريّة، أعمى يغوص في طبقات الظلمات، ويتيه في لجج المياه المضطربة لهوى النفس والتبعيّة للشيطان والنفس الأمّارة بالسوء وظلماتها العجيبة، فلا بصيص نور يُرجى. فقد ورد في القرآن الكريم: أنّ هذا النوع من الكفّار، غارق في ظلمات ثلاث:
الاولى: ظلمة تشبه الليل. والثانية: ظلمة فوق الظلمة الاولى، كظلمة موج البحر العميق. والثالثة: ظلمة أخرى، وهي ظلمة الغيوم السوداء التي تغطّي وجه السماء.
فحلكة هذه الظلمات هي من الشدّة، بحيث إنّه لا يرى شيئاً مطلقاً، حتى يده، فهؤلاء الكافرون لا يهتدون بنور شرعيّ، ولا نور عقليّ ولا شهوديّ، ويسبحون في أعماق طبقات الظلمة والخيال والوهم، بعيداً عن نور العقل والذات، ومَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ، والعياذ بالله.
تمثيل الملّا الروميّ مضاجعة السعلاة وصيد الصيّاد لظلّ الطائر
فما أروع تصوير الحكيم مولوي لهذا الضياع والابتعاد عن طريق الحقّ، حيث يقول:
چون به حقّ بيدار نبود جان ما *** هست بيدارى چو در بندان ما
جان همه روز از لگدكوب خيال *** وز زيان وسود واز خوف زوال[13]
نى صفا مىماندش نه لطف وفرّ *** نى به سوى آسمان راه سفر
خفته آن باشد كه او از هر خيال *** دارد امّيد وكند با او مقال
نى چنانكه از خيال آيد به حال *** آن خيالش گردد او را صد وبال
ديو را چون حور بيند او به خواب *** پس ز شهوت ريزد او با ديو آب
چونكه تخم نسل در شوره بريخت *** او به خويش آمد خيال از وى گريخت
ضعف سر بيند از آن وتن پليد *** آه از آن نقش پليد ناپديد
مرغ بر بالا پران وسايهاش *** مىدود بر خاك وپرّان مرغ وش[14]
ابلهى صيّاد آن سايه شود *** مىدود چندانكه بى مايه شود
بىخبر كان عكس آن مرغ هواست *** بى خبر كه اصل آن سايه كجاست
تير اندازد به سوى سايه او *** تركشش خالى شود در جستجو
تركش عمرش تهى شد عمر رفت *** از دويدن در شكار سايه تفت
ساية يزدان چه باشد دايهاش *** وارهاند از خيال وسايهاش
ساية يزدان بود بندة خدا *** مردة اين عالم وزندة خدا[15]
وقد صوّر الشاعر في هذه الأبيات الغافلين عن ذكر الله، والمبتعدين عن طريقه، والذين خسروا كلّ وجودهم وحياتهم رخيصة، وباءوا بخسران مبين، فلم تعد لهم قدرة ولا علم ولا عمر.
كمن يحلم بسعلاة ظنّاً منه أنّها حوريّة فيجامعها ويريق نطفته الثمينة فيها وإذا به يستيقظ من النوم فيتعجّب ممّا كان يعشق! فقد كانت تلك سعلاة على صورة وهيئة حوريّة فأراد أن يولد من ذلك الموجود الملكوتيّ والروحانيّ نسلًا طاهراً فواقعها وخسر نطفته ورأس ماله الغالي، وأسفاً لأنّه بذر بذوره في أرض بور فلم يحصل على ثمرة ولا فائدة، بل ألمّ به الضعف وطرأ عليه الوهن وأصابه الصداع وتدنّس بدنه وتنجّس.
أو كالصيّاد الذي طارد صيداً في الهواء وطائراً في السماء بقوسه وسهامه لكنّه بدل أن يصوّب عينيه نحو الأعلى ويصيد بسهمه الطائر الحقيقيّ ويهنأ بأكله، فقد كان ينظر إلى الأرض ويصوّب سهمه إلى ظلّ الطائر الذي يتحرّك على الأرض بدل أن يصوّبه إلى نفس الطائر.
فهذا الصيّاد كان يصوّب سهمه إلى الظلّ، ولهذا السبب لم يستطع بلوغ هدفه ولا اصطياد ما اشتهى. فكان الظلّ الذي يشبه الطائر يتحرّك إلى الأمام باستمرار، وكان الصيّاد يطلق السهم تلو الآخر على ظلّه حتى أتى على كلّ سهامه؛ ولم يستطع رغم ذلك اصطياد الطائر، فتبيّن له أنّ الظلّ إنّما كان باطلًا وليست له حقيقة الطائر أو واقعيّته؛ فضاع عمره وانتهي زمانه وعليه أن يهيّئ نفسه للهلاك في آخر النهار، وذلك بسبب الجوع والظمأ والتعب والإرهاق والمشاكل التي واجهته أثناء عمليّة الصيد وملاحقته للفريسة وعدم حصوله عليها.
إن الله هو الحقّ، وما دونه الباطل؛ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ.[16]
فلا خيار ثالث بين الحقّ والباطل.
فإذا تخلّيتَ عن الملاك، وقعت في شَرَك الشيطان، وإن لم يصب سهمك طائراً في السماء، أصابك، ولن يشفى غليلك اي منهم.
ومن جملة الآيات الكريمة العجيبة في هذا المجال: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ والَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وما هُوَ بِبالِغِهِ وما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ.[17]
وتصوّر هذه الآية ذلك الذي يمدُّ يده إلى الماء، ويرمي أن يغرف منه بكفٍّ مفتوحة، فلا يرتوي منه، ويظلّ ظمآناً.
ومن الآيات الأخرى أيضاً: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ.[18]
أي أنّ هؤلاء المساكين يسعون إلى جمع المال في الدنيا والحصول على الجاه والمقام، والمال والبنين والعشيرة وتحصيل العلوم والمعارف الخياليّة، وغير ذلك من الامور التي يبغون من ورائها العزّة والطمأنينة في هذا العالم، غافلين عن الله، وكافرين بهذا الربّ الودود الواحد القهّار ذي المجد والعظمة، فإذا بالأجل يحيط بهم من كلّ جانب، ويُرسل بهم إلى قعر القبر المظلم. فأين تلك العزّة والسلطان، وأين ذلك الغرور والتكبّر؟! لقد صار الواحد منهم يسير صوب الموقف العظيم، ويُحاسَب على أعماله، بيدين خاليتين كرماد تذروه الرياح في يوم عاصف، ويسحق بنيانه ويندثر وجوده الاعتباريّ.
وَإن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ
وتشير آية أخرى إلى مثال منطقيّ محيّر:
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ والْمَطْلُوبُ.[19]
فيا له من مثال عجيب ذلك الذي يصوّر خلق ذبابة، وأبسط منه، سلب الذباب لشيء ما وفراره، والعجز عن استنقاذه منه، وهذا الذباب قد يكون مخلوقاً حقيراً في نظر العامّة، لهذا ضُربَ به المثل، وهو مثال صادق ومشهود في كلّ ذرّة من ذرّات الوجود.
ومن هنا يعتبر الله عزّ وجلّ أساس علم اولئك- الذين يفضّلون الحياة المادّيّة والشهوانيّة ويجعلونها هدفهم الأسمى ولا يرون ما دون ذلك- واهٍ لا قيمة له. وقد عزلهم عن صفّ العلماء والعقلاء بقوله تعالى: ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ، ووضعهم في زمرة الضالّين الذين لا يرون شيئاً أسمى من الحياة الاعتباريّة في النشأة الطبيعيّة: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا ولَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا، ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى.[20]
والحقّ أنّه يجب التدقيق في عبارة ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ حيث أنّ جميع علماء المادّيّة والطبيعة، والشيوعيّين والمادّيّين، وعلماء العلوم التطبيقيّة والعلماء المسلمين وعلماء سائر الأديان الذين لا تهديهم علومهم إلى الله تعالى، والذين ركضوا وراء المصطلحات والمعادلات، وفرحوا بسلامهم وصلواتهم وهتافاتهم، وبكراسي الحكم والجوائز والأوسمة وإجازات المجتهدين وشهادات الدكتوراه التي باعوا لأجلها أنفسهم، وتركوا خلفهم الله والسعادة والصدق والأمانة، واستبدلوا الخلوة مع الله بالإنس مع الأغيار، وشُغلوا عن لقاء الأحبّة بعُبّاد الدنيا، وغفلوا عن ذكر الله. نقول: أنّ هؤلاء كلّهم بائسون ومساكين.
وعلى الرغم ممّا يملكون من مناصب ونفوذ، فهم خالو الوفاض، وبهذا الوصف البليغ ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ فهم قد افرغوا من الإنسانيّة ومُنعوا من الوصول للنقطة التي تؤهّلهم للانطلاق نحو بلوغ مرتبة الإنسان الكامل، وهم محرومون من الحياة المثاليّة للمقرّبين وجليسي الملائكة وأرواح السعداء والأولياء وقد سقطوا في درك البهيميّة والشيطنة، ونُفوا إلى قعر الوادي المظلم بعيداً عن التجرّد والنور والسرور والحبور، وجعلوا من أنفسهم محرومين وإلى الأبد.
وهذا الأمر من الأهميّة بحيث ينهي الله نبيّه الكريم عن معاشرة ومصاحبة هؤلاء، أو إقامة أيّة روابط معهم.
وفي إزاء هذه الفئة، هناك من سُعدوا بلقاء الله، ووهبوا قلوبهم له، ووضعوا دينهم وحياتهم ونفوسهم بين يديه، وحزموا أمرهم للبحث عنه، ولقاء وجهه الكريم، وواصلوا الصباح بالمساء بذكره، واختاروا الحياة العليا على الدنيا، والله سبحانه وتعالى يأمر نبيّه الكريم بأن لا يطرد هؤلاء وأن يكون حميماً معهم، وأن يشدّ على أيديهم، فيقول في الآية الكريمة: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ.[21]
وهنا نرى بأنّ الله، وتقديراً لطالبي وجهه الكريم ولقائه، فهو يضع نبيّه الكريم، خاتم الأنبياء والمرسلين في زمرة الظالمين إن هو منع هؤلاء وطردهم.
والسرور كلّ السرور، حين يشكّل الإنسان هذه الآصرة، وحين يصل الإنسان إلى مرتبة الإنسانيّة، فيتربّع على الذروة الأرفع، والسنام الأعلى.
غزل الحكيم السبزواريّ في عظمة مقام الوصول إلى لقاء الله
ساقى بيا كه گشت دلارام، رامِ ما *** آخر بداد دلبر خوشكام، كامِ ما
بس رنج بردهايم وبسي خون كه خوردهايم *** كان شاهباز قدس فتادى به دام ما
در دار ملك عالم معنى دَم نخست *** زد دست غيب سكة دولت به نام ما
مائيم اصل وجمله فروع فروغ ماست *** گر خواجه منكر است بنوشد ز جام ما
بر آستان پير مغان رو نهادهايم *** برتر ز عرش آمده زين رو مقام ما[22]
عرشِ سپهر خود چه بُوَد پيش عرش دل *** يا كعبه در برابر بيت الحرام ما
هر ذرّه خاك درّه وهر تخته تخت شد *** چون آمد آن هماى همايون به دام ما
گلبانگ نيستى چو شد از بام ما بلند *** نُه بام چرخ وام برند از دوام ما
اسرار بشكند كُلَه خسروى به فرق *** تا گفته مى فروش تو هستى غلام ما[23]
مقولة الحكيم الفيض الكاشانيّ في إمكان لقاء الله ومعرفته
وقد خَصّص العالم المحقّق، والحكيم المدقّق، الملّا محسن الفيض الكاشانيّ قدّس الله سرّه كلمته الاولى من «الكلمات المكنونة» لمسألة إمكانية لقاء الحيّ القيّوم السرمدي الأبدي ومعرفته، وبدورنا، وللأمانة العلمية، والنقل الحرفي لهذه الكلمة من جهة، ومن جهة أخرى تجليلًا واحتراماً لعظمة المكانة العلمية والعملية لهذا الفطحل الشامخ، ننقل هنا كلمته بحذافيرها:
كَلِمَةٌ بِهَا يُجْمَعُ بَيْنَ امْتِنَاعِ المَعْرِفَةِ والرُّؤْيَةِ وبَيْنَ إمْكَانِهِمَا:
طلب اي عاشقان خوش رفتار *** طرب اي نيكوان شيرين كار
تا كى از خانه هين ره صحرا *** تا كى از كعبه هين در خمّار
در جهان شاهدىّ وما فارغ *** در قدح جرعهاى وما هشيار
زين سپس دست ما ودامن دوست *** بعد از اين گوش ما وحلقه ويار[24]
مع أنّ الكرّوبيّين في الملأ الأعلى واقفون عند مقام لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً وأنّ المقرّبين من الحقّ تعالى، يعترفون بقصور مَا عَرَفْنَاكَ وتُغشي الآية الكريمة لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ كلّ عين، ونصّ أنَّ اللهَ احْتَجَبَ عَنِ العُقُولِ كَمَا احْتَجَبَ عَنِ الأبْصَارِ رائد كلّ ناظر وعاقل، إلّا أنّ اسود غابة الولاية ما فتئوا يردّدون لَمْ أعْبُدْ رَبّاً لَمْ أرَهُ ويخطون على طريق لَوْ كُشِفَ الغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً.
نعم، لا سبيل للوصول إلى لبّ الحقيقة، وذلك لإحاطته بكلّ شيء، فهو لا يُحاط بشيء، ولا يُدرك شيء دون الإحاطة به، فَإذاً «لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً».[25]
عنقا شكار كس نشود دام باز گير *** كانجا هميشه باد به دست است دام را[26]
فَدَعْ عَنْكَ بَحْراً ضَلَّ فِيهِ السَّوَابِحُ.
در اين ورطه كشتى فرو شد هزار *** كه پيدا نشد تختهاى بركنار[27]
إلّا أنّ له صوراً باعتبار التجليّ في مظاهر أسماء وصفات اي موجود، وله في كلّ مرآة هيئة.
فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.[28]
وَلَوْ أنَّكُمْ أدْلَيْتُمْ بِحَبْلٍ إلى الأرْضِ السُّفْلَي، لَهَبَطَ عَلَى اللهِ.
وهذا التجليّ موجود في الجميع، إلّا أنّ الخواصّ يعلمون ما يرون، ولهذا فهم يقولون: مَا رَأيْتُ شَيْئاً إلَّا ورَأيْتُ اللهَ قَبْلَهُ وبَعْدَهُ ومَعَهُ.
دلى كز معرفت نور وصفا ديد *** بهر چيزى كه ديد اوّل خدا ديد
بهر كه مىنگرم صورت تو مىبينم *** از اين ميان همه در چشم من تو مى آئى[29]
والعوامّ لا يعلمون ما يرون.
أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ.[30]
گفتم بكام وصلت خواهم رسيد روزى *** گفتا كه نيك بنگر شايد رسيده باشى[31]
دوست نزديكتر از من به من است *** وين عجبتر كه من از وى دورم
چكنم با كه توان گفت كه دوست *** در كنار من ومن مهجورم[32]
قال الله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ ولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.[33]
قيل: يعني سأكحّلُ عين بصيرتهم بنور توفيقي وهدايتي، لِيُشاهدوني في مظاهِري الآفَاقِيَّةِ والأنْفُسيَّةِ مُشاهَدَةَ عَيَانٍ؛ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ لَيْسَ في الآفَاقِ ولَا في الأنفُسِ إلَّا أنَا وصِفَاتِي وأسْمَائِي، وأنَا الأوَّلُ والآخِرُ والظَّاهِرُ والبَاطِنُ.
ثُمَّ أكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: «أولَمْ يَكْفِ» عَلَى سَبِيلٍ التَّعَجُّبِ.
أنَّ اللهَ تَجَلَّى لِعِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ أن رَأوْهُ، وأرَاهُمْ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ أن يتجلى لَهُمْ
قَالَ أمير المؤمنين صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ: أنَّ اللهَ تَجَلَّى لِعِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ أن رَأوْهُ، وأرَاهُمْ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ أن يَتَّجَلَّى لَهُمْ.
قَوْلُهُ: «تَجَلَّى لِعِبَادِهِ» أيْ أظْهَرَ ذَاتَهُ في مِرْآةِ كُلِّ شَيءٍ بِحَيْثُ يُمْكِنُ أن يرى رُؤْيَةَ عَيَانٍ، مِنْ غَيْرِ أن رَأوْهُ بِهَذَا التَّجَلِّي رُؤْيَةَ عَيَانٍ، لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالأشْيَاءِ مِنْ حَيْثُ مَظْهَريَّتِهَا لَهُ وأنَّهَا عَيْنُ ذَاتِهِ الظَّاهِرَةِ فِيهَا.
«وَأرَاهُمْ نَفْسَهُ» أيْ أظْهَرَهَا لَهُمْ في آيَاتِ الآفَاقِ والأنْفُسِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا شَوَاهِدُ ظَاهِرَةٌ لَهُ، ودَلَائِلُ بَاهِرَةٌ عَلَيْهِ؛ فَرَأوْهُ رُؤْيَةَ عِلْمٍ وعِرْفَانٍ.
«مِنْ غَيْرِ أن يتجلى لَهُمْ» أيْ مِنْ غَيْرِ أن يُظْهِرَ ذاتَهُ فِيهَا عَيَاناً بِحَيْثُ يَعْرِفُونَ أنَّهَا مَظَاهِرُ لَهُ، ومَرَايَا لِذَاتِهِ وأنَّهُ الظَّاهِرُ فِيهَا بِذَاتِهِ.
وذكر المرحوم الفيض هنا بعضاً من دعاء ابن عطاء الإسكندريّ، الذي ذكرناه في الجزء الأوّل في البحثين التاسع والعاشر بإسناده إلى الإمام سيّد الشهداء الحسين بن على صلوات الله وسلامه عليه. ثمّ قال: وَرَوَي الشَّيْخُ الصَّدُوقُ مُحَمَّدُ بْنُ بَابَوَيْهِ القُمِّيّ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ في كِتَابِ «التَّوْحِيدِ» بِإسْنَادِهِ عَنْ أبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ لأبِي عبد الله عَلَيْهِ السَّلَامُ: أخْبِرْنِي عَنِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، هَلْ يَرَاهُ المُؤْمِنُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟! قَالَ: نَعَمْ، وقَدْ رَأوْهُ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ! فَقُلْتُ: مَتَى؟! قَالَ: حِينَ قَالَ لَهُمْ: «أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى»! ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: وَأنَّ المُؤْمِنِينَ لَيَرَوْنَهُ في الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ. أ لَسْتَ تَرَاهُ في وَقْتِكَ هَذَا؟! قَالَ أبُو بَصِيرٍ: فَقُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! أ فَاحَدِّثُ بِهَذَا عَنْكَ؟! فَقَالَ: لَا! فَإنَّكَ إذَا حَدَّثْتَ بِهِ، فَأنْكَرَهُ مُنْكِرٌ جَاهِلٌ بمعنى مَا تَقُولُ، ثُمَّ قَدَّرَ أنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ؛ كَفَرَ. ولَيْسَتِ الرُّؤْيَةُ بِالقَلْبِ كَالرُّؤْيَةِ بِالعَيْنِ؛ تعالى عَمَّا يَصِفُهُ المُشَبِّهُونَ والمُلْحِدُونَ.[34]
وَبِإسْنَادِهِ عَنِ الكَاظِمِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَ خَلْقِهِ حِجَابٌ غَيْرُ خَلْقِهِ. احْتَجَبَ بِغَيْرِ حِجَابٍ مَحْجُوبٍ واسْتَتَرَ بِغَيْرِ سِتْرٍ مَسْتُورٍ[35].
از فريب نقش نتوان خامة نقّاش ديد *** ورنه در اين سقف زنگارى يكى در كار هست[36]
قَالَ بَعْضُ أهْلِ المَعْرِفَةِ: أنَّ العَالَمَ غَيْبٌ لَمْ يَظْهَرْ قَطُّ؛ والحَقُّ تعالى هُوَ الظَّاهِرُ مَا غَابَ قَطُّ. والنَّاسُ في هَذِهِ المَسْألَةِ عَلَى عَكْسِ الصَّوَابِ؛ فَيَقُولُونَ: العَالَمُ ظَاهِرٌ والحَقُّ تعالى غَيْبٌ.
فَهُمْ بِهَذَا الاعْتِبَارِ في مُقْتَضَى هَذَا الشِّرْكِ كُلُّهُمْ عَبِيدٌ لِلسِّوَي، وقَدْ عَافَى اللهُ بَعْضَ عَبِيدِهِ عَنْ هَذَا الدَّاءِ.
بر افكن پرده تا معلوم گردد *** كه ياران ديگرى را مىپرستند[37]
نعم، إذا تحوّلت كلّ ذرّة من ذرّات البيت إلى صحراء لشاهدت وجه الشمس، ولكنّها لا تعلم ما ترى.
چندين هزار ذرّه سراسيمه مىدوند *** در آفتاب وغافل از آن كافتاب چيست[38]
لمّا اجتمع السمك وقال: لقد سمعنا كثيراً عن الماء وأنّ أصل حياتنا منه، إلّا أنّنا لم نَرَ الماء بعد، وكان البعض قد سمع أنّ في البحر الفلانيّ سمك خبير مطّلع، فقالوا: لنذهب ليرينا الماء.
فلمّا وصلوا إليه سألوه، فأجاب: أروني شيئاً غير الماء حتى اريكم الماء.
با دوست ما نشسته كه اي دوست! دوست كو؟ *** كو كو همى زنيم ز مستى به كوى دوست[39]
سالها دل طلب جام جم از ما مىكرد *** آنچه خود داشت ز بيگانه تمنّا مىكرد
گوهرى كز صدف كون ومكان بيرون بود *** طلب از گمشدگان لب دريا مىكرد[40]
بيدلى در همه احوال خدا با او بود *** او نمىديدش واز دور خدايا مىكرد[41]
در ديدة ديده ديدهاى مىبايد *** وز خويش طمع بريدهاى مىبايد
تو ديده ندارى كه ببينى او را *** ور نه همه اوست ديدهاى مىبايد[42]
قصّة بحث السمكة عن الماء، وسقوطها على الشاطئ
يقول صديقنا القديم وصاحبنا المخلص المرحوم الشهيد آية الله الحاجّ الشيخ مرتضى المطهّريّ قدّس الله سرّه:
لقد وردت في الأدب الفارسيّ أمثلة كثيرة ولطيفة على لسان السمك والماء لكنّنا نجهل قائلها ومنشدها، إذ يقول:
به دريائى شناور ماهيى بود *** كه فكرش را چو من كوتاهيى بود
نه از صيّاد تشويشى كشيده *** نه رنجى از شكنج دام ديده[43]
نه جان از تشنگى در اضطرابش *** نه دل سوزان ز داغ آفتابش
در اين انديشه روزى گشت بى تاب *** كه مىگويند مردم: آب، كو آب؟
كدام است آخر آن اكسير جان بخش *** كه باشد مرغ وماهى را روان بخش
گر آن گوهر متاع اين جهان است *** چرا يا ربّ ز چشم ما نهان است؟[44]
جز آبش در نظر شام وسحر نه *** در آب آسوده وز آبش خبر نه[45]
مگر از شكر نعمت گشت غافل *** كه موج افكندش از دريا به ساحل
بر او تابيد خورشيد جهانتاب *** فكند آتش به جانش دورى آب[46]
زبان از تشنگى بر لب فتادش *** به خاك افتاد وآب آمد به يادش
ز دور آواز دريا چون شنفتى *** به روى خاك غلطيدى وگفتى
كه اكنون يافتم آن كيميا چيست *** كه امّيد هستيم بى او دمى نيست
دريغا دانم امروزش بها من *** كه دستم كوته است او را ز دامن[47]
الكلام القيّم لآية الله الملكيّ التبريزيّ في رسالة «لقاء الله»
و بالجملة، فإنّه مع ما قيل وكُتب حول لقاء الله وإمكانيّة معرفته، ومع ما هو موجود حقّاً من الدرر المكنونة، والسبل المسلوكة، إلّا أنّ الحقير لم يتح له لحدّ الآن التعرّف على كتاب مثل كتاب «رسالة لقاء الله» للمرحوم آية الحقّ وسند العرفان الفقيه الجليل والآية الربّانيّة الحاجّ ميرزا جواد آقا الملكيّ التبريزيّ أعلى الله تعالى مقامه القدسيّ ورزقنا من بركاته ورحماته بجوده ومنّه، وذلك لجهة إتقان المواضيع وإيجازها والشواهد الروائيّة والشهوديّة، وترتيب المواضيع العرفانيّة اللقائيّة على أساس البرهان واستحكام الدليل.
وبناء على هذا، أرى من المناسب هنا أن أذكر بعضاً ممّا كُتب في أصل لزوم المعرفة العينيّة لفقيد العلم والعمل والفكر والدراية، عن النسخة الخطّيّة الموجودة لدى والتي استنسختها عنها في البلدة الطيّبة قم، حيث قال: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ, الحَمْدُ لِلَّهِ والصَّلَاةُ عَلَى رَسولِ اللهِ, وَ عَلَى آلِهِ امَنَاءِ اللهِ
ورد في القرآن الكريم ما يربو على عشرين آية تحمل عبارة لقاء الله والنظر إليه، وكذا في تعابير الأنبياء والأئمّة عليهم السلام، ومن ناحية أخرى، فقد وردت في الروايات كلمات كثيرة في تنزيه الحقّ جلّ وعلا والتي تنمّ في ظاهرها عن تنزيه صِرف عن كلّ مراتب ودرجات المعرفة.
ولعلماء الشيعة رضوان الله عليهم مشارب متباينة في هذا الباب، إلّا أنّ أهمّ مَشْرَبَيْن من تلك المشارب: التنزيه الصِّرف، حيث أنّ منتهى المعرفة لهذا الفهم يكمن في ضرورة التنزيه الصِّرف للّه، وقد أوّل هذا الاتّجاه الآيات والروايات التي جاءت في باب معرفة الله ولقائه.
فهو مثلًا يفسّر جميع الآيات والروايات التي تتحدّث عن لقاء الله بالموت وتلقّي الثواب أو العقاب.
وتعتقد فرقة أخرى أنّه يجب الجمع بين الروايات القائلة بالتنزيه الصِّرف وبين روايات التشبيه والروايات التي تدلّ على إمكانيّة المعرفة والوصول وإخراجها بالشكل التالي: حمل الروايات حول التنزيه الصِّرف على المعرفة عن طريق الرؤية بالعين الظاهرة. والتعرّف على كنه الذات المقدّسة الإلهيّة، وحمل روايات التشبيه واللقاء والوصول والمعرفة كلّها على المعرفة الإجماليّة ومعرفة الأسماء والصفات الإلهيّة، وتجلّي مراتب الذات وأسماء وصفات الحقّ تعالى بالقدر الذي تكون معه ممكنة بالنسبة إلى الممكن. وبعبارة أخرى، أنّ الحجب الظلمانيّة والنورانيّة إذا انكشفت للعبد، فإنّه سيعثر حينها على المعرفة بذات الحقّ تعالى، وأسمائه وصفاته، وهذه المعرفة، هي غير تلك التي كانت قبل مرحلة الكشف.
وبعبارة أخرى، فإنّ أنوار الجمال والجلال الإلهيّة تتجلّى في قلب وعقل وسرّ خواصّ أولياء الله، لدرجةٍ يفنون معها عن ذاتهم، ويخلدون بذات الله، ويصيّرهم في جماله هو، وتسبح عقولهم في بحر معرفة الله، فيقوم بتدبير امورهم بدلًا من عقولهم. وبعد طيّ كلّ مراحل سُبُحات الجلال وتجلّي أنوار الجمال والفناء بالله والبقاء به، تكون محصّلة هذه المعرفة أن يرى العبد عجزه عن الوصول لِكُنْهِ معرفة الذات الإلهيّة بالكشف والعيان.
نعم، فهذا عجز عن المعرفة، وسائر الناس عاجزون عن المعرفة بدورهم، ولكن أين هذا من ذاك، فالجماد أيضاً عاجز عن المعرفة، وكذلك الإنسان. فلا جرم أنّ تباين مراتب عجز أعلم خلق الله محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلّم، أكبر، بالمقارنة مع سائر الناس، بل مع علماء الامّة من عجز الجماد أو الإنسان.
وإجمالًا، فإنّ طائفة من المتكلّمين من العلماء الأعلام هم على رأي الطائفة الاولى، مستدلّين بظواهر بعض الروايات وتأويل الآيات والروايات والأدعية الواردة في ذلك.[48]
استشهاد الحاجّ الميرزا جواد آقا بفقرات الآيات والأدعية على لقاء
وأودّ أنا الحقير بلا وفاض ذكر بعضٍ من الآيات والروايات الواردة في هذا المعنى حسب تأويل العلماء الأفاضل حتى يتميّز الحقّ عن الباطل.
من جملة تلك الآيات: آيات لقاء الله.
وقد فسّرت الطائفة الاولى هذه الآيات بأنّ المراد منها هو الموت وتلقّي الثواب الإلهيّ. وقد فنّدت الطائفة الثانية رأي الاولى، قائلةً أنّ ذلك هو مجاز، بل ومجاز بعيد.
وإذا كان المراد حمله على المعنى المجازيّ، فالمجاز الأقرب من ذلك هو حمل ذلك على درجة من اللقاء بحيث يكون جائزاً شرعاً في إطار الممكن. وإن كان لا يصرّح به، بالعرف العامّ على أنّه لقاء حقيقيّ.
وأمّا إذا أخذنا بنظر الاعتبار الألفاظ على كونها موضوعة لأرواح المعاني، وأن نتصوّر معنى روح اللقاء، فإنّنا سنرى أنّ لقاء الأجسام هو حقيقة، وهكذا لقاء الأرواح والمعاني، ويكون لقاء كلّ منها على نحو يحمل في ذاته روح معنى اللقاء، على نحو يناسب حال الملاقي والملاقى.
ففي هذه الحالة، يمكن القول أنّ معنى اللقاء الممكن مع الله أيضاً، يحمل حقّاً روح اللقاء فيه، بما يليق بالملاقي والملاقى، وهو يعبّر عن نفس المعنى في الأدعية والروايات التي ورد فيها بتعابير مختلفة بلفظ الوصول، والزيارة، والنظر إلى وجهه الكريم، والتجلّي، ورؤية القلب، وتعلّق الروح. وعبّرت عن عكسه بالفراق والحرمان، وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام في تفسير قد قامت الصلاة أنّه قال يعني قد اقترب وقت الزيارة. وتكرّرت في الأدعية عبارة: ولَا تَحْرِمْنِي النَّظَرَ إلى وَجْهِكَ.
ومن كلام الإمام عليه السلام كذلك: ولَكِنْ تَرَاهُ القُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإيمَانِ.
وجاءت في المناجاة الشعبانيّة: وألْحِقْنِي بِنُورِ عِزِّكَ الأبْهَجِ فَأكُونَ لَكَ عَارِفاً.
وأيضاً في المناجاة: وأنِرْ أبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إلَيْكَ حتى تَخْرِقَ أبْصَارُ القُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إلى مَعْدِنِ العَظَمَةِ وتَصِيرَ أرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ!
ويقول في دعاء كميل عليه الرحمة: وهَبْنِي صَبَرْتُ عَلَى عَذَابِكَ، فَكَيْفَ أصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكَ؟!
وهنا، سيجزم المرء ذو الفهم الخالي من الشبهات، وبعد النظر إلى هذه التعابير المختلفة، بأنّ المقصود بلقاء الله تعالى، ليس تلقّي ثوابه، مثل دخول الجنّة، وتناول تفّاحها، ورؤية الحور العين، فهذه التعابير لا تناسب ذلك المعنى.
فمثلًا، إذا أوّلَ أحدٌ اللقاء المطلق على غير معنى اللقاء، فكيف له أن يُؤَوِّل باقي الألفاظ؟ مثل النظر إلى الوجه، أو تأويل ألْحِقْنِي بِنُورِ عِزِّكَ الأبْهَجِ فَأكُونَ لَكَ عَارِفاً، وهل يمكن تفسير عبارة أنِرْ أبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إلَيْكَ بتناول الكمّثرى؟!
وإذا سلّم شخص بأنّ المقصود بلقاء الله ليس هذا المعنى، ولكنّ المقصود هو لقاء أولياء الله من الأنبياء والأئمّة عليهم السلام.
فمثلًا، إذا قال أحدنا بأنّه قد خاطب الصدر الأعظم، فيمكن له مجازاً أن يقول: تحدّثتُ إلى الملك.
كما اطلق في الروايات لفظ «وجه الله» على الأنبياء والأئمّة عليهم السلام، فعلى سبيل المثال، فإنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم هو وجه الله بالنسبة إلى الأئمّة عليهم السلام، والأئمّة عليهم السلام هم وجه الله بالنسبة لنا.
فنقول في الجواب: أوّلًا، أنّ هذه الأدعية كان يدعو بها الأنبياء والأولياء، وحتى الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلّم.
ولمّا كان الرسول الأعظم هو اسم الله الأعظم ووجهه الكريم، فما الذي كان يقصد بتلك الأدعية؟
فمثلًا، عند إخباره عن المعراج قائلًا: إنّي رأيتُ ذرّة من النور الإلهيّ فغُشي عليّ، فأنّي لنا أن نفسّر هذا؟[49]
مضافاً إلى ذلك، فإنّ هذا المعنى قد اطلق على بعضٍ من درجات الأنبياء والأئمّة عليهم السلام، وذلك بعد نيلهم مرتبة القرب، وأصبحوا فانين في الله تعالى ومتّصفين بصفاته.
حينئذٍ يجوز لنا أن نطلق الألفاظ وجه الله وجنب الله واسم الله عليهم، والتسليم بهذا المعنى هو، في الحقيقة، تأييد لرأي المخالفين لا ردّه.
والتفسير الإجماليّ لهذا المعنى الذي ورد في الروايات المعتبرة حيث يقولون: نَحْنُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى.
ولا ريب، أنّ المراد من هذه الأسماء ليس الاسم اللفظيّ، بل الاسم العينيّ. وهو ما يظهر جليّاً في الروايات أنّ للّه أسماءً عينيّة غير لفظيّة، يفعل بها ما يريد في العالم، ويتجلى الله جلّ جلاله بهذه الأسماء في هذه العوالم، وبها تحدث التأثيرات. بل أنّ وجود كلّ العالم هو نابع من تجلّيات الأسماء الإلهيّة، كما ورد مراراً في أدعية الأئمّة المعصومين عليهم السلام.
وَبِاسْمِكَ الذي تَجَلَّيْتَ بِهِ عَلَى فُلَانٍ وعَلَى فُلَانٍ!
وَبِاسْمِكَ الذي خَلَقْتَ بِهِ السَّمَاوَاتِ والأرْضَ!
وجاء في دعاء كميل: وبِأسْمَائِكَ التي مَلأتْ أرْكَانَ كُلِّ شَيْءٍ!
جميع أسماء الله عزّ وجلّ هي حقائق كونيّة، وهي مخلوقة
رواية «أنَّ اللهَ خَلَقَ اسْماً بِالحرُوفِ غَيْرَ مُصَوَّتٍ»
وروي في كتابَي «اصول الكافي» للكلينيّ و«التوحيد» للصدوق،- وهي من الكتب المعتبرة لدى الشيعة- عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: أنَّ اللهَ خَلَقَ اسْماً بِالحُرُوفِ غَيْرَ مُصَوَّتٍ، وبِاللَّفْظِ غَيْرَ مُنْطَقٍ، وبِالشَّخْصِ غَيْرَ مُجَسَّدٍ، وبِالتَّشْبِيهِ غَيْرَ مَوْصُوفٍ، وبِاللَّوْنِ غَيْرَ مَصْبُوغٍ؛ مَنْفِيّ عَنْهُ الأقْطَارُ، مُبَعَّدٌ عَنْهُ الحُدُودُ، ومَحْجُوبٌ عَنْهُ حِسُّ كُلِّ مُتَوَهِّمٍ، مُسْتَتِرٌ غَيْرُ مَسْتُورٍ.
فَجَعَلَهُ كَلِمَةً تَامَّةً عَلَى أرْبَعَةِ أجْزَاءٍ مَعاً؛ لَيْسَ مِنْهَا وَاحِدٌ قَبْلَ الآخَرِ.
فَأظْهَرَ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أسْمَاءٍ لِفَاقَةِ الخَلْقِ إليْهَا، وحَجَبَ مِنْهَا وَاحِداً، وهُوَ الإسْمُ المَكْنُونُ المَخْزُونُ بِهَذِهِ الأسْمَاءُ التي ظَهَرَتْ، فَالظَّاهِرُ مِنْهَا هُوَ اللهُ تعالى.
وَسَخَّرَ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ اسْمٍ مِنْ هَذِهِ الأسْمَاءِ أرْبَعَةَ أرْكَانٍ؛ فَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ رُكْناً. ثُمَّ خَلَقَ لِكُلِّ رُكْنٍ ثَلَاثِينَ اسْماً، فَعَلًا مَنْسُوباً إلَيْهَا.
فَهُوَ الرَّحْمَنُ، الرَّحِيمُ، المَلِكُ، القُدُّوسُ، الخَالِقُ، البَارِئُ، المُصَوِّرُ، الحَيّ، القَيُّومُ، لَا تَأخُذُهُ سِنَةٌ ولَا نَوْمٌ، العَلِيمُ، الخَبِيرُ، السَّمِيعُ، البَصِيرُ، الحَكِيمُ، العَزِيزُ، الجَبَّارُ، المُتَكَبِّرُ، العَلِيّ، العَظِيمُ، المُقْتَدِرُ، القَادِرُ، السَّلَامُ، المُؤْمِنُ، المُهَيْمِنُ، المُنْشِئُ، البَدِيعُ، الرَّفِيعُ، الجَلِيلُ،[50] الكَرِيمُ، الرَّازِقُ، المُحْيِي، المُمِيتُ، البَاعِثُ، الوَارِثُ.
فَهَذِهِ الأسْمَاءُ ومَا كَانَ مِنَ الأسْمَاءِ الحسنى حتى يَتِمَّ ثَلَاثَمِائَةٍ وسِتِّينَ اسماً؛ فَهِيَ نِسْبَةٌ لِهَذِهِ الأسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ. وهَذِهِ الأسْمَاءُ الثَّلَاثَةُ أرْكَانٌ وحُجُبُ الاسْمِ الوَاحِدِ المَكْنُونِ المَخْزُونِ بِهَذِهِ الأسْمَاءِ الثَّلَاثَةِ.
وَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى».[51]
ويُفهم من هذه الرواية، والروايات والأدعية الأخرى المتواترة، أنّ الأسماء هي مخلوقة، وهي أسماء عينيّة كذلك، وهنالك روايات معتبرة تشير إلى أنّ أئمّتنا عليهم السلام كانوا يكثرون من قول: نحن الأسماء الحسنى، بل أنّ الإمام هو الاسم الأعظم.
الرسول الأكرم هو الحجاب الأقرب وحقيقة الاسم الأعظم
وتعتقد الشيعة أنّ خاتم الأنبياء والرسل صلى الله عليه وآله وسلّم هو أشرف المخلوقات، وعلى هذا الأساس، فيجب أن يكون أيضاً الاسم الأعظم ومضافاً إلى هذا، فإنّه رويت في أدعية الشهر المبارك أنّ النبيّ هو الحجاب الأقرب أقرب المخلوقات، وقد ذُكر في الروايات أنّ عليّاً ممسوسٌ في ذات الله.[52]
وعلى العاقل أن يتدبّر في هذه الروايات، ويعلم أنّها أوّلًا، روايات ذات سند معتبر ومنقولة عن كتب معتبرة، ومؤيَّدة من قِبَل علماء الدين، ومضافاً إلى كونها ذات سند معتبر، فقد اتّفقوا على صحّتها، ووردت في كتبهم مُصَرّحة بصحّة سندها.
وعند تأمّل هذه الروايات، يتّضح لنا أنّ مقام خاتم الأنبياء هو مقام الاسم الأعظم والحجاب الأقرب، وهو أرفع من الثلاثمائة اسم[53] والتي جاء ذكر خمسة وثلاثين اسماً منها هنا. بل هو يحيط بجميع تلك الأسماء، لأنّ الرواية السابقة صرّحت أنّ الثلاثمائة اسم هذه هي مخلوقة من أركان الأسماء الثلاثة، وكلّ تلك الأسماء مضافاً إلى أسماء ثلاثة من الأركان والحجب هي الاسم المكنون المخزون والذي هو أيضاً مخلوق.
وبتفهّم هذه المراتب، وبقليلٍ من التأمّل، سيتّضح أنّه لو كانت أسماء الله وصفاته الموجودة في هذه الأسماء هي جوهر حقيقة مراتب سيّد البشر صلى الله عليه وآله وسلّم، فلا بدّ أن يكون قربه قرباً معنويّاً، ومعرفته معرفة حقيقيّة. وبالرغم من كلّ تلك التفاصيل، وتصريح النبيّ وأقوال آله الطيّبين وورثته الطاهرين، بأنّ علمهم مساوٍ لعلمه، اي أنّهم وارثو جميع علومه، يبقى هؤلاء العظام عاجزين عن معرفة كنه حقيقة الذات المقدّسة، ولا ينافي ذلك رأي الأفاضل من أنّ معرفة الحقّ جلّ جلاله ممكنة ومرغوب فيها لأئمّة الدين وأولياء الله الرحيم. بل أنّ هذه من أهمّ المسائل الدينيّة، ولعلّ ثمّة مَن يستنبط شيئاً من هذه المراتب والمسائل، بل أنّ هذه المسألة هي غاية الدين، بل العلّة الغائيّة في خلق السماوات والأرضين، بل كلّ العوالم.
وإذا كان هناك من يقف في مقام التنزيه الصِّرف للذات القدسيّة برغم كلّ هذه المراتب، ويقول: بأن لا سبيل، على الإطلاق، لمعرفة الله، لا تفصيلًا ولا إجمالًا، ولا كنهاً ولا وجهاً، فسيرى حينها، مع قليل من التأمّل الصادق، أنّ هذا التنزيه هو السبب في التوقيف والإبطال والإلحاق بالعدم من حيث لا يشعر، كما نهى الأئمّة صلوات الله عليهم في الروايات المعتبرة عن التنزيه الصِّرف.
وقد ورد في رواية الكافي[54]، حول سؤال الزنديق: فَلَهُ انِّيَّةٌ ومَائِيَّةٌ؟! قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نَعَمْ لَا يَثْبُتُ الشَّيءُ إلَّا بِانِّيَّةٍ ومَائِيَّةٍ! قَالَ السَّائِلُ: فَلَهُ كَيْفِيَّةٌ؟! قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا! لأنَّ الكَيْفِيَّةَ جِهَةُ الصِّفَةِ والإحَاطَةِ! ولَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ الخُرُوجِ مِنْ جِهَةِ التَّعْطِيلِ والتَّشْبِيهِ. لأنَّ مَنْ نَفَاهُ فَقَدْ أنْكَرَهُ ورَفَعَ رُبُوبِيَّتَهُ وأبْطَلَهُ، ومَنْ شَبَّهَهُ بِغَيْرِهِ فَقَدِ انْتَسَبَهُ بِصِفَةِ المَخْلُوقِينَ المَصْنُوعِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ الرُّبُوبِيَّةَ. ولَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ أنَّ لَهُ كَيْفِيَّةٌ لَا يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ ولَا يُشَارَكُ فِيهَا ولَا يُحَاطُ بِهَا ولَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ.
ويذكر الزنديق في أوّل هذه الرواية: فَمَا هُوَ؟! فأجاب عليه السلام: هُوَ الرَّبُّ؛ وهُوَ المَعْبُودُ؛ وهُوَ اللهُ! ثمّ قال: وليس قولي «الله» إثبات هذه الحروف... ولكن ارجع إلى معنى وشيءٍ خالق الأشياء وصانعها ونَعْت هذه الحروف وهو المعنى.
إلَى أن قَالَ: قَالَ لَهُ السَّائِلُ: فَإنَّا لَمْ نَجِدْ مَوْهُوماً إلَّا مَخْلُوقاً!
قَالَ أبو عبد الله عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ التَّوْحِيدُ عَنَّا مُرْتَفَعاً لأنَّا لَمْ نُكَلَّفْ غَيْرَ مَوْهُومٍ! ولَكِنَّا نَقُولُ: كُلُّ مَوْهُومٍ بِالحَوَاسِّ مُدْرَكٍ بِهِ تَحُدُّهُ الحَوَاسُّ وتُمَثِّلُهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، إذْ كَانَ النَّفْيُ هُوَ الإبْطَالُ والعَدَمُ- إلى آخره.
التنزيه المحض للّه تعالى لا يستلزم تعطيله ونفيه
فلا يجب على العاقل أن يعتبر نفي اي معنى تنزيهاً للحقّ تعالى، فيقوم بنفيه. ولن تكون حقيقة ذلك إلّا البطلان.
فيجب تنزيه الذات المقدّسة للّه تعالى عن المعاني غير اللائقة التي تستوجب تحديده، ونسبة النقص إليه، ونفي أيّة معرفة ترتبط بالحواسّ بكلّ أنواعها، إلّا أنّه لا يجب أن ينفي المعرفة بعين القلب والروح، خاصّة إذا كانت معرفة بالوجه لا بالكنه، ذلك أنّه لن يبقى من شيء للأنبياء والأولياء والعرفاء الحقيقيّين إلّا ما يملكه العوامّ.
نعم، لو كان الإنسان يملك ذرّة بصيرة، لأدرك بأنّ هؤلاء الذين ينفون المعرفة بالوجه، هم أنفسهم، لا إراديّاً، يميلون إلى هذا الاعتقاد قلبيّاً، وهذا الاعتقاد والإيمان القلبيّ الجزئيّ بحدّ ذاته، ينافي التنزيه الصِّرف الذي يدعون إليه، وذلك لأنّهم يتضرّعون إلى الله في أدعيتهم بقولهم: أنت الرحمن! أنت الرحيم! أنت الغفور، افعل بي كذا وكذا!
وقطعاً، فإنّهم لا يقصدون تلفّظ حروف مفرغة من معانيها، اي لا بدّ أنّهم يقصدون ذاتاً واجدة لهذه الصفات التي ينعتونها بها، حتى لو كانت على نحو لا يطابق نعت الذوات الإمكانيّة.
ولا بدّ أنّهم يتصوّرون أنّ رحمة الله المنزّهة من المعنى هي رحمة تستوجب التأثّر ورقّة القلب، ولكنّ هذا المعنى أيضاً، وبصورة مجملة، يجعلهم يتصوّرون بأنّ الإيمان والاعتقاد به (بهذا المعني) كان وراء الدعاء والتضرّع. وهذه المسألة والمعرفة الجزئيّة القلبيّة تنفيان كذلك صحّة ما يدّعونه.
والذين يدّعون المعرفة وإمكان المعرفة، لا يقولون بأكثر من أنّ: هذه المعاني الإجماليّة للأسماء والصفات الإلهيّة جلّ جلاله، التي تؤمنون بها قلبيّاً، قد رأيناها نحن بطريق الكشف والشهود، وبهذه القيود التنزيهيّة، وتوصّلنا إلى حقائقها، وهذه الحقائق المنكشفة لنا هي نفسها التي يحملها المحقّقون والمتكلّمون من الإماميّة رضوان الله تعالى عليهم في عالم التصوّر والعقد القلبيّ؛ والفرق بينها هو نفس الفرق بين التصوّر والوجدان. أو كما هو الفرق بين أن يعرف الفرد معنى الحلوى معرفة تطابق الواقع، بشكل يتصوّر فيه الحالة وذلك بانتشار مذاق بعض الأجسام إلى أغشية سقف الفم، وبين أن يتناول الحلوى مباشرة.
يمكن أن نعتبر الحالتين السابقتين متماثلتين من منظار معيّن، وفي نفس الوقت، أن نعتبرهما من منظار آخر، منفصلتين تماماً ولا علاقة لإحداهما بالأخرى.
فمثلًا، يعتبر المتكلّمون نور الحقّ جلّ جلاله ظاهر ومُظهر، ولكنّه ليس من قبيل نور الشمس أو القمر... إلى آخره، فالرسول صلى الله عليه وآله يرى في سرّه وروحه حقيقة هذا الظاهر والمُظهر تتوضّح في تجلّي الاسم المبارك، وطبقاً للتنزيه الذي ذكرناه: لَا يُشْبِهُهُ نُورٌ مِنَ الأنْوَارِ بَلْ أجَلُّ مِنْ هَذَا التَّنْزِيهِ؛ وهذا ما نسمّيه بالمعرفة. وهذا التقريب هو من باب التمثيل، وضروريّاً أن يُقرّب من جهة، حتى لو بَعَّدَ من جهات أخرى.
فمعرفة الاسم الظاهر للّه تبارك وتعالى لوليّ من الأولياء، إذا حصلتْ بتجلّي الاسم الظاهر فيقول: أ لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيْسَ لَكَ حتى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ؟!
إنكار لقاء الله الباعث على التنزيه المحض، يوجب الكفر
ويقول الإمام الصادق عليه السلام: مَا رَأيْتُ شَيْئاً إلَّا ورَأيْتُ اللهَ قَبْلَهُ ومَعَهُ وبَعْدَهُ، فليس للإنسان بعد أن ينكر ذلك، أو يؤَوِّله على هذا المعنى (و قد أقرّ قلبه بذلك) ويسمّى ذلك تنزيهاً للّه تعالى عن أن يشاهد أحد حقائق أسمائه العظيمة.
نعم، هذا طبيعيّ، فالإنسان عدوّ ما يجهل.
وعلى أيّة حال، فإذا كان عزم المؤمن على أن ينفي كلّ مسألة لا يصل الفهم البدويّ إليها، فإنّه سيخرج عن دائرة الإيمان، بل- وحسب قول الإمام الصادق عليه السلام- فهو إن لم يُقرّ بعد التأمّل والبحث، وأصرّ على الردّ والإنكار، واتّخذهما نهجاً ومذهباً له، فهو خارج عن دائرة الإيمان.
وحريّ بالإنسان في غمرة هذه المسائل، إذا استعصى عليه أمرٌ في كلمات الأنبياء والأولياء والعلماء الأعلام ولم يتبيّن كنهه، أن يتضرّع إلى واهب العلم والعقل، ويُخلص نيّته، ويتأمّل في كلماته، وإذا اتيحت له الفرصة فليسأل من أتقياء العلماء، فإنّ خالق الكون سيمنّ عليه بفهمها، أو يريه سبيل فهمها.
ووجود هذه المسائل الرفيعة والأسرار الربّانيّة في الدين الحقّ، أمر مفروغ منه، ولكنّ الكلّ يدرك، حتى المتوغّلين منهم في جمودهم، بأنّ السبيل إلى ذلك الفهم، هو بتزكية النفس والتقوى والرياضة الشرعيّة، فبهذا كلّه تضعف القوّة الحيوانيّة، وتنمو القوّة الروحانيّة والإيمانيّة، عندها ترى بصيرة الإنسان نور الحقيقة (بالكشف والشهود) كما في قوله تعالى في الآية الكريمة: والَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا.[55]
وروي عن خاتم الرسل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال، أنّ كلّ فرد له عينا السرّ يُبصر بهما الغيب، فإذا أراد تعالى بعبده خيراً، فتح له عينَي السرّ هاتين.
والآن يا أخي! إذا عقدت الأمر لتكون من أهل المعرفة، وتصبح إنساناً، فتسبح في العالم الروحانيّ، وتكون شريكاً للملائكة، ورفيقاً للأنبياء والأولياء، فاحزم أمرك، وادخل من باب الشريعة، وضَعْ عنك ما استطعتَ من الصفات الحيوانيّة، وتخلّق بأخلاق الروحانيّين، ولا ترضَ بمقام الحيوان، ولا تقنع بدرجة الجماد، وغادر هذا المستنقع إلى الموطن الأصليّ في عوالم العليّين، ومكان المقرّبين، لكي تلمس حقيقة هذا الأمر الجسيم بالكشف والعيان، وطريق الوصول إلى المنزلة العظمى هو بمعرفة النفس، فابذل السعي الحثيث لعلّك تصل إلى معرفة نفسك، فهي السبيل لمعرفة الله جلّ جلاله كما قد روي بأنّ مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ[56].
مع أنّ البعض يأخذ هذه الرواية ويُؤَوِّلها على أساس التعليق بالمحال؛ غافلين عن أنّ هذا المعنى قد ورد في أخبار أخرى بالمعنى الأوّل.
كما وردَ في «مصباح الشريعة» أنّ رسول الله سُئل: ما العِلم الذي اشيرَ إليه أن يُطْلَبَ ولو كان في الصين؟ قال: المراد من ذلك هو معرفة النفس التي فيها تكمن معرفة الربّ.
وهكذا فقد ورد في الخبر أنّهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: كَيْفَ الطَّرِيقُ إلى مَعْرِفَةِ الرَّبِّ؟! فأجاب: مَعْرِفَةُ النَّفْسِ![57] وبالجملة، فاعلم أنّ إنسانيّة الإنسان ليس في صورته، فالصورة يمكن نقشها على باب الحمّام كذلك، ولا في جسمانيّته، فالحيوانات الخبيثة أيضاً لها أجسام، ولا في شراهة الأكل والجماع، ذلك أنّ الدبّ والخنزير أكثر شراهةً منك، ولا حتى في الغضب وشدّة الانتقام، ذلك أنّ قوّة الغضب عند الكلب والذئب كبيرة، بل أنّ الخصوصيّة الإنسانيّة التي تجعل منك إنساناً وتُفتَقَد لدى نُظرائك، هي العلم والمعرفة والأخلاق الفاضلة.
فلا يمكن الحصول على العلم والمعرفة إلّا بتحسين الأخلاق، كما قال: لَيْسَ العِلْمُ في السَّمَاءِ لِيَنْزِلَ إليْكُمْ، ولَا في الأرْضِ لِيَصْعَدَ لَكُمْ؛ بَلْ مَجْبُولٌ في قُلُوبِكُمْ. تَخَلَّقُوا بِأخْلَاقِ الرُّوحَانِيِّينَ حتى يَظْهَرَ لَكُمْ![58] وتفصيل هذا الإجمال هو: هذا النموذج الإنسانيّ هو عجينة غريبة قد حوت جانباً من كلّ عوالم الإمكان، بل وفيها أثر من كلّ الصفات والأسماء الإلهيّة جلّ جلاله. كتابٌ خطّه أحسن الخالقين بيمينه، وهو صورة عن اللوح المحفوظ. وهو حجّة الله الكبرى، وحامل الأمانة التي أبت السماوات والأرضون أن يحملنها، وبعبارة أخرى، فلعالم المحسوسات وعالم المثال وعالم المعقول، لكلّ هذه العوالم نصيبٌ وافر في هذا الإنسان. فإذا وظّف الإنسان عالَمَي الحسّ والمثال فيه لخدمة عقله، اي بمعنى أنّه صبّ توجّهاته وهممه نحو عالمه ذاك. ووضع قوّته تلك موضع التنفيذ، فعندها سيوهب ملكوت عالَمي الشهادة والمثال، وباختصار فسيدرك منزلة ومقاماً لم يخطرا ببال أحد لما فيهما من الشرف واللذّة والبهاء ومعرفة الحقّ تعالى.
بلى، فما لا يمكن تصوّره بالخيال، سيتحقّق.
وأمّا إذا وظّف عقله لخدمة عالم الحسّ والشهادة وهو عالم الطبيعة وعالم سجّين، وجعله تابعاً لهما، وآثر الانغماس في عالم الطبيعة، أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ[59]، فالله أعلم بما سيصيبه من البلاء والشقاء والظلمة والشدّة بعد مفارقة الروح بدنه، لا سيّما في يوم القيامة الكبرى، يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ.[60]
من عبر الحجب الظلمانيّة رأى أنّ النفس هي من المجرّدات
وعموماً، إذا زكّي الإنسان أخلاقه، ووزن أعماله وحركاته وسكناته بميزان الشرع والعقل- لأنّ الشرع والعقل متطابقان- فإنّها تأمر الإنسان الاتّصاف بصفات وأخلاق الروحانيّين، وأن تكون حركاته وسكناته حافزاً للارتقاء إلى عوالم العليّين ومنزلة الروحانيّين السامية.
وإجمالًا، أن يحصل على المعرفة بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ[61] عن طريق المَعْرِفَةِ الوِجْدَانِيَّةِ، عندها سيصبح إنساناً روحانيّاً لا جسمانيّاً، وبعبارة أخرى: صَارَ مَوْجُوداً بِمَا هُوَ إنْسَانٌ دُونَ أن يَكُونَ مَوْجُوداً بِمَا هُوَ حَيَوَانٌ.
كما روي علم الهد[62] في «الغرر والدرر» عن سلطان الولاية عليه السلام في إجابته على سؤال عن العالم العلويّ حيث قال: خلق الإنسان ذا نفس ناطقة، أن زكاها بالعلم والعمل فقد شابهت جواهر أوائل عللها، وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد.[63]
وهكذا في خبر آخر، حيث يقول في بيان الخليفة (بعد بيانه لعدّة مواضيع): فَمَنْ تَخَلَّقَ بِالأخْلَاقِ فَقَدْ صَارَ مَوْجُوداً بِمَا هُوَ إنْسَانٌ دُونَ أن يَكُونَ مَوْجُوداً بِمَا هُوَ حَيَوَانٌ؛ فَقَدْ دَخَلَ في البَابِ المَلَكِيّ الصُّورِيّ ولَيْسَ لَهُ مِنْ هَذِهِ الغَايَةِ مَعْبَرٌ.
ومن دالت له هذه الدولة وامتاز على عالَمَي الماء والطين، اللذين هما عالَمي الظلمة وأوصل نفسه إلى مقام معرفة النفس، اي حقيقة النفس، ورأى حقيقة نفسه وروحه اللتين هما من عالم النور ومفتاح معرفة الربّ بالكشف والعيان، فسيرى نفسه من المجرّدات ليس إلّا.
وحينئذٍ سينجو من الحجب الظلمانيّة، ولن تبقى بينه وبين الوصول إلى المقام الذي يمكن فيه معرفة الحقّ جلّ جلاله إلّا الحجب النورانيّة، وخلال تلك الحجب والوصول إلى هذا المقام المنيع توجد لذّات وبهجات ولوازم وعوالم حيث لا يمكن لأحد، غير أهلها، أن يعلم كنه تلك العوالم واللوازم كما يجب.
مطالب «الكافي» و«مصباح الشريعة» في علوّ مقام العرفاء
ولو افترضنا أنّ شخصاً ما توصّل إلى اعتقاد ما بالعلم أو عن طريق البرهان مثلما كتب الشيخ الرئيس وغيره حول درجات العرفاء، أو توصّل إلى ذلك بتقليد أهله، فلا تزال هناك آلاف الفروقات بين هذا العلم والمعرفة، وبين تلك المعرفة الشهوديّة والوجدانيّة التي تلقّاها عن أهلها؛ واللذّة التي تحصل لأهلها عند مشاهدة هذه المراتب هي ذات اللذّة التي رواها «الكافي» عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول:
لَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَا في فَضْلِ مَعْرِفَةِ اللهِ، مَا مَدُّوا أعْيُنَهُمْ إلى مَا مَتَّعَ اللهُ بِهِ الأعْدَاءَ مِنْ زَهْرَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ونِعْمَتِهَا، وكَانَتْ دُنْيَاهُمْ عِنْدَهُمْ أقَلَّ مِمَّا يَطَؤُونَهُ بِأرْجُلِهِمْ، ولَتَنَعَّمُوا بِمَعْرِفَةِ اللهِ تعالى وتَلَذَّذُوا بِهَا تَلَذُّذَ مَنْ لَمْ يَزَلْ في رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ مَعَ أوْلِيَاءِ اللهِ.
أنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ انْسٌ مِنْ كُلِّ وَحْشَةٍ، وصَاحِبٌ مِنْ كُلِّ وَحْدَةٍ، ونُورٌ مِنْ كُلِّ ظُلْمَةٍ، وقُوَّةٌ مِنْ كُلِّ ضَعْفٍ، وشِفَاءٌ مِنْ كُلِّ سُقْمٍ[64]- انتهى.
وقال في «مصباح الشريعة» في معرض تعريفه للعارف: العَارِفُ شَخْصُهُ مَعَ الخَلْقِ وقَلْبُهُ مَعَ اللهِ، ولَوْ سَهَى قَلْبُهُ عَنِ اللهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لَمَاتَ شَوْقاً إليه.
وَالعَارِفُ أمِينُ ودَائِعِ اللهِ، وكَنْزُ أسْرَارِهِ ومَعْدِنُ نُورِهِ، ودَلِيلُ رَحْمَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، ومَطِيَّةُ عُلُومِهِ، ومِيزَانُ فَضْلِهِ وعَدْلِهِ. قَدْ غَنِيَ عَنِ الخَلْقِ والمُرَادِ والدُّنْيَا، ولَا مُؤنِسَ لَهُ سوى اللهِ، ولَا مَنْطِقَ ولَا إشَارَةَ ولَا نَفَسَ إلَّا بِاللهِ لِلَّهِ مِنَ اللهِ مَعَ اللهِ.
فَهُوَ في رِيَاضِ قُدْسِهِ مُتَرَدِّدٌ، ومِنْ لَطَائِفِ فَضْلِهِ إليه مُتَزَوِّدٌ.
وَالمَعْرِفَةُ أصْلٌ وفَرْعُهُ الإيمَانُ.[65]
وروى في «الكافي» و«التوحيد» عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: أنَّ رُوحَ المُؤْمِنِ لأشَدُّ اتِّصَالًا بِرُوحِ اللهِ مِنِ اتِّصَالِ شُعَاعِ الشَّمْسِ بِهَا.
وجاء في حديث قدسيّ متّفق عليه بين جميع أهل الإسلام، أنّه قال: مَا يَتَقَرَّبُ إلى عَبْدِي بِشَيءٍ أحَبَّ إلى مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ. وإنَّهُ لَيَتَقَرَّبُ إلى بِالنَّوَافِلِ حتى احِبَّهُ، فَإذَا أحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ بِهِ وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ بِهِ ولِسَانَهُ الذي يَنْطِقُ بِهِ ويَدَهُ التي يَبْطِشُ بِهَا.
إن دَعَانِي أجَبْتُهُ وأن سَألَنِي أعْطَيْتُهُ.[66]
ويقول الخواجة نصير الدين قدّس سرّه:
العَارِفُ إذَا انْقَطَعَ عَنْ نَفْسِهِ واتَّصَلَ بِالحَقِّ، رَأى كُلَّ قُدْرَةٍ مُسْتَغْرَقَةً في قُدْرَتِهِ المُتَعَلِّقَةِ بِجَمِيعِ المَقْدُورَاتِ، وكُلَّ عِلْمٍ مُسْتَغْرَقاً في عِلْمِهِ الذي لَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيءٌ مِنَ المَوْجُودَاتِ، وكُلَّ إرَادَةٍ مُسْتَغْرَقَةً في إرَادَتِهِ التي لَا يَتَأبَّى عَنْهَا شَيءٌ مِنَ المُمْكِنَاتِ؛ بَلْ كُلُّ وُجُودٍ فَهُوَ صَادِرٌ عَنْهُ فَائِضٌ مِنْ لَدُنْهُ.
فَصَارَ الحَقُّ حِينَئِذٍ بَصَرَهُ الذي بِهِ يَبْصُرُ، وسَمْعَهُ الذي بِهِ يَسْمَعُ، وقُدْرَتَهُ التي بِهَا يَفْعَلُ، وعِلْمَهُ الذي بِهِ يَعْلَمُ، ووُجُودَهُ الذي بِهِ يُوجِدُ.
فَصَارَ العَارِفُ حينَئِذٍ مُتَخَلِّقاً بِأخْلَاقِ اللهِ بِالحَقِيقَةِ.[67]
وقال أيضاً في «مصباح الشريعة»: المُشْتَاقُ لَا يَشْتَهِي طَعَاماً ولَا يَسْتَلِذُّ شَرَاباً ولَا يَسْتَطِيبُ رُقَاداً ولَا يَأنَسُ حَمِيماً ولَا يَأوَى دَاراً ولَا يَسْكُنُ عِمْرَاناً ولَا يَلْبَسُ لَيِّناً ولَا يَقِرُّ قَرَاراً، ويَعْبُدُ اللهَ لَيْلًا ونَهَاراً رَاجِياً أن يَصِلَ إلى مَا يَشْتَاقُ إليه، ويُنَاجِيهِ بِلِسَانِ شَوْقِهِ مُعَبِّراً عَمَّا في سَرِيرَتِهِ، كَمَا أخْبَرَ اللهُ عَنْ موسى بْنِ عِمْرَانَ في مِيعَادِ رَبِّهِ بِقَوْلِهِ: «وَ عَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَي».
وَفَسَّرَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ عَنْ حَالِهِ: أنَّهُ مَا أكَلَ ولَا شَرِبَ ولَا نَامَ ولَا اشْتَهَى شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ في ذِهَابِهِ ومَجِيئِهِ أرْبَعِينَ يَوْماً شَوْقاً إلى رَبِّهِ.
فَإذَا دَخَلْتَ مَيْدَانَ الشَّوْقِ فَكَبِّرْ عَلَى نَفْسِكَ ومُرَادِكَ مِنَ الدُّنْيَا، ودَعِ المَألُوفَاتِ وأحْرِمْ عَنْ سوى مَشُوقِكَ ولَبِّ بَيْنَ حَيَاتِكَ ومَوْتِكَ- إلى آخره[68].
وروي في «علل الشرائع» عن خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلّم: أنَّ شُعَيْباً بَكَى مِنْ حُبِّ اللهِ عَزَّ وجَلَّ حتى عَمِيَ فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، ثُمَّ بَكَى حتى عَمِيَ فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، ثُمَّ بَكَى حتى عَمِيَ [فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ] بَصَرَهُ.
فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ أوْحَى اللهُ إليه: يَا شُعَيْبُ! إلى متى يَكُونُ هَذَا مِنْكَ أبَداً؟! أن يَكُنْ هَذَا خَوْفاً مِنَ النَّارِ فَقَدْ أجَرْتُكَ؛ وأن يَكُنْ شَوقاً إلى الجَنَّةِ فَقَدْ أبَحْتُكَ!
فَقَالَ: إلَهِي وسَيِّدِي! أنْتَ تَعْلَمُ أنِّي مَا بَكِيتُ خَوْفاً مِنْ نَارِكَ ولَا شَوْقاً إلى جَنَّتِكَ، ولَكِنْ عُقِدَ حُبُّكَ عَلَى قَلْبِي فَلَسْتُ أصْبِرُ أوْ أرَاكَ!
فَأوْحَى اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ: أمَّا إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا فَمِنْ أجْلِ ذَلِكَ سَأخْدِمُكَ كَلِيمِي موسى بْنَ عِمْرَانَ.[69]
وورد في دعاء كميل عليه الرحمة: وَهَبْنِي يَا إلَهِي وسَيِّدِي ومَوْلَايَ! صَبَرْتُ عَلَى عَذَابِكَ فَكَيْفَ أصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكَ؟!
وجاء في المناجاة الشعبانيّة: وَهَبْ لي قَلْباً يُدْنِيهِ مِنْكَ شَوْقُهُ، ولِسَاناً يُرْفَعُ إلَيْكَ صِدْقُهُ، ونَظَراً يُقَرِّبُهُ إلَيْكَ حَقُّهُ.
وقال أيضاً: وألْحِقْنِي بِنُورِ عِزِّكَ الأبْهَجِ فَأكُونَ لَكَ عَارِفاً وعَنْ سِوَاكَ مُنْحَرِفاً.
ونجد في دعاء أبي حمزة الثماليّ ما يلي: وَإنَّكَ لَا تَحْتَجِبُ عَنْ خَلْقِكَ إلَّا يَحْجُبَهُمُ الآمَالُ السَّيِّئَةُ دُونَكَ. ... [70]
بالوصول والنظر واللقاء والقرب والمعرفة، وبالرغم من أنّني لم أذكرها بسبب عدم ثبوت سند لها، إلّا أنّها جميعاً، تعتبر حجّة لدى مقلّدي العلماء الأعلام.
فلِمَ ذلك؟ ذلك أنّ العلماء يتلون تلك المناجاة ويؤيّدون مضامينها. كذلك كلّ تلك التصاريح الواردة في ملحق دعاء عرفة المنسوب إلى سيّد الشهداء عليه الصلاة والسلام، ومواظبة العلماء الأعلام على قراءتها، إلّا أنّي لم أذكرها لعدم ثبوتها.
تفسير الرؤية واللقاء بخلاف النصّ كان من أجل السائل
وقد أوردنا في البداية، أنّ حمل هذه التعابير على حصول الثواب، مخالف للنصّ، وإذا كانوا قد فسّروا أحياناً في الأخبار، الرؤية واللقاء بالثواب، ذلك بسبب أنّ السائل عن الرؤية لم يكن يدرك حينها إلّا الرؤية بالعين؛ كمّا فسّر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم خُلّة الخليل عليه السلام بغير معنى المحبّة وذلك جواباً على بعض السائلين.
حيث إنّه صلى الله عليه وآله وسلّم لم يفسّر ذلك بهذا المعنى، لكفر السائل، لأنّه لم يكن ليفقه معنى الخلّة إلّا في إطار المحبّة بين البشر. وهو بالحقيقة كفر.
نعم، وإذا تطلّعت لأكثر ممّا ذكر، فراجع أدعية ومناجاة أئمّة الهدى عليهم الصلاة والسلام، والأخبار الواردة في ثواب الأعمال. مثل دعاء رجب الذي رواه السيّد ابن طاووس عليه الرحمة بسند معتبر في «الإقبال» بتوقيع الإمام المهديّ أرواح العالمين فداه، الذي كان يقرأه حتماً. يقول: اللَهُمَّ إنِّي أسْألُكَ بِمَعَانِي جَمِيعِ مَا يَدْعُوكَ بِهِ وُلَاةُ أمْرِكَ المَأمُونُونَ عَلَى سِرِّكَ.
إلى أن قال: وَبِمَقَامَاتِكَ التي لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وبَيْنَكَ إلَّا أنَّهُمْ عِبَادُكَ وخَلْقُكَ، رَتْقُهَا وَفَتْقُهَا بِيَدِكَ[71].
ولاحظ أدعية ليالي الشهر المبارك! وانظر! آهِ آهِ! شَوْقاً إلى مَنْ يَرَانِي ولَا أرَاهُ.
روايات نظر المؤمن إلى نور الله ووجه الله تعالى
الرواية المعراجيّة المصدّرة ب- «يا أحمد» حسب رواية «الوافي»
وانظر في أخبار الثواب إلى حديث المعراج الذي روي في «الوافي» عن العلماء الأعلام حيث قال: يَا أحْمَدُ! إلى أن يقول: قَالَ: يَا رَبِّ مَا أوَّلُ العِبَادَةِ؟! قَالَ: الصَّمْتُ والصَّوْمُ. تَعْلَمُ يَا أحْمَدُ مَا مِيرَاثُ الصَّوْمِ؟! قَالَ: لَا، يَا رَبِّ! قَالَ: مِيرَاثُ الصَّوْمِ قِلَّةُ الأكْلِ، وقِلَّةُ الكَلَامِ، والعِبَادَةُ.
الثَّانِيَةُ الصَّمْتُ؛ والصَّمْتُ يُورِثُ الحِكْمَةَ؛ ويُورِثُ الحِكْمَةُ المَعْرِفَةَ؛ ويُورِثُ المَعْرِفَةُ اليَقِينَ. وإذَا اسْتَيْقَنَ العَبْدُ لَا يُبَالِي كَيْفَ أصْبَحَ بِعُسْرٍ أمْ بِيُسْرٍ. فَهَذَا مَقَامُ الرَّاضِينَ! فَمَنْ عَمِلَ رِضَايَ الْزِمُهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ: اعَرِّفُهُ شُكْراً لَا يُخَالِطُهُ الجَهْلُ، وذُكْراً لَا يُخَالِطُهُ النِّسْيَانُ، ومَحَبَّةً لَا يُؤْثِرُ عَلَى مَحَبَّتِي مَحَبَّةَ المَخْلُوقِينَ! فَإذَا أحَبَّنِي أحْبَبْتُهُ وحَبَّبْتُهُ إلى خَلْقِي وأفْتَحُ عَيْنَ قَلْبِهِ إلى عَظَمَتِي وجَلَالِي! فَلَا اخْفِي عَلَيْهِ عِلْمَ خَاصَّةِ خَلْقِي! فأناجيه في ظُلَمِ اللَيْلِ وضَوْءِ النَّهَارِ حتى يَنْقَطِعَ حَدِيثُهُ مَعَ المَخْلُوقِينَ ومُجَالَسَتُهُ مَعَهُمْ واسْمِعُهُ كَلَامِي وكَلَامَ مَلَائِكَتِي واعَرِّفُهُ سِرِّيَ الذي سَتَرْتُهُ مِنْ خَلْقِي- إلى أن قال: ثُمَّ أرْفَعُ الحُجُبَ بَيْنِي وبَيْنَهُ فَانَعِّمُهُ بِكَلَامِي والَذِّذُهُ بِالنَّظَرِ إلى- إلى أن قال: وَ لأجْعَلَنَّ مُلْكَ هَذَا العَبْدِ فَوْقَ مَلِكِ المُلُوكِ حتى يَتَضَعْضَعَ لَهُ كُلُّ مَلِكٍ ويَهَابَهُ كُلُّ سُلْطَانٍ جَائِرٍ وجَبَّارٍ عَنِيدٍ ويَتَمَسَّحَ لَهُ كُلُّ سَبُعٍ ضَارٍّ، ولُاشَوِّقَنَّ إليه الجَنَّةَ ومَا فِيهَا، ولأسْتَغْرِقَنَّ عَقْلَهُ بِمَعْرِفَتِي، ولأقُومَنَّ لَهُ مَقَامَ عَقْلِهِ، ثُمَّ لُاهَوِّنَنَّ عَلَيْهِ المَوْتَ وسَكَرَاتِهِ وحَرَارَتَهُ وفَزَعَهُ حتى يُسَاقَ إلى الجَنَّةِ شَوْقاً.
وَإذَا نَزَلَ بِهِ مَلَكُ المَوْتِ يَقُولُ: مَرْحَباً بِكَ! فَطُوبَى لَكَ! طُوبَى لَكَ! أنَّ اللهَ إلَيْكَ لَمُشْتَاقٌ! اعْلَمْ يَا وَلِيّ اللهِ! أنَّ الأبْوَابَ التي كَانَ يَصْعَدُ مِنْهَا عَمَلُكَ تَبْكِي عَلَيْكَ! وأنَّ مِحْرَابَكَ ومُصَلَّاكَ يَبْكِيَانِ عَلَيْكَ! فَيَقُولُ: أنَا رَاضٍ بِرِضْوَانِ اللهِ وكَرَامَتِهِ؛ ويَخْرُجُ الرُّوحُ مِنْ بَدَنِهِ كَمَا تَخْرُجُ الشَّعْرَةُ مِنَ العَجِينِ. وأنَّ المَلَائِكَةَ تَقُومُ عِنْدَ رَأسِهِ، بِيَدَيْ كُلِّ مَلَكٍ كَأسٌ مِنْ مَاءِ الكَوْثَرِ وكَأسٌ مِنَ الخَمْرِ يَسْقُونَ رُوحَهُ حتى يَذْهَبَ سَكْرَتُهُ ومَرَارَتُهُ ويُبَشِّرُونَهُ بِالبِشَارَةِ العُظْمَى، ويَقُولُونَ: طِبْتَ وطَابَ مَثْوَاكَ! إنَّكَ تَقْدِمُ عَلَى العَزِيزِ الكَرِيمِ الحَبِيبِ القَرِيبِ! فَيَطِيرُ الرُّوحُ مِنْ أيْدِي المَلَائِكَةِ فَيَسْرَعُ إلى اللهِ في أسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ؛ فَلَا يَبْقَى حِجَابٌ ولَا سِتْرٌ بَيْنَهَا وبَيْنَ اللهِ تعالى. واللهُ تعالى إلَيْهَا لَمُشْتَاقٌ. فَتَجْلِسُ عَلَى عَيْنٍ عَنْ يَمِينِ العَرْشِ.
ثُمَّ يُقَالُ لَهَا: أيَّتُهَا الرُّوحُ! كَيْفَ تَرَكْتِ الدُّنْيَا؟! فَتَقُولُ: إلَهِي وسَيِّدِي! وعِزَّتِكَ وجَلَالِكَ لَا عِلْمَ لي بِالدُّنْيَا! أنَا مُنْذُ خَلَقْتَنِي إلى هَذِهِ الغَايَةِ خَائِفٌ مِنْكَ! فَيَقُولُ اللهُ: صَدَقْتَ! كُنْتَ بِجَسَدِكَ في الدُّنْيَا وبِرُوحِكَ مَعِي! فَأنْتَ بِعَيْنِي أعْلَمُ سِرَّكَ وعَلَانِيَتَكَ! سَلْ اعْطِكَ وتَمَنَّ على فَأكْرِمْكَ! هَذِهِ جَنَّتِي فَتَبَحْبَحْ فِيهَا، وهَذَا جِوَارِي فَاسْكُنْهُ! فَتَقُولُ الرُّوحُ: إلَهِي عَرَّفْتَنِي نَفْسَكَ فَاسْتَغْنَيْتُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ خَلْقِكَ! وعِزَّتِكَ وجَلَالِكَ لَوْ كَانَ رِضَاكَ في أن اقَطَّعَ إرْباً إرْباً أوْ اقْتَلَ سَبْعِينَ قَتْلَةً بِأشَدِّ مَا يُقْتَلُ بِهِ النَّاسُ لَكَانَ رِضَاكَ أحَبَّ إلى- إلى أن قال: قَالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وعِزَّتِي وجَلَالِي لَا أحْجُبُ بَيْنِي وبَيْنَكَ في وَقْتٍ مِنَ الأوْقَاتِ حتى تَدْخُلَ على اي وَقْتٍ شِئْتَ وكَذَلِكَ أفْعَلُ بِأحِبَّائِي!
ويقول في تفسير الحياة الباقية بعد ذلك: وسأفعل كذا وكذا بصاحبها. إلى أن يقول: وَأفْتَحُ عَيْنَ قَلْبِهِ وسَمْعَهُ حتى يَسْمَعَ بِقَلْبِهِ مِنِّي ويَنْظُرَ بِقَلْبِهِ إلى عَظَمَتِي وجَلَالِي.
ويقول أيضاً في هذا الحديث: أنَّ أدْنَى مَا اعْطِي الزَّاهِدِينَ في الآخِرَةِ أن اعْطِيَهُمْ مَفَاتِيحَ الجِنَانِ كُلَّهَا حتى يَفْتَحُوا اي بَابٍ شَاءُوا. ولَا أحْجُبُ عَنْهُمْ وَجْهِي ولُانَعِّمَنَّهُمْ بِأنْوَاعِ التَّلَذُّذِ مِنْ كَلَامِي.
إلى أن قال: وَأفْتَحُ لَهُمْ أرْبَعَةَ أبْوَابٍ: بَابٌ تُدْخَلُ عليهم الهَدَايَا مِنْهُ بُكْرَةً وعَشِيَّاً، وبَابٌ يَنْظُرُونَ مِنْهُ إلى كَيْفَ شَاءُوا.
ويقول كذلك في هذا الحديث في وصف أصحاب الآخرة: وَلأرْفَعَنَّ الحُجُبَ لَهَا دُونِي. ويقول: ولَا يَلِي قَبْضَ رُوحِهِ غَيْرِي؛ وأقُولُ عِنْدَ قَبْضِ رُوحِهِ: مَرْحَباً وأهْلًا بِقُدوُمِكَ عليّ.[72]
فكلّ ما رويتهُ هنا كان روايات صحيحة ومعتبرة، ولو توسّعتُ في ذلك قليلًا، وذكرتُ ما ورد في أخبار داوود، وتلك الموجودة في المناجاة الخمس عشرة وتلك الموجودة أيضاً في المناجاة الملحقة لدعاء عرفة الذي رواه السيّد قدّس سرّه في «الإقبال» والعلّامة قدّس سرّه في «المزار»، فهذه لوحدها هي أكثر من كونها متواترة.
وروي في حديث الصلاة، حيث يقول في عبارة القراءة: يرتقي بإزاء كلّ آية درجة من فلان وفلان، إلى أن قال: ودَرَجَةً مِنْ نُورِ رَبِّ العِزَّةِ، وروي في حديث لقاء المؤمن في «المستدرك» من مجموعة الشهيد نقلًا عن كتاب «الأنوار» لأبي على محمّد بن همّام، إلى حيث قال: اشْهِدُكُمْ عِبَادِي بِأنِّي اكْرِمُهُ بِالنَّظَرِ إلى نُورِي وجَلَالِي وكِبْرِيائِي! وروي في حديث ثواب الجهاد في «التهذيب» حيث يُحصى فيه الخصال السبع للشهيد، إلى أن قال: السَّابِعُ أن يَنْظُرَ في وَجْهِ اللهِ، وإنَّهَا لَرَاحَةٌ لِكُلِّ نَبِيّ وشَهِيدٍ[73].
وورد في حديث صحيح في ثواب سجدة الشكر في الصلوات الواجبة ما يلي: أنَّ العَبْدَ إذَا صلى وسَجَدَ سَجْدَةَ الشُّكْرِ فَتَحَ الرَّبُّ تعالى الحِجَابَ بَيْنَهُ وبَيْنَ المَلَائِكَةِ، فَيَقُولُ: يَا مَلَائِكَتِي! انْظُرُوا إلى عَبْدِي؛ أدَّى فَرِيضَتِي وأتَمَّ عَهْدِي ثُمَّ سَجَدَ لي شُكْراً عَلَى مَا أنْعَمْتُ بِهِ عَلَيْهِ! مَلَائِكَتِي! مَا ذَا لَهُ؟! فَتَقُولُ المَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا رَحْمَتُكَ! ثُمَّ يَقُولُ الرَّبُّ تعالى: ثم ماذا؟! فَتَقُولُ المَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا كِفَايَةُ مُهِمِّهِ! فَيَقُولُ الرَّبُّ: ثُمَّ مَا ذَا؟! فَلَا يَبْقَى شَيءٌ مِنَ الخَيْرِ إلَّا قَالَتْهُ المَلَائِكَةُ. فَيَقُولُ اللهُ تعالى: يا ملائكتي! ثُمَّ مَا ذَا! فَيَقُولُ المَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا لَا عِلْمَ لَنَا! فَيَقُولُ اللهُ تعالى: لأشكرنه كما شكرني، واقبل عليه بفضلي، واريه وجهي![74]
وورد في ثواب مَن يُحرم البصر، حيث قال: وارِيكَ وَجْهِي.
وورد كذلك في رواية ضيافة أصحاب الجنّة خبراً مفاده أنّه بعد قراءة القرآن يرجون الاستماع لصوت البارئ، فيُمَنُّ عليهم بالإجابة، ومن فرط التلذّذ بالاستماع، يخرّون مغشيّاً عليهم طويلًا، وبعد استفاقتهم، يطلبون التشرّف برؤية جمال الجميل فيتجلّى نور يخرّون على أثره مغشيّاً عليهم؛ فيظلّون على هذه الحال حتى تشتكي الحور العين من ذلك.
وفي مكان آخر من نفس الحديث، يقول في ثواب الذين يحفظون ألسنتهم عن اللغو وبطونهم من التخمة.
أنْظُرُ إلَيْهِمْ في كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً واكَلِّمُهُمْ كُلَّمَا نَظَرْتُ إلَيْهِمْ.
فكُن منصفاً يا عزيزي، أ يمكن لأحد من البشر إنكار كلّ هذه الآيات والأخبار والأدعية الواردة بتعابير مختلفة؟ إذا كنت تبحث عن سند موثوق، فلو قيل أنّ درجة التواتر تبلغ الأربعين لأتيتك بخمسمائة بل بألف، وأمّا القرآن فلا يحتاج لسند، وإذا ابتغيت الدلالة، فلا أبلغ في ذلك من النصّ، بل أنّ دلالات بعض هذه الألفاظ المرويّة لا شكّ ولا محمل ولا احتمال مجازيّ فيها البتة.
وعلى الإنسان إدراك أنّ لقاءه جلّ جلاله لا يشبه لقاء الممكن، وأنّ رؤيته لا تكون بالعين، أو مثل رؤية الجسمانيّات، بل أنّ الرؤية القلبيّة أيضاً منزّهة عن الكيفيّة في رؤية المتخيّلات، وحتى الرؤية العقليّة منزّهة عن الكيفيّة في رؤية المعقولات. كما قال عليه السلام في دعاء «الصحيفة العلويّة»: وَتَمَثَّلَ في القُلُوبِ بِغَيْرِ مِثَالٍ تَحُدُّهُ الأوْهَامُ أوْ تُدْرِكُهُ الأحْلَامُ.[75]
قول الإمام: كَأنَّنِي سَمِعْتُهَا مُشَافَهَةً مِمَّنْ أنْزَلَهَا عَلَى المكَاشَفَةِ والعِيَانِ
وكما قال كذلك السيّد ابن طاووس قدّس سرّه العزيز في «فلاح السائل»، ص 107 و108: فَقَدْ رُوِيَ أنَّ مَوْلَانَا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الصَّادِقَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَانَ يَتْلُو القُرْآنَ في صَلَاتِهِ فَغُشيَ عَلَيْهِ.
فَلَمَّا أفَاقَ سُئِلَ: مَا الذي أوْجَبَ مَا انْتَهَتْ حَالُكَ إليه؟! فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا مَعْنَاهُ: «مَا زِلْتُ اكَرِّرُ آيَاتِ القُرْآنِ حتى بَلَغْتُ إلى حَالٍ كَأنَّنِي سَمِعْتُهَا مُشَافَهَةً مِمَّنْ أنْزَلَهَا عَلَى المُكَاشَفَةِ والعِيَانِ.
فَلَمْ تَقُمِ القُوَّةُ البَشَرِيَّةُ بِمُكَاشَفَةِ الجَلَالَةِ الإلَهِيَّةِ».
وَإيَّاكَ يَا مَنْ لَا تَعْرِفُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ أن تَسْتَبْعِدَهُ أوْ يَجْعَلَ الشَّيْطَانُ في تَجْوِيزِ الذي رَوَيْنَاهُ عِنْدَكَ شَكّاً! بَلْ كُنْ مُصَدِّقاً! أ مَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وخَرَّ موسى صَعِقًا- انتهى.
بيان أقسام مكاشفات نقلًا عن «نفائس الفنون»... [76]
نعم، فإذا أراد الإنسان الوصول إلى هذه العوالم بالكشف والشهود، عليه أن يقدّر عظمة المقصود حقّ قدرها، وأن يعلم ما يصبو إليه، ومقدار قدرته، حتى يكون سعيه بمستوى ما يطلب.
فمن يسعى أن يكون رئيساً لقبيلة ليس كمن يسعى لامتلاك العالم، ولكن لأنّ عظمة هذا المطلوب هي على قدر من الشرف والنور والبهاء والسلطان واللذّة بحيث لا يمكن تصوّرها لا سيّما من قبل الساذج، وكلّ ما يتصوّره لا يساوي جزء من الألف من الحقيقة، فإنّ عليه- عموماً- القياس بقدر معقولاته ومعلوماته.
فليفترض مثلًا، أنّ ما يراه من الشرف في عالم الحقّ والشهادة ناشئ عن ذوي السطوة من أهل الدنيا ومن التقرّب إلى السلاطين ومن الملك، بل ومن زعامة العالم بأسره، ولينظر بعد ذلك سلطان السماوات وما له من العظمة والشرف، ثمّ ليقس بعد ذلك بينهما. وليقارن عندها بين عالم المحسوس وعالم الملكوت الغيبيّ والجبروت وغيره. وحينئذٍ ليعد ويفكّر في ماهيّة سلطنة السلاطين، ويقارنها بالسلطنة المعنويّة، فسيرى عندئذٍ تفاهة أيّام دولة هؤلاء السلاطين التي لا تتجاوز بضعة سنين، بالمقارنة مع السلطان الأبديّ، ومضافاً إلى ذلك فهي ليست بشيء يُذكر لما تحويه من آلاف العيوب وما تحمله من النواقص الكثيرة.
وأمّا السلطنة المعنويّة فهي السلطنة الحقيقيّة؛ كما هي الحال في سلطنة الإنسان على أعضائه وقواه وخياله. فعلى سبيل المثال، لينظر إلى السلطنة الاخرويّة، حيث ورد من جملة ما ورد من الأخبار في باب سلطنة أهل الجنّة، حيث يأتونه بأمرٍ من الله تعالى يقول فيه: جعلتك حيا لا تموت وتقول للشيء: كن فيكون![77]
وعموماً، فإنّ تلك السلطنة التي وهبها خلّاق العالمين للإنسان الصحيح المشاعر في خلق الصور الخياليّة: قد تكرّم الله بمثلها على خواصّ عباده من الأنبياء والأولياء في هذه الدنيا، أو على العامّة من الناس أو عموم أهل الجنّة في الآخرة، وذلك بخلق وإيجاد الأعيان الخارجيّة بإذنه سبحانه وتعالى.
وعليه يفسّر أهل المعرفة إعجاز الأنبياء والأئمّة عن هذا الطريق.
وباختصار، فإذا قارن الإنسان أيّة مسألة بالعقل، فإنّه س يرى بأنّ مراتب الأشياء وحدودها قُدّرت بحسبان وعلى أساس من العدل. وإذا نحّى العقل جانباً، فحينئذٍ ستكون عنده الحكمة والباطل، والنور والظلمة، والخير والشرّ، والشريف والوضيع سيّان.
دار الآخرة دار الحيوان، كأنّها حياة تغلي وتفور
وعلى هذا، فيكون ما أوردناه من الكلام المختصر حول تبيان عظمة هذا الأمر والامور الأخرى كافياً، ولذا فإذا أردت أن تتصوّر لذّة وسعادة هذا الأمر، فقد وصف أهل المعرفة درجة واحدة من درجات لذّات العالم الآخر بما يلي:
أنّ دار الحيوان والحياة الحقيقية كَأنَّهُ حَيَاةٌ تَغْلِي وتَفُورُ، قد هيّأت لأهلها في كلّ لحظة ما طاب من اللذّات من غير أن تتداخل مع بعضها أو يطرأ عليها الكسر والانكسار فتتبدّل كيفيّتها: فمثلًا، قد أتاحت لكلّ الأفراد من اللذّات من أطايب الأطعمة، وهكذا المرئيّات والمسموعات والمشمومات والملموسات في أيّة لحظة من دون أن تؤثّر الواحدة على الأخرى أو تُبطلها.
هذا، في حين أنّ هذه اللذّات وهي لذّات حسّيّة تشكّل جَنَّةُ النَّعِيم، فكيف بنا إذا اتّخذنا ذلك ميزاناً لمقارنتها مع لذّات وبهجات تجلّيات أنوار الجمال والجلال لصاحب الجمال والجلال سبحانه وتعالى، فقد يكون ذلك كافياً لدفع الإنسان لبذل ما في وسعه من الجدّ والاجتهاد. وفي الأخبار عن الأئمّة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وردت إشارات إلى هذه العوالم. ففي الخبر، مثلًا، أنّ في الجنّة ماءً يحوي مذاق جميع المشروبات والمأكولات. وكذلك في حديث المعراج الآنف الذكر، حيث يجيب على مقالة الحقّ جلّ جلاله: هَذِهِ جَنَّتِي فَتَبَحْبَحْ فِيهَا! بقوله: عند ما عرّفتني نفسك، استغنيتُ عن كلّ شيء! وما جاء كذلك في حديث الضيافة الذي مرّ ذكره، حيث يغيبون عن وعيهم لتجلّي الحقّ تعالى، ولا يستعيدونه أبداً حتى تشتكي بالتالي الحور العين من ذلك فيُعيد لهم الربّ الجليل وعيهم.
فيا عزيزي! ثابر حتى تُمسك بعصمة الإيمان بالله ورسوله والأئمّة صلوات الله وسلامه عليهم، وحتى لا تعتبر الثواب والعقاب، والجنّة والجحيم، والقرب والبُعد كما هو حال ملاحدة هذا الزمان ضربٌ من الوهم.
وهذا الذي تمّ عرضه هو من باب: ما خطر على قلب بشر، وأمّا ولَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فاستنتجه من كلّ ما سبق! نعم:
ديوانه كنى هر دو جهانش بخشى *** ديوانة تو هر دو جهان را چه كند؟[78]
از دَرِ خويش خدايا به بهشتم مفرست *** كه سر كوى تو از كون ومكان ما را بس[79]
خاك درت بهشت من، مهر رخت سرشت من *** عشق تو سرنوشت من، راحت من رضاى تو[80]
وَجَدْتُكَ أهْلًا لِلْعِبَادَةِ فَعَبَدْتُكَ
ما عَبَدْتُكَ خوفا مِنْ نَارِكَ ولَا طَمَعاً في جَنَّتِكَ، بَلْ وَجَدْتُكَ أهْلًا لِلْعِبَادَةِ فَعَبَدْتُكَ![81]
فقد سمعتَ في حديث النبيّ شعيب على نبيّنا وآله وعليه السلام، حيث قال: لا أشكو من خوف النار ولا من حبّ الجنّة ولكنّي أشكو من البُعد عنك، فها أنذا أصبر حتى أنعم بلقائك! وأنت قد سمعتَ من سيّد العارفين ورئيس المناجين، حيث يقول في دعاء كميل عليه الرحمة: وَهَبْنِي صَبَرْتُ عَلَى عَذَابِكَ فَكَيْفَ أصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكَ! وأمّا أنتِ، يا نفسي الوقحة! وأنتَ أيّها السامع البائس! إذا كنتَ تُسلّم بهذه العوالم، فأين أثر ذلك؟! ولِمَ أنت ساكن؟! لما ذا لا تصعد إلى الجبال؟! أو تهيمُ في البراري؟! لما ذا لا تلهج ب-: وَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللهِ في صباحك ومساءك؟! ولو كانت لك خطرات الظنون من ذلك، لكان عليك أن تموت من الحسرة؟! بل لو كنتَ تحتمل ذلك وتشكّ فيه، للزِمَ أن يقضّ هذا الاحتمال مضجعك؛ ويقطع عنك اللذّة بمباهج هذه الدنيا الدنيّة الفانية.
ردّد: وَا حَسرَتَاهُ! وَا حَسْرَتَاهُ! وَا حَسْرَتَاهُ! وَا ثُبُورَاهُ! وَا حَيْرَتَاهُ! يَا وَيْلِي! يَا دَمَارَي! يَا عَوْلِي! يَا شِقْوَتَي! نعم! فالإيمان ضعيف، وزد على ذلك أنّ القلوب بحبّ الدنيا سقيمة، وإلّا فإنّه يكفي الشكّ مع غياب الإيمان وحتى مجرّد الاحتمال يفي بالغرض.
نَعُوذُ بِاللهِ، والمُشْتَكَى إلى اللهِ، وإلى حَضْرَةِ رَسُولِ اللهِ وحَضْرَةِ أمير المؤمنين وآلِهِمَا الطَّاهِرِينَ، لَا سِيَّمَا إلى خَلِيفَةِ عَصْرِنَا، وإمَامِ زَمَانِنَا، وسُلْطَانِنَا، وسَيِّدِنَا، ومَعَاذِنَا، ومَلَاذِنَا، وعِصْمَتِنَا، ونُورِنَا، وحَيَاتِنَا، وغَايَةِ آمَالِنَا، أرْوَاحُنَا وأرْوَاحُ العَالَمِينَ فِدَاهُمْ صَلَوَاتُ اللهِ عليهم أجْمَعِينَ.... [82]
[1] الآيات 103 إلى 106، من السورة 18: الكهف.
[2] الآية 14، من السورة 27: النمل.
[3] الآية 206، من السورة 2: البقرة.
[4] الآيتان 8 و9، من السورة 7: الأعراف.
[5] «الميزان في تفسير القرآن» ج 13، ص 398 إلى ص 401.
[6] يقول:« لا تقولوا للمدّعي أو تكشفوا له أسرار الحُبّ والنشوة حتى يموت في هَمّ أنانيّته».
[7] يقول:« اعشَقْ، وإلّا فستنتهي مُدة العالَم يوماً دون أن تُدرك مُرادك مِن عالَم الوجود.
و ما أروع ما قاله ذلك الصنم البارحة: ما وجودك مع الكفّار في مجلس واحد إن لم تَكن مِن عابدي الأصنام؟
فبالله عليك يا مَليكي، لقد قَلبت طُرّتكَ السوداء حالي، فإلى متى هذا التجاوز منها؟!
لو كان بالإمكان الركون بسلام في زاوية ما، حتى يُخبرنا نرجسك أسرار النشوة.
و قد رأيتُ اشتعال تلك الفتن ذلك اليوم إذ لم تَجلس معنا مرّة بسبب عِصيانك.
سيتمّ تسليم حُبّك يا حافظ إلى يد الطوفان لأنّك أحسستَ بالكارثة بسبب الغمّ والألم وحوادث الأيام».
« ديوان حافظ» ص 200، رقم 438، طبعة بجمان، سنة 1318 ه-.
[8] ذيل الآية 44، من السورة 41: فصّلت: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وشِفاءٌ والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ.
[9] الآيات 41 إلى 43، من السورة 29: العنكبوت.
[10] الآية 24، من السورة 10: يونس: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ والْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وازَّيَّنَتْ وظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
[11] يقول:« ثمّ جاءت الصيحةُ فجأة، فماتَ الخواجة( السيّد)».
[12] الآيتان 39 و40، من السورة 24: النور.
[13] يقول:« أن روحنا ليست يقظة بالحقّ، لذا أضحت صحوتنا كالسجن.
فالروح تتلقّي الرفسات يومياً من الخيال ومن خوف الزوال وحساب الربح والخسارة».
[14] يقول:« فلا يبقي لها ثمّة لطف ولا صفاء ولا فرح، ولا سبيل للسفر باتّجاه السماء.
إن النائم هو الذي يتعلّق بالأمل من كلّ خيال يخطر له، فيكون قرين ذلك الأمل.
و حين يعود إلى وعيه وحاله الاولى بعد انقضاء الخيال، فيرى ان ذلك الخيال قد جرّ عليه مائة وبال.
فهو يرى السعلاة في المنام كالحوريّة، فيصبّ من فرط الشهوة منيّه.
و حين يريق بذور النسل في أرض بور جرداء، يُفيق فيهرب منه خياله.
و يحسّ بالوهن والصداع ويرى بدنه قذراً، فاهٍ من تلك الصورة النحسة المختفية.
إن الطائر يحلّق في الأعالي وظلّه يعدو على الأرض يتواثب كالطائر».
[15] يقول:« فيأتي أبله ليصيد ذلك الظلّ، ويركض دونما نتيجة ونصيب.
غافلًا أنّه انعكاس للطائر المحلّق في الجوّ، وجاهلًا أين أصل ذلك الظلّ.
فيصوّب سهامه إلى ظلّ الطائر، فتفرغ كنانته في بحثه وتفتيشه.
و لقد انتهى رصيد عمره وولّى العمر وهو يتقلّى لاهثاً لأصطياد الظلّ.
و لو صار ظلُّ الله دليلَ امري، فإنّه يحرّره من الخيال والظلّ( ويقوده إلى الحقيقة وإلى صاحب الظلّ).
إن ظلّ الله هو عبد الله، وهو الميّت في هذا العالم والحيّ عند الله تعالى».
« مثنوي معنوي» ج 1، ص 11، طبعة آقا ميرزا المحموديّ.
[16] الآية 32، من السورة 10: يونس.
[17] الآية 14، من السورة 13: الرعد.
[18] الآية 18، من السورة 14: إبراهيم.
[19] الآية 73، من السورة 22: الحجّ.
[20] الآيتان 29 و30، من السورة 53: النجم.
[21] الآية 52، من السورة 6: الأنعام.
[22] «ديوان أسرار» ص 18 و19.
يقول:« انساقت لنا القلوب، وأغاث الحبيب بفمه الجميل فمنا.
لقد طالت محنتنا، وطال عذابنا، حتى سقط صقر القدس في حبائلنا.
و لقد قدّرت يد الغيب في دار مُلك عالم المعني، ومنذ اللحظة الاولي، أن تكون الدولة بيدنا.
نحن الأصل، أمّا الباقون فهم فروع إشعاعنا، ولو أنكر ذلك مُنكر فليشرب من كأسنا.
لقد توجّهنا إلى أعتاب شيخ المعبد، فصار مقامنا- لذلك- أفضل من العرش».
[23] يقول:« وما عرش السماء بالمقارنة مع عرش القلب؟ وما الكعبة بالمقارنة مع بيتنا الحرام.
لقد أضحت كلّ ذرّة تراب دُرّةً، وكلُّ خشبة عرشاً، حين سقط طائر السعد الملكيّ في شراكنا.
و لما تعالى نداء الفناء من فوق سطحنا، فإنّ أسطح الأفلاك التسعة استعارت بقاءها من بقائنا.
و ليكسر أسرار خوذة السلطان على أمّ رأسه، ليقول بائع الخمر: أنت غلامنا».
[24] يقول:« هلمّوا أيّها العاشقين إلى الحقّ، واطربوا أيّها الأخيار المحسنين.
فإلى متى نهيم على وجوهنا ونتيه في صحراء الضياع وإلى متى نترك الكعبة ونلزم الخمّار.
فإنّ للكون شاهد وناظر في حين نحن في شغل عنه وحيث لا تزال في الكأس جرعة متبقية ولمّا نزل يقظين.
و سنمسك منذ الآن بأذيال الحبيب، وسنسمع له ونطيع».
[25] الآية 110، من السورة 20: طه.
[26] يقول:« لا يُمكنك أن تَصيد العَنقاء مَهما حاولتَ، فارفَع الشباكَ وأزِل المَصائِد، فلَن تَصيد شِباكَكَ إلّا الهَواء».
[27] يقول:« لقد غرقت آلاف السفن في هذه المهلكة، ولم يكن مِن خشبةٍ يتعلّق بها الغريق».
[28] الآية 115، من السورة 2: البقرة: ولِلَّهِ الْمَشْرِقُ والْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ.
[29] يقول:« أن القلب الذي تنوّر بنور المعرفة والصفاء، يري الله في كلّ شيء يقع نظره عليه.
فأينما أنظر أرى صورتك فيه، وهي (أي صورتك) لا تفارق عينيّ».
[30] الآية 54، من السورة 41: فصّلت.
[31] يقول:« قلتُ: سأنعم بوصالك يوماً. قال: انظر جيّداً فلعلّك بلغتَ هدفك».
[32] يقول:« الحبيب أقربُ إلى منّي والعجب أنّني عنه بعيد.
ما العمل، إلى مَن أشكو وأقول: حبيبي ولكنّي أبدو وحيداً».
[33] الآية 53، من السورة 41: فصّلت.
[34] «التوحيد» للصدوق، ص 117، الرواية رقم 20، باب ما جاء في الرؤية، من منشورات مكتبة الصدوق.
[35] روي في« اصول الكافي» ج 1، ص 105، باب النهي عن الجسم والصورة، عن محمّد بن الحسن، عن سهل بن زياد، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع، عن محمّد بن زيد أنّه قال: كنت عند الإمام الرضا عليه السلام فسألته عن التوحيد فأملى على قائلًا: الحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ الأشْيَاءِ إنْشَاءً، ومُبْتَدِعِها ابْتِدَاعاً بِقُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ، لَا مِنْ شَيْءٍ فَيَبْطُلَ الاخْتِرَاعُ، ولَا لِعِلَّةٍ فَلَا يَصِحَّ الابْتِدَاعُ. خَلَقَ مَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ مُتَوَحِّداً بِذَلِكَ لإظْهَارِ حِكْمَتِهِ وحَقيقَةِ رُبُوبِيَّتِهِ. لَا تَضْبُطُهُ العُقُولُ، ولَا تَبْلُغُهُ الأوْهَامُ ولَا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ، ولَا يُحِيطُ بِهِ المِقْدَارُ. عَجَزَتْ دُونَهُ العِبَارَةُ، وكَلَّتْ دُونَهُ الأبْصَارُ، وضَلَّ فِيهِ تَصَارِيفُ الصِّفَاتِ. احْتَجَبَ بِغَيْرِ حِجَابٍ مَحْجُوبٍ، واسْتَتَرَ بِغَيْرِ سِتْرٍ مَسْتُورٍ. عُرِفَ بِغَيْرِ رُؤْيَةٍ، ووُصِفَ بِغَيْرِ صُورَةٍ، ونُعِتَ بِغَيْرِ جِسْمٍ؛ لا إلَهَ إلَّا اللهُ الكَبِيرُ المُتَعَالِ.
[36] يقول:« لا يمكن رؤية قلم الرسّام من سحر الرسم وفتنته؛ وإلّا فإنّ هناك صانعاً لهذا السقف النحاسيّ اللون».
[37] يقول:« أزح الستار عن عينيك حتى يتبيّن لك أن الأحبّة يعبدون ما لا تعبد».
[38] يقول:« آلاف الذرّات تسبح باضطراب في شعاع الشمس وهي لا تدري كنه الشمس».
[39] يقول:« أسأل حبيبي الجالس إلى جواري: أيّها الحبيب، أين الحبيب؟ ونحن نتساءل جميعاً ثملين: أين طريق الحبيب؟».
[40] يقول:« النفس تطلب منّا كأساً ترى فيها العالَم في حين أن الذي تطلبه من الغير هو في يدها.
كاللؤلؤة التي تخرج من صدفتها تنشد ضالّتها من التائهين على ساحل البحر».
[41] يقول:« أن عديم البصيرة كان ينادي ويبحث عن الله، والله معه لكنّه غافل عنه».
[42] «كلماتٌ مكنونةٌ من علوم أهل الحكمة والمعرفة» الكلمة الاولي، من الطبعة الحجريّة،( المظفري سنة 1316 ه-)؛ ومن طبعة شمس فراهاني.
يقول:« يجب أن تمتلك أعيننا عين البصيرة كذلك وأن تقطع الأمل من هذه الدنيا وتترك الطمع جانباً فليس لك العين التي تستطيع رؤيته( أي الله) وإلّا فالله موجود في كلّ مكان».
[43] يقول:« قيل أن سَمكةً كانت تحيا في الماء وكان فكرها قاصراً مثلي.
ما ضايقها صيّاد يوماً من الأيّام ولا وقعت في شباكه أبداً».
[44] يقول:« وما كانت لتعطش أو تجوع أو تلفحها الشمس.
و مع ذلك فقد نفد صبرها وتساءلت عن ما يتساءل عنه الناس وهو: الماء! ولِمَ لا تعرف ماهيّة ذلك الإكسير المنعش أو تستطعمه؟ فإن كان ذلك الجوهر متاع هذا العالم، فَلِمَ يا ربِّ خفي عن عيني؟».
[45] يقول:« في حين أنّها تعيش في خِضَم ما تتساءل عنه، راضيةً مرضيّة ...».
[46] يقول:« إلّا أنّها غفلت عن ذلك بدل أن تشكر( الله) على تلك النعمة؛ فقذفتها الأمواج يوماً نحو الساحِل. وهناك سفعتها حرارة الشمس المحرقة».
[47] يقول:« ويَبس ريقها وسقطت أسيرة الرمال الجافّة الحارّة. وهناك حيث سمعت صوت أمواج البحر الهائج. علمت أنّها كانت مخطئة في ظنّها وغارقة في غفلتها أيّما غرق. فصاحت: آهٍ! الآن عرفت ذلك السرَّ الذي تربطني به آصرة حياتيّة ولولاه ما دخل نفس إلى جوفي. لكن أسفي على ما فَرّطت في جنب الله إذ لم أشكر نعمته تلك وها أنا اليوم بعيدة عن مصدر حياتي كلّ هذا البُعد». كتاب« امدادهاي غيبي در زندگى بشر»-( المدد الغيبيّ في حياة البشر) ص 97.
[48] لقد كانت للمؤلّف، هنا، حاشية وهي:« وهذا المذاق هو صريح كلمات الشيخ الإحسائيّ وتابعيه؛ إلّا أنّهم يُؤَوِّلون أخبار اللقاء والمعرفة على وجه ثانٍ كما سيأتي،
[49] ورد في دعاء ليلة السبت والمنقول في« ربيع الأسابيع»، ضمن الصلوات والدعاء للوجود المبارك لخاتم الرسل: وارزقه نظراً إلى وجهك يوم تحجبه عن المجرمين.
و الجملة التالية موجودة في دعاء يوم الجمعة للصدِّيقة الطاهرة: فاجعلني كأنّي أراك إلى يوم القيامة الذي فيه ألقاك!- منه عفي عنه.( تعليقة).
[50] حسيني طهراني، سيد محمد حسين، معرفة الله، 3جلد، دار المحجة البيضاء - بيروت - لبنان، چاپ: 1، 1420 ه ق.
[51] «اصول الكافي» ج 1، ص 112، باب حدوث الأسماء، الحديث الأوّل؛ و« التوحيد» للصدوق، ص 190 و191، باب أسماء الله تعالى، الحديث الثالث. طبعة مطبعة الصدوق. وورد اللفظ في« التوحيد» هكذا: بِالحُرُوفِ غَيْرُ مَنْعُوتٍ وجاء كذلك: أنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى خَلَقَ اسْماً بِالحُرُوفِ، وهُوَ عَزَّ وجَلَّ بِالحُرُوفِ غَيْرُ مَنْعُوتٍ.
و قال في تعليقه على ذلك: أنَّ عِبَارَةَ: وهُوَ عَزَّ وجَلَّ بِالحُرُوفِ، غير موجودة في نسختَي« الكافي» و« البحار»؛ إلّا أنّها موجودة في نسخ« التوحيد» التي لديّ، وقال المجلسيّ:« أنّ هذه العبارة موجودة في أكثر النسخ. ويبدو أنّها من الاختلافات والعبارات الموضوعة من قبل النسّاخ، الذين علموا بأن هذه الأوصاف لا يمكنها أن تكون صفات الاسم الملفوظ، ونسوا أنّ الأوصاف المذكورة بعد قول الإمام: فَجَعَلَهُ كَلِمَةً تامَّةً هي كذلك ممتنعة عن أن تكون للاسم الملفوظ، مع أنّها بالتأكيد موضوعة للاسم. وعلى هذا، فإنّ المراد من هذا الاسم ليس الاسم الملفوظ ولا الاسم المفهوم؛ بل إنّه عبارة عن حقيقة إبداع الحقّ تعالى لمنشأ ظهور أسمائه وآثار صفاته في الأشياء».
و مَن طلب شرح هذا الحديث فليراجع« بحار الأنوار» وشروحات« الكافي» وتفسير« الميزان» ذيل الآية 180، من سورة الأعراف.
أقول: روي المرحوم الفيض هذا الحديث كذلك في« الوافي» عن« الكافي» ج 1، ص 463 و464، الباب 45، الحديث رقم 1. الطبعة الحروفيّة، إصفهان.
و قد أورد الحقير الحديث المذكور في كتاب« توحيد علمي وعيني»( التوحيد العلميّ والعينيّ) ص 320 و321( بالفارسيّة) من نفس هذه المصادر.
[52] روي أبو نُعَيم الأصفهانيّ في« حلية الأولياء» ج 1، ص 68، بسند متّصل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: لَا تَسُبُّوا عَلِيَّاً فإنَّهُ مَمْسُوسٌ في ذَاتِ اللهِ تعالى!
[53] ورد في جميع النسخ ثلاثمائة اسم في حين كان يجب أن يكون الرقم( ثلاثمائة وستّون)؛ فإمّا أن يكون سبب ذلك سهواً وخطاً وإمّا أن المؤلِّف أراد أن يُفهم معنى الكثرة بهذا المقدار فقط. لأنّ العدد( ثلاثمائة وستّون) قد عُلِم سابقاً.
[54] «اصول الكافي» ج 1، ص 83 إلى 85 باب إطلاق القول بأنّه شيء، في الرواية رقم 6، بسند متّصل عن هشام ابن الحكم عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في جوابه على سؤال الزنديق؛ حتى يصل إلى حيث يقول له السائل: فَقَدْ حَدَّدْتَهُ إذْ أثْبَتَّ وُجُودَهُ! قَالَ أبو عبد الله عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَمْ أحُدُّهُ ولَكِنِّي أثْبَتُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ النَّفْيِ والإثْبَاتِ مَنْزِلَةٌ! قَالَ لَهُ السَّائِلُ: فَلَهُ انِّيَّةٌ ومَائِيَّةٌ؟! إلى آخر الرواية.
[55] صدر الآية 69، من السورة 29: العنكبوت.
[56] ( 1 و2)-« مصباح الشريعة» ص 41، الباب 62، طبع وتعليق المصطفويّ.
[57] ( 1 و2)-« مصباح الشريعة» ص 41، الباب 62، طبع وتعليق المصطفويّ.
[58] «الكلمات المكنونة» ص 219، الطبعة الحجريّة، سنة 1316 هجريّة قمريّة؛ وفي طبعة فراهاني، ص 248: وقالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ( يَعْنِي أمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ):« لَيْسَ العِلْمُ في السَّماءِ فَيَنْزِلَ إليْكُمْ، ولَا في تُخُومِ الأرْضِ فَيَخْرُجَ لَكُمْ؛ ولَكِنَّ العِلْمَ مَجْبُولٌ في قُلوبِكُمْ. تَأدَّبُوا بِآدَابِ الرُّوحَانِيِّينَ يَظْهَرْ لَكُمْ!» وفي كَلَامِ عيسى عَلَى نَبِيِّنَا وآلِهِ وعَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ.
[59] الآية 176، من السورة 7: الأعراف: ولَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ولكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ واتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
[60] الآية 9، من السورة 86: الطارق.
[61] الآية 136، من السورة 4: النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ والْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ والْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ومَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً.
[62] المقصود بعلم الهدى هو السيّد المرتضى، وله كتاب باسم« الأمالي» الذي يدعى ب-« الغرر والدرر»، والمراد به« غرر الفوائد ودرر القلائد» والذي اشير إليه في« الذريعة» ج 16، ص 44؛ ولكن بتفحّص ذلك الكتاب، لا نجد أثراً لتلك المواضيع. بل قد وردت في« الغرر والدرر» للآمديّ: عبد الواحد بن محمّد التميميّ، والذي قام بشرحه المحقّق البارع آقا جمال الخونساريّ؛ وقد ورد الشرح الوافي لها في الجزء 4، ص 218 إلى 221، برقم 5885.
و قد نقل الحقير ذلك في الجزء 3، المجلس 17، في قسم« معرفة المعاد» من سلسلة العلوم والمعارف الإسلاميّة مع ملحق يتضمّن بياناً متيناً للُاستاذ العزيز الفقيد آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس سرّه.
[63] وقبل هذه الفقرة، ورد أنّه سئل أمير المؤمنين عليه السلام عن العالم العلويّ، اي عالم المجرّدات، والذي هو من حيث المنزلة أعلى مرتبة من عالم الأجسام، فأجاب: صُوَرٌ عَارِيَةٌ عَنِ المَوَادِّ، عَالِيَةٌ عَنِ القُوَّةِ والاسْتِعْدَادِ. تَجَلَّى لَهَا فَأشْرَقَتْ، وطَالَعَهَا فَتَلألأتْ، وألْقَى في هُويَّتِهَا مِثَالَهُ فَأظْهَرَ عَنْهَا أفْعَالَهُ.
[64] «روضة الكافي» ص 247، الحديث 347، عن محمّد بن سالم، عن أحمد بن ريّان عن أبيه، عن جميل، عن الإمام.
[65] «مصباح الشريعة»، ص 64، الباب 95.
[66] فيما يخصّ هذا الحديث، فقد أسهبنا في شرحه في الجزء الأوّل من« معرفة الله» في البحثين 9 و10.
[67] شرح« الإشارات» لابن سينا، مقامات العارفين، في الصفحة الثامنة قبل نهاية الكتاب، وهي الصفحة اليمنى، من الطبعة الحجريّة والتي لا تحمل ترقيماً، وجاء في شرح قول المصنّف:
إشارَةٌ: العرفانُ مبتدئٌ من تفريقٍ ونفضٍ وتركٍ ورفضٍ، مُمعِنٌ في جمعٍ هو جمعُ صفاتِ الحقِّ للذَّاتِ المريدةِ بالصِّدقِ، مُنتهٍ إلى الواحدِ ثمَّ وقوفٌ.
[68] «مصباح الشريعة» ص 65، باب 98؛ وجاءت في نسخة العالم الفاضل المصطفويّ، ووَدِّعْ جَمِيعَ المَألُوفَاتِ، ولكنّنا وحسب نسخة المرحوم الملكيّ نقلناها بلفظ ودَعْ.
[69] «علل الشرائع» للصدوق ص 57، طبعة دار إحياء التراث العربيّ، مع مقدّمة للعلّامة السيّد محمّد صادق بحر العلوم، الطبعة الثانية.
[70] وورد في كتاب« نفائس الفنون» ج 2، ص 56 إلى 58 ما يلي:
الفصل السادس: في ظهور حُجُب الروح الإنسانيّة بسبب تعلّقها بالبدن:
قَالَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: أنَّ لِلَّهِ تعالى سَبْعِينَ ألْفَ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ- وظُلْمَةٍ.
ظهور روح حجب الروح الإنسانيّة بواسطة تعلّقها بالبدن
اعلم أنّهم لمّا كانوا قد نسبوا الروح الإنسانيّة إلى عالم القالب والظلمة بعد قربها من الحقّ عزّ وجلّ، وأمرّوها من خلال سبعين ألف عالم، وأرفقوها زبدة وخلاصة كلّ عالم من تلك العوالم، حتى صارت بالقالب الذي هو عليه متلبّسة بسبعين ألف حجاب نورانيّ وظلمانيّ، أمّا الحجب النورانيّة فمنشؤها العالم الروحانيّ، وأمّا الحجب الظلمانيّة، فمنشؤها العالم الجسمانيّ.
فالتفاتها إلى اي شيء في اي من تلك العوالم، وإن كان قد جعلت منها وسيلة للكمال، إلّا أنّها مقارنة مع حال اي منها، إلّا أنّ الروح قد صيّرت كلّ التفاتة حجاباً لها؛ وبسبب تلك الحجب، قد حرمت من رؤية الملكوت، ومشاهدة جمال اللاهوت، ومن لذّة التحدّث إلى الحقّ تعالى شأنه، أو التشرّف بقربه والحظوة بكرامته، فبذلك هوت من قرب أعلى عليّين إلى طبيعة أسفل سافلين.
مع أن الروح كانت تحظى ولآلاف من السنين بشرف القرب في خلوة خاصّة مباشرة من الحقّ تعالى لكنّ الحجب أنستها تلك الحالة تماماً في هذه الأيّام المعدودة، ومتى أرادت أن تتذكّر حالتها تلك، لم تسعفها الذاكرة في ذلك، فها هي قد ابتليت بآفة الحُجب، إذ لم تكن نسّاءه كما هي الحال بها الآن، وما استبدلت إقبال الانس عليها بإدبار الوحشة. وما كانت لتُدعى بالإنسان إلّا لسابق انسها بالحقّ تعالى جلّت عظمته. ولهذا، فحينما يخبر الله عزّ شأنه عن زمان سابق لوجود الآدميّ، فهو يُطلق عليه اسم الإنسان، كقوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً.
فلمّا التحق بهذا العالم ونسي ذلك القرب والانس، حينئذٍ أطلق عليه اسماً آخر يناسبه، حيث قال: يا أَيُّهَا النَّاسُ.
ومن هنا قال للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم: وذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ. اي ذكّر هذا الجمع الذي شُغِل بالدنيا بأيّامٍ كان في حضرته تعالى وفي مقعد صدق عند مليك مقتدر، علّ نوازع الشوق تعتمل في قلوبهم إلى جنابه تعالى فيحزموا أمتعتهم مرّة أخرى شوقاً إلى أصله وحنيناً إلى موطنه الحقيقيّ. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
فإذا هاجت في القلب محبّة ذلك الموطن الأصليّ، فهو عين الإيمان، حيث إنّ: حُبُّ الوَطَنِ مِنَ الإيمَانِ، وإذا رجعوا إلى الموطن الأصليّ، فذاك مقام الإحسان، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وزِيادَةٌ. وإذا تجاوزوا ذلك الموطن الأصليّ، فتلك مرتبة العرفان، والسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. وإذا دخلوا إلى حضرة البارئ عزّ وجلّ، فهي درجة العيان، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ. وما يلي ذلك فلا حدّ للوصف، ولا عالم للبيان. طُوبَى لِمَنْ عَرِفَ مَأوَاهُ ولَمْ يَحْجُبْهُ شَيءٌ عَمَّا وَرَاهُ.
وأمّا إذا هاجت في القلب محبّة ذلك الموطن الأصليّ ولم يبادروا بالرجوع إليه، وشُغف القلب بنعيم هذا العالم، وخُدِع بزخارف وأباطيل الدنيا، فقد استقرّ في سجن سرمديّ وخسران أبديّ، فِي سَمُومٍ وحَمِيمٍ، وظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ ولا كَرِيمٍ.
وأمّا الغرض من وضع الحُجُب فهو للإبقاء على نسل بني آدم وتناظم العالم، فلولا وقوعك في حبائل الحجب، ما انغمست في الامور الدنيويّة وخلدت إلى العالم السفليّ، كما هو ملاحظ عند بعض السالكين، فحين ينزعون الحجاب عنهم أثناء السلوك ويتوجّهون إلى ذلك القرب والشرف الرفيع، ينصرفون إلى عالم القالب من غمرة الفرح وشدّة شوق الكمال، أو يهوون في عالم الحيرة من فرط الغيرة، فيُعرضون عن الدنيا وما فيها، ويتخلّصوا من نير العبادة وعناء الخلوة.- فيا عزيزي! لو قُدّر لي أن أجمع عبارات كهذه صريحة في المعرفة والمحبّة والوصول إلى مقام القرب والوصال المعنويّ لألّفتُ كتاباً في ذلك، لا سيّما في أدعية ومناجاة أئمّة الهدى. وما نقلتُ هاهنا إنّما هي أخبار ذات أسناد موثوقة ومعتبرة وقد أيّدها علماء الإماميّة، وهناك الكثير من هذا القبيل، ومنها مثلًا مقدار ما ورد في الأخبار من تجلّيه جلّ جلاله بالأسماء وبنور العظمة، وفي الأدعية، وأهمّ من ذلك كلّه ما ورد في القرآن الكريم.
فجميع العلماء قرأوا دعاء السمات، وما أكثر ما ورد في الأدعية من عبارات: وارْزُقْنِي النَّظَرَ إلى وَجْهِكَ، وفي بعضها ولَا تَحْرِمْنِي النَّظَرَ إلى وَجْهِكَ الكَرِيمَ. وكذلك ما ورد في المناجاة الخمس عشرة من التصريح
[71] هذا الدعاء من أدعية شهر رجب وهو قد أخرج من الناحية المقدّسة. وقد رواه كلّ من الشيخ الطوسيّ في« مصباح المتهجّد» ص559، الطبعة الحجريّة؛ والشيخ الكفعميّ في الطبعة الحجريّة من كتابه« المصباح». ص529؛ وفي كتاب الأدعية« البلد الأمين» ص 179، الطبعة الحجريّة؛ والسيّد ابن طاووس في« الإقبال» ص 646 الطبعة الحجريّة؛ والعلّامة المجلسيّ في« بحار الأنوار» ج 20، ص 343، الطبعة القديمة( الكمبانيّ).
و قد فنّده العالم المعاصر آية الله المحدّث والخبير في علم الرجال الشيخ محمّد تقي الشوشتريّ رحمة الله عليه في كتاب« الأخبار الدخيلة» ص 263 إلى 265، واعتبره من جملة الافتراءات.
و قد قمنا بتفنيد الأدلّة والشواهد التي استدلّ بها لإثبات تلفيق الدعاء، وذلك أثناء حياته، ولقد أثبتنا بأنّها كلّها واهية. وقد سجّلت كلّ ذلك في إحدى دفاتري في ستّة عشر صفحة من القطع الوزيريّ، لصيانتها من الضياع ونشرها في الوقت المناسب.
و كان أنسب وقت لها هو أن نوردها ضمن شرح كلام آية الله الملكيّ التبريزيّ أعلى الله مقامه، ولكن لأنّ إيرادها ضمن كتاب« معرفة الله» هنا كان غير مناسب، وأنّ هذا الشرح سيشغل حجماً كبيراً، لذا سنرفقه في آخر هذا الكتاب على شكل ملحق صغير. والله المستعان.
[72] أصل هذا الحديث موجود في كتاب« إرشاد القلوب في المواعظ والحِكم» النفيس لمؤلّفه أبي محمّد حسن بن أبي الحسن محمّد الديلميّ، وهو من أعاظم العلماء والمشايخ الزاهدين في القرن السابع. وفي نسخة مكتبة البوذرجمهريّ المصطفويّ، عام 1375 هجريّة جاء في آخر الكتاب الذي يختتم بحديث المعراج يا أحمد، من ص 278 إلى 286؛ وفي نسخة مؤسّسة الأعلميّ- بيروت، في نهاية الجزء الأوّل، من ص 199 إلى 206.
و يرويه المحقّق الملّا محمّد محسن الفيض الكاشانيّ في كتاب« الوافي» ضمن أبواب المواعظ، في باب مواعظ الله سبحانه، ج 3، ص 38 إلى 42، من القطع الرحليّ، الطبعة الحجريّة، باسم أبي محمّد الحسين بن أبي الحسن بن محمّد الديلميّ في كتاب« إرشاد القلوب إلى الصواب» مرسلًا عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، ورواه عن غير الديلميّ أيضاً مسنداً إليه، عن أبيه، عن جدّه أمير المؤمنين عليهم السلام، حيث قال:
سأل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ربّه سبحانه ليلة المعراج قائلًا: يَا رَبِّ! اي الأعْمَالِ أفْضَلُ؟ إلى آخر الحديث، الشيّق والبليغ والمفصّل.
و كذلك رواه العلّامة المجلسيّ في« بحار الأنوار» مجلّد الروضة( ج 17) نسخة الكمبانيّ، ص 6 إلى 9، نقلًا عن« إرشاد القلوب» للديلميّ عن أمير المؤمنين عليه السلام. وعندها يقول المجلسيّ بعد سرد الحديث: لقد عثرتُ على سندين لهذا الحديث، ويقوم بشرح هذين السندين.
[73] «تهذيب الأحكام» ج 6، ص 122.
[74] «تهذيب الأحكام» ج 2، ص 110؛ و« من لا يحضره الفقيه» ج 1، ص 334، من انتشارات مكتبة الصدوق.
[75] عن« الصحيفة العلويّة»، ص 16، الطبعة الحجرية القديمة، وبخطّ فخر الأشراف، وهي من أدعيته عليه السلام في وصف وتعظيم الله سبحانه، ومُستهلّه هو: الحَمْدُ لِلَّهِ أوَّلَ مَحْمُودٍ وآخِرَ مَعْبُودٍ وأقْرَبَ مَوْجُودٍ، البَدِيءِ بِلَا مَعْلُومٍ لأزَلِيَّتِهِ، ولَا آخِرَ لأوَّليَّتِهِ والكَائِنِ قَبْلَ الكَوْنِ بِلَا كِيَانٍ والمَوْجُودِ في كُلِّ مَكَانٍ بِلَا عيَانٍ والقَرِيبِ مِنْ كُلِّ نَجْوَى بِغَيْرِ تَدَانٍ. عَلَنَتْ عِنْدَهُ الغُيُوبُ وضَلَّتْ في عَظَمَتِهِ القُلُوبُ؛ فَلَا الأبْصَارُ تُدْرِكُ عَظَمَتَهُ ولَا القُلُوبُ عَلَى احْتِجَابِهِ تُنْكِرُ مَعْرِفَتَهُ.
تَمَثَّلَ في القُلُوبِ بِغَيْرِ مِثَالٍ تَحُدُّهُ الأوْهَامُ أوْ تُدْرِكُهُ الأحْلَامُ. ثُمَّ جَعَلَ مِنْ نَفْسِهِ دَلِيلًا عَلَى تَكَبُّرِهِ عَلَى الضِّدِّ والنِّدِّ والشَّكْلِ والمِثْلِ، فَالوَحْدَانِيَّةُ آيَةُ الرُّبُوبِيَّةِ، والمَوْتُ الآتِي عَلَى خَلْقِهِ مُخْبِرٌ عَنْ خَلْقِهِ وقُدْرَتِهِ.
إلى آخر الدعاء الذي ينمّ عن مدى جزالته البليغة، والذي يدلّل على وجود الحقّ جلّ وعزّ؛ وخصوصاً هذه الفقرات التي استشهد بها عارفنا المتألّه وعالمنا الصمدانيّ. وأيضاً قوله: وَالكَائِنِ قَبْلَ الكَوْنِ بِلَا كِيَانٍ، والمَوْجُودِ في كُلِّ مَكَانٍ بِلَا عِيَانٍ، والقَرِيبِ مِنْ كُلِّ نَجْوَى بِغَيْرِ تَدَانٍ.
[76] بما أنّ الكلام قد نحي بنا نحو مكاشفة الإمام جعفر الصادق عليه السلام، فمن المناسب هنا أن نقوم بسرد أنواع المكاشفات عن العلّامة شمس الدين محمّد بن محمود الآمليّ الواردة في كتاب« نفائس الفنون» ج 2، ص 62 إلى 65، فهو يقول: الفصل التاسع: في المكاشفات وأنواعها: اعلم أنّ حقيقة الكشف هي خروج الشيء من حجابه بوجه لم يكن مدركاً من قبل على هذا النحو.
و لا شكّ في أنّ السالك الصادق إذا ما توجّه نحو عالم الشريعة بدافع الإرادات من قعر الطبيعة، وآثر جادّة الطريقة على قانون المجاهدة والرياضة بخطى صادقة، فإنّه سيوهب خلال مروره عبر كلّ حجاب من الحجب السبعين ألف ناظرة تناسب ذلك الموقف، وتُكشف له أحوال ذلك المقام، وتتجلّى له معاني المعقول بمقدار ما يرتفع من الحُجُب ويصفو من العقل ويقف على أسرار المعقولات، ويدعون ذلك بالكشف النظريّ ولا يمكن التعويل عليه كثيراً، فليس كلّ ما تراه العينان يمكن الاعتماد عليه والاطمئنان به ما لم يثبت بالتجربة والبرهان.
و توقّف معظم الفلاسفة، من الذين شمّروا عن ساعد الهمّة، على تجريد العقل وإدراك المعقولات وقضوا العمر في ذلك، واعتبروه الطريق إلى الهدف الحقيقيّ. والحقّ أنّه بسبب عدم معرفتهم المقصود الأصليّ، فقد حرموا من المشاهد الأخرى للمدركات وتنكّروا لها، فتاهوا في تيه الضلالة، فضلّوا من قبل وأضلّوا كثيراً.
و إذا اجتاز كشف المعقولات، بانتْ له المكاشفات القلبيّة والتي يُسمّونها بالكشف الشهوديّ؛ وكُشفت هناك أنوار مُتعدّدة، وبعدها تأتي المكاشفات السرّيّة التي يدعونها بالكشف الإلهاميّ، وتتجلّى في هذا المقام جميع أسرار الخليقة وحِكمة وجود كلّ- الأشياء وتَظهر بوضوح. ثمّ تأتي بعدها المكاشفات الروحيّة التي تُسمى بالكشف الروحيّ وتظهر، وتنكشف في أوّل هذا المَقام درجات الجنان وشواهد الرضوان، ومشاهدة الملائكة والتحدّث إليهم.
فلمّا تَصفو الروح تماماً وتنصقل من كلّ كدورات الجسم، تنكشف العوالِم اللامتناهية وتكون دائرة الأزل والأبَد نصب العين، وتزول الحُجُب الزمانيّة والمكانيّة؛ حتى تتمثّل أمامه الموجودات والمراتب منذ بدء الخليقة فيرى كلّ ما سيكون ويحدث في المستقبل. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لَا تَرْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ فَإنِّي أرَاكُمْ مِنْ أمَامِي ومِنْ خَلْفِي.
إن معظم العادات الخارقة والتي يدعونها بالكرامات تظهر في هذا المَقام من جرّاء الإشراف على الخواطر والاطّلاع على الغيبيّات والعبور من فوق النار والماء والهواء وانطواء الأرض وغير ذلك، لكنّ هذا المعنى ليس له كثير اعتبار عند أرباب الحقيقة، لأنّه يُمثّل كذلك ذهنيّة أهل الضلال؛ كما سأل رسول الله صلى الله عليه وآله هذا الصيّاد قائلًا: مَا تَرَي؟! قَالَ: أرَى عَرْشاً عَلَى المَاءِ! فَقَالَ صلى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: ذَاكَ عَرْشُ إبْلِيسَ. وما ورد في الأخبار من أنّ الدجّال سيقوم بإحياء الموتى هو من هذا القبيل. ولا يمكن لغير أهل الدين فَهم حقيقة الكرامات؛ ولا يمكن رؤية ذلك إلّا بعد الكشف الروحيّ في المكاشفات الخفيّة؛ لأنّ المسلم والكافر يمتلكان الروح على السواء. وأمّا الخفيّ فهي روح خاصّة يدعونها بالنور الجلاليّ ولا تُوهَب إلّا إلى خواصّه تعالى؛ كما قال تعالى: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وقال في مطلق الروح: يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده. وقال في حق الرسول صلى الله عليه وآله: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا، اي أنني أهب إلى بعض عبادي نورا جلاليا خاصا حتى يتمكنوا بواسطته من العبور إلى عالم الصفات.
و إذا صار القلب واسطة عالَم المُلك والملكوت، حيث يكون أحد وَجهَيْه نحو عالَم الملكوت والآخر في عالم المُلك، صار قابلًا لفيض النور والعقل والروح وذلك عبر وجهه في عالَم الملكوت، ويوصل بوجهه في عالَم المُلك آثار أنوار الروحانيّات والمعقولات إلى النفس والجسد. ويصير سرّ واسطة عالَم الروح والقلب، حتى يستفيد من الفيض عليها بواسطة ذلك الوجه الموجود في الروح، وإيصال حقائق ذلك الفيض إليها عبر ذلك الوجه الموجود في القلب؛ ويصير الخفيّ كذلك واسطة عالم الصفات الإلهيّة والروحانيّة، حتى يكون قابلًا لمكاشفات الصفات الجلاليّة فيوصل صورة ذلك إلى عالَم الروحانيّة، وهذه كلّها يدعونها بالكشف الصفاتيّ.
و إذا كُشف جلالته في هذه الحال بالصفة العالميّة تمّ الحصول عَلَى العِلْمِ اللَّدُنِّيّ، وأمّا إذا كشفَ بالصفة الجلاليّة كان الفَناء الحقيقيّ، وكذا القياس بالنسبة إلى سائر الصفات. وأمّا الكشف الذاتيّ فهذه أعلى المراتب وأسماها ولا يمكن حصرها بالكلمات والعبارات أو الإشارات. وجَعَلْنَا اللهُ مِنَ الفَائِزِينَ بِهِ.
[77] قد ورد في الحديث القدسيّ عن العلّام الخلّاق أنّه قال: عَبْدِي أطِعْنِي أجْعَلْكَ مِثْلِي! أنَا حَيّ لَا أمُوتُ، أجْعَلُكَ حَيَّاً لَا تَمُوتُ! أنَا غَنِيّ لَا أفْتَقِرُ، أجْعَلُكَ غَنِيّاً لَا تَفْتَقِرُ! أنَا مَهْمَا أشَاءُ يَكُونُ، أجْعَلُكَ مَهْمَا تَشَاءُ يَكُونُ!
و روى كعب الأحبار هذا الحديث بالصيغة التالية: يَا بْنَ آدَمَ! أنَا غَنِيّ لَا أفْتَقِرُ، أطِعْنِي فِيمَا أمَرْتُكَ أجْعَلْكَ غَنِيّاً لَا تَفْتَقِرُ! يَا بْنَ آدَمَ، أنَا حَيّ لَا أمُوتُ؛ أطِعْنِي فِيمَا أمَرْتُكَ أجْعَلْكَ حَيَّاً لَا تَمُوتُ! أنَا أقُولُ لِلشَّيءِ كُنْ فَيَكُونُ؛ أطِعْنِي فِيمَا أمَرْتُكَ تَقُولُ لِلشَّيءِ كُنْ فَيَكُونُ!(« كلمة الله» ص 140؛ وذكر في ص 536 الكُتب التالية كمصادر للحديث: كتاب« عدّة الداعي» لأحمد بن فهد الحلّيّ عن كعب الأحبار، وكتاب« مشارق أنوار اليقين» للحافظ رجب البرسيّ، وكتاب« إرشاد القلوب» للحسن بن محمّد الديلميّ). ويقول في الصفحة 143: ورد في الحديث القدسيّ: أنَّ لِلَّهِ عِبَاداً أطَاعُوهُ فِيمَا أرَادَ فَأطَاعَهُمْ فِيمَا أرَادُوا، يَقُولُونَ لِلشَّيءِ كُنْ فَيَكُونُ.( وفي ص 537 نسب مصدره إلى كتاب« مشارق أنوار اليقين» للحافظ رجب البرسيّ).
[78] يقول:« أن تُعطه الدارين مُلكاً له جُنّ وفسد عقله؛ لكن ما حاجة مَن جُنّ بك إلى تلك الدارين؟».
[79] يقول:« إلهي! لا تُرسلني إلى جنَّتك بعد أن شمل وجودك كلّ شيء وأحاط بجميع ما في الكون».
[80] يقول:« أنّ تراب عتبة بابك( الطاهرة) هو جنّتي، ونور وجهك الوضّاح هو وجودي، وحبُّك قضائي وقَدَري، ورضاك راحتي وهنائي».
[81] «مصباح الفلاح ومفتاح النجاح» للآخوند الملّا محمّد جواد الصافي الكلبايكانيّ، ص 74، الطبعة الحجريّة.
روي في« اصول الكافي» ج 2، ص 84، الحديث رقم( 5)، عن على بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن جميل، عن هارون بن خارجة، عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: [إن] العُبَّادَ ثَلَاثَةٌ*: قَوْمٌ عَبَدُوا اللهَ عَزَّ وجَلَّ خَوْفاً فَتِلْكَ عِبَادَةُ العَبِيدِ، وقَوْمٌ عَبَدُوا اللهَ تَبَارَكَ وتعالى طَلَبَ الثَّوَابِ فَتِلْكَ عِبَادَةُ الاجَرَاءِ، وقَوْمٌ عَبَدُوا اللهَ عَزَّ وجَلَّ حُبَّاً لَهُ فَتِلْكَ عِبَادَةُ الأحْرَارِ؛ وهِيَ أفْضَلُ العِبَادَةِ.
و جاء في« نهج البلاغة» باب الحِكَم، الحكمة رقم 237، ومن طبعة مصر، مطبعة عيسى البابيّ الحلبيّ بشرح الشيخ محمّد عبده، ج 2، ص 189: وقالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وأنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ العَبِيدِ، وأنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الأحْرَارِ. ،- جاء في بعض النسخ:[ العِبَادَةُ ثَلَاثٌ].
[82] هذه الفقرات التي أوردها الحقير آنفاً نقلًا عن كتاب« رسالة في لقاء الله» لآية الحقّ وسند العرفان المرحوم آية الله الميرزا جواد آقا الملكيّ التبريزيّ أعلى الله درجاته السامية، هي ما جاء في النسخة الخطّيّة التي استنسخها الحقير أيّام دراستي الدينيّة في البلدة الطيّبة قم في عام 1368 ه- حيث إنّنا في العام 1415، اي قد مضى على ذلك 47 عاماً، والحقّ أنّ هذه العبارات وبقيّة ما تتضمّنه الرسالة والتي تنمّ عن نفس جيّاشة وحسرة حارقة ونيّة أصيلة للفقيد؛ هي ذات دفع وتأثير بليغين، وأنّ مطالعتها والتأمّل في محتوياتها من قبل السالكين في سبيل الله ضروريّ.
خلال إقامتي أنا الحقير في النجف الأشرف لغرض الدراسة، كنتُ اطالع هذه الرسالة، وأغرف من بحرها الواسع.
ذات يوم استضفتُ أحد علماء الكاظميّة الذي كانت تربطني به صلة الرحم، وكان- قد جاء إلى النجف في زيارة خاصّة، فتباحثنا في مسألة توحيد الحقّ تعالى، فاستشهدتُ أثناء كلامي بحديث: لَا مُؤَثِّرَ في الوُجُودِ إلَّا اللهُ. فقال: لا وجود لهذا الحديث!
فقلتُ: لا بأس، لا يوجد مثل هذا الحديث، ولكن أ ليس مضمونه، حيث إنّه من كلام أحد الحكماء، نابعاً من أساس وجذور الآيات والأحاديث؟ وأضفتُ: يُستحسن أن تقرأ« رسالة في لقاء الله» التي استنسختها- أنا الحقير- بيديّ حتى يتسنّى لك إدراك جوهر المسألة!
فقال: كثيراً ما بحثتُ عنها ولكن لم أعثر عليها.
فأعطيته الرسالة التي في حوزتي على أن يطالعها في مدّة اسبوع. فسافر إلى الكاظميّة وبحوزته الرسالة، وفي سفرة أخرى له إلى النجف الأشرف سألته: كيف وجدت الرسالة؟
فقال: متى ما تصفّحتُ تلك الرسالة، جرى الدمع منّي حتى أنتهى من مطالعتها.
نعم، أنّ هذه الرسالة أوّل ما طبعت على يد السيّد الحاجّ ميرزا خليل الكمرهاى، وقد شابها التحريف والإضافة. وبعد ذلك تمّ تصوير تلك النسخة المطبوعة، وطبعت بعد حذف بعض الملحقات منها وإدخال التحريف في المحتوى؛ وبعد ذلك نشرها السيّد أحمد الفهريّ وذلك بإضافة مقالة آية الله الخمينيّ قدّس سرّه إليها، وذلك في سلسلة منشورات« نهضت زنان مسلمان»( نهضة النساء المسلمات) وما حوته هذه الطبعة من التحريف يعجز اللسان عن وصفه.
و في عام 1405 ه-. ق، قامت مؤسّسة( انتشارات هجرت) بطبعها، ومع كونها أصحّ ممّا سبقها من الطبعات، إلّا أنّها لم تخلو من التحريف ويأتي هذا بسبب النسخ المطبوعة التي كان لها تأثير جليّ على طباعتها.
و أرجو من الله أن يوفّقني أو آخرين غيري لطبع النسخة الأصليّة كما هي بدون زيادة أو نقصان. والله المستعان.
الاكثر قراءة في التوحيد
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
