تقليد قديم وآخر جديد: نظرية الكم بين الفلسفة والفيزياء
المؤلف:
فيرنر هايزنبرج
المصدر:
الفيزياء والفلسفة ـ ثورة في العلم الحديث
الجزء والصفحة:
ص 33
2025-05-18
445
عندما نتحدث اليوم عن الفيزياء الحديثة فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا الأسلحة الذرية حيث يدرك الجميع التأثير الهائل لهذه الأسلحة على البناء السياسي لعالمنا المعاصر، ومن ثم لا بد من أن نعترف طواعية أن تأثير الفيزياء على الوضع العام أعظم من أي وقت مضى. ولكن هل كان حقا المظهر السياسي للفيزياء الحديثة هو الأكثر أهمية؟ عندما يكيف العالم بنائه السياسي ذاتــــه بالإمكانيات التقنية الجديدة، فما الذي يتبقى إذن من الفيزياء الحديثة؟
للإجابة عن هذين السؤالين، يجب أن نتذكر أن كل أداة تحمل في طياتها الروح التي خلقت من أجلها حيث تهتم كل أمة من الأمم وكل جماعة سياسية بالأسلحة الجديدة بطريقة ما، بغض النظر عن الموقع والتقليد الثقافي لهذه الجماعة أو تلك، وأن روح الفيزياء الحديثة ستخترق عقول الكثيرين من الناس، وستربط نفسها بالتقاليد الأكثر قدما بطرق مختلفة. فما نتيجة تأثير فرع متخصص في العلوم الحديثة على مختلف التقاليد القديمة التي تحمل نفوذا ما؟ فقد وجهت تلك المناطق من العالم، التي تطور بها العلم الحديث منذ أمد بعيد، اهتمامها الأساسي تجـاه النشاط العملي، الصناعة والهندسة، إضافة إلى التحليل العقلاني للشروط الخارجية والداخلية لكل نشاط حيث وجد هؤلاء الشعوب أنه من السهولة بمكان أن يتعاملوا مع الأفكار الجديدة بمجرد أن يكون لديهم الوقت لكي يتكيفوا ببطء وبشكل تدريجي مع مناهج التفكير العلمي الحديثة. في حين يتم التصدي لهذه الأفكار في مناطق أخرى من العالم من قبل الأسس الدينية والفلسفية للثقافة المحلية. في حقيقة الأمر، تلمس نتائج الفيزياء الحديثة تصورات أساسية مثل الواقع والمكان والزمان، وهذه المجابهة ربما تؤدي إلى تطورات جديدة تماما لا يمكن التنبؤ بها فيما بعد.
هناك سمة مميزة لهذا اللقاء بين العلم الحديث ومناهج التفكير القديمة، وهي الطابع العالمي، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. فثمة نوع من تبادل الأفكار بــين الجانبين في مناطق مختلفة من العالم بحيث تكون متباينة في جانب منه، وهو التقليد القديم، وتكون واحدة في مكان آخر، وبالتالي تمتد نتائج هذا التبادل لكــل المناطق التي يحتدم فيها النقاش لهذه الأسباب ربما من المفيد أن نحاول مناقشة أفكار الفيزياء الحديثة بلغة غير تقنية، وأن ندرس نتائجها الفلسفية، وأن نقارنها ببعض التقاليد الأقدم عهدا. ربما أفضل وسيلة لطرق مشكلات الفيزياء الحديثة هي الوصف التاريخي لتطور نظرية الكم. صحيح أن نظرية الكم لا تمثل سوى قطاع صغير من الفيزياء الذرية، وأن الفيزياء الذرية من ناحية أخرى، تمثل قطاعا صغيرا للغاية من العلم الحديث. ومع ذلك فإن معظم التغيرات الجوهرية التي حدثت في نظرية الكم، خاصة في مفهوم الواقع، أدى إلى التركيز على الأفكار الجديدة للفيزياء الذرية وبلورتها في نظرية الكم في صورتها النهائية. إن الأجهزة التجريبية الضخمة وبالغة التعقيد الضرورية للبحث في الفيزياء النووية، تظهر جانبا آخر من الجوانب المؤثرة لهذا الجزء من العلم الحديث. أما فيما يتعلق بالتقنية التجريبية، فإن الفيزياء النووية تمثل الامتداد المتطرف لمنهج البحث الذي حدد نمو العلم الحديث منذ هاجينز Huyghens أو فولتا Volta أو فارادي .Faraday بهذا المعنى، ربما كانت التعقيدات الرياضياتية في بعض أجزاء نظرية الكم، هي التي أدت إلى النتيجة المتطرفة لمناهج نيوتن Newton أو جاوس Gauss أو ماكسويل Maxwell غير أن التغير الذي طرأ على مفهوم الواقع يكشف عن ذاته في نظرية الكم لا باعتباره استمرارا بسيطا للماضي، بل أنه قطيعة حقيقية في بنية العلم الحديث.
الاكثر قراءة في ميكانيكا الكم
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة