حسن الهاشمي
حينما تندك القيم الخالدة مع التكنلوجيا الحديثة، فانه تولّد على ضفاف الحقيقة مبدأ الخلود وخلود المبادئ في أبهى صورها، وها هو مركز الجود للرسوم المتحركة، قد تخطّى الرقاب وحثّ الخطى في تكريس تلك القيم عبر تأسيس مراكز إعلامية ثقافية هادفة ومن ضمنها هذا المركز التابع لقسم الإعلام في العتبة العباسية المقدسة، فانه متخصص في إنتاج الأعمال الفنية باستخدام تقنيات الرسوم المتحركة، يهدف إلى توظيف الفن الرقمي لنقل الرسائل الثقافية والدينية والتعليمية بطريقة إبداعية وجذّابة، تتناسب مع مختلف الفئات العمرية، خاصة الأطفال والشباب، يقدم المركز مجموعة من الأفلام الوثائقية، الفيديوهات التوعوية، والرسوم التوضيحية التي تساهم في تعزيز القيم والمبادئ الإسلامية والأخلاقية.
لماذا يُعد مركز الجود مهما لأنه يهتم بصناعة إعلام وطنيّ بدلاً من الاعتماد الكلي على المحتويات الأجنبية، يوفر محتوى يُنتج داخل العراق ـ بمعايير احترافية ـ يعكس الهوية الدينية والثقافية للمجتمع، ولماذا يستهدف الشباب والأطفال في خطاباته لأن المحتوى الرسومي الأنيمي مثالي للأجيال الناشئة، ويُساعد على ترسيخ القيم الإيمانية والأخلاقية بشكل محبب لهم، وهو محتوى مرئي يعتمد على الرسوم المتحركة، وغالبا بأسلوب الأنيمي الياباني أو أنماط مشابهة، ويُستخدم لتقديم قصص، أفكار، مفاهيم، أو رسائل تربوية وثقافية، بشكل جذّاب وسهل الفهم، خصوصا للأطفال والشباب، يشمل أفلام كرتونية ومسلسلات وفيديوهات تعليمية أو دعوية مرسومة ومشاهد ثلاثية الأبعاد أو ثنائية، والهدف من اعتماد هذا المحتوى هو التأثير في الجمهور بصريا وعاطفيا من خلال الصور المتحركة، لخدمة أغراض ثقافية، دينية، تعليمية أو توعوية.
ويتم من خلال هذا المحتوى نقل التقنية والمعرفة، وذلك بتدريب شباب عراقيين على صناعة الرسوم المتحركة والإنتاج الإعلامي، الذي يُسهم في بناء كادر محلي مؤهل بدل الاعتماد على خبرات أجنبية فقط ، لمواجهة الفوضى الفكرية أو الثقافية من خلال محتوى هادف، يمكن مواجهة الإعلام السلبي، الشبهات، التأثيرات الأجنبية، أو الأفكار الهدّامة، بأسلوب إسلامي ثقافي محترف، بالرغم من أن أهم نشاطات مركز الجود معروفة في مجال الأنيميشن، وهو فن تحريك الرسوم والصور بطريقة توهم المشاهد بأنها تتحرك فعلاً، ويُستخدم لإنتاج أفلام كرتونية أو تعليمية أو ترفيهية، بيد ان العتبة العباسية ـ عبر هيئاتها المتنوعة ـ توسّع مفاهيم "الخدمة المجتمعية" لتشمل التربية، الثقافة، الصحة، العلوم، الإعلام، وغيرها، فمركز الجود هو جزء من منظومة مؤسساتية كبيرة تسعى لإعادة بناء المجتمع بالعطاء الشامل، وهنا ينبغي الإشارة الى ان التركيز ليس فقط على إنتاج فن بمفهومه التجاري، بل على إنتاج فن له رسالة ثقافية، دينية، تربوية تتوافق مع قيم مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
وفقا لهذه الرؤية الحضارية الأخلاقية القيمية أشاد ممثل المرجعية الدينية العليا والمتولي الشرعي للعتبة العباسية المقدسة سماحة العلامة السيد أحمد الصافي، بفيلم (ثلاثية الماء)، مؤكدا دعم العتبة المقدسة للأعمال الفنية التي تسهم في بناء الإنسان، جاء ذلك أثناء استقباله رئيس قسم الإعلام في العتبة المقدسة، السيد علي البدري، وملاكات مركز الجود للرسوم المتحركة، يوم الجمعة، 21 نوفمبر 2025م. التي أنتجت الفيلم بثلاثة فصول تحكي معجزة نبع زمزم في قصة النبي إسماعيل (عليه السلام)، ثم كشف بئر زمزم لعبد المطلب (رضوان الله عليه)، ثم مشهد من صفّين حين منح جيش الإمام علي (عليه السلام) الماء لجيش معاوية.
السؤال الذي يطرح هنا لماذا التركيز على هذه الأحداث الثلاثة في تقنية ثلاثية الأبعاد في معرض الإجابة عن هكذا تساؤل نقول ان معجزة نبع زمزم حدثت في قصة النبي إسماعيل (ع) وأمه هاجر عندما تركهما النبي إبراهيم (ع) بأمرٍ من الله في وادٍ غير ذي زرع، هو مكة المكرمة اليوم، حين نفد الماء والطعام، عطش إسماعيل وهو رضيع، وأخذت أمه هاجر تسعى بين جبلي الصفا والمروة تبحث عن ماء، وانها سعت سبع مرات، ولم تجد ماء، فإذا بجبريل عليه السلام يضرب الأرض بجناحه (أو أن النبي إسماعيل ضربها بعقبه)، فانبثق نبع زمزم من تحت قدمي إسماعيل.
زمزم معجزة إلهية خالدة، لا تزال تتدفق منذ آلاف السنين، وأنها تُجسد ثقة هاجر بالله، وصبرها، وطاعتها لأمر الله، وصار النبع رمزا للكرامة الإلهية، ومركزا لقيام البيت الحرام فيما بعد، والدروس المستقاة من هذه المعجزة هي التوكل على الله، وأهمية الأم ودعائها وصبرها، وأن الفرج يأتي من حيث لا يُحتسب.
أما كشف بئر زمزم لعبد المطلب فانه من الأحداث المهمة في تاريخ مكة، وقد ارتبطت بكرامة إلهية وقصة مميزة، انه وبعد زمن طويل من قصة النبي إسماعيل وهاجر، طُمر بئر زمزم بسبب الإهمال والحروب، ولم يُعرف مكانه، حتى جاء عبد المطلب بن هاشم (جدّ النبي محمد صلى الله عليه وآله)، وكان رجلاً صالحا ذا مكانة، فرأى عبد المطلب في المنام رؤى متكررة تأمره بحفر البئر في موضع محدد، وفعلا انه قاد الحفر بنفسه مع ابنه الحارث، وسط سخرية قريش، وأثناء الحفر عثر على موضع البئر القديم، فانبثق منه الماء المبارك، ليس هذا فقط وانما وجد مع الماء أيضا كنوزا قديمة كانت دفنت عند البئر (سيوف، دروع، وغزالان من ذهب) قسّم عبد المطلب الكنوز، وجعل بعضها للكعبة.
منذ ذلك الحين والى يومنا هذا أعاد عبد المطلب بئر زمزم لسكان مكة، وأصبحت سُقيا الحجاج مسؤولية بني هاشم، مما زاد من شرفهم، واعتُبر عبد المطلب صاحب كرامة وفضل، وهيّأ الله من نسله النبي الأعظم صلى الله عليه وآله، ومن الدروس والعبر المستقاة من هذه الحادثة الصبر على السخرية والتمسك بالإيمان، وأن الله يكرم من يثق به ويطيعه، وارتباط زمزم تأريخيا بأهل البيت عليهم السلام وبالبيت الحرام.
وهكذا نعرّج على القصة الثالثة وهي مشهد من صفّين حين منح جيش الإمام علي (عليه السلام) الماء لجيش معاوية وهي من أشهر مشاهد العدالة والرحمة في معركة صفّين، موقف الإمام علي (عليه السلام) مع جيش معاوية فيما يخص الماء، انه في معركة صفّين، سيطر جيش معاوية على نهر الفرات، ومنع جيش الإمام علي (عليه السلام) من الوصول إلى الماء، فاشتدّ العطش على جيش الإمام، حتى أوشك كثير منهم على الهلاك، فأمر الإمام علي (ع) رجاله بقيادة مالك الأشتر أن يستعيدوا السيطرة على النهر، وبعد معركة شديدة، استولى جيش الإمام على شاطئ الفرات.
الموقف الأخلاقي يكمن بعد السيطرة على النهر، عرض البعض على الإمام علي (ع) أن يمنع جيش معاوية من الماء كما فعلوا هم، وقالوا له لا تسقهم منه قطرة واحدة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضا بالأيدي، فلا حاجة لك بالحرب، فرفض الإمام رفضا قاطعا، وقال: (لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن الشريعة، ففي حدّ السيف ما يغني عن ذلك) ﺷﺮﺡ ﻧﻬﺞ ﺍﻟﺒﻼﻏﺔ ﻻﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺪ : ﺝ 1 ، ﺹ٢٤. الدلالة ان الإمام علي (عليه السلام) رفض أن يقابل الظلم بالظلم، رغم كونه في ساحة حرب، وقدّم قيمة الأخلاق والإنسانية فوق الانتصار العسكري، وجسّد الرحمة والعدل حتى مع الخصوم، هذا المشهد يُعد درسا خالدا في أخلاقيات القتال وكرامة الخصومة، لا نظير له في التاريخ العسكري.
وتبعا لاستشراف تلك المواقف النبيلة أكد سماحة السيد الصافي "دعم العتبة المقدسة للأعمال والطاقات الفنية التي تسهم في بناء الإنسان وتستحضر التاريخ الإسلامي وتراث أهل البيت (عليهم السلام)" ولفت سماحته "إلى أنّ السيرة العطرة للإمام علي (عليه السلام) تحتوي على دروس نورانية يمكن اعتمادها كمنهج لحياة الفرد والأمة، إذا ما تم تقديمها إلى الشباب".
من جانبه قال البدري "إنّ قسم الإعلام يعمل بوتيرة متصاعدة في مختلف المجالات الإعلامية والفنية لتقديم محتوى إبداعي يستحضر إضاءات مهمة من حياة أهل البيت (عليهم السلام) ليقدمها إلى الشباب والمجتمع بصورة عامة، كذلك يؤرخ إنجازات العتبة العباسية المقدسة". وأضاف "أنّ الملاكات الفنية في مركز الجود التابع للقسم تجتهد لإنتاج مجموعة من الأعمال الفنية في مجال الرسوم ثنائية وثلاثية الأبعاد، تخاطب مختلف الفئات العمرية".