اساسيات الاعلام
الاعلام
اللغة الاعلامية
اخلاقيات الاعلام
اقتصاديات الاعلام
التربية الاعلامية
الادارة والتخطيط الاعلامي
الاعلام المتخصص
الاعلام الدولي
رأي عام
الدعاية والحرب النفسية
التصوير
المعلوماتية
الإخراج
الإخراج الاذاعي والتلفزيوني
الإخراج الصحفي
مناهج البحث الاعلامي
وسائل الاتصال الجماهيري
علم النفس الاعلامي
مصطلحات أعلامية
الإعلان
السمعية والمرئية
التلفزيون
الاذاعة
اعداد وتقديم البرامج
الاستديو
الدراما
صوت والقاء
تحرير اذاعي
تقنيات اذاعية وتلفزيونية
صحافة اذاعية
فن المقابلة
فن المراسلة
سيناريو
اعلام جديد
الخبر الاذاعي
الصحافة
الصحف
المجلات
وكالات الأنباء
التحرير الصحفي
فن الخبر
التقرير الصحفي
التحرير
تاريخ الصحافة
الصحافة الالكترونية
المقال الصحفي
التحقيقات الصحفية
صحافة عربية
العلاقات العامة
العلاقات العامة
استراتيجيات العلاقات العامة وبرامجها
التطبيقات الميدانية للعلاقات العامة
العلاقات العامة التسويقية
العلاقات العامة الدولية
العلاقات العامة النوعية
العلاقات العامة الرقمية
الكتابة للعلاقات العامة
حملات العلاقات العامة
ادارة العلاقات العامة
إشكاليات أخلاقية في ممارسات الإعلام الدولي
المؤلف:
الدكتور بطرس حلاق
المصدر:
الإعلام والإتصال الدولي
الجزء والصفحة:
ص 131-138
2025-06-09
99
إشكاليات أخلاقية في ممارسات الإعلام الدولي
أفرزت معطيات البيئة الجديدة للإعلام كثيراً من التحديات التي سيكون لها انعكاسات بالغة التأثير في النسيج الثقافي والسياسي والاقتصادي للمجتمعات، كما إن تلك المعطيات ستعمل على تفعيل بعض القضايا الجوهرية التي كنا ولا زلنا نعاني منها مثل قضايا التبعية الإعلامية والتغريب الثقافي، وسيتسع بذلك مدى الفجوة الاتصالية بين العالمين النامي والمتقدم الذي يمتلك التقنية المتطورة ويمتلك الإمكانات المادية والفنية والبشرية الهائلة في مجال التدفق الاتصالي والإعلامي.
ومن أهم الإشكاليات الأخلاقية الرئيسية في ممارسات الإعلام المعاصر:
- إشكالية البنية الاتصالية، ويتجسد هذا التحدي في احتكار دول الغرب وهيمنة شركاتها الضخمة على البنى الأساسية للاتصال الدولي.
- إشكالية القوالب الفنية للإنتاج الإعلامي، ويتمثل هذا التحدي في طغيان الفن التلفزيوني على بقية الفنون الإعلامية وما ينتج عن ذلك من تزايد استخدام الأسلوب التلفزيوني في التعامل مع الأحداث والقضايا والموضوعات التي تتناولها وسائل الإعلام المختلفة.
- إشكالية الدوافع والمعايير التي تتحكم في المادة الإعلامية إذ أن التحول المتنامي من الإعلام الحكومي إلى الإعلام الخاص سيعلي - دون ريب- من الاعتبارات التسويقية والمعايير الاستهلاكية ويجعل المادة الإعلامية خاضعة لتلك الاعتبارات والمعايير على نحو متزايد.
- إشكالية المحتوى الإعلامي، إذ ستتحكم حلقات التغريب الثقافي الذي لا يطال مجتمعاتنا العربية فحسب بل يطال المجتمعات الإنسانية الأخرى أيضاً. وبذلك ستتيح البيئة الجديدة للإعلام الدولي مزيداً من الفرص لتسيدّ "ثقافة التغريب" وضمور الثقافات الأخرى.
أولاً- إشكالية الهيمنة على البنى والصناعات الاتصالية
لقد أدت التغيرات الجديدة في البيئة الاتصالية والإعلامية الدولية إلى تكريس واقع الهيمنة الغربية على معطيات الإعلام وتوسيع نطاقها وتشديد قبضتها ولا تقتصر هذه الهيمنة على بعد واحد يتعلق بالإنتاج الإعلامي فحسب، بل هي هيمنة ذات أبعاد متعددة.
- ففي مجال البنى التحتية والصناعات الاتصالية يسيطر الغرب على جزء كبير من صناعة أدوات الاتصال والوسائل الإعلامية، كما تحتكر الشركات الأوروبية والأمريكية معظم أوقات الأقمار الصناعية. في العالم العربي مثلاً نلاحظ تدني الصناعة الاتصالية وارتفاع الاستيراد بنسبة قد تصل إلى أكثر من 85% من الاحتياجات العربية، أما نسبة العاملين في هذه الصناعة فهي لا تصل إلى 5% ولم يحقق العالم العربي فرصاً كبيرةً للعمل الإعلامي والصناعات ذات العلاقة بالتلفزة المسموعة والمرئية أو في أجهزة الالتقاط وعموم وسائط الطباعة من ورق وصناعات لها صلة بهذا المجال قياسا بالاستثمارات العالمية.
- أما في مجال الإنتاج الإعلامي فلا تزال وكالات الأنباء الغربية الأربع الرئيسية وهي (رويترز) ووكالة الصحافة الفرنسية (AFP) والأسوشييتد برس (AP) واليونايتد برس انترناشيونال (UPI) تتحكم في توزيع ما يقرب من 90% من الأخبار في العالم. وتسيطر الولايات المتحدة الأمريكية وحدها على ما نسبته 40% من الإنتاج التلفزيوني والسينمائي في السوق العالمية. وهو ما يعتبر من حيث التصدير في المرتبة الثانية بعد قطاع الطيران والفضاء في أمريكا.
ومن الطبيعي أن تكون ثمرة هذه الهيمنة الإعلامية رواج النمط الأمريكي في الحياة وتسليط الأضواء على النموذج الأمريكي سياسياً واقتصادياً. ومن هنا قال "بريجنسكي" المسؤول عن الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس كارتر في كتابه "بين عصرين": "إن أساس العظمة الأمريكية يكمن في هيمنتها على سوق الاتصالات العالمية التي توجد ثقافة شعبية يتم احتذاؤها سياسياً".
ثانياً - إشكالية القولبة التلفزيونية للإنتاج الإعلامي
فرضت التطورات المذهلة في تقنيات التلفزيون وتزاوجها مع تقنيات الكمبيوتر والأقمار الصناعية تغيرات جذرية في مجال الأساليب الإعلامية لمعالجة القضايا والأحداث والموضوعات التي تهم الجماهير. وتبدو الغلبة الآن للقوالب التلفزيونية ومن هنا بات الكثيرون يتساءلون: هل انتهى عصر الكلمة المطبوعة؟
من الملحوظ في المجتمعات التي طغى فيها التلفزيون تراجع الإقبال على المطبوعات بصورة متزايدة ففي الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تزيد نسبة الأمية فيها عن 13 تبلغ نسبة مطالعي الصحف أقل من %40 من الأمريكيين بينما يجلس الأمريكيون بمعدل 7 ساعات يومياً أمام أجهزة التلفزيون.
وتشهد المجتمعات المتقدمة في الآونة الأخيرة انهيار عدد من المؤسسات الصحفية الكبيرة إما بطرحها للبيع ونقل ملكيتها أو إعلان إفلاسها وإغلاقها. فخلال الأعوام الثلاثة من 1998م إلى 2002م تم نقل ملكية ما لا يقل عن 300 مطبوعة هامة، وبحسب أرقام "الاتحاد الدولي لناشري الصحف" فإن أهم أسباب انهيار الصحف وإفلاسها يكمن في انخفاض معدلات التوزيع وانحسار حصيلة الإعلانات، إضافة
إلى بعض العوامل الأخرى مثل ارتفاع أسعار الورق وغيرها. ففي مجال التوزيع تراجعت معدلات توزیع الصحف بصورة سريعة في الدول الصناعية الكبرى بنسبة 2.6% في الولايات المتحدة، و1.17% في اليابان و9.5% في استراليا. كما تراجعت معدلات إيرادات الإعلانات عالمياً في العام 2002م بنسبة %6.6 مقابل 6% في العام الذي قبله.
ولذلك لم يعد عجباً أن تحاول الصناعة الصحفية المطبوعة البحث عن أساليب جديدة للتكيف مع هذه الحقيقة المتمثلة في منافسة القالب التلفزيوني وسرقته لجماهير الكلمة المطبوعة. إن الراديو والصحيفة کلاهما يحاولان تقليد التلفزيون سواء بنشرات أخباره أم ببرامجه وتحقيقاته، فالجريدة اليومية على سبيل المثال تجتهد على طريقة التلفزيون، أن تكون أخبارها قصيرة ومكثفة وسريعة ومفهومة وواضحة وتجهد أن يكون ورقها مصقولاً وتحاليلها سهلة كما تجتهد إلى إن تستعمل الأساليب التي تأسر الأعين وتشدها إلى الموضوع، وذلك باستعمال العناوين التي تستنفر القارئ واستعمال الصور وإلى جانبها جمل معبرة وفقرات كتابية قصيرة ومداخل مجمعة وملخصة لمضمون الخبر وأخرى مرقمة وموضحة لرؤوس الأفكار.
وفعل المشاهدة الذي يمارسه الفرد مع التلفزيون هو فعل سلبي وسطحي لا يدخل أعماق الرسالة المبثوثة، من جهة ولا يمتصها إلى أعماق الذات المستقبلة من جهة ثانية، ولذا فإن علاقة الفرد مع ما يشاهده في التلفزيون هي علاقة هشة سريعة الزوال وسريعة التبدل، ويبدو أن الحال نفسه الصحف مع بحيث أن الفرد يمارس النظر في الصحف وكأنه يطالع شاشة التلفزيون ولذا فإن القراءة ليست قراءة فعلية ولا تحقق أي مستوى من المقروئية التي يمارسها الأفراد مع الكتب مثلاً. وهذا يجعل تفاعل المرء مع قراءة كتاب يختلف عن تفاعله مع قراءته لجريدة، وذلك لأنه (يشاهد) الجريدة وليس (يقرؤها). ولقد خضعت الجرائد لهذا الحس وراحت تتشبه بالتلفزيون وعملت ما يشبه "تلفزة الصفحة" أي جعل الصفحة بمثابة شاشة فضية ملونة وانطوت على حركة وحركات تتولد عن الألوان والعناوين السريعة اللافتة مما يسمى بفنون الإخراج الصحفي الحديث.
ويندرج في هذا السياق اتجاه الصناعة الصحفية إلى دخول ميدان ما سمى بـ "الصحافة الالكترونية" وقد قامت مجلة "تايم" الأمريكية ببث أعدادها على خط المعلومات الفورية إلى الكمبيوترات الشخصية للقراء المشتركين فيها. وتتيح الطبعة الإلكترونية أن يتلقى القراء مواد المجلة على شاشة الكمبيوتر "ساخنة" قبل يوم من نزولها في الأسواق. كما تتيح المجلة التي يطلق عليها اسم "تايم" المتفاعلة Interactive Time الفرصة لقرائها لإبداء الرأي ونشره في النشرة الإلكترونية. ويعقد محرر موضوع غلاف" تايم "في كل أسبوع ندوة مفتوحة مع القراء لتبادل الآراء التي تبث إلى الكمبيوترات الشخصية للمشتركين فوراً.
ويتوقع الخبراء أن تتطور صحيفة المستقبل الإلكترونية لتتمكن من تقديم أخبار وتحليلات مكتوبة مصحوبة بصور فيديو للأحداث العامة. ويعتقد أستاذ الاتصالات في جامعة فليتشر الأمريكية (راسل نيومان) أن هذا سيكون تحولاً ثقافياً هائلاً وكان (نيومان) قد أبلغ الناشرين في مؤتمر لاتحاد الصحف الأمريكية أن "التقنية الحديثة" تجعل من النهاية المحتملة للصحف التقليدية أمراً لا مفر منه.
وبذلك يمكننا القول - دون تردد - أننا نعيش في حقبة مميزة من حقب العصر الإعلامي يمكن أن نطلق عليها "حقبة التلفزيون". وتشتد مشكلة العالم النامي - وعالمنا العربي جزء منه - مع التلفزيون للأسباب التالية:
- السبب الأول: استعداد مجتمعاتنا لتقبل الانتشار التلفزيوني الكاسح أكبر بكثير من استعداد أهل البلدان الصناعية الغربية. ويعود السبب الأول لهذا الاستعداد إلى نسبة الأمية المرتفعة في مجتمعات العالم الثالث من متعلمين وغير متعلمين.
- السبب الثاني: ضعف تقاليد القراءة غير المدرسية في القسم الكبير من دول الجنوب ويؤدي هذا الاستعداد الكبير لتقبل التلفزيون إلى اتخاذ الوعي "شكلاً - سمعياً - بصرياً. فالمصداقية المعرفية مرتبطة عند عامة الناس بما يشاهدونه أولاً يشاهدونه على الشاشة الصغيرة لدرجة أن الواقع الفعلي في وعي الفرد الحالي يكاد يتماشى مع "الواقع" المصوّر والمركب الذي ينقله البرنامج التلفزيوني"
ثالثاً - إشكالية " طغيان "إعلام السوق" والطفرة التكنولوجية:
أدى خضوع العمل الإعلامي للمنافسة التجارية إلى غلبة المواد الإعلامية الاستهلاكية التي تتسم بالسطحية والرداءة وبخاصة في القنوات التلفزيونية. وقد امتد تأثير النزعة التجارية من الإعلام الخاص إلى الإعلام العام أيضاً إذ اضطرت كثير من مؤسسات الإعلام العامة إلى الدخول في منافسة مع المؤسسات الخاصة حتى تحافظ على قدر من جماهيرها وتأثيرها فتنازلت نسبياً عن توجهاتها الثقافية والتوجيهية رغبةً في الوصول إلى الجماهيرية التي تؤهلها للمنافسة ومع رغبة مراكز الإنتاج في مواجهة الاحتياجات المتزايدة للمادة الإعلامية والثقافية واضطرارها للتعامل مع كل الثقافات العالية منها والمتدنية، نجدها تلجأ إلى الحد الأدنى الثقافي الذي يتلاءم مع الجميع، وهو ما يعني بالضرورة البعد عن المستويات الثقافية التي تتلاءم مع تطور المجتمع وتحقق طموحاته.
وكان لذلك أثره أيضاً في الأخبار ولذلك يحق لنا أن نتساءل: إذا كانت اعتبارات السوق والمنافسة على جذب اهتمام المستهلك الإعلامي هي التي تحدد القيمة الخبرية فكيف نقنع وسائل الإعلام بإعطاء التغطية اللازمة لأحداث لها أهميتها الإنسانية والسياسية ولكنها ليست أخباراً تبيع؟
فالعالم اليوم تحول من عهد "الإعلام المسيس" الذي كانت السياسة وتوجهاتها ودوافعها هي الصفة الأساسية المميزة له إلى عهد إعلام السوق والطفرة التكنولوجية، ويقول ( هربرت أ. شيللر)- في كتابه "المتلاعبون بالعقول" "لقد أنتجت التقنيات العادية للسوق بنية صناعية في وسائل الإعلام لا تختلف في شيء عما يناظرها في قطاعات النشاط التجاري الصناعي الأخرى". وباختصار نقول: إن وسائل الإعلام خاصة الإذاعة والتلفاز، تمثل مشروعات تجارية عالية الربحية. ومن بين كل أجهزة الإعلام، باختلاف درجات ربحيتها، يعد التلفاز آلة هائلة لجمع المال.
لقد تحوّل الإعلاميون في عهد إعلام السوق - إلى "رجال بيع" ولم يقتصر ذلك على معدّي البرامج الاستهلاكية وصناع المواد الإعلامية المنوعة، بل إن مذيعي الأخبار والمعلقين السياسيين أيضاً أصبحوا كذلك فالمنافسة قائمة على جذب جمهور المشاهدين لمتابعة الأخبار تماماً كما هي قائمة في كل البرامج الأخرى نظراً لأنه يتعين بيع الإعلانات لتعزيز وضع "البرنامج". والنتيجة الحتمية لذلك البحث الدائب والمستمر من جانب معدي البرامج عن الإثارة والتشويق والحركة في تغطية الأحداث. فأين تتوفر الفرصة المواتية لذلك بأكثر مما يوفرها الكم الكبير من الأحداث اليومية الفاجعة في عصرنا هذا؟
إن المقومين الأساسين اللذين يقوم عليها إعلام السوق هما الدافع التجاري والاختيار الذاتي، وبذلك فإن الاتجاه المتزايد نحو المواد الإعلامية الحافلة بالإثارة والمشحونة بالدراما حتى في المواد الإخبارية إنما هو استجابة طبيعية لمتطلبات السوق التجارية. تقول الدكتور جيهان رشتي: إن الأخبار هي مجرد سلعة تجارية تعرض للبيع، وهذه السلعة يسهل ترويجها أو تسويقها كلما كانت غير مألوفة أو تتسم بطابع درامي. وعلى هذا الأساس كثيراً ما تضخم الأحداث أضعافاً مضاعفة ليس فقط لجذب القراء والمستمعين وإرضاء توقعاتهم أو لخدمة أغراض سياسية، بل أيضاً لخدمة أهداف تجارية. فهذا التضخيم سيزيد من مبيعات الصحف ويزيد جمهور الراديو والتلفزيون.
أما الطفرة التكنولوجية التي حققتها وسائل الاتصال الحديثة فقد كان لها أيضاً دور بارز في تشكيل الطريقة التي تنتهجها وسائل الإعلام في تناول الأحداث والقضايا. فوسائل الإعلام "تغرقنا في طوفان الأحداث". أحداث تفرض -علينا - سواء أكانت حقيقية واقعية أم مركبة وخيالية أن نتفرج عليها كمشاهدين لا قبل لنا على غربلتها أو تمحيصها فإما أن نقبلها برمتها أو نرفضها، برمتها، والأغلب أننا نقبلها برمتها لأنها أحداث اليوم الذي نعيشه والأسبوع الذي ننتظر نهايته والشهر الذي نتحرق لنهايته. ومنذ لحظة القبول هذه يستسلم الفرد لمنتجي الحدث ولمقدميه وعارضيه واستسلامه هو نوع من الاستسلام للواقع الذي تفبركه وسائل الاتصال الحديثة وتقنياتها المتطورة، لا الواقع الحقيقي. والسبب أن كثرة الأحداث المعروضة وفيضها لا يسمحان بالتحقيق من أي حدث".
إنّ الطريقة التي تقدم بها وسائل الإعلام الحديثة موادها وأخبارها تترك آثارها العميقة في رؤية الفرد وإدراكه للأشياء والأحداث من حوله، إنها تصنع له واقعاً صورياً مما تنشئ لديه انفصاماً في الإدراك، فمن جهة هناك عالم واقعي يصعب فهمه والتحكم فيه وهناك من جهة أخرى عالم صوري يحمل الانفعال إلى حده الأقصى من حيث قوته أو ضعفه وإذا نظر الناس إلى صورة الإعلام وجدوها تضعهم في أجواء مفاهيم لا ارتباط لها بواقعهم اليومي وإنما لها ارتباط بالعالم الذي تصنعه الدعاية، العالم المليء بالنجاح والشهرة والمال ورجال الأعمال والحياة السهلة والأكل السريع والرخاء الدائم.
رابعاً: إشكالية اختراق الهويات و"تغريب" الثقافات:
لا يخطئ المتأمل في المحتوى الثقافي الذي تقدمه وسائل الإعلام المعاصرة ملاحظة الميل القوي في الغالبية الساحقة من ذلك المحتوى إلى تذويب الهويات الحضارية للأمم والشعوب التي لا تنتمي إلى الحضارة الغربية والتهوين من شأن ثقافاتها الذاتية بشتى الطرق والأساليب وبالمقابل يركز المحتوى الإعلامي المعاصر على تقديم الثقافة الغربية بوصفها الثقافة الإنسانية التي لابد أن تهيمن وتسود وقد ساعد الغرب في تحقيق هذا الهدف احتكاره للتكنولوجيا الإعلامية. وقد ورد سابقاً قول "بريجنسكي" التي ربط فيها بين الهيمنة الأمريكية على سوق الاتصالات العالمية وبين الترويج للثقافة الغربية واعتبر ذلك أساس العظمة الأمريكية، حيث أمكن لها أن تسود وتهيمن وتفرض على غيرها صفتها المستعارة "كثقافة عالمية" بسبب ثورة تكنولوجيا الإعلام الضخمة المتحققة في العقدين الأخيرين والتي أتاحت اختراق السيادة الثقافية.
والاختراق الثقافي الغربي للمجتمعات غير الغربية عبر وسائل الإعلام ليس أمراً جديداً، بل هو قديم وقد بدأ مع استيراد هذه المجتمعات للنظم الغربية في الاتصال والبرامج والمواد الإعلامية وتقليدها للمدارس الغربية في تأهيل إعلامييها واعتمادها على نتائج البحوث والدراسات التي أجريت في الغرب والنظريات التي عكست طبيعة البيئة الغربية وتطورها عبر العصور.
إن ما أسماه الباحث الاجتماعي "توماس ماك فيل" "الإمبريالية الإلكترونية" غدت ظاهرة واضحة القسمات في كثير من مجتمعاتنا. وهذه الظاهرة - كما يشرحها "ماك فيل" تتمثل في علاقة التبعية التي تأسست باستيراد معدات الاتصال والبرامج الأجنبية ومعها المهندسين والفنيين وما يتعلق بها من بروتوكولات ومعلومات، وذلك بخلق الأسس لمجموعة من المعايير والقيم الأجنبية والتوقعات التي يمكن أن تغير الثقافة المحلية وعمليات التنشئة الاجتماعية إلى درجات مختلفة، فالاستيراد يتنوع من الكتب الهزلية إلى الأقمار الصناعية ومن الكمبيوتر إلى الليزر ، وبجانبها المنتجات الأكثر تقليدية مثل البرامج الإذاعية المرئية والمسرح وأشرطة السينما وخدمات البرق وعروض الإذاعة".
ولكن الجديد الآن هو أن التطورات الهائلة التي حدثت في تكنولوجيا الاتصال والتغييرات الكبيرة التي أصابت البني التحتية للاتصالات في المجتمع المعاصر أسهمت في توسيع وتعميق مساحات ذلك الاختراق الثقافي الغربي في حياة الأمم والشعوب في كل مكان، وبذلك يمكننا أن نقول إنّ البيئة الجديدة للاتصال الدولي نقلت التغريب الثقافي من كونه مجرد حركة تؤثر في النخبة ذات النطاق المحدود إلى كونه حركة تؤثر في "الجماهير" العريضة في المنزل والشارع والمكتب والمتجر والمدرسة فضلاً عن المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفاعلة والمؤثرة في الحياة العامة.
إنّ الاختراق الثقافي المتمثل في رغبة قوى عديدة في أوساط الغرب في فرض ثقافة "التغريب" "وعولمتها" حقيقة لا مجال لإنكارها، وفيما يسمى بعضنا هذا الاختراق "غزواً ثقافياً" يعترض آخرون لأن الغزو يقتضي وجود قصد الغزو لدى الغازي. ويقول هؤلاء إنّ كثيراً مما يطلق عليه "غزو ثقافي" نجلبه نحن بأنفسنا بل ونفضله على غيره ونقبل عليه بنهم وشهية، ويرى فريق ثالث أن ما كان "غزواً ثقافياً" في الماضي تحوّل الآن إلى ما يشبه "الاستلاب" أو حتى "الانسلاب الثقافي" الذي ينجذب فيه الطرف الأضعف إلى الطرف الأقوى ويحاول تقليده واحتذاء طرائقه وأساليب حياته.
ومهما يكن المصطلح الدال على الظاهرة التي يعيش فيها كثير من المجتمعات المعاصرة- وليس العربية منها فحسب -سواء أكانت غزواً ثقافياً أو استلاباً أو انسلاباً فإن "ثقافة "التغريب" تتسع دائرتها يوماً بعد يوم، وتتوالى بالمقابل وتيرة انحسار الثقافات القومية والذاتية للعديد من المجتمعات غير الغريبة. وإذا كانت صيحات الغربيين القدماء في عصور الاستعمار قد عبرت عن تلك النزعة الأيديولوجية المشحونة بالشعور بالتفوق العنصري والثقافي فإن صيحات غربيين معاصرين لا تزال تتجاوب مع تلك الصيحات.
وإذا كانت ثقافات أخرى تتعرض للاختراق الغربي عبر وسائل الإعلام فإن الثقافة العربية كانت ولا تزال هدفاً للآلة الإعلامية الغربية على نحو أكثر بروزاً. وتغذي حملة العداء الغربي للثقافة العربية قوى معينة في المجتمعات الغربية، يصدر بعضها عن دوافع سياسية واقتصادية.
وإذا دققنا النظر في الإشكاليات الأخلاقية السابقة فإننا سنجد أنفسنا إزاء جملة من الأسئلة التي يجب على كل العاملين والدارسين في مجال الإعلام الاجابة عليها وهي:
- هل من سبيل إلى كسر الاحتكار الغربي والهيمنة الأمريكية على البنى الاتصالية في العالم العربي والتخفف من أعباء التبعية الإعلامية؟ وإذا كان الأمر ممكناً، فما الذي يتطلبه ذلك على المستويات الاقتصادية والاجتماعية؟
- هل نملك تصورات واضحة لطبيعة ثقافتنا العربية ومدى ملائمة الأسلوب التلفزيوني الطاغي في الإعلام المعاصر مع منطلقات تلك الثقافة ومعطياتها؟
- كيف يمكن تأصيل وترسيخ سلوكياتنا الثقافية المعتمدة كثيراً على "القراءة" في ضوء الزحف التلفزيوني المندفع في مجتمعاتنا؟
- ما الذي ينبغي عمله لصوغ أسلوب إعلامي عربي منبثق من طبيعة ثقافتنا، ومراع لظروف مجتمعاتنا وملب لطموحاتها الاجتماعية والتنموية.
- كيف سنوائم بين الاتجاه العالمي المتزايد نحو إعلام "السوق" وبين متطلبات "الإعلام الهادف" الذي يسعى إلى تثبيت قيمنا الأخلاقية وتحقيق أهدافنا الاجتماعية والقومية؟
- هل يمكننا بلورة بدائل تنظيمية توفيقية لمؤسساتنا الإعلامية تستفيد من إيجابيات "الإعلام الخاص" دون أن تبتلعها سلبياته؟
- ما الذي نحتاج إلى عمله لمواجهة " ثقافة التغريب"؟ هل سنرفضها بدعوى انها غزو فكري أم سنقبلها بدعوى أنها نتاج طبيعي للانفتاح والتفاعل بين الحضارات؟
- كيف يمكننا إيجاد منهاج واضح يحدد لنا الأسس والمعايير التي ترشدنا إلى المحافظة على خصوصيتنا الثقافية دون أن ننعزل عن العالم أو نستخدمها كسلاح لرفض التفاعل مع ثقافات الآخرين والاستفادة منها؟
إن هذه الأسئلة الجوهرية تضعنا أمام الحقيقة الناصعة وهي إن الإشكاليات الأخلاقية في الممارسات الإعلامية المعاصرة التي نواجهها في عالم اليوم لا تثير إشكالات إعلامية فحسب، بل إنها تثير إشكالات اكبر وأعمق مما له صلة وثيقة بأخلاقياتنا الحضارية وهويتنا الثقافية. وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الإشكاليات تطال على نحو مؤثر وفعّال وجودنا الاجتماعي وكذلك أنساقنا السلوكية والاجتماعية. ومن هنا فلا مناص من النظر إلى هذه الإشكاليات في إطارها الأوسع مرتبطة تأثراً وتأثيراً بمختلف جوانب الحياة لدينا.