شعر أحمد الوائلي
مقاربات في انثروبولوجيا الحياة والموت
أ.د. صادق المخزومي
الشاعر أحمد فشلان الوائلي، تولد عام 1975 في النجف الأشرف، إشراقة كتاباته للشعر كانت ايام المتوسطة، لكن المخاضات الفعلية 1995.
كتب الشعر الشعبي بأنواعه ولا سيما الشعر الحسيني والوجداني، وفي حياضه يجود بروحه وحرفه في انسيابية واعدة مزدانة بالصور والرموز ذات المسارات الدلالية والابعاد القصدية. بهذه الأحاسيس الواجدة والانفعالات الواهجة كنت ألتقيه في مجلس أبي طالب للأدب الحسيني، ويسمعني لوحاته الشعرية، فهو شاعر شعبي ناضج وحسيني واعد، أكبر الظن أن ستثنى له وسادة الشعر، إذ يشف شعره بالصور الزجاجة في روعتها، والرموز الواعدة في دلالتها، وأتذكر أني قلت له: أنت ثمالة الشعراء الرواد، سيصحو كأسهم حين تنجم صهائل الآيات، حين قرأت له نصا يزدان بجدة الصور وجودتها، مثل: "مطر بايت" و "احبال الدم" و"عطش عريس" "العبر خناجر"...، المقطع:
انزل بكاس اليحب يسكر بحزني
وتصحه الولايات والناس الشربها الكاس
تسكر
أشرد من اعيوني والعبره خناجر
براسي درت الليل والنجمه التضيع بيا عطش عريس أردها
الريح لفت طولها وشالت شكو مخطوط بالبيبان للگمره الجديده
تغسل عيون التغني بمطر بايت
عله احبال الدم قميص اخر نهر
[1] ثمة قصيدة للشاعر أحمد فشلان الوائلي "العرس والشهادة" كتبها في 2014 بإزاء التفاعل الشعبي مع فتوى الجهاد في مواجهة الهجمات الإرهابية على العراق ومحافظاته الشمالية الغربية من لدن منظمة "داعش" وقدم فيها أبناء الرافدين، وبخاصة أهل الجنوب، أعز ما يطلب من قيم الشجاعة والشهادة، ومن هنا يحاكي الشاعر مخاضات الشهادة ومعتلجاتها لدى أم فقدت وحيدها، في تصور يبدعه مخيال في علو يتناغم مع سمو معنى الشهادة والتضحية على سلّم القيم، في أسلوبية رائعة تستنطق أبجدية الطبيعة المتأصلة مع الأم الثكلى، يتحدان في أنثروبولوجيا الفقدان، فالارض فقدت تربها البِكر والأم فقدت ابنها الذي عدته للعرس وتأملت السعد، لكن الفاجعة إذ حلّت غاشمة كما هي، تتساوق مع ظلمة الليل، إذ استدعاه ليبث شجون حكايته "سولف يا ليل"، جعلت العرس في سوح النزال زفافا تحشد فيه الأصحاب، "ربعة يزفونة علة الحومه" أضحى يتعطر بدمه، في حين إن أمه في بوحة الانتظار كانت تعطر صورة العرس البهية "تانيته وعطرت اهدومه". في هذه النافلة نجد الشاعر يعتمر لامته ويخوض مع الليل في حبكة حكاية الشهادة، وإشكالية القصيدة، ويطلب منه المزيد في بضعة مقاطع "سولف يا ليل".
في المقطع (1) يحشد الشاعر عدة من صور فنية في تناسق مع حبكة الليل وشارعه الطويل الذي يضم السؤالات ويضمر الجوابات، وتبقى عبر أجيال الشعر تسائله همهمات الشعراء منذ تجليات إمرئ القيس، فالصور هنا تنماز بألق المتخيل في الجدة والجودة، نحو: "الدموع سؤال" "السمار يشيب" "النشيد الحليب" "الجواب الصريفة" "هلهوله الكاع". في الشطر الأول "دموعي سؤال.. ألا من مجيب" من ذا الذي يجيب عن سؤالات الدموع، التي هي إحدى لغات العيون الساكنة، حين تنهمل على وجنات ثكلى في ليل التراجيديا؟
في الشطر الثاني "سمار الفرات .. على ابني يشيب" ترتقي صهوة الصور في خيلائها صورة "السمار يشيب"، لو تداولنا دلالية السمار في بوحة المعنى، لكان مخاضا متنوعا يصعب تأمله، لكنه يؤشر الى بوصلة واحدة، فالسمار في مناحي اللغة: [أولا] "نَبَاتٌ مِنْ فَصِيلَةِ الأَسْلِيَّاتِ، طَوِيلُ السِّيقَانِ، يَنْبُتُ فِي الأَرَاضِي الرَّطْبَةِ، تُسْتَعْمَلُ أَوْرَاقُهُ فِي صُنْعِ الحُصُرِ وَالسِّلاَلِ"، وهذا ما يجعل تواشجه بأرض السواد "الفرات" ذا قيمة فنية، وتعلو هذه القيمة مع "الصريفة" التي هي من بنات نسيجه؛ فشجيرات السمار التي ارتوت بعذب الفرات تشيخ حزنا ويخط الشيب فودها وورقها في خريف الأسى . [2] "معناه الحديث في ليالي الصحراء، والسمر: الليل، وسواده"، أو مَجْلِسُ السُّمَّارِ (جمع) السَّمِيرُ. الْمُسَامِرُ. وَالسَّامِرُ. و َهُمُ الْقَوْمُ الذين يَسْمُرُونَ في ليل التصحر وما انجلت عنه المعارك من دماء، فإن رؤوس السمار تشتعل شيبا من هول تذكر أحوال الشهداء وأهوالهم. [3] (سَمَّار): اللَّبَن المخلوط بالماء. وفيه أن لبن الأم وماء الفرات امتزجا في سمار انهرق على الأرض ليخط نشيد السماء.
في الشطر الثالث: "كبر والعراق .. نشيده حليب!" الله أكبر شعار الله وراية الأديان، والعراق أم الدنيا والبلدان، فيه صدعت تعاليم السماء، وهو أيقونة حفظت الدين بإهراقة الدماء، وأنشودة حليب الأمهات، المتعانقة مع نشيد السماء وهلهولة الـﮕاع، فهذا المثلث الأنثوي الأسطوري: السماء الأرض الأم، تحد أضلاعه تكبيرة العز والشهادة.
هلهوله الـﮕاع... تصدح عندما تدمع السماء ويرويها المطر، تطفح بالتحرير وطرد الغزاة، لكن هلهولة الـﮕاع... تصرح حين تخضب ترابها بدماء الشهداء.
تشظت الإجابات وذوت في ضمور المصداق، تململت الصريفة بفطرتها لتجيب انها الشهادة إرادة الله "نشيد السماء الصريفة تجيب" ليبقى رأس أمه شامخا ملوحا بالراية "والرايه اعصابة راس امه" وزغاريد العرس لا تفتر تنبجس من وادي السلام "هلهوله الكاع"؛ وقلب الأم يشع بالفرح والأمل "والعريس انزفة بيومه" ولا يمل الانتظار ما دام ثمة عطر تنشره على ثوبه "تانيته وعطرت اهدومه " ولذا هي تطلب تكرار السالفة من الليل مدافة بالألم والأمل "سولف يا ليل ".
القصيدة: "العرس والشهادة"
سولف يا ليل .. عن اوليدي الما عرسته
سولف يا ليل
ربعة يزفونة علة الحومه
تانيته وعطرت اهدومه..
سولف يا ليل ..
عن اوليدي الما عرسته سولف يا ليل
(1)
دموعي سؤال.. الا من مجيب
سمار الفرات .. على ابني يشيب
كبر والعراق .. نشيدة حليب ..!
نشيد السماء الصريفة تجيب
هلهوله الكاع...
والرايه اعصابة راس امه
هلهوله الكاع
والعريس انزفة بيومه .. تانيته وعطرت اهدومه ..
سولف يا ليل ..
عن اوليدي الما عرسته .. سولف يا ليل
(2)
اليگلي نسيت .. عله جرحي يدوس
بوداع الحمام .. تموت النفوس
عله صدره هويت .. اشمه وبوس
بقميصه لگيت .. حرارة عروس
جاي العريس..
من الجبهة وتابوته امحنه..
جاي العريس
ودموع اعله الخد مرسومه
تانيته وعطرت اهدومه ..
سولف يا ليل ..
عن اوليدي الما عرسته.. سولف يا ليل
(3)
صواني الشموع .. ضواها عتاب
اذا عاز الفرات .. اچمله شباب
بدماء الشهيد .. البس التراب
بشموخ العراق .. يطيب المصاب
مكاسر بالهيل..
دم ابني التعبني اصياره
مكاسر بالهيل
هذا المعروفه اعلومه
تانيته وعطرت اهدومه..
سولف يا ليل
عن اوليدي الما عرسته .. سولف يا ليل
(4)
اعله طوله انتچيت .. وعبرت الخيال
بنــيــته يــتيم .. عــــله عـــز ودلال
الضحكته اجيب .. هوى من الشمال
حـلقته تريد .. اصـــــــابـــــع حلال
ما يدري بدين..
فصلت الكنتور العرسه ..
ما يدري بدين
وما خليته ايحس مهضومه
تانيته وعطرت اهدومه..
سولف يا ليل
عن اوليدي الما عرسته.. سولف يا ليل
[2] القصيدة وحديث المخيال
في محراب القصيدة لدن الوائلي يفرض عليك التأمل في سؤالاته المزمعة في طرفي عصا الأنسنة (الانثروبولوجيا) صراع منبث بين الآخرة والأولى، صرخة الحياة وسكرة الموت تتعانقان في كلمه، "مر عرّيس بالتابوت" فالحنة تداف بعطر منشم بين راحتي حروفه، هنا يلوي خيزرانة العمر ليجمع بين رأسيها: الحياة والموت، ففي تساؤلاته عن مسارات ناسه وأهليه في الحياة الاجتماعية والعقدية: "وين احنه -- عله يا ملّه -- عله يا نيّه وفرض تاخذنه رجلينه"، يردفها بتقرير يكشف عن ضبابية الخطى وسرى الظلمة في صحراء السنين، فقد ضيعنا الهدف وضللنا الدروب وهي شتى، كمن يدور خارج المعنى و(يخوط ورا الاستكان): "مشينه بغير اسامينه -- عبرنه بغير خطوتنه -- بس احنه ! وين احنه…؟" فكانت تلكم الحبكة.
لا مندوحة للشاعر من أن يرسم من مخياله خطى النهاية في لوحة التيه الأربعيني، في دوحة الموت تتفتت على ذرات الترب أجراس الصائتة الحزينة ما زالنا نأتم بالموتى ونقدس محرابهم "يضيع ويالتراب الصوت-- نمشي وياليريد يموت"ولا زلنا نجوب حياة ورقية، نعيش نظاما ورقيا "بالبيان -- علّكنه الصور حيطان-- كتبنه عله الورگ واكتبنه شنسينه" وما الفائدة من الكتابة على ورق ستغشيه أصوات الرياح او تمزقه، لأن ما سطر عليه تجربة تكلف وتصنع بعيدا عن الاصالة والفطرة، وحينا في خطو مخطوء "نسينه نحب-- نسينه الكاس والخمره-- نسينه نعيش مثل الگاع عالفطره" حتى الموت الذي خط على الرقاب يكون مخجلا ما دمنا لا نتوجل الخطيئة ولا نتوجس العاقبة، لا نفتا نشتر كل نعيق: "ركضنه ويالمشوا عالنار-- للذباح صفگنه --سكته نموت"
وفي معمعة الغوغاء يتهم الساكت ويصلب المعارض، وتموت الفرحة، والحنة تداف بعطر منشم: "مر عرّيس بالتابوت -- ماتت فرحة امة اشموع -- ما لبست لبّنها الحنه فوگ الثوب—وابچينه –وانسينه -- والگينه العمر مكتوب-- وحشه الدنيا والغربة صور تشرب حنين البوب-- وسمّه عيون الحزن تمطر!!-- والثورة الغريبة تموت مصلوبه عله كل البوب".
في المنحى الفني القصيدة بنيويا نسيج شفاف، سداه السؤالات المشرئبة الأعناق في بوادي سني العمر، ولحمته الصور التي تعج فيها وتتراكم أحيانا مثل: سمّه عيون الحزن تمطر ؛ وحشه الدنيا والغربة صور تشرب حنين البوب؛ ما لبست لبّنها الحنه فوگ الثوب" و قد تزين سماء القصيدة رمزية النجوم : " نسينه الكاس والخمره"، فضلا عن أن التقرير فيها كان مشبعا بالمعنى: " والثورة الغريبة تموت مصلوبه عله كل البوب".
هذا الشاعر المثنوي التصوف على الطريقة الزرادشتية، يصب الظلمة في أنواء النور، ويدوف الحزن والوحشة في إناء الفرحة والحنين؛ يبدو لي أنه شاعر فرط عوده في وادي عبقر، وفطر على سفح العماليق نديما ووريثا؛ على الرغم من أن ترتسم نبسات الكهولة على وجناته الشبابية.







وائل الوائلي
منذ 3 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN