سلسلة مفاهيم في الفيزياء
الجزء الحادي والثمانون: فيزياء الحدس: القياس الكمومي بين التداخل والمعرفة
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
10/12/2025
يُقال كثيرًا إن نظرية الكم تُدخل عنصرًا من اللاحتمية، وتُسبب اضطرابًا لا مفر منه في أي عملية قياس. هذا صحيح عمومًا، لكنني أريد هنا أن أصف حالة تبدو، للوهلة الأولى، وكأنها تنقض هذا التصور — أي أنها تُظهر كيف تتيح لنا ميكانيكا الكم إجراء قياس مثالي دون أي إزعاج، وهو ما لا يمكن تحقيقه في الفيزياء الكلاسيكية.
نأخذ نظامًا مكوّنًا من حالتين فقط، لنبسط الصورة. نتخيل صندوقًا إما أن يكون فارغًا لا يحتوي على جسيم، أو ممتلئًا يحتوي على جسيم. ومن عيّنة كبيرة من مثل هذه الصناديق، يُطلب منا اختيار صندوق نعلم مسبقًا أنه ممتلئ. والطريقة الوحيدة لذلك هي "النظر" داخله.
لكن يتبين أن فوتونًا واحدًا، إذا سقط على الصندوق، سيمر مباشرة إن كان الصندوق فارغًا، أو يُمتص ويُدمَّر — مع الجسيم — إن كان الصندوق ممتلئًا.
وبما أننا نحتاج إلى استخدام فوتون واحد على الأقل للنظر داخل الصندوق، فإن ذلك يعني أننا، بعد القياس، إما نؤكد أن الصندوق فارغ، أو نعلم أنه كان ممتلئًا — لكنه لم يعد كذلك. لقد دُمّر.
وهنا، وبشكل مدهش، تتيح لنا ميكانيكا الكم وسيلة لإنجاز هذه المهمة دون التسبب بأي ضرر.
نقوم ببناء جهاز تداخل فوتوني. ترسل الفوتونات إلى نقطة أولى، ثم تواجه مقسم شعاع مرآة نصف فضية، عند نقطة ثانية، حيث تنقسم الموجة إلى مسارين متساويين تقريبًا في الطول، يُسميان المسار الأول والمسار الثاني.
ثم يُعاد تجميع الموجتين عند مقسم شعاع ثانٍ في نقطة ثالثة. من خلال ترتيب دقيق لأطوال المسارين، يتم تنظيم التداخل بين الإسهامات بحيث تكون موجتا المسارين في حالة تداخل هدّام عند النقطة الرابعة. وبهذا، لا يصل أي فوتون أبدًا إلى الكاشف عند هذه النقطة الرابعة. في المقابل، يُسجَّل الفوتون دومًا في نقطة أخرى.
نفترض الآن أننا نضع أحد صناديقنا على المسار الأول. فإذا كان الصندوق ممتلئًا، فإن الفوتون يُمتص ويُدمَّر، وكذلك الجسيم. أما إذا كان فارغًا، فلن يحدث شيء، وتظل موجة الفوتون سليمة.
نقوم بتجريب الصناديق واحدًا تلو الآخر، كل مرة نرسل فيها فوتونًا واحدًا. إذا لم يُسجل الكاشف شيئًا عند النقطة الرابعة، نُهمل الصندوق. أما إذا ظهر فوتون في الكاشف، فهذا يعني يقينًا أن الصندوق ممتلئ.
والسبب واضح: إن كان الصندوق فارغًا، فلن يتأثر المسار، وبالتالي لن يظهر أي فوتون في النقطة الرابعة. أما إذا ظهر، فلا بد أن الصندوق أثر على التداخل، وهذا لا يحدث إلا إذا كان يحتوي على جسيم.
لاحظ أن الصندوق الممتلئ يعمل ككاشف غير مباشر، يُعطِّل التداخل. وإذا كانت احتمالات النفاذ والانعكاس في مقسّمي الشعاع متساوية، فإن نصف الفوتونات في هذه الحالة ستُدمّر الجسيم. في حين، في النصف الآخر، تصل الفوتونات إلى المقسم الثاني وتُسجَّل — بنسبة 50% منها — في النقطة الرابعة.
بالتالي، ربع الصناديق الممتلئة سيؤدي إلى تسجيل فوتون في النقطة الرابعة، ويمكن اختيارها بوصفها ممتلئة دون تدمير محتواها.
يمكنك تخيل التجربة بشكل أفضل بوضع حروف تمثل كل نقطة وتتبع المسارات، وهو ما يمثل جزءًا من هدف هذه السلسلة: تحفيز القارئ على التأمل والتفاعل مع المفاهيم عبر التمثيل البصري والرسم على الورق.
ما نراه هنا هو قياس غير مزعج بحق: لأن الفوتون، عندما يُسجَّل، يكون قد سار في المسار الآخر، ومع ذلك أكد لنا أن الصندوق ممتلئ.
الأفكار الجوهرية لهذا الطرح تعود إلى
L. Hardy في: Physics Letters A 167, 11 (1992)،
و Physical Review Letters 68, 2981 (1992).
يتبع في الجزء 82...







وائل الوائلي
منذ 3 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN