أولاد لسان الدين
المؤلف:
أحمد بن محمد المقري التلمساني
المصدر:
نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
الجزء والصفحة:
ص:377-390
2025-12-11
54
أولاد لسان الدين رحمهم الله تعالى:
وقد قدمنا أن علي بن لسان الدين كان نديم السلطان وخاصته، كما ذكرنا في مخاطبته لابن مرزوق في الباب الخامس قوله: فالسلطان يرعاه الله تعالى يوجب ما فوق مزية التعظيم، والولد هداهم الله تعالى قد أخذوا بحظ قل أن ينالوه بغير هذا الإقليم، والخاصة والعامة تعامل بحسب ما بلته من نصح سليم وترك لما بالأيدي وتسليم، وتدبير عاد على عدوها بالعذاب الأليم، إلا من أبدى السلامة وهو من إبطان الحسد بحال السليم؛ انتهى.
ولقد صدق رحمه الله تعالى فيما ذكره من النصح وغيره.
ومن نصائحه رحمه الله تعالى ما كتب به على لسان السلطان، ونصه: من عبد الله أمير المسلمين محمد وصل الله تعالى سعده، وبلغه من فضله العميم قصده، إلى أوليائنا المخصوصين منا ومن سلفنا بذمام الجوار القريب، والمساكنة التي لا يتطرق إلى حقها الذي بني استرابة المستريب، المعتمدين إذا عدت الرعايا، وذكرت المزايا، بمزيد الاعتناء والتقريب، من الأشياخ الجلة الشرفاء والعلماء، والصدور الفقهاء، والعدول الأذكياء، والأعيان الوزراء، والحماة المدافعين عن الأرجاء، والأمناء الثقات الأتقياء، والكافة الذين نصل إيهم عوائد الاعتناء، ونسير فيهم بإعانة الله تعالى على السبيل السواء، من أهل حضرتنا غرناطة المحروسة بفضل الله تعالى وربضها، شرح الله تعالى لقبول الحكمة والموعظة الحسنة صدورهم، وكنف بنتائج الاستقامة سرورهم، وأصلح بعنايته أمورهم، واستعمل فيما يرضيهم أميرهم ومأمورهم: سلام كريم عليكم أجمعين ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي إذا رضي عن قوم جعل لهم التقوى لباسا، والذكرى لبناء المتاب أساسا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسوله الذي هدانا إلى الفوز العظيم ابتغاء لرحمته والتماسا، والرضى عن آله الذين اختارهم له ناسا، وجعلهم مصابيح من بعده اقتداء واقتباسا، فإنا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى إعزازكم وحرس أحوازكم؛ وجعل للعمل الصالح اهتزازكم؛ وبقبول النصائح امتيازكم - من مستقرنا بمحروسة الحمراء، حماها الله سبحانه، ولا متعرف بفضل الله تعالى إلا هداية تظهر على الأقوال والأعمال، وعناية تحف من اليمين والشمال، وتوكل على الله يتكفل لنا ببلوغ الآمال، وأنتم أولياؤنا الذين لا ندخر عنهم نصحا، ولا نهمل في تدبيرهم ما يثمر نجحا، وبحسب هذا الاعتقاد لا نغفل عن نصيحة ترشدكم إذا غفلتم، وموعظة نقصها عليكم إذا اجتمعتم في بيوت الله واختلفتم، وذب عنكم تارة بسلم نعقدها، ومطاولة نسددها، وتارة بسيوف في سبيل الله تعالى نحددها، وعمارة للشهادة نرددها، ونفوس بوعد الله نعدها، ونرضى بالسهر لتنام أجفانكم، وبالكد لتتدع صبيانكم وولدانكم، وباقتحام المخاوف ليتصل أمانكم، ولو استطعنا أن نجعل عليكم وقاية كوقاية الوليد لجعلنا، أو أمكننا أن لا تفضلكم رعية بصلاح دين أو دنيا لفعلنا، هذا شغل زماننا منذ عرفناه، ومرمى همنا مهما استهدفناه، وقد استرعانا الله تعالى جماعتكم، وملانا طاعتكم، وحرم علينا إضاعتكم والراعي إذا لم يقصد بسائمته المراعي الطيبة، وينتجع مساقط الغمائم العصيبة، ويوردها الماء النمير، ويبتغ لها النماء والتثمير، ويصلح خللها، ويداو عللها، قل عددها، وعدمت غلتها وولدها، فندم على ما ضيعه في أمسه، وجنى عليها وعلى نفسه.
وألفيناكم في أيامنا هذه الميامن عليكم قد غمرتكم آلاء الله تعالى ونعمه، وملأت أيديكم مواهبه وقسمه، وشغل عدوكم بفتنة قومه فنمتم للعافية فوق مهاد، وبعد عهدكم بما تقدم من جهد وجهاد، ومخمصة وسهاد، فأشفقنا أن يجركم توالي الرخاء إلى البطر، أو تحملكم العافية على الغفلة عن الله تعالى وهي أخطر الخطر، أو تجهلوا مواقع فضله تعالى وكرمه، أو تستعينوا على معصيته بنعمه، فمن عرف الله تعالى في الرخاء وجده في الشدة، ومن استعد في المهل وجد منفعة العدة، والعاقل من لا يغتر في الحرب أو السلم بطلو المدة، فالدهر مبلي الجدة، ومستوعب العدة، والمسلمون إخوانكم اليوم قد شغلوا بأنفسهم عن جبركم، وسلموا لله في نصركم، ونشبت الأيدي ولا حول ولا قوة إلا بالله بثغركم، وأهمتهم فتن تركت رسوم الجهاد خالية خاوية، ورياض الكتائب الخضر ذابلة ذاوية، فإن لم تشمروا لما بين أيديكم في هذه البرهة فماذا تنتظرون وإذا لم تستنصروا بالله مولاكم فبمن تستنصرون وإذا لم تستعدوا في المهل فمتى تستعدون لقد خسر من رضي في الدنيا والآخرة بالدون، فلا تأمنوا مكر الله " فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " الأعراف: 99.
ومن المنقول عن الملل، والمشهور في الأواخر والأول، أن المعصية إذا فشت في قوم أحاط بهم سوء كسبهم، وأظلم ما بينهم وبين ربهم، وانقطعت عنهم الرحمات، ووقعت فيهم المثلات والنقمات، وشحت السماء، وغيض الماء، واستولت الأعداء، وانتشر الداء، وجفت الضروع، وأخلفت الرضوع.
فوجب علينا أن نستميلكم بالموعظة الحسنة، والذكرى التي توقظ من السنة، ونقرع آذانكم بقوارع الألسنة، فأفزعوا الشيطان بوعيها، وتقربوا إلى الله تعالى برعيها، الصلاة الصلاة فلا تهملوها، ووظائفها المعروفة فكملوها، فهي الركن الوثيق، والعلم الماثل على جادة الطريق، والخاصة التي يتميز بها هذا الفريق، وبادروا صفوفها الماثلة، وأتبعوا فريضتها النافلة، وأشرعوا إلى تاركها أسنة الإنكار، واغتنموا بها نواشئ الليل وبوادي الأسحار، والزكاة أختها المنسوبة، ولدتها المكتوبة المحسوبة، فمن منعها فقد بخل على مولاه، باليسير مما أولاه، وما أحقه بذهاب هبة الوهاب وأولاه؛ فاشتروا من الله تعالى كرائم أموالكم بالصدقات، وأنفقوا في سبيله بربحكم أضعاف النفقات، ووسوا سؤالكم كلما نصبت الموائد، وأعيدت للترفه العوائد، وارعوا حق الجوار، وخذوا على أيدي الدعرة والفجار، وأخرجوا الشنآن من الصدور، واجعلوا صلة الأرحام من عزم الأمور، وصونوا عن الاغتياب أفواهكم، ولا تعودوا السفاهة شفاهكم، وأقرضوا القرض الحسن إلهكم، وعلموا القرآن صبيانكم، فهو أس المبنى، وازرعوه في تراب ترائبهم فعسى أن يجنى، ولا تتركوا النصيحة لمن استنصح، وردوا السلام على من بتحية الإسلام أفصح، وجاهدوا أهواءكم فهي أولى ما جاهدتم، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، وثابروا على حلق العلم والتعلم، وحفوا بمراقي التكلم، وتعلموا من دينكم ما لا يسعكم عند الله تعالى جهله، ويتبين أنكم أهله، فمن القبيح أن يقوم أحدكم على وقاية بره وشعيره، ورعاية شاته وبعيره، ولا يقوم على شيء يخلص به قاعدة اعتقاده، ويعده منجاة ليوم معاده، والله عز وجل يقول ولقوله يرحل المنتجعون " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون " المؤمنون: 115.
وائنفوا من الحوادي الشنيعة، والبدع التي تفت في عضد الشريعة، فقد شن علينا الملبسة بأهل التصوف المغار، ونال حملتها بل جملتها بإغماضهم الصغار، وتؤول المعاد والجنة والنار، وإذا لم يغر الرجل على دينه ودين أبيه فعلى من يغار، فالأنبياء الكرام وورثتهم العلماء، هم أئمة الاقتداء، والكواكب التي عينها الحق للاهتداء، فاحذروا معاطب هذا الداء، ودسائس هذه الأعداء.
وأهم ما صرفتم إليه الوجوه، واستدفعتم به المكروه، العمل بأمره جل وعلا في الآية المتلوة، والحكمة السافرة المجلوة، من ارتباط الخيل وإعداد القوة، فمن كان ذا سعة في رزقه، فليقم لله بما استطاع من حقه، وليتخد فرسا يعمر محلته بصهيله، ويقتنه من أجل الله وفي سبيله، فكم يتحمل من عيال يلتمس مرضاتهن باتخاذ الزينة، والتنافس في ترف المدينة، ومؤونة الارتباط أقل، وعلى الهمة والدين أدل، إلى ما فيه من حماية الحوزة، وإظهار العزة، ومن لم يحسن الرمي فليتدرب، وباتخاذ السلاح إلى الله فليتقرب، وقبل الرمي تراش السهام، وعلى العباد الاجتهاد وعلى الله التمام.
والسكة الجارية في حوادث نواديكم، وأثمان العروض التي بأيديكم، من تحيف حروفها، ونكر معروفها، أو سامح في قبول زيف، أو مبخوس حيف، فقد اتبع هواه، وخان نفسه وسواه، قال الله عز وجل " أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين " الشعراء: 181 ولتعلموا أن نبيكم صلوات الله عليه إنما بعثه الله مجاهدا وبالحق قاضيا، وعن الهفوات حليما متغاضيا، فتمسكوا بحبله، ولا تعدلوا عن سبله، يروكم الله تعالى من سجله، ويراعكم من أجله، مراعاة الرجل لنجله، فهو الذي يقول " وما كان الله ليعذبهم وأ، ت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " الأنفال: 33 وإن كان في وطنكم اليوم سعة، وقد ألحفكم أمن من الله تعالى ودعة، فاحسبوا أنكم في بلد محصور، وبين لحيي أسد هصور، اكتنفكم بحر يعب عبابه، ودار بكم سور بيد عدوكم بابه، ولا يدرى متى ينتهي السلم، وينشعب الكلم، فإن لم تكونوا بناء مرصوصا، وتستشعروا الصبر عموما وخصوصا، أصبح الجناح مقصوصا، والرأي قد سلبته الحيرة، والمال والحريم قد سلبت فيه الضنانة والغيرة، وإن شاء الله تهب ريح الحمية، ونصرة النفوس على الخيالات الوهمية، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والله متم نوره على رغم الجاحدين وكره الكافرين " وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " البقرة: 249.
واعتقدوا أن الله تعالى لم يجعل الظهور مقرونا بعدد كثير، ولو مثل جراد مزرعة أثارها مثير، بل بإخلاص لا يبقي لغير الله افتقارا، ونفوس توسع ما سوى الحق اقتدارا، ووعد يصدق، وبصائر أبصارها إلى مثابة الجزاء تحدق، وهذا الدين ظهر مع الغربة، وشظف التربة، فلم ترعه الأكاسرة وفيولها، والقياصرة وخيولها، دين حنيف، وعلم منيف، من وجوه شطر المسجد الحرام تولى، وآيات على سبعة أحرف تتلى، وزكاة من الصميم تنتقى، ومعارج ترتقى، وحج وجهاد، ومواسم وأعياد، ليس إلا تكبير شهير، وأذان جهير، وقوة تعد، وثغور تسد، وفيء يقسم، وفخر يرسم، ونصيحة تهدئة، وأمانة تؤدى، وصدقة تخفى وتبدى، وصدور تشرح وتشفى، وخلق على خلق القرآن تحذى وتقفى، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا العقل قد سجل، والوعد به قد عجل " اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي؛ ورضيت لكم الإسلام دينا " المائدة: 3 ولا ينقطع لهذا الفرع عادة وصله، ما دام شبيها بأصله، وإنما هو حلب لكم زبدته الممخوضة، وخلاصته الممحوضة، والعاقبة للمتقين " ولتعلمن نبأة بعد حين " ص: 88.
وحضرتكم اليوم قاعدة الدين، وغاب المجاهدين، وقد اخترعت بنا أيامنا هذه وأيام والدنا المقدس الآثار الكبار، والحسنات التي تنوقلت بها الأخبار وأغفلت إلى زمنكم الحسنة المذخورة، والمنقبة المبرورة، وهي بيمارستان يقيم منكم المرضى المطرحين، والضعفاء المغتربين منهم والمعترضين في كل حين، فأنتم تطرونهم بالأقدام، على مر الأيام، ينظرون إليكم بالعيون الكليلة، ويعربون عن الأحوال الذليلة، وضرورتهم غير خافية، وما أنتم بأولى منهم بالعافية، والمجانين تكثر منهم الوقائع، وتفشو منهم إماتة العهد الذائع، عار تحظه الشرائع، وفي مثله تسد الذرائع.
وقد فضلتم أهل مصر وبغداد، بالرباط الدائم والجهاد، فلا أقل من المساواة في معنى، والمنافسة في مبنى، يذهب عنكم لؤم الجوار، ويزيل عن وجوهكم سمات العار، ويدل على همتكم، وفضل شيمتكم، أهل الأقطار، وكم نفقة هانت على الرجل في مشروع، وحرص اعتراه على ممنوع، فأسرعوا فالنظر في هذا المهم خير مشروع، ولولا اهتمامنا بمرتزقة ديوانكم، وإعدادنا مال الجباية للمجاهدين من إخوانكم، لسبقناكم إلى هذه الزلفة، وقمنا في هذا العمل الصالح بتحمل الكلفة، ومع ذلك فإذا قدناكم إلى الجنة ببنائه، وأسهمناكم في فريضة أجره وثنائه، فنحن إن شاء الله تعالى نعين له الأوقاف التي تجري عنها المرفقة، وتتصل عليه بها الصدقة، تأصيلا لفخركم، وإطابة في البلاد لذكركم، فليشاور أحدكم همته ودينه، ويستخدم يساره في طاعة القصد الكريم ويمينه، ونسأل الله تعالى أن يوفق كلا لهذا القصد ويعينه، ومن وراء هذه النصائح عزم ينهيها إلى غايتها، ويجبر الكافة على اتباع رأيها ورايتها، فأعملوا الأفكار فيما تضمنته من الفصول، وتلقوا داعي الله تعالى فيها بالقبول، والدنيا مزرعة الآخرة، وكم معتبر للنفوس الساخرة، بالعظام الناخرة " يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور " فاطر: 5 وأنتم اليوم أحق الناس بقبول الموعظة نفوسا زكية، وفهوما لا قاصرة ولا بطية، وموطن جهاد، ومستسقى غمام من رحمة الله تعالى وعهاد، وبقايا السلف بالأرض التي فتحوا فيها هذا الوطن، وألقوا فيها العطن، فإلى أين يذهب حسن الظن بأديانكم، وصحة إيمانكم، وتساوي إسراركم وإعلانكم اللهم إنا قد خرجنا لك فيهم عن العهدة المتحملة، وبلغناهم نصيحتك المكملة، ووعدناهم مع الامتثال رحمتك المؤملة، فيسرنا وإياهم لليسرى، وعرفنا لطائفك التي خفي فيها المسرى، ولا تجعلنا ممن صم عن النداء، وأصبح شماتة الأعداء، فما ذل من استنصر بجنابك، ولا ضل من استبصر بسنتك وكتابك، ولا انقطع من توسل بأسبابك، والله سبحانه يصل لكم عوائد الصنع الجميل، ويحملكم وإيانا من التوفيق على أوضح سبيل، ويصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
ومن ذلك قوله رحمه الله تعالى على لسان السلطان بعد كلام:
الله الله في الهمم فقد خمدت ريحها، والله الله في العقائد فقد خفيت مصابيحها، والله الله في الرجولية فقد فل حدها، والله الله في الغيرة فقد تعسر جدها، والله الله في الدين فقد طمع الكفر في تحويله، والله الله في الحريم فقد مد إلى استرقاقه يد تأميله، والله الله في الملة التي يريد إطفاء سناها، وقد كمل فضلها وتناهى، والله الله في الحريم، والله الله في الدين الكريم، والله الله في القرآن، والله الله في الجيران، والله الله في الطارف والتالد، والله الله في الوطن الذي توارثه الولد عن الوالد، اليوم تستأسد النفوس المهينة، اليوم يستنصر الصبر والسكينة، اليوم ترعى لهذه المساجد الكرام، اليوم يسلك سبيل العزم والحزم والشدة والشمم (1) ، اليوم يرجع إلى الله المصرون، اليوم يفيق من نوم الغفلة المغترون، قبل أن يتفاقم الهول، ويحق القول، ويسد الباب، ويحيق
العذاب، ويسترق الكفر الرقاب، فالنساء تقي بأنفسهن أولادهن الصغار، والطيور ترفرف لتحمي الأوكار، إذا أحست العيث (2) بأفراخها والإضرار، تمر الأيام عليكم مر السحاب، وذهاب الليالي لكم ذهاب، فلا خبر يفضي إلى العين، ولا حديث في الله تعالى يسمع بين اثنين، ولا كد إلا لزينة يحلى بها نحر وجيد، ولا سعي إلا لمتاع لا يغني في الشدائد ولا يفيد، وبالأمس ندبتم إلى التماس رحمي مسخر السحاب، واستقالة كاشف العذاب، وسؤال مرسل الديمة، ومحيي البشر والبهيمة، وقد أمسكت عليكم رحمة السماء، واغبرت جوانبكم المخضرة احتياجا إلى بلالة الماء " وفي السماء رزقكم وما توعدون " الذاريات: 22 وإليها الأكف تمدون، وأبوابها بالدعاء تقصدون، فلم يصحر منكم عدد معتبر، ولا ظهر للإنابة ولا الصدقة خبر، وتثوقل عن إعادة الرغبة إلى الولي الحميد، والغني الذي " إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد " إبراهيم: 19 وايم الله لو كان لهوا لارتقبت الساعات، وضاقت المتسعات، وتزاحمت على أنديته الجماعات.
أتعززا على الله وهو القوي العزيز أتلبيسا على الله وهو الذي يميز الخبيث من الطيب والشبه من الإبريز أمعاندة والنواصي في يديه أغرورا بالأمل والرجوع بعد إليه من يبدأ الخلق ثم يعيده من ينزل الرزق ويفيده من يرجع إليه في الملمات من يرجى في الشدائد والأزمات من يوجد في المحيا والممات أفي الله شك يختلج القلوب أثم غير الله يدفع المكروه وييسر المطلوب تفضلون على اللجإ إليه (3) عوائد الفضل، ونزه الجهل، وطائفة منكم قد برزت إلى استسقاء رحمته تمد إليه الأيدي والرقاب، وتستكشف بالخضوع لعظمته العقاب، وتستعجل إلى مواعيد إجابته الارتقاب، وكأنكم عن كرمه قد استغنيتم، أو على الامتناع من الرجوع إليه ينيتم.
أما تعلمون كيف كان نبيكم صلوات الله عليه من التبليغ (4) باليسير، والاستعداد للرحيل إلى دار الحق والمسير، ومداومة الجوع، وهجر الهجوع، والعمل على الإياب إلى الله تعالى والرجوع: دخلت فاطمة رض الله تعالى عنها وبيدها كسرة شعير فقال: ما هذا يا فاطمة فقالت: يا رسول الله خبزت قرصة وأحببت أن تأكل منها، فقال: يا فاطمة أما إنه أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث. وكان صلى الله عليه وسلم يستغفر في اليوم سبعين مرة يلتمس رحماه، ويقوم وهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر حتى ورمت قدماه، وكان شأنه الجهاد، ودأبه الجد والاجتهاد، ومواقف صبره تعرفها الربى والوهاد، ومقامات رفقه تحوم على مراتبها الزهاد، فإذا لم تقتدوا به فبمن تقتدون وإذا لم تهتدوا به فبمن تهتدون وإذا لم ترضوه باتباعكم فكيف تعتزون إليه وتنتسبون وإذا لم ترغبوا في الاتصاف بصفاته غضبا لله تعالى وجهادا، وتقللا من العرض الأدنى وسهادا، ففيم ترغبون فابتروا حبال الآمال فكل آت قريب، واعتبروا بمثلات من تقدم من أهل البلاد والقواعد فذهولكم عنها غريب، وتفكروا في منابرها التي يعلو عليها واعظ وخطيب، ومطيل ومطيب، ومساجدها المتعددة الصفوف والجماعة، المعمورة بأنواع الطاعة، وكيف أخذ الله تعالى فيها بذنب المترفين من دونهم، وعاقب الجمهور بما أغضوا عنه عيونهم، وساءت بالغفلة عن الله تعالى عقبى جميعهم، وذهبت النقمات بعاصيهم ومن داهن في أمره من مطيعهم، وأصبحت مساجدهم مناصب للصلبان، واستبدلت مآذنهم بالنواقيس من الأذان، هذا والناس ناس والزمان زمان.
فما هذه الغفلة عمن إليه الرجعى وإليه المصير وإلى متى التساهل في حقوقه وهو السميع البصير وحتى متى مد الأمل في الزمن القصير وإلى متى نسيان اللجإ إلى الولي النصير قد تداعت الصلبان مجلبة (5) عليكم، وتحركت الطواغيت من كل جهة إليكم، أفيخلكم الشيطان وكتاب الله قائم فيكم وألسنة الآيات تناديكم، لم تمتح سطورها، ولا احتجب نورها، وأنتم بقايا من فتحها من عدد قليل، وصابر فيها كل خطب جليل، فوالله لو تمحض الإيمان، ورضي الرحمن، ما ظهر التثليث في هذه الجزيرة على التوحيد، ولا عدم الإسلام فيها عادة التأييد، لكن شمل الداء، وصم النداء، وعميت الأبصار فكيف الاهتداء والباب مفتوح، والفضل ممنوح، فتعالوا نستغفر الله جميعا فهو الغفور الرحيم، ونستقل مقيل العثار فهو الرؤوف الحليم، ونصرف الوجوه إلى الاعتراف بما قدمت أيدينا فقبول المعاذير من شأن الكريم، سدت الأبواب، وضعفت الأسباب، وانقطعت الآمال إلا منك يا فتاح يا وهاب " يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم، ويثبت أقدامكم " محمد: 7 " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " آل عمران: 139 " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " آل عمران: 200 أعدوا الخيل وارتبطوها، وروضوا النفوس على الشهادة وغبطوها، فمن خاف الموت رضي بالدنية، ولا بد على كل حال من المنية، والحياة مع الذل ليست من شيم النفوس السنية، واقتنوا السلاح والعدة، وتعرفوا إلى الله تعالى في الرخاء يعرفكم في الشدة، واستشعروا القوة بالله تعالى على أعدائه وأعدائكم، واستميتوا من دون أبنائكم، وكونوا كالبناء المرصوص لحملات هذا العدو النازل بفنائكم، وحوطوا بالتعويل على الله تعالى وحده بلادكم، واشتروا من الله جل جلاله أولادكم. ذكروا أن امرأة احتمل السبع ولدها وشكت إلى بعض الصالحين، فأشار عليها بالصدقة، فتصدقت برغيف، فأطلق السبع ولدها، وسمعت النداء: يا هذه لقمة بلقمة، وإنا لما استودعناه لحافظون.
واهجروا الشهوات، واستدركوا البقية من بعد الفوات، وأفضلوا لمساكينكم من الأقوات، واخشعوا لما أنزل الله تعالى من الآيات، وخذوا نفوسكم بالصبر على الأزمات، والمواساة في المهمات، وأيقظوا جفونكم من السنات، واعلموا أنكم رضعاء ثدي كلمة التوحيد، وجيران البلد الغريب والدين الوحيد، وحزب التمحيص، ونفر المرام العويص، فتفقدوا معاملاتكم مع الله تعالى، ومهما رأيتم الصدق غالبا، والقلب للمولى الكريم مراقبا، وشهاب اليقين ثاقبا، فثقوا بعناية الله التي لا يغلبكم معها غالب، ولا ينالكم لأجلها عدو مطالب، فإنكم في الستر الكثيف، وكنف (6) الخبير اللطيف، ومهما رأيتم الخواطر متبددة، والظنون في الله مترددة، والجهات التي تخاف وترجى متعددة، والغفلة عن الله ملامسها متجددة، وعادة دواعي الخذلان دائمة، وأسواق الشهوات قائمة، فاعلموا أن الله تعالى منفذ فيكم وعده ووعيده في الأمم الغافلين، وأنكم قد ظلمتم أنفسكم ولا عدوان إلا على الظالمين، والتوبة ترد الشادر (7) إلى الله تعالى والله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وهو القائل " إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين " هود: 114.
وما أقرب صلاح الأحوال مع الله تعالى إذا صحت العزائم، وتوالت على حزب الشيطان الهزائم، وخملت الدنيا لا غريبة في العيون، وصدقت فيها عند الله الظنون " يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور " فاطر: 5 وثوبوا سراعا إلى طهارة الثوب، وإزالة الشوب، واقصدوا أبواب غافر الذنب وقابل التوب، واعلموا أن سوء الأدب مع الله تعالى يفتح أبواب الشدائد، ويسد طرق العوائد، فلا تمطلوا بالتوبة أزمانكم، ولا تأمنوا مكر الله فتغشوا إيمانكم، ولا تعلقوا متابكم بالضرائر، فهو علام السرائر، وإنما علينا أن ننصحكم وإن كنا أولى بالنصيحة، ونعتمدكم بالموعظة الصريحة، الصادرة - علم الله تعالى - عن صدق القريحة، وإن شاركناكم في الغفلة فقد سبقناكم إلى الاسترجاع والاستغفار، وإنما لكم لدينا نفس مبذولة في جهاد الكفار، وتقدم قبلكم إلى مواقف الصبر التي لا ترضى بالفرار، واجتهاد فيما يعود بالحسنى وعقبى الدار، والاختيار لله ولي الاختيار، ومصرف الأقدار، وها نحن نسرع في الخروج إلى مدافعة هذا العدو ونفدي بنفوسنا البلاد والعباد، والحريم المستضعف والأولاد، ونصلى من دونهم نار الجلاد، ونستوهب منكم الدعاء لمن وعد بإجابته، فإنه يقبل من صرف إليه وجه إنابته، اللهم كن لنا في هذا الاهتمام نصيرا، وعلى أعدائك ظهيرا، ومن انتقام عبدة الأوثان كفيلا، اللهم قو من ضعفت حيلته فأنت القوي المعين، وانصر من لا نصير له إلا أنت فإياك نعبد وإياك نستعين، اللهم ثبت أقدامنا وانصرنا عند تزلزل الأقدام، ولا تسلمنا عند لقاء عدو الإسلام، فقد ألقينا إليك يد الاستسلام، اللهم دافع بملائكتك المسومين، اللهم اجعلنا على تيقظ وتذكر من " قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم " آل عمران: 173.
وقد وردت علينا المخاطبات من إخواننا المسلمين الذين عرفنا في القديم والحديث اجتهادهم، وشكرنا في ذات الله تعالى جهادهم، بني مرين أولي الامتعاض لله تعالى والحمية، والمخصوصين بين القبائل الكريمة بهذه المزية، بعزمهم على الامتعاض لحق الجوار، والمصارخة التي تليق بالأحرار، والنفرة لانتهاك ذمار نبيهم المختار، وحركة سلطانهم بتلك الأقطار والأمصار، ومدافعة أحزاب الشيطان وأهل النار، فاسألوا الله تعالى إعانتهم على هذا المقصد الكريم الآثار، والسعي الضمين للعز والأجر والفخار، والسلام الكريم يخصكم أيها الأولياء ورحمة الله وبركاته؛ انتهى.
ومما كتبه ابن لسان الدين رحمه الله تعالى على لسان سلطانه الغني بالله تعالى والنظر إليهم بعين الشفقة ما صورته:
هذا كتاب كريم أصدرناه بتوفيق الله تعالى شارحا للصدور، مصلحا بإعانة الله تعالى للأمور، ملحفا العدل (8) والإحسان الخاصة والجمهور، يعلم من يسمعه أو يقف عليه، ومن يقرؤه ويتدبر (9) ما لديه، ما عاهدنا الله تعالى عليه من تأمين النفوس وحقن الدماء، والسير في التجافي عنها على السنن السواء، ورفع التناوب عن البعيد منها والقريب، والمساواة (10) في العفو والغفران بين البريء منها والمريب، وحمل من ينظر بعين العداوة في باطن الأمر محمل الحبيب، وترك ما يتوجه بأمر المطالبات، ورفض التبعات، مما لا يعارض حكما شرعيا، ولا يناقض سننا في الدين مرعيا، فمن كان رهن تبعة أو طريد تهمه، أو منبوزا (11) في الطاعة بريبة توجب أن نريق دمه (12) ، فقد سحبنا عليه ظلال الأمان وألحفناه أثواب العفو والغفران، ووعدناه من نفسنا مواعد الرفق والإحسان، حكما عاما، وعفوا تاما، فاشيا في جميع الطبقات، منسحبا على الأصناف المختلفات، عاملنا في ذلك من يتقبل الأعمال، ولا يضيع السؤال، واستغفرنا عن نفسنا وعمن أخطأ علينا من رعيتنا ممن يدرأ الشرع غلطته، ويقبل الحق فيأته " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " النساء: 110 لما رأينا من وجوب اتفاق الأهواء والضمائر، وخلوص القلوب والسرائر، في هذا الوطن الذي أحاط به العدو والبحر، ومسه بتقدم الفتنة الضر، وصلة لما أجراه الله تعالى على أيدينا، وهيأه بنا في نادينا، فلم يخف ما سكن بنا من نار الفتنة، ورفع من بأس وإحنة، وكشف من ظلمة، وسدل من نعمة، وأصفى من مورد عافية، وأولى من عصمة كافية، بعدما تخربت الثغور، وفسدت الأمور، واهتضم الدين، واشتد على العباد كلب الكافرين المعتدين " ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس " يوسف: 38 فله الحمد دائبا، والشكر واجبا، ومن الله نسأل أن يتمم نعمته علينا كما أتمها على أبوينا من قبل إن ربك حكيم عليم.
ونحن قد شرعنا في تعيين من ينوب عنا من أهل العلم والعدالة، والدين والجلالة، للتطوف في البلاد الأندلسية، ومباشرة الأمور بالبلاد النصرية، ينهون إلينا ما يستطلعونه، ويبلغون من المصالح ما يتعرفونه، ويقيدون ما تحتاج إليه الثغور، وتستوجبه المصلحة الجهادية من الأمور، ونحن نستعين بفضلاء رعيتنا وخيارهم، والمراقبين الله تعالى منهم في إيرادهم وإصدارهم، على إنهاء ما يخفى عنا من ظلامة تقع، أو حادث يبتدع، ومن اتخذت بجواره خمر فاشية، أو نشأت في جهته للمنكر ناشية، فنحن نقلده العهد، وتطوقه القلادة، ووراء تنبيهنا على ما خفي من الشكر لمن أهداه، وإحماد سعي من أبلغه وأداه، ما نرجو ثواب الله تعالى عليه، والتقرب به إليه، فمن أهدى لنا شيئا من ذلك فهو شريك في أجره، ومقاسم في مثوبته يوم ربح تجره، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) اليوم ... الشمم: سقطت من ق.
(2) ق: العياث.
(3) ق: الجالية.
(4) ق: التبليغ.
(5) ق: مجابة؛ التجارية: متراكمة.
(6) ق: وعظة.
(7) ق: السارح.
(8) ق: ملحفا جناح الله للعدل.
(9) ق: ويبدي.
(10) ق: والمساواة منها.
(11) ق: منبزا.
(12) توجب ... دمه: سقطت من ق.
الاكثر قراءة في العصر الاندلسي
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة