حسن الهاشمي
مثلما الواحد منّا يستمتع بالبساتين حين يدخلها حيث الماء الجاري والأشجار الباسقة والثمار المتدلّية والزهور الفوّاحة والخضرة النضرة، فالعلماء يستمتعون أكثر من هذه الأوصاف حينما يخوضون في الكتب ويحصلون على ضالتهم الفكرية، عبارة "الكتب بساتين العلماء" تعني أن الكتب بالنسبة للعلماء كالبساتين الغنّاء التي يجولون فيها، ويقطفون من ثمارها ما يشاءون من علم ومعرفة، فالبستان مكان فيه تنوّع من الثمار المتنوعة والروائح الفوّاحة والمناظر الجميلة، يمنح الإنسان الراحة والغذاء، أما الكتاب فانه مصدر غني ومتنوّع للعلم، يعطي القارئ فِكرا، ويوسّع أفقه، ويغذّي عقله وروحه.
كما يستمتع الإنسان بالبستان، فإن العالم يجد لذّته في الكتب، فالعلماء لا يستغنون عن الكتب، فهي وسيلتهم للفهم والتعليم والتأمّل، وكل كتاب يمثّل شجرة في بستان المعرفة، قال الجاحظ: "الكتاب هو الجليس الذي لا يُطريك، والصديق الذي لا يُغريك، والرفيق الذي لا يَمَلّك، والمستمع الذي لا يؤذيك" وهذا ما قصده المتنبي حينما قال: "وخير جليس في الزمان كتابُ" فالكتب ليست أوراقا فحسب، بل عوالم مليئة بالحياة، ومن يدخلها كالعالم الذي يدخل بستانا لا حدود له، فيه من الثمار ما يغذّي العقل والروح والجسد.
ونظرا لأهمية الكتاب في توجيه مسيرة البشرية إزاء منابع الخير والمعرفة ومواجهة التحديات أشاد ممثل المرجعية الدينية العليا والمتولّي الشرعيّ للعتبة العبّاسية المقدّسة سماحةُ العلّامة السيد أحمد الصافي، بجهود إنقاذ مكتبة جامعة الموصل، مؤكّدا دعم العتبة المقدّسة للكفاءات العراقية لتمكينها مهنيّاً، جاء ذلك خلال استقبال سماحته وفد مركز الفضل لصيانة وحفظ التراث المخطوط، التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة المقدّسة في قسم الشؤون الفكرية والثقافية، الأربعاء، 17 سبتمبر 2025م واستماعه إلى شرحٍ حول جهودهم في إنقاذ مكتبة جامعة الموصل بالتعاون مع منظّمة اليونسكو.
دور مركز الفضل في انقاذ المكتبات
مركز الفضل لصيانة وحفظ التراث المخطوط والأرشيف الوثائقي يُعدّ واحداً من أهمّ المحطّات الوطنية النادرة لحفظ التراث المخطوط؛ لما يحتويه من إمكانات تقنيّة وخبرات عراقية قلّ نظيرها، استطاع خلال سنواتٍ من ترميم وحفظ آلاف المخطوطات الدينيّة والعلميّة.
تتمثل أهداف المركز في حفظ وصيانة التراث الوطني من (كتب، مخطوطات، دوريات (... كما يقوم بدور قيادي في رفع مستوى الخدمات على الصعيد الوطني والمساهمة في بالنهوض بواقع المكتبات والمعلومات الوطنية والعمل على تطويرها وذلك عن طريق:
1ـ إعداد المعايير المتعلقة بالمعالجة المكتبية والتوثيقية والإعلامية على الصعيد الوطني وتطبيقها.
2ـ التعاون مع المكتبات ومراكز المعلومات الوطنية.
3ـ التعريف بالمجموعات المتوفرة لديها عن طريق اقامة المعارض وإقامة المؤتمرات الثقافية.
وفي هذا الإطار بارك السيد الصافي للوفد جهودهم في إنقاذ مكتبة جامعة الموصل، من الاندثار والدمار الذي سبّبته عصاباتُ داعش، مؤكّدا "أن ذلك يُعدّ أحد إنجازات العتبة المقدّسة في مساعدة المؤسّسات الثقافية في البلاد، للنهوض بواقعها".
وحري بالذكر ان المركز يسهم في نقل الإرث العلمي والثقافي لأجيال المستقبل، وهو جزء من هوية الأمة وتراثها الفكري، وهذا يعنى صيانة وحفظ التراث المخطوط والأرشيف الوثائقي والتاريخي بصورة علمية مدروسة ودقيقة، ولا يخفى على أحد ان المركز لا يزال يعمل وبكل جدّ ومثابرة بصيانة المخطوطات التاريخية من التلف والاهتراء بفعل الزمن والعوامل البيئية، وكذلك يعمل على حفظ الأرشيف الوثائقي الذي يمثل جزءا مهما من الذاكرة الثقافية والحضارية للمجتمع الإسلامي والعراقي، وإعادة ترميم المخطوطات النادرة وإرجاعها إلى حالتها الأصلية قدر الإمكان، علاوة على توفير مخطوطات مؤرّخة ومحميّة للباحثين والمحققين والدارسين.
وأهم نشاطات المركز الرئيسيّة الترميم الفني وصيانة العلوم التطبيقية وذلك باستخدام المتخصصين لتقنيات حديثة وأجهزة متطورة (كالمختبرات البيولوجية والكيميائية) لإصلاح المخطوطات وإزالة الأضرار دون التأثير على أصل النص، ويقوم كذلك بحفظ الأرشيف التاريخي وإدامة الكتب والمخطوطات والوثائق القديمة، بما يحفظ هويتها الثقافية، خدمة للباحثين، اذ تجهّز النسخ المرمَّمة لتكون متاحة للباحثين عبر أرشفتها وتصويرها إلكترونيا، وتقديم النسخ الرقمية عند الحاجة، ولإدامة ما ذكر يقوم المركز بعقد دورات تدريبية وورش عمل للمختصين من داخل العراق وخارجه لتحسين مهارات الترميم والحفظ، وبهذا اللحاظ يعتبر المركز من أهم محطات الحفظ والترميم في العراق للتراث المخطوط لما يمتلكه من خبرات وإمكانات تقنية مؤهلة.
دعم الكفاءات العراقية
دعم الكفاءات العلمية وتوفير سبل النجاح لها يُعدّ من الركائز الأساسية لنهضة الأمم وتقدمها، ويتجلى ذلك عبر عدّة خطوات مهمة:
1ـ توفير بيئة علميّة محفّزة عبر إنشاء مراكز بحثيّة مجهّزة، ودعم الجامعات والمؤسسات العلميّة، وتوفير المكتبات والمصادر الرقميّة.
2ـ الدعم المالي والمعنوي، ويتحقق بتقديم المنح والزمالات الدراسية، وتمويل البحوث والمشاريع العلمية، وتكريم المتميزين وتشجيع الإبداع.
3ـ لا يمكن توفير فرص العمل والتطوير الا بتوظيف الكفاءات في مجالاتها التخصصية، وإشراكهم في المشاريع الوطنية، وفتح برامج تدريبية وتطوير مستمر.
4ـ التعاون الدولي والعلمي، وهذا مهم في إشراكهم في مؤتمرات ومعارض عالمية، وعقد شراكات علمية مع جامعات رصينة، ودعم النشر العلمي في المجلات المصنفة.
5ـ تحصينهم من التسرّب والهجرة، وذلك بتحسين الرواتب والامتيازات، وإشعارهم بأهمية دورهم في بناء الوطن، وإشراكهم في اتخاذ القرار العلمي والسياسي.
ينبغي ان ندرك جيدا ان استثمار الكفاءات العلمية ليس ترفا، بل ضرورة استراتيجية لضمان السيادة العلمية والتطور الحضاري، وهو مسؤولية تشترك فيها الدولة والمؤسسات والمجتمع، ولهذا قال سماحة السيد الصافي "إنّنا يجب أن نتذكّر دائما إحدى مفردات السياسة التي تعمل عليها إدارةُ العتبة المقدّسة، إزاء الملاكات العاملة فيها، وهي الاعتزاز بالكفاءات العراقيّة والثقة بها، لا من باب العاطفة بل لأنّها جديرةٌ بالثقة، ولا تحتاج خبرةً ومهنيّة بل تحتاج توفير سبل نجاحها في مهامّها".
وأضاف "هناك مشكلةٌ عامّة في البلد، تشمل كثيرين ولا أقول الجميع، وهي أن العراقيّ لا يسمع من عراقيٍّ في مجاله، وهناك تفضيل لغيرهم على أبناء جلدتهم، مع أنّ أقرانهم من العراقيّين يساوون أولئك في الكفاءة بل قد يتفوّقون عليهم، وهذه المشكلة تنسحب على التعريف بالغير لدرجة تضخيم إنجازاته، والتقليل من إنجاز العراقيّ المُبدِع لدرجةٍ قد تصل إلى تضييع حقّه".
وتابع سماحته بالقول، "نحن في العتبة المقدّسة -بحمده تعالى- نهتمّ بكفاءاتنا ونبرّزها، ونسعى لتطويرها ونعرّف العالم بها، وهكذا نرى المؤسّسات العراقيّة الأُخَر تسارع للاستعانة بهم في أعمالها، ولعلّ إصلاح وترميم كتب جامعة الموصل من قِبلكم هو واحدٌ من العديد من المشاريع التي أنجزتها العتبة المقدّسة، لمساعدة البلد على النهوض بعد كبوته".
تدريب الملاكات للوصول الى أفضل الغايات
تدريب الملاكات في صيانة المجموعات التراثية يُعدّ من الأسس الحيوية للحفاظ على الإرث الثقافي والحضاري، ويهدف إلى تأهيل كوادر متخصصة تضمن بقاء هذا التراث للأجيال القادمة، ويشمل التدريب ما يلي:
1ـ المفاهيم الأساسية التي تتبلور في تعريف التراث وأنواعه (مخطوطات، لوحات، قطع أثرية...) وهو مهم في عملية الصيانة والترميم ريثما تتحقق حفظ الهوية الثقافية الاصيلة.
2ـ المهارات الفنية في الفحص والتحليل الأولي للمواد التراثية، وتقنيات التنظيف والتعقيم الآمن، وطرق الحفظ الوقائي للمواد العضوية وغير العضوية، وترميم المخطوطات والوثائق والقطع الفنية بدقة علمية.
3ـ استخدام التكنولوجيا عبر الاستفادة من الأجهزة الحديثة في التوثيق والفحص (مثل التصوير بالأشعة تحت الحمراء) وأرشفة إلكترونية دقيقة للمجموعات.
4ـ الجوانب الأخلاقية والقانونية والالتزام بالمعايير الدولية في الترميم، وهذا يحفظ حقوق الجميع دون تجاوز أو غمط لحقوق الآخرين، مع الاحتفاظ بالخصوصيات القيمية التي تساهم في ترشيد العمل في اطار النزاهة والكفاءة وحفظ الحقوق والالتزامات الدولية.
5ـ التدريب العملي وذلك بإنشاء ورش عمل تطبيقية بإشراف مختصين، وزيارات ميدانية للمكتبات والمتاحف والمراكز التراثية.
الهدف النهائي من ذلك كله بناء طاقم وطني يمتلك المهارة والعلم في التعامل مع التراث بحرفية، يساهم في حفظ الذاكرة الثقافية ويمنع ضياعها بفعل الإهمال أو الظروف البيئية أو النزاعات، والجهات الراعية لمثل هذه البرامج غالبا ما تُقام تحت إشراف العتبات المقدسة، أو المراكز التراثية كـ"مركز الفضل" التابع للعتبة العباسية.
ومن جانبه قال مديرُ مركز الفضل لحفظ وصيانة التراث المخطوط والأرشيف الوثائقي السيد ليث لطفي: "إن اللقاء بسماحة السيد الصافي شهد عرض بعض المشاريع الاستراتيجية، التي نفّذها المركز في الفترة الأخيرة، ومنها مشروع إنقاذ المكتبة المركزية لجامعة الموصل، بالتنسيق مع منظّمة اليونسكو العالمية، بعد اختيار مركز الفضل كشريكٍ محلّي لإنقاذ هذه المكتبة" وأضاف "أنه استعرض دور المركز في تدريب الملاكات وإنشاء قسمٍ في جامعة الموصل، متخصّصٍ في صيانة المجموعات التراثية، وتقييم النتائج العمليّة المتحقّقة على أرض الواقع".







وائل الوائلي
منذ 5 ساعات
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN