المكان الذي سنتحدث عنه هو الفضاء الذي نعيش فيه، والإنسان لا يمكن له أن يتخيل الفضاء الذي يعيش فيه مهما حلق في سماء الخيال لأنه يعيش في داخله ولا يمكن له أن يخرج منه ليتفحصه من الخارج وهو مهما فكر وتأمل لا يستطيع أن يخرج من إطار المألوفات التي نشأ عليها في فهمه للفضاء ولو أمكن لأحدنا أن يخرج خارج الفضاء ويتفحصه من الخارج لعاد إلينا بأفكار تدعو الى العجب الشديد.
الانسان داخل هذا الفضاء يشبه السمكة التي تعيش داخل الماء فهي لا تدرك الوسط الذي تعيش فيه إلا قليلاً، وهي أيضًا تجهل العالم الخارجي الزاخر بالأحداث. فاذا سألت السمكة عن الكون قالت لك: هو عبارة عن ماءٍ وكائنات حية. إن الانسان في هذا الكون لا يعرف عن الفضاء الذي يعيش فيه أكثر مما تعرفه السمكة من الوسط الذي تعيش فيه؛ فهو لا يستطيع أن يفهم المكان إلا ضمن ما يألفه في حياته اليومية من أدوات ومعايير. إننا نحاول أن نركب صورة عن الفضاء، لكن هذه الصورة لن تكتمل من دون الله - كما عبّر أحد علماء الفلك. نحن نتصور أن الفضاء هو هذا العالم الذي نعيش فيه المليء بالأشجار والبحار والجبال والمباني. إن كل تصور تتصوره عن الفضاء هو من صنع عقولنا، مستندين بذلك الى مقاييسنا الفكرية التي نشأنا عليها وألفناها.
والمشكلة أننا نريد أن نخضع الكون كله لتلك المقاييس الساذجة، فنحن نظن أن فضاءنا محاط بفضاء آخر، وهذا الفضاء الآخر محاط بفضاء آخر، وهلم جرا، فإذا سئلنا: أين سينتهي الفضاء؟ جمجمنا، ثم تفرقنا من غير جواب، وربما خشينا على أنفسنا أن تذهب بنا هذه الأسئلة إلى مستشفى المجانين.
إن البعض يؤمن بما يقوله العلم الحديث عن الفضاء، لكنه في مخيلته بدائي، ينظر إلى الأرض، فيراها مسطحة، يمتد عمقها إلى ما لا نهاية، وينظر إلى السماء، فيراها كالسقف تتدلى منها النجوم كالقناديل، فاذا قلت له: ان العلم أثبت أن الأرض كروية، وهي تسبح في الفضاء، وتحيطها الكواكب والنجوم من كل جانب أوماً برأسه إيماءة القبول، وقال لك: أحسنت هذا هو العلم الصحيح ، لكن تلك الأفكار لا تدخل إلى أعماقه ، طالما هو يرى الأرض مسطحة رأي العين، وهو لا يستطيع أن يخالف مداركه بسهولة، وهذه عادة عقلية ابتلي بها بعض الناس قليلا او كثيرًا .
فلو حدثت أي إنسان عن أن هناك قطعة من الحديد بحجم الكف تستطيع من خلالها أن ترى، وتكلم إنسانًا آخر يبعد عنك مئات الأميال، وهو لم ير جهاز الموبايل قط لقابلك بالاستهزاء، والسخرية، فهو يرفض، ويستغرب كل فكرة تخالف مألوفاته السابقة. إن عقل الانسان عاجز عن إدراك الكون، والانسان كثيرا ما يتساءل في قرارة نفسه: الى أين ينتهي الكون؟ وهل له حدود؟ فإذا تصور أن له حدودًا أخذ يتساءل مرة أخرى: وماذا يوجد خلف الحدود وإذا صاغ جوابًا لسؤاله من خياله ظهرت له أسئلة أخرى فهو يبقى يتساءل ويتساءل دون توقف.
يصور علماء الكونيات الكون بلا حدود وأن الأرض في هذا الكون ما هي الأحبة رمل في صحراء شاسعة، وتصوير العلماء هذا أدى بالناس الى أن يفسروا الكون تفسيرات شتى وفقا لمعتقداتهم الدينية و إنتماءاتهم الفكرية. فالدينيون يعزون ذلك الى عظمة الله تعالى وقدرته فهم يقولون: خلق الله هذا الكون الشاسع ليدرك الإنسان عظمة الله تعالى وهم يبنون تفسيرهم هذا على مبدأهم الديني الذي يقول: إن كل شيء في الكون خلق من أجل الإنسان. سألني ذات مرة أحد الطلاب بعد أن ألقيتُ محاضرة بعنوان (الكون المذهل) قائلا: إذا كانت الأرض بهذا الحجم بالنسبة للكون فما الغاية من خلق كل هذه الأجرام السماوية؟ وهذا الكون الواسع؟ وهل نحن الوحيدون في هذا الكون؟ فكان جوابي: لا أعرف. وقد وجهتُ السؤال هذا الى أحد رجال الدين لعلي أجد إجابة مقنعة موجودة في الكتب الدينية فكان جواب رجل الدين هو: لكي يدرك الإنسان عظمة الله تعالى وقدرته وأخذ يلقي على أدلته العقلية والنقلية الواحدة تلو الأخرى.
واللادينيين يقولون إننا لسنا الوحيدين في هذا الكون ولا بد من وجود كائنات حية تشبه الإنسان تعيش في نواحي أخرى من الكون، وهم لهم أدلتهم الخاصة أيضا، بهم والغريب أن كلا من الدينيين واللادينيين مقتنعون بأدلتهم ومطمئنون لها ويريدون من الآخرين أن يقتنعوا بها ويطمئنوا لها وهم يتعجبون ويتساءلون لماذا لا يقتنع الآخرين بها كما اقتنعوا هم بها؟ ولا يدورون أن الآخرين يتعجبون ويتساءلون مثلهم.... وكل حزب بما لديهم فرحون.
وهناك صنف ثالث من الناس هم المتعصبون الدينيون والبسطاء وهؤلاء، لا يعترفون بأدلة أولئك ولا هؤلاء فهم تصورون أن الكون عبارة عن أرض مسطحة وشمس صغيرة وقمر صغير قريبين من الأرض ونجوم صغيرة مضيئة خلقها الله للزينة.
ومن طريف ما يذكر لي أحد الأشخاص أن اثنين من اجداده كانا جالسين في الصحراء في ليلة مقمرة وكان كل منهما حاملا بندقيته فعقدا رهان بينهما على: أي منهما يصيب القمر بطلقة من بندقيته، وبدءا بإطلاق النار من بندقيتهما على القمر لساعات الى أن عجزا وناما دون أن يكسب الرهان أي منها!... مع الأسف الشديد.
كنتُ أتحدث ذات يوم الى أحد البسطاء فقلت له: إن الله تعالى سوف يبعث من في القبور في يوم القيامة منذ عهد أبينا ادم الى آخر يوم في الحياة الدنيا، ففتح فاه تعجبا وقال لي: وأين المكان الذي يتسع لكل هؤلاء؟! فهو لا يستطيع أن يتصور المكان غير أرض فقط وأنه محدود بحدودها.
وهناك نكتة متداولة بين عامة الناس تقول: إذا كانت الجنة عرضها السنوات والأرض، فأين تكون النار يا ترى؟! إنهم يحددون المكان بحدود ما تراه أعينهم ولا يستطيعون أن يتصوروه بأوسع مما يرونه. وكثيرا ما رأيتهم يتجادلون في مجالسهم حول هذه النكتة (المحيرة) وكل منهم ينسج لها تفسيرًا من نسج خياله.
إن علماء الكونيات توصلوا الى اكتشاف العديد من الكواكب الصالحة للحياة، لكنهم لحد الآن لم يعرفوا هل توجد فيها حياة ام لا؟، وقد حاولوا عدة محاولات لاكتشاف ذلك وكل محاولاتهم باءت بالفشل.
والزمان لا يختلف عن أخيه المكان من حيث ماهيته، فهو أمر غامض مألوف، والمشكلة كل المشكلة في الشيء الغامض المألوف، فعامة الناس ينظرون الى الجانب المألوف فلا يسألون كيف؟ أو لماذا؟ والعلماء ينظرون الى الجانب الغامض، فيسألون ألف كيف؟ وألف لماذا؟
فصار هناك بون شاسع بين فهم العامة وتفسيرهم وفهم العلماء وتفسيرهم. سألت ذات يوم أحد العامة ما هو الزمن؟ فضحك حتى كاد أن يستلقي على قفاه، ثم قال وهل يوجد أحد في الدنيا كلها لا يعرف الزمن. وهذا حال الكثير من الناس، فلو سألت أي شخص وقلت له ما هو الزمن؟ قال لك. هو تلك اللحظات التي تمر علينا بحياتنا اليومية؛ أو هو الانتقال من الصبح إلى الظهر إلى الليل أو الانتقال من اليوم الى الغد؛ وهكذا، وربما هو في قرارة نفسه سخر منك، وحسبك كالطفل الذي يسأل عن أشياء بديهية لا تحتاج إلى السؤال عنها.
وهذا تعريف كل شخص له، لا فرق بين متعلم وغير متعلم، والغريب أن الكثير يتحدثون عن الزمن، لكنهم لا يعرفون عن ماهيته شيئًا، فالناس اعتادوا أن يفكروا في مفهوم الزمن على أنه الثواني، والدقائق، والساعات والأيام التي تمر عليهم، فصار عندهم من البديهيات، أما إذا سألتهم: متى بدأ الزمن؟ ومتى سينتهي؟ سلموا أمرهم الله الواحد القهار. وجه ذات يوم أحد العامة سوألا ناتجا من اعتقاده الديني الى رجل دين قائلا: إذا مات شخص قبل ألف عام من يوم القيامة، ومات شخص اخر قبل يوم واحد من يوم القيامة، وكان لكلا الشخصين نفس الحصيلة من الذنوب، فالأول سوف يعذب في القبر ألف عام والثاني سوف يعذب يوما واحدا، فأين عدالة الله في هذين الشخصين؟ فأجابه رجل الدين: إن الزمن الذي يمر علينا في عالم الدنيا هو غير الزمن في عالم البرزخ (وعالم البرزخ هو العالم الفاصل بين عالم الدنيا وعالم الاخرة). إن جواب رجل الدين هذا يتفق مع العلم على وجه من الوجوه.
إن هذا الانسان العامي بسؤاله هذا يتصور أن الزمن الذي يمر عليه في الحياة الدنيا يمر على الميت في داخل قبره المعدلات نفسها، والفرق فقط هو أن الميت لا يرى شروق الشمس و غروبها، فالميت في نظره كالمحبوس في غرفة ظلماء وأمامه منكر ونكير يلوحون بسياطهم النارية ويمتحنونه بعدة أسئلة وعليه أن يجيب على جميعها دون ترك، والويل له إذا أخطأ في الإجابة أو ارتبك وتلعثم فإن أجاب إجابة صحيحة أضاءت الغرفة بنور الجنة فشم نسيمها وعاش بنعيمها، وإن لم يجب إجابة صحيحة إنهال عليه منكر ونكير بالضرب بسياطهم النارية ولفحته نار جهنم من كل جانب وعُذب بجحيمها.
والواقع أن هذا التصور الخاطئ أنتجه بعض رجال الدين عبر التأريخ، فهم يصوّرون الله - جل شأنه – كالحاكم الجالس على كرسي الحكم ويحيط به الجلاوزة والجلادون الذين سلطهم على عباده وهم بهذا التصوير ينسبون الله -عز وجل- الظلم من حيث لا يشعرون.... والله المستعان على ما يصفون.
إنهم بهذا التصوير يجعلون الإنسان ينفر من الدين وهم يحسبون أنه ينجذب اليه، وحينذاك يكون عابدا زاهدا تقيا، على حد تصورهم، فهم ينتقون من الآيات تلك التي تنذر الإنسان بالعذاب فيركزون عليها ويبالغون في تفسيرها ثم ينطلقون بها في الأسواق صارخين، أما الآيات التي تعد الإنسان بالرحمة وتبشره بالنعيم فلا يكترثون لها، وهذا أدّى الى فهم الناس للدين على عكس ما أراد الأنبياء من الناس أن يفهموه.
إن الإنسان بفطرته يحسن الظن بالله تعالى، فلا يتوقع أن يعذبه الله مئات أو آلاف السنين لذنوب اقترفها ببضعة سنين عاشها في الدنيا، كما يزعم بعض رجال الدين، والإنسان حين يسمع أنه سوف يعذب عذابا شديدا على ذنب صغير اقترفه يمسي حائرا، فهو من جانب تدفعه فطرته الى حسن الظن بالله فلا يتوقع أن الله يعذبه مئات أو آلاف السنين على ذنب اقترفه ومن جانب آخر ينذره بعض رجال الدين بالعذاب العسير، فتتكون في مخيلته صورة مشوشة عن الله تعالى.
يعتقد رجال الدين هؤلاء أن الترهيب هو أصلح طريق لتقويم أخلاق الإنسان وأداء الفرائض العبادية التي فرضها الله تعالى على الإنسان، والواقع أن الترغيب هو خير وأصلح، فالترغيب يجعل الإنسان يعبد الله حبًا فيه وهذه خير عبادة وأرفع منزلة، أما الترهيب يجعل الإنسان يعبد الله خوفًا منه وهذه عبادة العبيد والله تعالى يريد من الإنسان أن يكون حرا لا عبدا.
صوّر بعض رجال الدين الله تعالى على أنه منتقم شديد العذاب، والأحرى بهم أن يصوروه على أنه رحيم رؤوف بالعباد فالعباد عيال الله والرحمة من أعظم صفات الله.
ولنعود الان الى الزمن ولنترك رجال الدين وما يقولون فالله سيحكم فيما يقولون وما يفعلون وهو خير الحاكمين.
إن الزمن في حقيقته كان لغزًا وما يزال وقد حير الفلاسفة، والعلماء منذ القدم وذهبوا فيه كل مذهب ولم يخرجوا بنتيجة موحدة.
إن الفضاء في كل مكان، من المجرات الكبيرة جدًا إلى الذرات الصغيرة جدا. فالذرة هي فضاء متكون من نواة، وتدور حولها إلكترونات على مسافات شاسعة نسبيا، ولو ألغينا المسافات بين الإلكترونات، والنواة في الذرة؛ لأصبحت الأرض بحجم حبة رمل، لكنها تبقى محافظة على كتلتها، فكتلة الأرض كما هي الآن وكتلتها عند إزاحة المسافات بين الالكترونات، والنواة في ذراتها هي هي، لا تتغير، ولا تتأثر بالحجم.
معظمنا يفكر بماذا لو أزلنا كل شيء من حولنا من بنايات وأشجار وحتى الأرض والشمس والنجوم والمجرات، ماذا لو أزلنا كل ذلك؟ ما الذي سيبقى؟ كلنا سنقول لا شيء، ونحن في ذلك مصيبون ومخطئون في آن واحد فالذي سيبقى هو ا الفضاء الخالي والفضاء الخالي ليس لا شيء بل هو شيء بخصائص خفية وحقيقية، وهو يشبه باقي الأشياء في حياتنا اليومية، فالفضاء الخالي هو حقيقي وحقيقي جدًا ولديه الكثير مما يجري في داخله، ولكن الفكر البشري يعجز عن إدراك كنهه. يصور نيوتن الفضاء كالمسرح الفارغ، وأن الاجرام السماوية تتحرك فيه كما يتحرك الممثلون في المسرح، وهو يعتقد أيضًا أن الفضاء مستقل عن الأجرام السماوية، كما أن المسرح مستقل عن الممثلين فالفضاء في نظر نيوتن هو الساحة التي تحدث فيها دراما الكون، ولا يوجد تفاعل بين الفضاء والأجرام السماوية فالفضاء بنظر نيوتن هو خامل ومطلق وثابت وأبدي.
إن هذه الفكرة أتاحت لنا أن نفهم تقريبا كل حركة يمكن أن نراها حولنا؛ ومكنت نيوتن من صياغة قوانين رياضية للحركة، والتي يمكن أن تتنبأ بكل شيء من سقوط التفاح من الأشجار إلى حركة الكواكب، والأقمار.
إن قوانين نيوتن كلها تتوقف على فكرة أساسية هي أن الفضاء حقيقي ومستقل، وإن كنت لا تراه، أو تشمه، أو تلمسه.
إن فكرة الفضاء لم تكن حديثة العهد؛ فقد ناقشها فلاسفة الطبيعة منذ القدم، وكل ما فعله نيوتن هو صياغة مصطلحات المناقشة بلفظ جديد، وصياغة قوانين له؛ وبذلك ولد العلم الحديث، ونجحت قوانين نيوتن في الحركة نجاحًا باهرًا لمئتي عام، إلى أن ظهرت أفكار موظف شاب يعمل في معهد براءات الاختراع السويسري اسمه: ألبرت آينشتاين. هذه الافكار هزت مسرح نيوتن من أساسه، وربطت المكان بالزمان، وصورت الفضاء بصورة جديدة استطاعت أن تحل الكثير من ألغازه، وهذا ما سنتطرق إليه لاحقا.
 تقول نظرية الانفجار العظيم: إن الكون كله كان عبارة عن نقطة أصغر من الذرة، وذات طاقة، وكثافة لا نهائية، ثم انفجرت هذه النقطة، وولدت هذا الكون العظيم، وإن الكون كان، وما يزال، وسيبقى في توسع مستمر، ثم سينكمش على نفسه بفعل الجاذبية، ويعود إلى حجمه الأصلي، وهو حجم النقطة التي انبثق منها.
يتساءل البعض عن مركز الفضاء الذي انطلقت منه هذه النقطة، وكونت هذا الكون العجيب، وهذا تساؤل مغلوط من أساسه؛ فالكون كله بفضائه وزمانه وطاقته ومادته كان في هذه النقطة الصغيرة، معنى هذا أن هذه النقطة هي الكون قبل الانفجار العظيم، ثم توسعت بعد الانفجار كتوسع البالون بالهواء وتوزعت مادتها، وطاقتها على كل الكون. اما من أين جاءت هذه النقطة، فلحد الان لا يوجد تفسير علمي لذلك، وكل ما نستطيع أن نقوله في هذا الصدد هو أنه لربما تولدت هذه النقطة نتيجة اصطدام كونين، أو أكثر وأيضًا يبقى السؤال: من أين أتت هذه الأكوان التي تصادمت فأنتجت هذه النقطة التي كونت كوننا ؟
هذه التساؤلات ، وما شابهها ما زالت مطروحة على العلم ، لكن العلم نفسه لحد الآن يقول: لا يمكن لشيء أن يأتي من لا شيء ، وربما استطاعت بعض الايديولوجيات الدينية السماوية منها والأرضية أن توجد تفسيرًا لذلك من معتقداتها وأفكارها او من اساطيرها وخرافاتها، فهي لا تعجز في إيجاد تفسير لكل شيء يعجز العلم عن تفسيره ثم تضفي عليه الشرعية والقدسية لحاجة في نفس يعقوب، وهي غالبًا تستخدم الأفكار المحركة لعقول الناس والأسلوب العاطفي الذي يتناغم معهم ، والإنسان عادة يلجأ الى معتقداته الدينية إذا اصابته الحيرة في فهم أي ظاهرة، وهو لا يجد مشقة في البحث عنها في معتقداته الدينية فمعتقداته مليئة بالأفكار والخرافات والأساطير وهي في متناول يد كل إنسان.
صار مفهوم الزمن، والمكان شيئًا واحدًا بنظر اينشتاين؛ فالزمن هو بعد رابع يشبه الأبعاد المكانية الثلاثة وهي: الطول والعرض والارتفاع.
وحد اينشتاين الزمن ، والمكان ، وصاغ مفهومًا موحدا لهما ، أسماء : الزمكان (space-time)، وبهذا المفهوم الجديد فتح اينشتاين علينا بابا يصعب سده ؛ فكل شيء يجري في نطاق الزمكان ، من الذرة الصغيرة إلى المجرة الكبيرة، وهذا المفهوم أثار الدهشة ، والغرابة في نفوس كثير من العلماء آنذاك، وأتى بأمور غريبة لم نجد لها تعليلاً معقولاً إلى الآن إن العلماء آنذاك كانوا مطمئنين إلى فضاء نيوتن ، وزمن نيوتن ، واعتقدوا أنها مفاهيم لا يتطرق إليها الشك ، فجاء اينشتاين بمفهوم جديد للزمن ، والمكان ، وأثار فيهم الدهشة ، والمرارة فجابهوه بالتكذيب والسخرية ، لكن اينشتاين بقي مصرا على رأيه ، ولم يجابهم بمثل ما جابهوه، بل بعث فيهم روح التفكر ، وقال : إن قوانين نيوتن صحيحة ، لكن يجب علينا أن نعين الحدود التي تقف عندها ، ونوضح مجالها الذي يجب أن لا تتعداه .
إن مفهوم اينشتاين عن الزمن، والمكان أحدث في وقتها ضجة كبرى في الأوساط العلمية، وغير العلمية، وعدوه من باب الخرافة؛ لأن عقولهم لا تستسيغ هذا المفهوم، أو التصديق به، لكن هذه الضجة بدأت تخفت شيئًا فشيئًا، بعدما ألفوها، واعتادوا عليها إلى أن أصبحت في منتصف القرن العشرين من الحقائق التي لا شك فيها، وصار لها تطبيقات عدة.
إن من حسن حظ اينشتاين أن التكنولوجيا ولدت في عهده، وصار لأفكاره نصيب منها، ولو لم تجد التكنولوجيا تطبيقا لأفكاره لصار اينشتاين بهلول زمانه، ولصارت أفكاره أضحوكة يتناقلها الأبناء عن الآباء.
أثبت اينشتاين عبقريته بتفسيره للظاهرة الكهروضوئية، وحصل على جائزة نوبل على ذلك ، ولو أنه لم يثبت عبقريته بذلك لاتهموه بالجنون، ولصار مصيره كمصير صاحبه كوبرنيكوس الذي خالف الاعتقاد السائد آنذاك عندما قال : إن الأرض ليست مركز الكون، بل هي تابعة للشمس، وتدور حولها، وأدرك بعد فوات الأوان أنه أضر بنفسه في مخالفته للاعتقاد السائد آنذاك، فكان مصيره الحرق، ولربما زادوا على اينشتاين في كمية الحطب، واستحق اللعنة أبد الآبدين.
صار كوبرنيكوس اليوم موضع تقديس، واحترام للعلماء؛ لأنهم رؤوا أفكاره حول الفضاء صحيحة جدا، ولو أنهم عاشوا في عهده لما قصروا عن أسلافهم في حرقه، وذر رماده في الهواء.
اعتاد الانسان على أن يفصل الزمان عن المكان، وأن يقيس كلاً منهما بمقياس يختلف عن مقياس الآخر، فهو يقيس الزمن بالثانية والمكان بالمتر ، وهو يعتقد اعتقادًا جازما أن الفرق بين الزمن والمكان كفرق المسافة بين الأرض، والسماء، وجاء اينشتاين وقال: إن الثانية، والمتر ليسا منفصلين، بل هما شيء واحد، وان الزمن، والمكان وجهان لحقيقة واحدة وبهذا المفهوم استطاع اينشتاين أن يقضي على المعلومات البدائية التي بقي العلماء مغرورين بها لمئات السنين.
قال اينشتاين: إن الفضاء ما هو إلا نسيج متناسق من ثلاثة أبعاد مكانية، وبعد رابع غير ملموس هو الزمن، وإذا أردنا تحديد موقع جسم ما علينا تحديد هذه الأبعاد الأربعة، ولا تكفي الأبعاد المكانية لتحديد موقعه، وإن تحديد موقع الجسم بالأبعاد المكانية فقط هو تحديد منقوص؛ فالحسابات الخاصة به تختلف عن حسابات نيوتن التي ترى أن هندسة الكون مكونة من ثلاثة أبعاد فقط.
ذهب عصر المكان المطلق والزمن المطلق، وحل محله عصر المكان النسبي والزمن النسبي، فنحن مسافرون في هذا الكون على ظهر مركبة فضائية اسمها: الأرض، منطلقة بسرعة خارقة في هذا الفضاء الرباعي الأبعاد، والزمن لا يجري بالتساوي في جميع أنحاء الكون، بل هو يطول، ويقصر حسب ظروف معينة، وأماكن معينة.
إن الفضاء بنظر اينشتاين هو كالنسيج المصنوع من المطاط، يمكن له أن يلتوي وأن يتموج وأن ينحني والأجرام السماوية تغوص في هذا النسيج الوهمي؛ فتشوهه وتمطه وتحنيه وتموجه حسبما تشاء كتلها، فالكتلة هي التي تتفاعل مع هذا النسيج، وهي كلما كبرت كلما كان التشوه، والانحناء فيه أكبر، وهذا ما يسبب الجاذبية ودوران الأجرام السماوية بعضها حول بعض.
الزمكان بالنسبة للكون بمنزلة العمود الفقري للإنسان؛ فهو الذي يربط الأجرام السماوية بعضها ببعض.
إن التقعر الذي تسببه كتلة الشمس في نسيج الزمكان هو الذي يجعل الأرض، وبقية الكواكب منجذبة إلى الشمس، وتدور حولها، وتحذو حذوها دون كلل أو ملل فالشمس اذن هي القائد الذي يقود المنظومة الشمسية، وما الكواكب إلا جنود تابعون لها، يسمعون ويطيعون ولحسن الحظ أنهم ليسوا كجنود بني البشر الذين يطيعون ظاهرا، ويتذمرون باطنا، بل هم جنود ملائكيون ، يسيرون خلف الشمس، قانعين مطمئنين، لا يقلقون ولا يسألون إلى أين؟ وإذا شاء القدر واختفت الشمس سيهيم كل كوكب على وجهه وهم بذلك سيكونون أشبه بالغنم من دون راع، كما يقول المثل الدارج.
إن الزمن والمكان صنوان لا يفترقان فلا يوجد أحدهما إلا حيث يوجد الآخر ولا يمكن التفريق بينهما، لكن هناك مواضع تحتاج إلى التحدث عن الزمن بمعزل عن المكان، بمعنى إنني لا أريد التحدث عن الزمن إلا من حيث الجانب الفلسفي، فأهمل الجوانب الأخرى، حالي في ذلك حال الذي يصب الماء في وعاء مكعب، فهو ينظر إلى ارتفاع الماء في الإناء، ويترك ما عداه من طول وعرض أي: إنه يُضيق وجهة نظره على بعد واحد وإلا تشتت في انتباهه، وضل في تفكيره، ومن ثم يضيّع المشيتين، كما يقول المثل الدارج. انني اريد أن أتوجه ببصري إلى الأمام، فلا ألتفت يمنةً أو يسرةً بعبارة أخرى: إنني أريد أن أطمئن للأبعاد المكانية وأعدّها ثابتة وأنظر إلى البعد الرابع وهو الزمن، وأتناوله من جانب فلسفي فيما يأتي.
إن هناك الكثير من التساؤلات التي تدور حول الزمن، فهل هو تلك اللحظات التي تمر علينا في حياتنا اليومية؟ وهل تلك اللحظات تمر على كل الكون بالتساوي؟ هل الزمن هو ماضي، وحاضر ومستقبل؟ وهل يسير باتجاه واحد سواء على كوكب الأرض أم في كل الكون؟ أي: إنه يسير من الماضي إلى المستقبل مرورًا بالحاضر، وهل يمكن له أن يعكس اتجاهه؟ أي: يعود من الحاضر أو المستقبل إلى الماضي هل الزمن هو تقادم او تهارم الأشياء؟ وما علاقته بالحركة، وتسلسل الأحداث؟
إن كل قوانين الفيزياء تتضمن الزمن بدءًا من قوانين نيوتن في الحركة إلى قوانين آینشتاين وبلانك وديراك وماكسويل، لكن هذه القوانين لا تعطي مفهوما للزمن. أي:
إنها لا تبين ماهيته بل إن هذه القوانين تتضمن قياس الزمن فقط وهو المدة الزمنية بين حدثين.
إننا لا نستطيع أن نتكلم عن الزمن بوصفه شيئًا واحدا، وإنما هو ثلاثة أشياء متراكبة في
جسد واحد موحد وهي:
1- تدفق الزمن
2- سهم الزمن
3- مرور الزمن
لنأت الآن على المفهوم الأول، وهو تدفق الزمن، وأول من تكلم عن هذا المفهوم هو الفيلسوف الإغريقي أرسطو، فهو يعتقد ان الزمن كالنهر الجاري يسير من الماضي إلى المستقبل، مرورًا بالحاضر، أو أنه نقاط مرتبة تباعًا، فإذا وقفت على نقطة معينة تكون النقطة التي أمامك مستقبل، والنقطة التي خلفك ماضياً. وهنا يدخل مفهوم الحقيقة، والوهم، فما
الذي يمثل الحقيقة؟ وما الذي يمثل الوهم من الماضي، والحاضر، والمستقبل؟ يعتقد أرسطو أن الذي يمثل الحقيقة هو فقط الحاضر، أما الماضي، بما أنه قد مضى، فهو
وهم، والمستقبل؛ بما أننا لا نعرف عنه شيئًا ولا نستطيع أن نتنبأ به فهو وهم أيضًا. واتفق مع أرسطو في هذا المفهوم فريق من الفلاسفة، وهم ما يسمون باللحظيين (presentism)، وهناك فريق آخر من الفلاسفة لا يؤيدون هذا المفهوم، ولا يستسيغونه، حيث يعتقدون أن الزمن هو كالنهر المتجمد، وأن الماضي والحاضر والمستقبل كلها موجودة ويتفق أينشتاين مع هذا الرأي، وهؤلاء الفلاسفة يسمون بالأبديين (Eternalism)، وشبهوا ذلك بالمكان، ولنأتِ على هذا المفهوم بمثال: فلو أنك باللحظة نفسها، سافرت من البصرة إلى أربيل مرورًا ببغداد، فعندما تصل إلى بغداد، فهي بالنسبة لك حاضر، أما البصرة فهي ماضي أربيل هي مستقبل ولكن البصرة وبغداد وأربيل موجودة إذن الماضي والحاضر والمستقبل موجودة باللحظة نفسها  والأمر يتعلق بك أنت فأنت تسير في خط الماضي والحاضر والمستقبل وأنت من تحدد الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة لك: اما كشيء مطلق فكلها موجودة في اللحظة نفسها فالماضي والحاضر والمستقبل وفق هذا المفهوم هو خط ممتد في الكون، وهو واقف في مكانه لا يأتي ولا يذهب. فريق ثالث من الفلاسفة يعتقدون أن الموجودين الحقيقيين هما: الماضي والحاضر فقط فبما أننا نتذكر الماضي فهو موجود أي: إنه موجود في أذهاننا وبما أننا نعيش الحاضر فهو موجود، أما المستقبل فلا يمكن لنا أن نتنبأ به ولذلك لا يمكن أن نعده حقيقة.
إن هذه الفرق الثلاث لم تستطع أن تعطي مفهوما موحدًا للزمن أو لا تستطيع أن تصبه في قالبه النهائي، وهذا كان من أهم عوامل تأخر العلوم. وقبل أن ننهي هذا المفهوم وهو تدفق الزمن وما يتعلق به من الماضي والحاضر والمستقبل علينا أن نتبين ما هو الحاضر. فهل الحاضر هو اللحظة الآنية (Now)؟ وما حدود هذه اللحظة الآنية؟ فبدون تعيين حدود اللحظة الآنية لم يعد لها وجود، أو أنها أمر مبهم، فإذا قلنا: إن الحاضر هو اللحظة الآنية (Now) فما هي حدودها؟
إن اللحظة الآنية هي أمر نسبي، ولا يمكن أن تكون متساوية في كل مكان من الكون، وهذا الأمر يتعلق بالسرعة، سرعة الأشياء أو سرعة الضوء فمثلاً لو أشرقت الشمس للتو، فنحن لا نراها لحظة شروقها، أي إننا لا يمكن لنا أن نشعر باللحظة الآنية لشروق الشمس؛ لأن الضوء يحتاج إلى ثماني دقائق للوصول من الشمس إلى الارض، وعندما نرى شروق الشمس بلحظته، فإننا نقول: الآن أشرقت الشمس، لكن في الحقيقة أن الشمس لم تشرق الآن، بل أشرقت قبل ثماني دقائق، والأمر نفسه يجري على الغروب، فلو غربت الشمس للتو في نظرنا، في الحقيقة هي غربت قبل ثماني دقائق، لكننا نقول الآن: غربت الشمس، لكن هذه الكلمة (الآن) هي بالنسبة لنا، وليست بالنسبة للشمس، أو أي كوكب آخر.
فهنا إذا حددنا اللحظة بثماني دقائق، نستطيع أن نقول: إن ما بين شروق الشمس ولحظة رؤيتنا لشروقها يسمى حاضرا، وبدون تحديد هذه المدة الزمنية يكون شروق الشمس ماضيا، ولحظة رؤيتنا له هو حاضر. وإذا أخذنا البرق  والرعد مثالاً فكما نعرف أن البرق يحدث معه صوت الرعد آنيا، وهو تفريغ كهربائي يحدث في الغيوم، إننا نرى البرق، ثم بعد ذلك نسمع صوت الرعد، والسبب كامن في الفرق بين سرعة الضوء ، وسرعة الصوت، فضوء البرق يسير بسرعة مقدارها 300000 كم/ ثا، وصوت الرعد يسير بسرعة مقدارها 330 م/ثا تقريبا ، والفرق شاسع بين مقدار السرعتين ؛ ولذلك فالرعد يستغرق زمنا أطول للوصول إلى الأرض ، فهنا لا نستطيع أن نقول: إن البرق والرعد حدثا في زمنين مختلفين، إنهما حدثا في اللحظة نفسها ، لكن الفارق الزمني في السرعة هي التي جعلتنا نرى ضوء البرق، ثم بعد ثوان نسمع صوت الرعد، فالبرق والرعد يحدثان لحظيًا بالنسبة إلى الغيوم ولكن لا يحدثان لحظيا بالنسبة إلينا، وهنا بدون تحديد مدة زمنية للحظة لا نستطيع أن نقول: إن البرق والرعد هما حاضر ، فالبرق بالنسبة لنا حاضر ، أما الرعد فهو مستقبل.
ولو أخذنا مسافات أكبر وأصغر من المثالين السابقين، لوجدنا أن اللحظة تطول وتقصر حسب المسافة. فلو حدث انفجار في نجم يبعد عنا بألف سنة ضوئية، والسنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء خلال سنة كاملة (فلو حدث انفجار في هذا النجم، فنحن لا نراه لحظيا، بل نراه بعد مرور أل ر ألف سنة ؛ والسبب هو أن الضوء يحتاج إلى ألف سنة للوصول إلى الأرض، فهنا لا مفهوم حقيقي للحظة ، واللحظة بالنسبة لنا حدثت قبل ألف سنة، أما إذا كنت تتحدث مع صديقك الذي يبعد عنك مترًا واحدًا، فالصديق لا يسمع كلامك لحظة خروج الكلمة من فمك، بل بعد مدة زمنية قصيرة جدا، إذن لحظة خروج الكلام من فمك هي حاضر بالنسبة لك، أما بالنسبة إلى صديقك فهي مستقبل؛ لأن الصوت يحتاج إلى وقت للوصول إلى أذن صديقك، وإن كان صغيرًا جدًا (جزء من جزء من جزء من الثانية )، فهنا اللحظة يجب أن نعين لها حدودًا، وهي سرعة الصوت خلال متر واحد، وهي المسافة بينك وبين صديقك.
نستنتج مما سبق أنه بدون تحديد حدود للحظة فلا وجودًا فعليًا لها، وتبقى أمرًا نسبيا، تتأرجح بين الماضي والحاضر والمستقبل. وبناء على ذلك، فالحاضر بدون تعيين حدود له لا نستطيع أن نعرفه بدقة أو بعبارة أخرى: إن الحاضر هو الوهم والماضي والمستقبل هما الحقيقيان.
الشيء الثاني: سهم الزمن (أي: إن الزمن هو كالسهم الذي يسير باتجاه واحد ) ، وهذا معقد بعض الشيء، لكن إحساسنا به أمر بديهي؛ لأننا اعتدنا أن نرى الزمن يتقدم بنا من الحاضر إلى المستقبل، فنحن مثلاً ننتقل من الصبح إلى الظهر أو من اليوم إلى الغد، ولا يمكن أن يخطر في بالنا أننا نستطيع أن ننتقل من الظهر إلى الصبح أو من اليوم إلى البارحة، فهذه الأمور نعدّها مستحيلة، ومن يتحدث لنا بذلك نتهمه بالجنون والإنسان كثيرًا ما يتمنى أن يعود إلى الماضي؛ ليغيّر بعض الأحداث السيئة في حياته او يصحح مساره، لكنها أمنية مستحيلة التحقق، فيأخذ عندئذ بالأنين ، والشكوى، ويندب حظه الذي لم يساوه مع أقرانه، أو يواسي نفسه بالتسليم بالقدر ، والتلذذ بالأحلام.
لماذا نحن متجهون نحو المستقبل دائما؟ ولا يمكن أن نعود إلى الماضي، أي: لا يمكن أن نعكس اتجاه سهم الزمن؛ ليعود بنا إلى الوراء.
كما قلنا: إن كل قوانين الفيزياء يدخل الزمن فيها رياضيًا، لكنه يدخل فيها كقياس وليس كمفهوم، وهي لا تأخذ بنظر الاعتبار اتجاه سهم الزمن، بل تأخذ المدة الزمنية بين حدثيين، وهذا هو قياس الزمن، أي: قياس المدة الزمنية بين الحدث الأول والحدث الثاني. فمثلاً لو انطلقت سيارة من الحلة إلى بغداد، نقول: إن السيارة انطلقت من الحلة الساعة الثامنة (حدث أول ثم وصلت إلى بغداد الساعة العاشرة (حدث ثاني)، ومن معرفة المدة الزمنية بين الحدثيين نستطيع أن نحسب سرعة السيارة إذا كانت المسافة معلومة. إن القانون الفيزيائي الوحيد الذي يأخذ بمفهوم اتجاه سهم الزمن هو قانون الانتروبي (Entropy)، والغريب أن هذا القانون لا يدخل الزمن فيه رياضيا، وإنما يدخل فيه من حيث المفهوم.
يسمى قانون الانتروبي القانون الساحر ، أو قانون كل شيء ، وهو يقيس العشوائية، أو الفوضى ، أو اللاانتظام (disorder) ، وينص هذا القانون على أن كل شيء في الكون يسير نحو الفوضى ، أو اللاانتظام، ولا يمكن أن يسير بالعكس، فوفقا لهذا القانون: إن الفوضى في الكون في تزايد مستمر فقطعة الثلج إذا تعرضت لحرارة الجو، فإنها تذوب، وتتحول من الحالة الصلبة إلى الحالة السائلة وإذا أخذتَ السائل وقمتَ ،بغليه، فسيتحول إلى الحالة الغازية، وبهذه العملية تحولت قطعة الثلج من الشكل الصلب المنتظم إلى الشكل الغازي الفوضوي، وهذا هو المفهوم العام للانتروبي، فكلما تفككت المادة زادت عشوائيتها، فمثلاً: لو كنت ماسكا بيدك قدحا من الماء مصنوعا من الزجاج، وسقط منك على الأرض، وتهشم، فهنا انتقلت جزيئات القدح من الشكل الهندسي المرتب إلى جزيئات مبعثرة في الأرض، أي: إنه انتقل من الانتظام الى اللاانتظام.
ولا يمكن الجزيئات القدح أن تعيد ترتيب نفسها بشكل هندسي على شكل قدح، ثم تعود إلى يدك مرة أخرى بدون تدخل قوى خارجية، أو مثلاً: إذا بنيت بيتا، فبعد مرور عشرين عامًا، ترى البيت قد شابته بعض الفطور في جدرانه، أي: إن البيت قد تقادم او تهارم، ولا يمكن له أن يعود تلقائيا إلى حالته الابتدائية المنتظمة لحظة بنائه، والمثال ينطبق على كل شيء، فكل شيء مهما حاولت الحفاظ عليه، لابد أن يتقادم مع مرور الزمن، أي: يتحول من الانتظام إلى اللاانتظام ، أو إلى العشوائية ، أو إلى الفوضى فالكون في بداية الانفجار العظيم (big bang) كان أكثر انتظاما مما هو عليه الآن، وهو كلما مر عليه الزمن يسير نحو الفوضى، أو العشوائية، وكل شيء مهما حاولت أن تحافظ عليه، لا بد أن تشوبه الفوضى، ويقع في شراكها قليلاً ، أو كثيرًا، فمن هذا المفهوم نستطيع أن نعرف الزمن على أنه تقادم الأشياء أو تهارم ،الأشياء، فالإنتروبي في تزايد مستمر وهو يطابق الزمن في مفهوم السهم أي: إنهما يسيران باتجاه واحد دون العودة الى الماضي.
قد يسال سائل ويقول: إن الأشياء ممكن أن تعود إلى ماضيها، فالتفاعل الكيميائي مثلاً يمكن أن يعكس اتجاهه، ويعود إلى أصله، فإذا تفاعلت مادتان أو أكثر؛ لتنتج مادة جديدة قد تتحلل إلى مكوناتها الأولية وتعود إلى ماضيها، إن هذا القول ص ل صحيح على وجه من الوجوه، لكن ذلك يكون على حساب تزايد الزمن، أي إننا لا نستطيع أن نقول: إن الزمن قد عاد إلى الوراء، أو رجع من الحاضر إلى الماضي، لكن يمكن القول إن المادة قد عادت إلى ماضيها مع تزايد الزمن.
ومن الجدير بالذكر أن فكرة السفر عبر الزمن إلى الماضي أو إلى المستقبل هي فكرة نظرية غير ممكنة التطبيق وبقيت ضمن إطار الخيال العلمي.
الشيء الثالث: مرور الزمن، أو قياس الزمن، وهذا الشيء مرتبط بالحركة، فبدون الحركة لا يمكن لنا أن نقيس الزمن، لكن هنالك ملاحظة يجب أن نقف عندها، وهي أن الحركة هنا يجب أن تكون حركة تكرارية، أي إنها تعيد نفسها بفترات زمنية منتظمة، فبدون تكرار حركة الأرض حول نفسها كل أربع وعشرين ساعة لا يمكن أن نحسب الزمن، أي: لا يمكن أن نقيس اليوم على أنه أربع وعشرين ساعة، ولا يمكن تقسيمه إلى أربع وعشرون ساعة، فمثلاً، بدون العودة إلى وقت الليل، أو الصباح، لا يمكن لنا أن نقيس الزمن، ولبقينا نعد ثواني ودقائق وساعاتٍ وأيامًا، إلى ما لا نهاية، ولا يمكن لنا أن نقسم اليوم إلى ساعات ، والساعات إلى دقائق ، والدقائق إلى ثوانٍ، وأيضًا بدون حركة الأرض حول الشمس كل سنة لا يمكن لنا أن نعد السنين، ولا يمكن لنا أن نقسم السنة إلى 365 يوما، فبدون تكرار دوران الأرض حول نفسها 365 مرة، لا يمكن لنا أن نحسب السنة، وبدون دوران الأرض حول نفسها كل أربع وعشرين ساعة ، لا يمكن لنا أن نحسب اليوم ، وهكذا.
ومن الجدير بالذكر أن لكل كوكب يومه الخاص وسنته الخاصة، فسنة كوكب بلوتو تعادل 248 سنة من سنين الأرض، وسنة كوكب عطارد تعادل ثلاثة أشهر من أشهر الأرض، فقياس الزمن هنا أمر نسبي، فلو كان لديك صديق سافر إلى كوكب عطارد، واتصلت به بعد سنة، وقلت له كم لبثت سيقول لك لبثتُ أربع سنوات في حين أنك لبثت على كوكب الأرض سنة واحدة، والسبب هو أن كوكب عطارد قد دار حول الشمس أربع مرات في حين أن كوكب الارض دار مرة واحدة.
والآن يمكن لنا أن نتساءل: هل الزمن موجود قبل خلق السنوات والأرض؟ هنا تشير الآية القرآنية الكريمة: ( خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) [هود (7)] مما يعني أن الزمن موجود قبل السنوات والأرض وله كيانه الخاص ولكننا لا نعرف ما هذا اليوم المقصود في الآية الكريمة؟ هل هو يوم أرضي أو يوم من أيام عالم آخر علم ذلك عند ربي.
ومن الجدير بالذكر ان الخلود يعني انعدام الزمن أي لا وجود للزمن في عالم الآخرة ونحن لو قسمنا رياضيا زمن الحياة في عالم الدنيا على زمن الحياة في عالم الآخرة الذي يساوي صفرًا فالنتيجة ستكون لا نهائي فمهما كان زمن الحياة الدنيا كبيرا فإن تقسيمه على صفر ستكون النتيجة لا نهائي واللانهائي يعني الخلود، فعالم الآخرة هو عالم الخلود.
				
				
					
					 الاكثر قراءة في  تاريخ الفيزياء
					 الاكثر قراءة في  تاريخ الفيزياء					
					
				 
				
				
					
					 اخر الاخبار
						اخر الاخبار
					
					
						
							  اخبار العتبة العباسية المقدسة