سلسلة مفاهيم في الفيزياء
الجزء السادس والستون: محاكمة الواقع في زمن اللا-واقعية: الفيزياء في مواجهة نفي الوجود
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
9/10/2025
مثال آخر على عدم استعداد بعض الفلاسفة لقبول الاستمرارية الأساسية في وصفنا للطبيعة، هو تأكيد فان فراسن بثقة على أن الإلكترونات تتداخل، بينما الرصاصات لا تتداخل.
وفقًا لميكانيكا الكم، فإنها تتداخل بنفس الطريقة تمامًا (أي يمكننا حساب نمط التداخل باستخدام نفس المعادلات الأساسية، مع الأخذ في الاعتبار الفروقات في الكتلة والحجم، وغيرها).
ما إذا كانت ميكانيكا الكم تنطبق على الرصاصات بالفعل هو أمر آخر؛ وهو ما نود بشدة أن نعرف المزيد عنه.
وربما يمكننا أن نفهم من هنا بعض أسباب الاختلاف بين مواقف الفيزيائيين والفلاسفة تجاه ما يقوم به الفيزيائيون.
هذا الاختلاف يفسر لماذا يرى فان فراسن أن نظرية الكم تُثبت أن "الشرح" مستحيل، في حين أن معظم الفيزيائيين يرون أنها تشجع على السعي نحو تفسيرات أعمق.
لكن من هو "الصحيح" (وبما أننا ملتزمون بالإيمان بـ"الحقيقة"، لا يمكننا تفادي هذا السؤال).
لا توجد إجابة قاطعة أكثر مما يمكن أن نكون متأكدين من وجود أي شيء آخر.
ومع ذلك، أميل إلى القول إن موقف اللا-واقعية ليس سوى تمرين فكري، ولا أحد يعتنقه فعليًا (أو كما قال بولكينغورن: "خارج نطاق دراسته").
يُضطر اللا-واقعيون إلى الإصرار على وجود تمييز بين الأشياء المألوفة، مثل الإلكترونات وما شابه، لأنهم يدركون أن حججهم، إذا طُبقت على أشياء محسوسة، ستبدو سخيفة.
العبارة الشائعة في الفكر اللا-واقعي، بأن "لا توجد ظاهرة إلا إذا كانت ملاحظة"، لا يمكن أخذها على محمل الجد.
فهي توحي بأن الكون بدأ حين فتح آدم عينيه، أو أن "التاريخ" ليس إلا ما هو مكتوب في الكتب، لا ما حدث فعلاً.
صحيح أن المؤرخين قد يُخطئون أحيانًا (أو كثيرًا)، لكن هذا لا يدعم موقف اللا-واقعيين، لأننا، من دون استدلال عقلي، لن نعتقد بأن شيئًا حدث على الإطلاق. وبالمثل، فإن الزعم بأن نظريتين تقدمان نفس البيانات متساويتان في الصحة، يبدو غير معقول إذا تأملنا أن نظرية تقول إن الشمس تتحول إلى جبن كلما غربت وتعود كما كانت عند الشروق، تظل "تصف" الواقع شكليًا فقط.
هذا، بطبيعة الحال، قد يكون تجسيدًا مبسطًا وغير منصف لنطاق واسع من الآراء والفروق الدقيقة. لذا، يُنصح القراء بالرجوع إلى الأدبيات المتخصصة لمزيد من التفاصيل وللحجج المؤيدة لموقف اللا-واقعية.
وعلى الرغم من أن هذه الآراء تبدو متعارضة، فإنني أعتقد أحيانًا أنها، حين تُصاغ بعناية، قد تنطوي على فروقات ضئيلة. وربما يكون طريق المصالحة هو الاعتراف بأن "اليقين" محض وهم، وأننا لا يمكن أن نكون متأكدين تمامًا من أي شيء.
ما أؤمن (أنا) بأنه "صحيح"، هو ما يتوافق بأفضل صورة مع المعطيات المتوفرة حاليًا.
وبشرط أن أُدرج في هذا الإيمان إحساسي بما هو معقول أي "البيانات" الذهنية في عقلي فإن الكفاية التجريبية قد تكون معيارًا كافيًا لما أعتبره صحيحًا.
وللصياغة بصورة أخرى: ربما يكون "الوجود" هو التناسق مع الدليل.
أو، في كلمات الفيلسوف C. S. Peirce
"الواقع، إذن، هو الاستمرارية، هو الانتظام. ففي الفوضى الأصلية، حيث لم يكن هناك انتظام، لم يكن هناك وجود."
سأختم هذا الجزء بما أراه القضية العملية في الواقعية أي الإيمان بوجود واقع خارجي، أو بصياغة أخرى، الأخذ بالتعريف الأول للعلم كما عرضناه سابقًا.
إن الإيمان بوجود واقع حقيقي هو ما يمنحنا الدافع للسعي وراء الحقيقة.
مزروعة في طبيعتنا هي هذه الرغبة في معرفة الحقيقة؛ فهي، إلى جانب الجمال والحب، واحدة من أسمى الأشياء التي نتوق إليها.
ورغم أننا لن نبلغها أبدًا، بأي معنى مطلق، فإننا سنواصل البحث عنها.
ومن المؤكد أن فرصنا في الوصول إلى بعض جوانبها ستكون أكبر إذا واصلنا السعي، بدلًا من التسليم بعدم وجودها والتوقف عن المحاولة.
بل يمكن للمرء أن يذهب إلى أبعد من ذلك، فيقول إننا نعلم، في أعماقنا، أننا لن ندرك "الصورة الكاملة" أبدًا لأن المشكلة المحلولة تفقد سحرها.
وطالما توجد أسئلة يمكن طرحها، فسنواصل طرحها؛ وحقيقة أن بعضها شديد الصعوبة لن تكون عائقًا، بل مصدر إلهام يدفعنا للاستمرار في العمل والبحث.
وقد تكون هذه الأجوبة قريبة جدًا بل قريبة من البعض، لكنهم لا يرغبون بتجاوز الخط الأحمر الذي قد يضعهم في دائرة الاتهام.
يتبع في الجزء 67







وائل الوائلي
منذ 3 ساعات
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN