لقد التزم النبي والمسلمون بكل بنود الاتفاق التي اشتمل عليها كتاب الصلح بينه وبين قريش في الحديبية ، ولكن قريشا قد استخفت بقوة المسلمين بعد معركة مؤتة وجرها هذا الاستخفاف إلى ارتكاب حماقة أصبح بعدها عهد الموادعة لاغيا .
فقد جاء في كتب السيرة والتاريخ ان عهد الحديبية قد اعطى الحق لكل من أراد من العرب ان يدخل في عهد محمد ان يدخل في عهده ، كما يحق لمن أراد ان يدخل في عهد قريش ان يدخل فيه ، وكانت بين بني بكر وخزاعة أحقاد قديمة وحروب متواصلة ، فلما تم صلح الحديبية دخلت خزاعة في عهد محمد كما كانت حليفة لجده عبد المطلب من قبل ، ودخل بنو بكر في عهد قريش ، ومضى الناس على ذلك ، وهم يحسبون انهم قد أصبحوا آمنين على دمائهم وأموالهم وانحاز كل من القبيلتين إلى فريق من المتصالحين .
فلما كانت معركة مؤتة تخيل بنو الديل أو الدؤل من بني بكر بن عبد مناة احلاف قريش ان الفرصة قد سنحت لهم ليقتصوا من خزاعة حليفة المسلمين لثاراتهم القديمة ، وظنوا ان المسلمين بعد تلك النكسة التي أصيبوا بها لم يعد في مقدورهم ان يناصروا من دخل في عهدهم كخزاعة وغيرها ، وحرضهم على ذلك عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أميّة وحويطب بن عبد العزى ، ومكرز بن حفص وغيرهم من وجوه قريش ودسوا إليهم الرجال والسلاح وبيتوا خزاعة وهم على ماء لهم يدعى الوتير فقتلوا منهم عشرين رجلا وذلك في شعبان من السنة الثامنة للهجرة فالتجأت خزاعة إلى الحرم ، ثم إلى دار بديل بن ورقاء في مكة وشكوا إليه نقض قريش وبني بكر عهدهم لرسول اللّه .
ويدعي المؤلفون في السيرة ان أبا سفيان كان كارها لهذا العدوان لأنه يشكل نقضا لعهد الصلح بينهم وبين رسول اللّه ( ص ) وكان مما لا بد منه ان تستنجد خزاعة بالنبي ( ص ) فذهب جماعة منهم إلى المدينة فلما دخلوا على الرسول انشد عمرو بن سالم الخزاعي قوله :
يا ربّ اني ناشد محمدا * حلف أبينا وأبيه الأملدا
ان قريشا اخلفوك الموعدا * ونقضوا ميثاقك المؤكدا
هم بيتونا بالوتير هجدا * وقتّلونا ركعا وسجدا
ولما انتهى من ابياته جلس يقص على النبي ما حدث عليهم من بني بكر وقريش ويستنصره على قريش وبني بكر ، كما قص عليه أعضاء الوفد ما جرى عليهم من قريش واحلافها .
وجاء في رواية الواقدي أنه قال عند ذلك : لا نصرت ان لم انصر خزاعة في ما أنتصر منه لنفسي ، وأيقن ان قريشا قد نقضت العهد من جانبها ولم يعد العهد قائما لأنه لا يقوم الا بطرفين ، وقام من ساعته وندب المسلمين في المدينة وخارجها لأن يكونوا على أهبة الاستعداد عندما يدعوهم إلى الخروج معه من غير أن يعرفوا وجهته التي يريدها .
وتوالت الوفود عليه حتى اجتمع في المدينة خلال العشرة الأولى من شهر رمضان نحو عشرة آلاف مقاتل ، وندمت قريش على ما صنعت مع خزاعة ، وأدركت ان ذلك نقض للعهد من جانبها فمشى الحارث بن هشام وعبد اللّه بن أبي ربيعة ومعهما جماعة إلى أبي سفيان ، فقالوا له : ان هذا الأمر لا بد له ان يصلح ، وانه ان لم يصلح لا يردعكم الا محمد في أصحابه ، وقال لهم أبو سفيان : ان هندا قد رأت رؤيا كرهتها وافظعتها وخفت من شرها ، لقد رأت كأن دما اقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندق مليا ، ثم كأن ذلك الدم لم يكن ، فكره القوم هذه الرؤيا ، وقالوا هذا هو الشر .
وتم الاتفاق بينهم على أن يشد أبو سفيان الرحال إلى محمد ويكلمه في الأمر قبل ان تستنجد به خزاعة ، لعله يجدد العهد فيما بينهم وبينه ويزيد في امد الهدنة ولم يكونوا قد علموا بوفد خزاعة إلى النبي وخرج أبو سفيان من مكة ومعه مولى له على راحلتين وأسرعا في مسيرتهما وهو يحسب أنه أول خارج من مكة بعد ذلك الحدث الذي أطاح بعهد الصلح بينهم وبين النبي .
وكان النبي ( ص ) قد قال لأصحابه حينما جاءه وفد خزاعة ، لكأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يطلب تجديد العهد وزيادة امد الهدنة ، وقال لبني خزاعة بعد ان أخبروه بما جرى لهم : ارجعوا وتفرقوا في الأودية ، فلما اتوا الأبواء تفرقوا كما امرهم رسول اللّه ، فذهب بعضهم باتجاه الساحل على غير الطريق العام ، ولزم الطريق العام بين مكة والمدينة بديل بن ورقاء ومعه نفر من قومه ، فالتقوا بأبي سفيان وهو في طريقه إلى المدينة ، فلما رآهم أيقن انهم قد سبقوه إلى محمد ، فقال لهم : منذ كم عهدكم بيثرب ، قالوا لا عهد لنا بها ، فأيقن انهم كتموه ، ثم قال لهم اما معكم من تمر يثرب شيء تطعموننا منه ، فإن لتمر يثرب فضلا على تمر تهامة ، فقالوا ليس معنا مما تطلب شيء وأراد أبو سفيان ان يتأكد من امرهم ، فقال : يا بديل هل جئت محمدا فقال لا ، ولكني سرت في بلاد خزاعة من هذا الساحل في قتيل كان بينهم فأصلحت امرهم ، فقال له أبو سفيان واللّه ما علمت أنك برواحل وافترقا .
وظل الخوف يساور أبا سفيان ان يكون بديل قد سبقه إلى محمد ، فجاء إلى مراقد إبلهم وفت من بعرها فوجد فيها النوى ، كما وجد في مكانهم اثرا لعجوة يثرب ، فأيقن بعد ذلك ان القوم قد سبقوه وان مسعاه سوف لا يجديه شيئا ، بعد ان سبقته خزاعة إلى حليفها الوفي الذي لا يقر الظلم حتى ولو كان من مشرك لمشرك ، ولكنه تابع مسيرته ، ليجرب عساه يجد مخرجا من تلك الأزمة .
ولما انتهى إلى المدينة قصد النبي وطلب منه ان يجدد العهد ويزيد في امده ، فقال له النبي ( ص ) ألهذا جئت يا أبا سفيان قال نعم ؛ قال فهل حدث عندكم ما يوجب ذلك ، قال معاذ اللّه فنحن على موقفنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل ، وقام من مجلس النبي ودخل على ابنته رملة المكناة بأم حبيبة ، وكان النبي قد تزوج منها وهي بالحبشة بعد وفاة زوجها أو تنصره على اختلاف الروايات في ذلك ، فلما أراد الجلوس على الفراش الذي يجلس عليه رسول اللّه طوته دونه ، فقال لها ارغبت بهذا الفراش عني أم رغبت بي عنه ، فقالت بل هو فراش رسول اللّه ، وأنت امرؤ نجس مشرك ، فقال لها :
لقد أصابك بعدي شر يا أم حبيبة ، فقالت له ان اللّه هداني للإسلام ، وأنت سيد قريش وكبيرها ، وما أدري كيف تتنكر للاسلام وتعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر ولا يغني شيئا ، فقال لها وهذا أعجب منك تريدين ان اترك دين آبائي واتبع دين محمد ، ثم قام من بيتها وقد استولى عليه الغضب من هذا الموقف الذي لم يكن يترقبه من أقرب الناس إليه .
وجاء في كتب السيرة والتاريخ ان أبا سفيان ذهب إلى أبي بكر وعمر وعثمان يستعين بهم على اقناع النبي بتجديد العهد وزيادة امده فلم يجد منهم تجاوبا على ذلك ورفضوا مراجعة النبي بهذا الخصوص ، ثم دخل على فاطمة الزهراء ( ع ) وطلب منها ان تجيره كما اجارت أختها زينب أبا العاص بن الربيع يوم كان مشركا على حد تعبير الراوي فأبت عليه ان تتدخل بشيء من هذا النوع مع أبيها ، وظل يصر عليها ويتوسل إليها بولديها الحسن والحسين وبقيت على موقفها السلبي منه .
وذهب إلى علي ( ع ) وعرض عليه نفس الشيء الذي عرضه على غيره ، فقال له علي ( ع ) ويحك يا أبا سفيان ان رسول اللّه عزم ان لا يفعل ، وليس أحد يستطيع ان يكلمه في شيء يكرهه ، ولما يئس منه أبو سفيان طلب منه ان يشير عليه بما ينفعه ، فقال له اني لا أرى لك الا ان تقوم فتجير بين الناس فإنك من سادة كنانة ، ومع ذلك فإني لا أظن ان ذلك يجديك شيئا ، فخرج أبو سفيان وصاح على ملأ من الناس الا واني قد اجرت بين الناس ودخل على النبي واخبره بذلك ، ثم قال له اني لا أظنك ترد جواري يا محمد ، فقال له النبي أنت تقول ذلك .
وركب أبو سفيان ناقته متجها نحو مكة وكانت قد طالت غيبته فظنت قريش بأنه قد دخل في الاسلام ، ولما انتهى إلى مكة ودخل على زوجته هند أخبرته بما دار حوله من تكهنات ، وقد دنا منها لقضاء حاجته فلما أخبرها بما جرى له في مكة ضربته برجلها في صدره ، وقالت قبحت من رسول قوم . ولما أصبح ذهب إلى الكعبة وحلق رأسه عند صنميه اساف ونائلة وذبح لهما ومسح بالدم على رأسيهما ، ثم قال موجها كلامه لهما : اني لا أفارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه آبائي .
ولما اجتمع عليه الناس أخبرهم بما جرى له في رحلته وبما أشار به علي عليه ، فقالوا له : لقد لعب فيك علي بن أبي طالب ، واعتبرته قريش فاشلا في رحلته وساورها الخوف من محمد ولكنها انطوت على نفسها وظلت تراقب ما ستنجلي عنه الأيام القادمة .
ولما عزم رسول اللّه على غزو مكة قال لعائشة جهزينا وأخفي امرك ومنع أحدا ان يخرج من المدينة مخافة ان يتسرب خبر استعداده لقريش ، وقد كان يحب ان يدخل مكة فاتحا بدون حرب ولا قتال ، ودعا اللّه سبحانه ان يمنع عن قريش العيون والأخبار .
ودخل أبو بكر على ابنته عائشة وهي تعد الجهاز لرسول اللّه ( ص ) فسألها عن الجهة التي يريدها رسول اللّه ( ص ) فقالت له لا أدري ، ثم دخل على رسول اللّه فأخبره انه يريد قريشا وأوصاه ان يكتم الأمر وألح عليه بذلك ، فقال له أبو بكر : أو ليس بيننا وبينهم عهد ، قال لقد نقضوا العهد ، واكد عليه ان يطوي الخبر عن اي كان من الناس .
ويدعي المحدثون انه لم يكن أحد من الناس يظن أنه يريد قريشا ، وكانت تحركاته توحي إلى الناس انه يريد غيرها من الأعراب الذين لا يزالون على شركهم كبني سليم وهوازن وثقيف وغيرها حرصا منه على أن لا تدخل مكة في حساب أحد فقد ارسل أبا قتادة في جماعة من أصحابه إلى مكان يدعى اليطن ليوهم الناس انه متجه إلى تلك الجهات .
ومع هذا التحفظ الشديد وتكتمه عن سائر الناس ما عدا أبا بكر وبعض الخاصة من أصحابه كما يدعي المؤلفون في السيرة النبوية فقد تسرب نبأ مسيرته إلى حاطب بن أبي بلتعة ، وكان من المسلمين فكتب إلى قريش يخبرهم بالذي عزم عليه رسول اللّه ، واعطى الكتاب إلى امرأة من مزينة وأعطاها مبلغا من المال في مقابل ايصال كتابه لقريش فوضعت الكتاب في رأسها وفتلت عليه قرونها وخرجت باتجاه مكة فنزل الوحي على الرسول يخبره بما صنع حاطب ، فأرسل النبي من ساعته عليا والزبير ، وأمرهما ان يجدا السير في طلب المرأة قبل ان تفوتهما فخرجا مسرعين حتى ادركاها بذي الحليفة على أميال من المدينة فاستنزلاها والتمسا الكتاب في رحلها فلم يجدا شيئا معها ، ثم قالا لها : واللّه لتخرجن الكتاب أو لنكشفنك ، فلما رأت منهما الجد حلت قرونها وأخرجت الكتاب ودفعته إليهما ، فأقبلا به على رسول اللّه ( ص ) .
وروى جماعة من المحدثين والمؤرخين ان الزبير سبق عليا إلى المرأة وسألها عن الكتاب فأنكرت أن تكون قد حملت معها شيئا وبكت فرجع عنها وقال لعلي ليس معها شيء ارجع بنا إلى رسول اللّه لكي نخبره ببراءتها ، فقال له علي ( ع ) يخبرني رسول اللّه ان معها كتابا ويأمرني بأخذه منها وتقول أنت لا شيء معها .
ثم اخترط سيفه واقبل عليها وقال لها : اما واللّه لئن لم تخرجي الكتاب لأكشفنك ثم لأضربن عنقك ، فلما رأت منه ذلك قالت له اعرض وجهك عني ، فلما اعرض عنها كشفت قناعها وأخرجت الكتاب من عقيصتها ودفعته إليه فجاء به إلى النبي ( ص ) فجمع المسلمين حتى امتلأ بهم المسجد فوقف بينهم وقال أيها الناس : لقد كنت سألت اللّه ان يخفي اخبارنا عن قريش ، وان رجلا منكم كتب إليهم كتابا يخبرهم بخبرنا ، فليقم صاحب الكتاب قبل ان يفضحه الوحي فلم يقم أحد ، ولما أعاد النبي مقالته قام حاطب بن أبي بلتعة وهو يرتعد كالسعفة في مهب الريح العاصف وقال انا صاحبه يا رسول اللّه ومضى يعتذر إلى النبي ويقول يا رسول اللّه : واللّه اني لمسلم مؤمن باللّه ورسوله ما غيرت وما بدلت ، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة وأصبح لي بين أظهرهم أهل وولد فصانعتهم وامر النبي بإخراجه من المسجد ، فجعل الناس يدفعونه في ظهره حتى أخرجوه وهو يلتفت إلى النبي ( ص ) ولا يتكلم فرق له وارجعه إلى المسجد وأوصاه ان لا يعود لمثلها .
وجاء في بعض المرويات عن الواقدي وغيره ان عمر بن الخطاب قال للنبي ( ص ) دعني يا رسول اللّه اضرب عنقه فلقد نافق ، فلم يلتفت إليه الرسول ، ولما ألح في الطلب قال له النبي ( ص ) كما يدعي الواقدي ، وما يدريك يا عمر فلعل اللّه قد اطلع على أهل بدر وقال لهم اعملوا ما شئتم فلقد غفرت لكم[1].
ويدعي المؤلفون ان اللّه انزل بهذه المناسبة الآية التالية :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ . وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ( سورة الممتحنة 1 )
ولما تم تجهيز الجيش خرج النبي ( ص ) من المدينة في العشرة الأولى من رمضان في عشرة آلاف مقاتل من المهاجرين والأنصار وغيرهم من القبائل كأسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وسليم وغيرهم ومعهم نحو من الف فرس وعقد للمهاجرين ثلاثة ألوية ، فأعطى عليا ( ع ) لواء واعطى للزبير ولسعد بن أبي وقاص لكل واحد لواء ووزع الألوية والرايات على الباقين فأعطى لكل قبيلة لواء لرجل منها وكان العباس بن عبد المطلب ومخرمة بن نوفل قد خرجا من مكة يريدان المدينة وهما يظنان ان النبي ( ص ) لا يزال فيها ، فلقياه في السقيا فمضى العباس ورفيقه مع النبي ، وأرسل العباس أهله وثقله إلى المدينة .
وكان ممن لقيه بالطريق وهو في طريقه إلى المدينة ابن عمه واخوه من الرضاعة أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وقيل اسمه المغيرة ، وابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب وهو عبد اللّه بن أبي أميّة المخزومي أخو أمّ سلمة لأبيها ، فاستأذنا على رسول اللّه فأعرض عنهما .
فقالت أمّ سلمة يا رسول اللّه ابن عمك وابن عمتك وصهرك ، فقال لا حاجة لي بهما اما ابن عمي فقد هتك عرضي يعني بذلك انه كان يهجوه ، واما ابن عمتي فهو الذي قال لي بمكة ما قال ، يعني بذلك قوله له : واللّه لا آمنت بك حتى تتخذ سلما إلى السماء فتعرج فيه وانا انظر ثم تأتي بصك وأربعة من الملائكة يشهدون ان اللّه أرسلك ، فأعادت عليه القول وقالت : لا يكن ابن عمك وابن عمتك اشقى الناس بك يا رسول اللّه فقال ابن عمه أبو سفيان بن الحارث : واللّه ليأذنن لي أو لآخذن بيد ابني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا ، فرق لهما النبي وقال علي لأبي سفيان ائت من قبل وجهه ، فقل له ما قال اخوة يوسف : تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا ، فقال له النبي ( ص ) : لا تثريب عليكم اليوم .
وقال أبو سفيان يعتذر مما كان منه في جملة ابيات جاء فيها :
لعمرك اني يوم احمل راية * لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران اظلم ليله * فهذا أواني حين اهدى واهتدي
ولما بلغ رسول اللّه الظهران قال العباس بن عبد المطلب : يا سوء صباح قريش واللّه لئن بغتها محمد في بلادها ودخل مكة عنوة انه لهلاك قريش آخر الدهر ، ثم ركب بغلة رسول اللّه البيضاء وسار عليها ليرى أحدا متجها إلى مكة فيخبرهم بمكان رسول اللّه لعلهم يأتونه ويطلبون منه الأمان ، وفيما هو يسير وإذا به يسمع صوت أبي سفيان ، وكانت قريش قد أرسلته ليتجسس لهم اخبار النبي ( ص ) هو وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء ، ولما سمع صوته العباس قال يا ابا حنظلة فعرفه أبو سفيان ، وقال لبيك يا أبا الفضل ، فقال له ويحك هذا رسول اللّه في عشرة آلاف مقاتل وهو مصبحكم ، فقال : بأبي وأمي هل من حيلة ، قال نعم تركب معي عجز هذه البغلة لكي اذهب بك إلى رسول اللّه ، فإنه ان ظفر بك دون ذلك ليقتلنك ، فقال واللّه اني أرى ذلك .
قال العباس بن عبد المطلب كما جاء في رواية الواقدي ، فأردفته خلفي واتجهت نحو معسكر المسلمين وكانوا قد أوقدوا النيران ليلا ، فلما مررت به على جماعة من المسلمين قالوا عم رسول اللّه على بغلة رسول اللّه ، حتى إذا مررت على جماعة فيهم عمر بن الخطاب فرأى أبا سفيان خلفي ، فقال أبو سفيان عدو اللّه ، الحمد للّه الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ، وخرج يشتد نحو رسول اللّه ، فقال العباس فحركت البغلة حتى اجتمعنا معا على باب خيمة رسول اللّه ، فدخلت وإياه على النبي ، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول اللّه هذا أبو سفيان قد أمكن اللّه منه فدعني اضرب عنقه ، فقلت اني قد اجرته يا رسول اللّه ، ثم لزمت رسول اللّه وقلت واللّه لا يناجيه الليلة أحد غيري ، فلما أكثر عمر بن الخطاب قلت مهلا يا عمر واللّه لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا ، فقال مهلا يا أبا الفضل ، واللّه ان اسلامك كان أحب إلي من إسلام رجل من ولد الخطاب ، فقطع النبي حوارهما بقوله للعباس : اذهب به فقد اجرناه فليبت عندك حتى تغدو به علينا إذا أصبحت .
فلما أصبحت عدوت به على رسول اللّه فالتفت إليه ، وقال ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك ان تعلم أن لا إله إلا اللّه ، قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك قد كان يقع في نفسي انه لو كان مع اللّه إله لأغنى عنا ، قال ألم يأن لك ان تعلم اني رسول اللّه قال بأبي وأمي ما أحلمك وأكرمك وأعظم عفوك ، اما هذه ان في النفس منها شيئا حتى الآن ، فقال له العباس : ويحك تشهد ، وقل لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه قبل ان تقتل كما جاء في رواية الواقدي والطبري وغيرهما ، فشهد على كره منه حينما أدرك ان الموت ينتظره لحظة بعد لحظة وفي نفسه من نبوة محمد أشياء وأشياء وظلت تلك الأشياء في نفسه إلى أن مات .
وكانت تبدو منه بين الحين والآخر فلتات تدل على أنه من أخبث المشركين وأشدهم حقدا على الاسلام ونبي الاسلام كما يبدو ذلك لكل من تتبع تاريخه منذ ان ادعى الاسلام حتى النفس الأخير من حياته .
ثم التفت النبي ( ص ) إلى العباس وقال له : انصرف به واحبسه عند حطيم حتى تمر به جنود اللّه فيراها ، فقال العباس يا رسول اللّه ان أبا سفيان يحب الفخر فاجعل له شيئا يفخر به على قومه فقال النبي ( ص ) عند ذلك كلماته الخالدة التي انبعثت من قلبه الكبير الذي لا يحمله إنسان في هذه الدنيا ، لقد اتسع قلبه لأهل مكة قاطبة وهم الذين كذبوه واهانوه وعذبوا اتباعه وطردوه وجمعوا له العرب حتى غزوه في دار هجرته ومثلوا بعمه أقبح تمثيل ، ومنعوه قبل عامين من دخول مكة لأداء مناسك الحج ، وفعلوا معه ما لا تبيحه أعراف العرب وعاداتهم . وكان أبو سفيان وزوجته هند من أشد الناس عداوة للّه ورسوله ، ومع ذلك حينما أمكنه اللّه منهم منّ عليهم وامر من ينادي في الناس من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن القى سلاحه فهو آمن ، ومن دخل داره وأغلق عليه بابه فهو آمن . بعد ان أعطاه الرسول هذه الميزة ارضاء لعاطفة الفخر في نفسه ، اخذه العباس إلى المكان الذي عينه له الرسول حيث يمر ذلك الجيش العظيم الذي لم تعهد له مكة نظيرا من قبل .
ولكن أبا سفيان ظن أن النبي أراد به شرا في ذلك المكان لأنه هو مطبوع على الغدر والمكر ، والغادر لا يفكر الا بالغدر والغادرين ، فقال للعباس أغدرا يا بني هاشم ، فرد عليه العباس بقوله : ان أهل النبوة لا يغدرون يا أبا سفيان ، وإنما حبستك لحاجة ، فقال له : فهلا بدأت بها أولا فاعلمتنيها فذاك أقر لروعي وأهدأ لنفسي .
ثم مرت به القبائل والكتائب والرايات يتلو بعضها بعضا ، فأول ما مر به خالد بن الوليد في بني سليم ولهم لواءان يحمل أحدهما العباس بن مرداس والآخر خفاف بن ندب ، وراية يحملها المقداد بن الأسود ، فقال أبو سفيان من هؤلاء يا أبا الفضل ؟ فقال هؤلاء بنو سليم وعليهم خالد بن الوليد فلما حاذى خالد بن الوليد أبا سفيان والعباس كبر ثلاثا وكبروا معه وهكذا اخذت القبائل تمر به الواحدة تلو الأخرى ، وكلما مرت قبيلة بحذائه كبرت ثلاثا وأبو سفيان يسأل عنها والعباس يجيبه ، إلى أن مرت جميع الكتائب ولم يبق الا الكتيبة التي فيها رسول اللّه ( ص ) .
فلما أطلت كتيبة رسول اللّه أطلت وسط سواد شديد وغبرة من سنابك الخيل وجعل الناس يمرون وأبو سفيان يقول للعباس : اما مر محمد بعد ، والعباس يقول له لا . وفيما هم كذلك وأبو سفيان يهزه الحقد والبغض وإذا برسول اللّه ( ص ) قد أطل عليهما وهو على ناقته القصوى بين أبي بكر وأسيد بن حضير وهو يحثها ، فقال له العباس هذا رسول اللّه يا أبا سفيان في كتيبته الخضراء فجعل أبو سفيان ينظر ويرتعد ، وكان قد حشد في تلك الكتيبة وجوه المهاجرين والأنصار والألوية والرايات وكلهم منغمسون في الحديد لا يرى منهم الا الحدق ، وفي الكتيبة ألفا دارع ، وراية رسول اللّه ( ص ) مع سعد بن عبادة الأنصاري وهو امام الكتيبة ، فقال أبو سفيان للعباس : ما رأيت مثل هذه الكتيبة قط ولا أخبرنيه مخبر ، سبحان اللّه ما لأحد بهؤلاء طاقة ولا يدان ، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما يا أبا الفضل فقال له العباس : ويحك انه ليس بملك وإنما هي النبوة .
ولما حاذاهما سعد نادى يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة ، اليوم تسبى الحرمة ، اليوم أذل اللّه قريشا ، ولما حاذاهما رسول اللّه ( ص ) ناداه أبو سفيان لقد أمرت بقتل قومك يا رسول اللّه ان سعدا يقول اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة اليوم أذل اللّه قريشا ، واني أنشدك اللّه في قومك ، فأنت ابر الناس وارحم الناس وأوصل الناس ، ثم قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان : يا رسول اللّه انا لا نأمن سعدا ان يكون له في قريش صولة ، فوقف رسول اللّه وناداه يا أبا سفيان اليوم يوم المرحمة اليوم أعز اللّه قريشا ، وارسل عليا إلى سعد ليأخذ اللواء منه ويدخل به مكة .
وجاء في شرح النهج عن الواقدي ان العباس قال لأبي سفيان : اذهب ويحك فأدرك قومك قبل ان يدخل عليهم رسول اللّه ، فخرج أبو سفيان مسرعا حتى دخل من كداء وهو ينادي من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن حتى انتهى إلى زوجته هند بنت عتبة ، فقالت ما وراءك يا أبا سفيان ، قال : هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد ، وقد جعل لي انه من دخل داري فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن القى سلاحه فهو آمن ، فقالت قبحك اللّه من رسول قوم ، وجعلت تقول ويحكم اقتلوا وافدكم قبحه اللّه من وافد قوم ، وأبو سفيان يقول : ويحكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإني رأيت من الرجال والكراع والسلاح ما ليس لأحد به طاقة ، ان محمدا في عشرة آلاف مقاتل اسلموا تسلموا .
وجاء في رواية المبرد في الكامل انها أمسكت برأسه وقالت لهم اقتلوه ، وخرج الكثير من أهل مكة إلى ذي طوى ينظرون إلى رسول اللّه ، وإلى تلك الحشود التي التفت من حوله ، واصر جماعة على المقاومة بالرغم من تحذير أبي سفيان لهم منهم صفوان بن أميّة وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو بمن معهم من بني بكر وهذيل وإعداد العدة للحرب ، واقسموا بما يعبدون ان لا يدخلها محمد عنوة ابدا .
وكان من بين هؤلاء المتحمسين رجل من بني الدؤل يدعى حماس بن قيس بن خالد فقد اسرع إلى بيته وجعل يصلح سيفه وسلاحه ، فقالت له امرأته : لما ذا تعد سلاحك ، قال لمحمد وأصحابه ، واني لأرجو ان اخدمك منهم خادما ، فقالت له : ويحك لا تفعل ولا تقاتل محمدا ، واني واللّه ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء ومضى مسرعا مع صفوان وجماعته لم يلتفت لكلام زوجته واتجه مع المقاتلين إلى الخندمة أحد المسالك المؤدية لمكة ، وكان خالد بن بن الوليد قد امره النبي ( ص ) ان يدخل مكة بمن معه من المسلمين من تلك الناحية ونهاه ان يقاتل أحدا الا إذا قاتلوه فعارضه صفوان بمن معه من قريش واحلافها ، واشتد القتال بينهم فقتل في أول جولة من قريش واحلافها ثمانية وعشرون رجلا ، وانهزم صفوان ومن معه ، وكان من بين المنهزمين حماس بن قيس بن خالد ، وجاء مسرعا إلى بيته كالمدهوش من الخوف ، فأغلق عليه بابه ، فقالت له زوجته : اين الخادم الذي وعدتني به ، قال لها ويحك لقد جاءنا محمد بجيش لا طاقة لأحد عليه ، وقد قال من دخل داره وأغلق عليه بابه فهو آمن دعي هذا واغلقي الباب ، قالت ألم أنهك عن قتال محمد انه ما قاتلكم مرة الا وظهر عليكم .
وكان رسول اللّه ( ص ) قد خطط لدخول مكة من جهاتها الأربع ، ودخل علي ( ع ) باللواء من الجهة التي دخلها النبي ( ص ) كما نص على ذلك جماعة من المؤرخين .
وجاء في المؤلفات في السيرة ان النبي ( ص ) اشرف من على ثنية اذاخر فنظر إلى البارقة ، فقال ما هذا : ألم انه عن القتال ، قيل له يا رسول اللّه ان جماعة من أهالي مكة منعوا خالد بن الوليد وشهروا أسلحتهم في وجه المسلمين فقاتلهم وقتل جماعة منهم ، ولولا ذلك ما قاتلهم فقال قضاء اللّه خير .
ودخل رسول اللّه مكة بتلك الحشود التي تنساب من خلفه إلى أكبر معقل من معاقل الشرك ، والفيلق الدارع الذي يحف به ينتظر منه ولو إيماءه حتى لا يدع بمكة أحدا يمشي على ارضها ، وتمثلت له في تلك اللحظات وهو على أبواب مكة فصول طوال ذاق فيها الأمرين خلال ثلاثة عشر عاما وخرج في نهايتها مطرودا يكمن في الكهوف نهارا ويسير ليلا خوفا من القتل والتعذيب .
وتمثل له كل ما قاساه خلال تلك الأعوام الأولى من تاريخ الدعوة ، ورأى نفسه اليوم يعود إليها منتصرا بعد ان خرج منها مطرودا خائفا يترقب ، انها لنعمة عنده لا تعادل بشيء وكرامة اتحفه اللّه بها ، وبدلا من أن يدخلها عليهم بزهو الفاتح ونشوة المنتصر ، دخلها بخشوع العبد الشاكر قد طأطأ رأسه حتى ليكاد يلصق برحله تواضعا للّه واعترافا بجميله .
وفيما هو يسير جاءه أحد أصحابه قائلا الا تنزل دارك يا رسول اللّه ، فقال وهل أبقى لنا عقيل دارا ، ثم نزل بالأبطح وضربت له خيمة فيه ، ومعه من نسائه زوجتاه أمّ سلمة وميمونة ، وامر بقتل جماعة ، ستة من الرجال وأربع من النساء ، وقيل أحد عشر رجلا منهم عبد اللّه بن أبي سرح وكان قد اسلم واتخذه كاتبا له كما في رواية اليعقوبي في تاريخه يكتب له ما ينزل عليه من القرآن وكان يحاول ان يغير ويبدل فيما يمليه عليه ، ويذهب إلى أصحابه من المنافقين فيقول لهم انا أقول كما يقول محمد ، واللّه ما هو بنبي ولو كان نبيا لعرف ما كنت اصنع ولما أحس رسول اللّه ( ص ) بتحريفه لما يمليه عليه فر إلى مكة والتحق بقريش وجعل يندد في مجالسهم ويسخر من محمد ومن القرآن ويقول لهم اني حرفت فيه كثيرا ، وعندما دخل النبي مكة التجأ عبد اللّه إلى عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة فغيبه ، ثم اتى به رسول اللّه وطلب له الأمان فسكت رسول اللّه طويلا ، ثم قال نعم فانصرف به عثمان وكان من أقرب المقربين إليه أيام خلافته ، فلما انصرف قال رسول اللّه لمن حوله لقد سكت طويلا ليقوم بعضكم فيقتله ، فقال له أحد الأنصار : هلا أومأت إلى أحد منا ، فقال ان النبي لا يقتل بالإشارة .
ومنهم عبد اللّه بن خطل وكان مسلما فقتل مولاه وارتد عن الاسلام ، وجعل يهجو النبي بشعره وقد اشترك في قتله سعيد بن حرث المخزومي وأبو برزة الأسلمي ، والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي وكان يؤذي النبي وأصحابه بمكة قتله علي بن أبي طالب ، ومقيس بن صبابة ، كان له أخ يدعى هشام فقتله أحد الأنصار خطأ في غزوة ذي قرد وهو يظنه من الأعداء فأعطاه النبي ( ص ) ديته ، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله ورجع إلى قريش مرتدا قتله نميلة بن عبد اللّه ، وعكرمة بن أبي جهل وقد فر من مكة باتجاه اليمن بعد دخول النبي إليها ، فجاءت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام وأسلمت وطلبت الأمان لزوجها فأمنه النبي فخرجت في طلبه واتت به رسول اللّه وقبل دخوله على النبي ( ص ) قال لأصحابه سيأتيكم عكرمة بن أبي جهل فلا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت فلما دخل عليه وثب رسول اللّه ولبس عليه رداءه ثم جلس ورحب به ، فوقف عكرمة بين يديه ومعه زوجته ، فقال يا محمد ان هذه أخبرتني انك أمنتني ، فقال صدقت أنت آمن ، فقال عكرمة : فعلام تدعو فقال إلى أن تشهد ان لا إله إلا اللّه واني رسول اللّه وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وجعل يعد عليه أصول الاسلام وفروعه ، فقال عكرمة :
ما دعوت إلا إلى حق وإلى حسن جميل ، ولقد كنت فينا من قبل ان تدعو إلى ما دعوت إليه اصدقنا حديثا وأعظمنا برا ، ثم اسلم واعتذر عما كان منه قبل هذا الموقف فقبل النبي عذره ودعا له بالخير .
ومنهم وحشي قاتل الحمزة في معركة أحد ، فقد جاء إلى النبي يطلب الأمان فأجابه لذلك ، ولكنه قال له غيب وجهك عني فإني لا أحب ان أرى قاتل عمي ، فلم يظهر بعد ذلك للنبي وعاش إلى ما بعد فتح بلاد الشام ومات في حمص سكران كما روى ذلك جماعة من المؤرخين .
ومنهم كعب بن زهير بن أبي سلمى وكان شاعرا يهجو النبي ( ص ) فخرج من مكة هاربا ، وأخيرا عفا عنه النبي ومدحه في قصيدته بانت سعاد المشهورة ، وهبار بن الأسود الذي روع ابنته زينب وهي في طريقها إلى المدينة وألقت حملها .
وعبد اللّه بن أبي ربيعة والحارث بن هشام من بني مخزوم وقد دخلا بيت أم هانئ بنت أبي طالب فاستجارا بها فأجارتهما ، وبينما هم عندها وإذا بعلي ( ع ) قد دخل عليها وهو مدجج بالحديد فلم تعرفه ، فقالت له انا أم هانئ بنت عم رسول اللّه ( ص ) فأسفر عن وجهه عند ذلك فاعتنقته ، ولما نظر إليهما شهر عليهما سلاحه ، فقالت له أنت أخي وتصنع معي ذلك وتقدمت إليهما والقت عليهما ثوبا فقال لها أتجيرين المشركين ، وحالت بينه وبينهما ، وقالت له إذا أردت قتلهما فاقتلني معهما فتركهما وخرج .
وجاء في رواية الواقدي انها قالت عندما خرج أخي علي من بيتي أغلقت عليهما الباب وقلت لهما لا تخافا وذهبت إلى خباء رسول اللّه بالبطحاء فلم أجده ووجدت فيه فاطمة فقلت لها ما لقيت من ابن أمي علي لقد اجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما ، فكانت فاطمة أشد علي من زوجها ، وبينما انا معها في الحديث وإذا برسول اللّه قد اقبل ، فلما رآني قال مرحبا بأم هانئ ، فقلت له ما ذا لقيت من ابن أمي علي ، لقد اجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما ، فقال ما كان ذلك له قد اجرنا من اجرت وامنا من أمنت ، ولما سمعت منه ذلك رجعت إليهما واخبرتهما بمقالة رسول اللّه ، وقلت لهما ان شئتما ان تقيما عندي أو ترجعا إلى بيوتكما فذاك إليكم فأقاما عندي يومين ورجعا إلى منزليهما .
واما النساء اللواتي أهدر دمهن ، فهن هند بنت عتبة وسارة مولاة بني هاشم ، وكانت مغنية نواحة بمكة ، وقد وفدت على رسول اللّه بالمدينة وشكت إليه الحاجة وذلك بعد بدر وأحد ، فقال لها ما كان لك في غنائك ونواحك ما يكفيك ، فقالت له ان قريشا منذ قتل منهم من قتل تركوا الغناء فوصلها رسول اللّه وأوقر لها بعيرا طعاما فرجعت إلى قريش وكانت بعد ذلك تجتمع إليها قريش وتغنيهم بهجاء رسول اللّه ( ص ) .
وجاريتان لابن خطل تدعيان قريبة وفرتنا كانتا تغنيان بهجاء رسول اللّه ، فقتلت قريبة ، وهربت فرتنا ، ثم عفا عنها رسول اللّه ( ص ) وعاشت إلى أن انتهت الخلافة لعثمان ، ولم يقتل من الرجال الذين امر بقتلهم سوى أربعة وعفا عن الباقين .
ثم إن رسول اللّه دعا براحلته بعد ان اغتسل وصلى فأدنيت إلى باب الخيمة التي ضربت له بالحجون وخرج منها وعليه السلاح والمغفر على رأسه والناس مجتمعون قد اصطفوا ينتظرون خروجه فركبها وسار بالناس فمر بحذاء بيت لسعيد بن العاص المعروف بأبي أحيحة فخرج بناته وقد نشرت شعورهن فلطمن وجوه الخيل بالخمر فتبسم رسول اللّه وانشده رجل كان إلى جانبه قول حسان بن ثابت :
تظل جيادنا متمطرات * يلطمهن بالخمر النساء
ولما انتهى إلى الكعبة تقدم على راحلته فاستلم الركن وكبر ، فكبر المسلمون لتكبيره وعجوا بالتكبير حتى ارتجت مكة وجعل رسول اللّه يشير إليهم ان اسكتوا والمشركون فوق الجبال ينظرون ، ثم طاف بالبيت على راحلته ومحمد بن مسلمة آخذ بزمامها وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما مرصوصة بالرصاص وكان هبل أعظمها وهو باتجاه الكعبة من ناحية بابها واساف ونائلة حيث ينحرون ويذبحون الذبائح ، فجعل كلما مر بصنم منها يشير بقضيب في يده ويقول : جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا ، فيقع الصنم لوجهه .
ثم امر بهبل فكسر وهو واقف عليه ، فقال الزبير لأبي سفيان يا أبا سفيان : لقد كسر هبل ، اما انك قد كنت منه يوم أحد في غرور حين زعمت أنه قد أنعم عليكم فقال : دع هذا عنك يا ابن العوام فقد أرى انه لو كان مع إله محمد إله غيره لكان غير ما كان . ثم جلس النبي ( ص ) ناحية من نواحي المسجد وارسل بلالا إلى عثمان بن طلحة يطلب منه مفتاح الكعبة وكان المفتاح بيد أمه ، فقال لها ان رسول اللّه قد ارسل يطلب مفتاح الكعبة ، فقالت أعيذك باللّه أن تكون الذي يذهب مأثرة قومه على يده وامتنعت من تسليمه إياه ، فقال : واللّه لتأتيني به أو ليأتينك غيري فيأخذه منك فدفعته إليه فجاء به وأعطاه للنبي ( ص ) ، ولما تناوله النبي بسط العباس يده وقال بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه اجمع لنا بين السقاية والحجابة ، فقال إني أعطيكم ما ترضون به ، ولا أعطيكم ما ترزءون منه ، وامر ان تفتح الكعبة ففتحت له ودخلها وكانت التماثيل والصور قد ملأت جدرانها من الداخل فأمر من كان معه ان لا يدع صورة ولا تمثالا الا محاه ، وقيل إنه باشر ذلك بنفسه وامر بدلو فيه ماء وثوب فجعل يبل الثوب بالماء ويضرب به الصور حتى محاها عن آخرها ، وكانوا قد صوروا إبراهيم شيخا يستقسم بالأزلام .
وجاء في رواية الواقدي انها أغلقت عليه ومعه بلال بن رباح وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة فمكث بها ما شاء اللّه ، ولما أزال كل ما كان فيها من التماثيل والصور وصلى فيها خرج منها واخذ بعضادتي الباب واشرف على الناس ومعه مفتاحها وأهل مكة قيام تحته وبعضهم جلوس على الأرض فقال الحمد للّه الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، إلا أن كل مأثرة أو دم أو ربا في الجاهلية فهو تحت قدمي هاتين ، إلا سدانة الكعبة وسقاية الحج ، ثم التفت إلى قريش وقال يا معشر قريش : ان اللّه قد اذهب نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس لآدم وآدم من تراب ثم تلا قوله تعالى :
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ .
ووجه حديثه إلى المكيين ثانية وسألهم ما ذا ترون اني فاعل بكم وما تظنون قالوا أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت وأصبح أمرنا بيدك ، فقال إني أقول لكم : ما قاله أخي يوسف لإخوته لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم وهو ارحم الراحمين . اذهبوا فأنتم الطلقاء ، واطمأن المكيون على مصيرهم بعد هذا الاعلان العام وبعد ان أصبحوا في قبضته وتحت قدميه ، وحياتهم جميعا رهن بكلمة واحدة يوجهها لتلك الألوف المدججة بالسلاح القادرة على إبادتهم جميعا وضرب بذلك للعالم كله وللأجيال في كل عصر وزمان مثلا في الرحمة والعفو والترفع عن الحقد والانتقام .
ثم إنه استدعى عثمان بن طلحة وكان قبل هجرته إلى المدينة قد التقى به ورأى مفتاح الكعبة بيده ، فقال له يوم ذاك : لعلك ترى هذا المفتاح بيدي يوما أضعه حيث شئت ، فقال له عثمان : لقد هلكت قريش اذن وذلت ، فأجابه النبي بل عمرت وعزت ، فلما استدعاه يوم الفتح ليسلمه مفتاح الكعبة ، فقال له الست الذي قلت لك في مكة كذا وكذا ، فقال نعم يا رسول اللّه ، ثم سلمه مفتاح الكعبة وقال خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم ، وانتقلت سدانة الكعبة من بعده إلى أخيه شيبة وتوارثها أولاده من بعده .
وفيما كان مفتاح الكعبة بيده التفت إلى من حوله وقال ادعوا إلي عمر بن الخطاب فلما جاءه قال له النبي ( ص ) : هذا الذي كنت وعدتكم به وهو بذلك يشير إلى موقف عمر بن الخطاب يوم الحديبية ، وكان النبي قد وعدهم قبل عام الحديبية بأنهم سيدخلون مكة فاتحين ، ولما هادن قريشا عام الحديبية ، ورجع إلى المدينة وقف عمر بن الخطاب موقف المتردد والمتشكك بنبوة محمد ، وقال له ا وليس قد وعدتنا بأن ندخل مكة فأين ما وعدتنا به ، فقال له رسول اللّه أقلت لك انك تدخلها هذا العام قال لا ، قال ستدخلها ان شاء اللّه ، وفي هذا الموقف ومفتاح الكعبة بيده استدعاه وقال له هذا الذي كنت قد وعدتكم به وكان عمر قد قال ما شككت منذ أسلمت الا حين رجعنا من الحديبية ولم ندخل مكة لأن النبي قد وعدنا بدخولها ولم يتمكن من ذلك[2].
ولما جاء وقت صلاة الظهر امر رسول اللّه بلالا ان يؤذن فوق الكعبة ، فلما شرع في الأذان وبلغ إلى قوله اشهد ان محمدا رسول اللّه رفع صوته بها كأشد ما يمكن ان يكون ، فقال جماعة من قريش ليتنا متنا قبل هذا اليوم ولم نسمع بلالا ينهق فوق الكعبة .
وتكلم آخرون بما ينم عن حقدهم على محمد ( ص ) فنزل عليه الوحي وأخبره بمقالتهم كما جاء في شرح النهج . وجاء فيه وفي غيره من كتب السيرة ان سهيل بن عمرو قال : لما دخل محمد مكة دخلت بيتي وأغلقت بابه وقلت لولدي عبد اللّه وكان قد اسلم من امد بعيد : اذهب فاطلب لي أمانا من محمد فإني لا آمن على نفسي لأني لم أجد أحدا أساء إليه إلا واشتركت معه وحضرت مع قريش بدرا وأحدا ، فذهب عبد اللّه وطلب منه الأمان فقال هو آمن ثم التفت إلى من حوله ، وقال من لقي منكم سهيلا فلا يشدن النظر إليه ، ان سهيلا له عقل وشرف ، وما مثله من يجهل الاسلام فذهب عبد اللّه واخبر أباه بمقالة الرسول ( ص ) فقال سهيل : كان واللّه برا صغيرا وكبيرا فخرج من بيته يتجول في مكة فلم يتعرض له أحد بسوء ، واشترك مع النبي في معركة حنين كما سيأتي .
وخرج رسول اللّه من المسجد إلى الصفا والمروة فجلس يدعو اللّه سبحانه ويبتهل إليه ورآه الأنصار جالسا يدعو ربه ويشكره فخيل إليهم انه قد يترك المدينة ويتخذ مكة وطنا له بعد ان فتحها اللّه عليه واخذوا يتداولون فيما بينهم ، ويذكرون المرجحات التي قد يعتمدها النبي لاختيار مكة وترك المدينة ، وعرف ما دار بينهم ، وبعد ان فرغ من دعائه التفت إليهم وقال : معاذ اللّه المحيا محياكم والممات مماتكم ، فاطمأن الأنصار ان رسول اللّه لا يفضل عليهم أحدا .
ورجع النبي إلى المسجد والتف حوله أهل مكة يبايعونه على الاسلام رجالا ونساء خلا افراد قلائل خرجوا من مكة خوفا من القتل ، فيبايع الرجال على شهادة ان لا إله اللّه وان محمدا عبده ورسوله وعلى السمع والطاعة للّه ولرسوله واقبل رجال مكة أفواجا يتزاحمون على البيعة والدخول في الاسلام .
وجاءه رجل ليبايع فأخذته الرعدة والخوف ، فنظر إليه رسول اللّه بعطف ورحمة وقال له : هون عليك فإني لست بملك ، انما انا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة .
ولما انتهت بيعة الرجال ، أقبل النساء على البيعة ، وكانت الطريقة التي استعملها في بيعتهن انه وضع بين يديه اناء فيه ماء ، فإذا أسلمن يدخل يده في الماء ثم يخرجها منه فيدخلن أيديهن فيه .
وقيل إنه كان يضع على يده ثوبا وبعد الاقرار بالشهادتين يمسحن أيديهن على ذلك الثوب ، ويشترط عليهن ان لا يشركن باللّه شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه ولا يعصينه بمعروف .
وجاء عن ابن عباس ان المراد بالبهتان الذي نهاهن عنه ، هو ان المرأة كانت تلتقط الولد وتقول لزوجها هذا ولدي منك .
وكانت هند بنت عتبة بين النساء اللواتي بايعنه ولم يكن قد عرفها ، فلما قال : ولا يشركن باللّه قالت واللّه انك لتأخذ علينا امرا ما اخذته على الرجال وسنعطيك إياه ، فلما قال ولا يسرقن قالت إن أبا سفيان رجل شحيح ولا يعطيني ما يكفيني وولدي ، وربما اخذت منه وهو لا يعلم ، فقال وانك لهند ، قالت انا هند فاعف عما سلف عفا اللّه عنك فقال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ، فلما قال ولا يزنين قالت أو تزني الحرة يا رسول اللّه فتبسم رجل من قريش كانت بينه وبينها علاقات قبل الاسلام كما جاء في بعض المؤلفات في السيرة النبوية ، فلما قال ولا يقتلن أولادهن قالت ربيناهم صغارا ونقتلهم كبارا ، ولما قال ولا يعصينك في معروف ، قالت ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد ان نعصيك .
وكما عفا عن هند وأمثالها من ذوي الجرائم الكبيرة عفا عن صفوان بن أميّة ، وكان قد رابط هو وجماعة في الجهة التي دخل منها خالد بن الوليد ، وفر بعد ذلك حيث لم تجده المقاومة وخرج من مكة هاربا ومعه غلامه يسار ، فجاء عمير بن وهب إلى النبي ( ص ) يطلب له الأمان فأجابه النبي إلى ذلك وعفا عنه .
ولكن صفوان لم يطمئن لحديث عمير بن وهب وطلب منه ان يأتيه بعلامة من النبي يطمئن إليها فرجع عمير إلى النبي وعرض عليه طلب صفوان ؛ فأعطاه عمامته التي دخل بها مكة ، فأخذها عمير إليه ومضى وهو يقول له : جئتك من عند خير الناس وابر الناس واحلم الناس مجده مجدك وعزه عزك وملكه ملكك ، وقد بعث إليك ببرده الذي دخل فيه مكة ، فرجع صفوان معه إلى رسول اللّه وهو يصلي العصر ، قال صفوان كم يصلون قيل خمس صلوات في اليوم والليلة ، قال محمد يصلي بهم فقيل له نعم ، فلما سلم النبي من صلاته قال له صفوان يا محمد :
ان عمير بن وهب جاءني ببردك وزعم انك دعوتني للقدوم عليك فإن رضيت الاسلام وإلا خيرتني شهرين ، فقال رسول اللّه انزل أبا وهب ولك أربعة اشهر فنزل واطمأن لمصيره وبقي على شركه حتى كانت معركة حنين ، فاستعار منه النبي ( ص ) مائة درع واشترك مع المسلمين في تلك المعركة ، ولما انتهت مر رسول اللّه على شعب مملوء من النعم والشاء ، فنظر إليه صفوان وأطال النظر ، فقال له النبي ( ص ) يعجبك هذا الشعب يا أبا وهب قال نعم : قال هو لك وما فيه فقال صفوان اما واللّه ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي ، وأنا أشهد ان لا إله إلا اللّه وانك يا محمد رسول اللّه .
وجاء في كتب السيرة انه بعد ان فتح رسول اللّه مكة وفي غداة اليوم الثاني عدت خزاعة حليفة رسول اللّه على رجل من المشركين ينتسب إلى بني هذيل فقتلوه ، وحين علم النبي ( ص ) بذلك قام في الناس خطيبا ، وكان مما قال : أيها الناس ان اللّه حرم مكة يوم خلق اللّه السماوات والأرض فهي حرام إلى يوم القيامة لا يحل لامرئ يؤمن باللّه واليوم الآخر ان يسفك فيها دما أو يقطع فيها شجرا ، لم تحلل لأحد كان قبلي ، ولا تحل لأحد يكون بعدي ، ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضبا على أهلها ، ثم رجعت كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب ، فمن قال لكم ان رسول اللّه قد قاتل فيها فقولوا : ان اللّه قد أحلها لرسوله ولم يحللها لكم ، يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر ان نفع ، لقد قتلتم قتيلا لأدينه من مالي ، فمن قتل بعد مقالي هذا فأهله بخير النظرين ، ان شاءوا فدم قاتله وإن شاءوا فديته ، ثم أدى دية القتيل .
واكبرت منه قريش جميع مواقفه من مكة وأهلها التي تجلى فيها تعظيم مكة وتقديسها وعطفه وسماحته وعفوه العام الذي شمل أشد الناس عداوة له فمالت قلوبهم إليه واقبلوا على الإسلام يقول بعضهم لبعض من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يترك في داره صنما الا حطمه ، واستسلم سادتها واتباعهم وعلت كلمة اللّه في جنباتها ، وانزل اللّه على رسوله :
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً ( سورة النصر ) .
وحدث ابن هشام في سيرته انه بينما كان النبي يطوف بالبيت بعد ان دخل مكة فاتحا اقبل عليه فضالة بن عمير بن الملوح الليثي وهو يحدث نفسه بقتله فلما اقبل عليه قال له النبي أفضالة : قال نعم يا رسول اللّه قال بما ذا كنت تحدث نفسك قال لا شيء ، لقد كنت اذكر اللّه ، فضحك النبي ، ثم قال استغفر اللّه ووضع يده على صدري فسكن قلبي ، وأضاف إلى ذلك ابن هشام في سيرته ان فضالة كان يقول : بعد ذلك واللّه ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق اللّه أحد أحب إلي منه ثم رجعت إلى أهلي فمررت على امرأة كنت أتحدث إليها ، فقالت هلم إلى الحديث فقلت : لا . ثم انبعث يقول :
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا * يأبى عليك اللّه الاسلام
لو ما رأيت محمدا وقبيله * بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين اللّه أضحى بينا * والشرك يغشى وجهه الاظلام
وجاء في طبقات ابن سعد وغيرها من المؤلفات في السيرة ان النبي أقام بمكة خمسة عشر يوما ينظم خلالها شؤون مكة ويفقه أهلها في الدين واستعمل عليها عتاب بن أسيد وترك معاذ بن جبل يعلمهم السنن والفقه .
[1] هذا الحديث من الموضوعات ، والذين وضعوه أرادوا بذلك تغطية بعض الجرائم التي ارتكبها بعض من حضر معركة بدر ، وليس من منطق الأديان ان يسمح اللّه للناس بارتكاب الجرائم والمخالفات لمجرد انهم اشتركوا في معركة كانت نتائجها لصالح المسلمين ، أو لأنهم فعلوا خيرا وأحسنوا إلى الناس مهما كان احسانهم بالغ الأثر لقد حدد القرآن موقف الاسلام من المحسنين والمسيئين بالآية التالية : فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ .
[2] انظر شرح النهج ج 3 ص 109 وتاريخ الخميس في أحوال أنفس نفيس ج 2 ص 22 .
الاكثر قراءة في حاله بعد الهجرة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة