فيما نزل مكررا
المؤلف:
الدكتور عبد الرسول الغفار
المصدر:
الميسر في علوم القرآن
الجزء والصفحة:
ص170- 172
2025-07-07
357
من بين آيات القرآن وسوره ما نزل مكررا سواء نزل في مكة أو في المدينة ولا يستبعد أن تكرار النزول يحتمل لتكرار السبب أو الداعي، وربما لأهمية الآية في ذلك الزمان أو المكان أو ربما لاعتبارات خفيت علينا، فتدخل في أمور غيبية ثم أن تلقي هذا النوع يعود إلى الروايات المبثوثة في كتب التفاسير وعلوم القرآن وما يرتبط بأسباب النزول وشأنه. ولا يمكن القطع بما جاء في هذه التصانيف لذا تحتاج إلى تدقيق نظر والتأكد من صحة هذه الروايات.
فمثلا أن:
1 - سورة الفاتحة نزلت مرتين مرة في مكة وأخرى في المدينة .
2 - والآية {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. عن موسى بن طلحة عن أبي اليسر بن عمرو قال: أتتني امرأة وزوجها بعثه النبي (صلى الله عليه واله وسلم) في بعث فقالت بعني بدرهم تمرا قال: فأعجبتني فقلت إن في البيت تمرا هو أطيب من هذا فالحقيني فغمزتها وقبلتها فأتيت النبي (صلى الله عليه واله وسلم) فقصصت عليه الأمر فقال: خنت رجلا غازيا في سبيل الله في أهله بهذا وأطرق عني فظننت أني من أهل النار وأن الله لا يغفر لي أبداً وأنزل الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114].
فأرسل النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وافتلاها علي تنبئ الرواية أن أبا اليسر أتى بفعله القبيح هذا في المدينة وذلك لوجود قرائن عديدة في النص غير أن السورة مكية بالاتفاق فهذا يعني أنها نزلت مكررا عن علقمة والأسود عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) فقال: يا رسول الله إنى عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن آنها وأنا هذا فاقض في ماشئت قال: فقال عمر لقد سترك الله لو سترت نفسك فلم يرد عليه النبي (صلى الله عليه واله وسلم) فانطلق الرجل فاتبعه رجلا ودعاه فتلا عليه هذه الآية فقال رجلا يا رسول الله هذا خاصة؟ قال: لا بل للناس كافة.
رواه مسلم عن يحيى والبخاري عن طريق يزيد بن ذريح.
3- ومما نزل مكررا قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] كما تقدم أن يهوديا سأل النبي عن الروح وهو في المدينة لكن السورة مكية بالاتفاق.
4- سورة الاخلاص نزلت بمكة لما سألت قريش النبي انسب لنا ربك ونزلت ثانية في المدينة لما جاء بعض اليهود إلى النبي فقالوا: صف لنا ربك. عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1-2].
وعن قتادة والضحاك ومقاتل: جاء ناس من اليهود إلى النبي (صلى الله عليه واله وسلم) فقالوا صف لنا ربك فإن الله أنزل نعته في التوراة فأخبرنا من أي شيء هو؟ ومن أتي جنس هو؟ أذهب هو أم نحاس أم فضة؟ وهل يأكل ويشرب؟ وممن ورث الدنيا ومن يورثها؟ فأنزل الله تبارك وتعالى هذه السورة وهي نسبة الله خاصة. أما ما قيل في شأن الآية: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113]. فعن البخاري بسنده عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي (صلى الله عليه واله وسلم) أي عم قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فقال النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لاستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. [1]
وفي موضع آخر من الصحيح يذكر البخاري نفس الرواية المتقدمة ويقول: نزلت في أبي طالب هذه الآية: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] (صحيح البخاري 6/ 18) وقال الزركشي نزلت في أبي طالب {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] ثم يعقب فيقول وأنزل الله في أبي طالب {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] برهان الزركشي 1/ 31 ثم قال وهذه الآية نزلت في آخر الأمر بالاتفاق.
أقول أين هذه الأقوال المتضاربة من نزول السورة (التوبة) حيث أجمع علماء التفسير أنها نزلت بالمدينة أما وفاة أبي طالب فكانت في السنة العاشرة من البعثة النبوية وفي مكة فما المناسبة من ربط هذه الآية بأبي طالب؟ ولماذا هذا الإصرار من علماء الجمهور [2] على أبي طالب في كونه مات كافرا - معاذ الله - أضف إلى ذلك لم يدع أحد من المفسرين أن سورة التوبة نزلت في مكة لا كلا ولا بعضا. ثم الآية من سورة التوبة إنما نزلت بسبب عدة من المسلمين قالوا للنبي (صلى الله عليه واله وسلم) ألا تستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية فأنزل الله سبحانه هذه الآية وبين أنه لا ينبغي لنبي ولا مؤمن أن يدعو لكافر ويستغفر له قال الطبرسي في المجمع تعقيبا لما تقدم: وقوله (ما) كان للنبي أبلغ من أن يقول (لا ينبغي للنبي) لأنه يدل على قبحه وأن الحكمة تمنع منه [3] أقول ثبت من طرق أهل بيت العصمة أيمان أبي طالب وأنه مات على الإسلام غير أن الأحقاد والضغائن لا تزال في صدور البعض. وقد حققنا موضوع إيمان أبي طالب في كتابنا شاعر العقيدة فراجع ص 79- 94.
نستخلص مما تقدم أن معرفة سبب النزول يحدد لنا مفهوم الآية وتفسيرها وفيمن نزلت وبأي مكان وزمان. فإذا أحطنا بهذه الخصوصيات عند ذاك يندر الالتباس أو الوقوع في الخطأ.
[2] انظر تفسیر ابن کثیر 2/ 393
الاكثر قراءة في نزول القرآن
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة