الحياة الاسرية
الزوج و الزوجة
الآباء والأمهات
الأبناء
مقبلون على الزواج
مشاكل و حلول
الطفولة
المراهقة والشباب
المرأة حقوق وواجبات
المجتمع و قضاياه
البيئة
آداب عامة
الوطن والسياسة
النظام المالي والانتاج
التنمية البشرية
التربية والتعليم
التربية الروحية والدينية
التربية الصحية والبدنية
التربية العلمية والفكرية والثقافية
التربية النفسية والعاطفية
مفاهيم ونظم تربوية
معلومات عامة
الارتقاء بالتعليم الشرعي (1)
المؤلف:
أ. د. عبد الكريم بكَار
المصدر:
حول التربية والتعليم
الجزء والصفحة:
ص 210 ــ 226
2025-07-24
33
يتساءل العديد من الباحثين والمفكرين عن مدى حاجة الأمة إلى وجود معاهد ومدارس شرعية، تخالف في روحها ونظمها ومناهجها النظم التعليمية العامة السائدة في بلدان العالم الإسلامي، ويرى كثير منهم أن الازدواجية في نظمنا التعليمية ذات أضرار بالغة، حيث تؤسس للتمزق الثقافي، وتضعف أدوات التفاهم والتواصل الاجتماعي، ولذا فلا بد أن نمحوها من حياتنا محوا، وأن نتعلم من الإسلام إصراره على استقبال قبلة واحدة في كل صلاة، ولكل المسلمين (2).
والحقيقة أن الأصل، هو ألا يسود في أي مجتمع سوى نظام تعليمي واحد، ويجب أن تعبر المؤسسات التعليمية القائمة عن روح الأمة، وأن تعمم ثقافتها الأصلية، وأن تخرج من المتعلمين ما يلبي حاجاتها المختلفة، وأن تساعد الأمة على بلوغ الأهداف الكبرى التي تتطلع إليها. وبوصفنا أمة مسلمة متميزة عن غيرها من الأمم، فينبغي أن يكون الإسلام هو الحيوية التي تسري في هياكلنا الثقافية والتعليمية كافة. والمشاهد اليوم أن المناهج السائدة في معظم البلاد الإسلامية، لا تستهدف ما ذكرناه، كما أن ما تقدمه من معلومات لا يعد كافياً لتعريف الطالب على الإسلام، كما أنه لا يصوغ شخصية الطالب صياغة إسلامية، ويضاف إلى هذا أن نظم التعليم العام لا تستطيع أن تؤهل خريجيها للقيام بوظائف الإمامة والخطابة التي تبلغ في كل قطر إسلامي الألوف أو عشرات الألوف. لهذا كله يعد وجود مؤسسات تقدم العلوم الشرعية أمراً ضرورياً لسد الحاجات الماثلة.
ـ الملامح العامة للمعاهد والمدارس الشرعية القائمة:
إن ما سنذكره من آراء وأفكار حول الارتقاء بالتعليم الشرعي لا ينطبق بالضرورة على جميع المعاهد والمدارس الشرعية، فالعالم الإسلامي مترامي الأطراف، وتعيش دوله وشعوبه في أوضاع متنوعة، فالأقليات الإسلامية في أفريقيا وأوربا تواجه مشكلات وظروفاً لا تواجهها الشعوب الإسلامية التي تمثل الأكثرية في بلادها، وبالتالي فإن أوضاع التعليم الشرعي كثيراً ما تكون مختلفة؛ ولكن يمكن أن نقول: إن جل ما سنقوله عن تحسين التعليم الشرعي ينطبق على معظمها على نحو ما.
إن النمو هو قانون الحياة، وإن كل شيء من حولنا يتغير، وينمو، مما جعل ساحات الحياة جميعها تموج بالمعطيات الجديدة، وهذا يولد في كل يوم تحديات، ويأتي بمشكلات، كما يضفي على مناهجنا ووسائلنا نوعاً من التقادم، وهو بذلك يستنهضنا لتطويرها وتحسينها، كيما تحتفظ بملاءمتها وفاعليتها المرجوة، وهذا يعني أن توقف النمو في هذه الحال، لا يحدث إلا بسبب وجود مشكلة، وإن علينا أن نكتشف تلك المشكلة ونحاول علاجها.
إن ما أنشأناه من مؤسسات ونظم ومناهج، يستهدف دائماً تلبية حاجاتنا الثقافية والاجتماعية والاقتصادية... وتلبية هذه الحاجات، ستكون هي مسوغ وجودها، ومسوغ العناء الذي نتكبده للمحافظة عليها. كما أنها في الوقت نفسه تعد معيار نجاحها وأدائها لوظائفها.
إن تطوير المدارس الشرعية، سيحل بعض المشكلات، ولكنه قد يوجد مشكلات جديدة، ولا يستطيع المرء مهما أوتي من نفاذ البصيرة أن يتنبأ بكل النتائج التي ستترتب على الإصلاحات التي سيقوم بها، لكن مع هذا فإن علينا أن نتساءل دائماً في أية ظروف تكون إصلاحاتنا وتجديداتنا مقبولة ومثمرة؟
إن قطاع التعليم - بطبيعته - قطاع حرون، والعاملون فيه أميل إلى المحافظة والتقليد، ولذا فإن على المرء أن يتحلى بالكثير من الصبر والمثابرة إذا ما أراد أن ينجز شيئاً ذا قيمة.
إن المدارس الشرعية، تقدم خدمات جليلة لأمة الإسلام، وهي غير قادرة على أن تنهض بنفسها في جميع الأحوال، مما يتطلب مد يد العون لها، حتى تستمر في عطائها، وحتى تحسن من مستوى أدائها. وإني آمل أن تسهم الأفكار التالية في دفعها خطوة نحو الأمام:
- حول الهدف والتخصص
ذكرنا أن العلوم الشرعية، تمثل لكل مسلم الثقافة الأساسية التي عليه أن يتضلع منها، على نحو يمكنه أن يحيا الحياة الطيبة التي يرضاها الله ـ جل وعلا ـ له. وهذا يستلزم بذل جهود هائلة من أجل إتاحة الفرصة لكل مسلم ان يطلع على الحد الأدنى من المعرفة الشرعية، وهذا لن يتم إلا إذا عادت للمسجد وظيفته التاريخية في التعليم والتثقيف والحوار، وإلا إذا استهدفت ذلك كل الأطر الثقافية والاجتماعية، وكل مؤسسات العمل والإنتاج. وحين تتوفر الإرادة، فإن الإمكانات المتاحة كافية لتحقيق الكثير من ذلك.
حين يقوم المجتمع بوظيفته تجاه ثقافته الأساسية على هذا النحو، فإن المدارس الشرعية، ستتمكن من توجيه جهودها إلى تخريج النخب التي ستتولى تطوير تلك الثقافة وتزكيتها، وتقديمها على النحو الملائم؛ وهذا ما يجب أن نتطلع إليه.
في كل الأحوال فإن أول خطوة على المدارس الشرعية أن تخطوها في سبيل تحسين أوضاعها، هي أن تحاول تحديد أهدافها على نحو واضح ودقيق؛ إذ لم يعد كافياً أن يقال: هذا المعهد يهدف إلى تخريج طلاب مزودین بما يحتاجون إليه من العلوم الشرعية والعربية والكونية لسد حاجات الناس في الإمامة والخطابة والتدريس... فهذا الهدف عام، وبسبب عموميته؛ فإنه لا يعد كافياً لتوجيه نظام المعهد ومناهجه وأنشطته، والتي تمنحه بالتالي شخصيته المتميزة، وتزيد من وعيه بذاته.
يمكن القول ابتداءً: إن القدر المشترك بين جميع المعاهد الشرعية، هو أن تزود طلابها بقدر جيد من المعلومات الشرعية والعربية والإنسانية والكونية، إلى جانب توجيههم وإرشادهم على نحو يجعلهم يجسدون في سلوكهم ومظهرهم القيم والمبادئ والآداب التي يدعون إليها. وبعد هذا فإننا نرى أن المهم أن تحرص المدارس الشرعية على أن تقدم من المعلومات ما يؤهل طلابها لإكمال دراساتهم الجامعية، وأن تكيف نظمها ومناهجها بما يتلاءم مع ذلك. وعليها أن تبحث بجدية عن معادلة شهاداتها لدى عدد من الجامعات الإسلامية والعربية المعترف بها. وإنما نقول ذلك؛ لأنه إذا لم يتح لخريجيها الحصول على شهادات جامعية، فإنهم سيواجهون مشکلات جمة على صعيد حياتهم المعيشية والأهم من ذلك أن طبيعة الأعمال التي سيقومون بها آنذاك ستجعلهم يعيشون على هامش المجتمع، بعيدين عن مراكز التأثير والقيادة التي تتاح عادة للنخبة.
نظراً لاتساع رقعة العالم الإسلامي وتنوع الظروف التي تحيط بالتعليم الشرعي، فإن بعض المدارس قد تجد أن أفضل خدمة يمكن أن تقدمها لمحيطها، هو تخريج شخص صالح للإمامة والخطابة، أو تجد أن البلد الموجودة فيه، ليس فيه تعليم جامعي ملائم لإكمال خريجيها دراساتهم فيه.
كما هو شأن العديد من الأقليات الإسلامية المنتشرة في أصقاع المعمورة؛ وفي هذه الحالة فإن بالإمكان أيضاً الصيرورة إلى نوع من التخصص. وهناك على ـ الأقل - تخصصان أساسيان تخصص يؤهل دارسه لمباشرة الإمامة والخطابة والوعظ، وتخصص يؤهل صاحبه للعمل في مجال (العمل الدعوي) حيث يحتاج التأهيل للتحرك فيه إلى جانب العلوم الشرعية الاطلاع على شيء من علوم النفس والاجتماع والإدارة والمذاهب المعاصرة بالإضافة إلى شيء من الرؤى الفكرية والإصلاحية مع اكتساب بعض مهارات الحوار والاتصال مع المجموعات الصغيرة. مدة الدراسة في أكثر المعاهد تتراوح بين خمس سنوات وسبع سنوات، ومن الممكن تشعيب الدراسة في السنة الأخيرة أو السنتين الأخيرتين إلى شعبتين بما يخدم التخصصين اللذين تحدثنا عنهما. وعلى كل حال فإن من المهم دائماً أن تنجح المدارس الشرعية في تحديد الحاجات الحقيقية للبيئة التي نشأت فيها، وأن تنجح في إعداد الطلاب الذين يلبون تلك الحاجات وسوف نتحدث - بإذن الله تعالى - عن
المواد التي تخدم ذلك عند حديثنا عن المقررات والمناهج.
القبول وشروطه:
هناك ظاهرة مشتركة، تطبع معظم إنتاج مؤسساتنا في العالم الإسلامي، هذه الظاهرة هي انخفاض مستوى (النوعية) فلا تكاد تجد شيئاً من منتجاتنا يتفوق على ما هو موجود في الدول الصناعية إلا إذا كان بمساعدة فنية منهم. ويبدو أن هذا ضريبة مباشرة للتخلف الذي تعاني منه أمة الإسلام.
انخفاض النوعية أوجد انحباساً في حركة الفكر، وخفض من سقف النماذج الإبداعية التي تكشف في العادة عن الآفاق البكر التي يمكن ارتيادها؛ ولذا فإنني أعتقد أن التركيز على (الكيف) ينبغي أن يحتل حيزاً مهماً بين كل الأفكار الإصلاحية، وفي كل المجالات.
قد أن الأوان لأن تلتفت المعاهد الشرعية إلى (السوية)؛ فحاجة الأمة الحقيقية ليست إلى حشد من الأئمة والخطباء، وإنما إلى نوعية خاصة من الشباب ذوي الاستعدادات والمواهب الخاصة. وأول خطوة تخطوها المعاهد في هذه السبيل، هي أن تدقق في اختيار طلابها، وتضع معايير واضحة وجيدة للقبول. وأتصور أن مما يفيد في ذلك ما يلي:
1- إجراء مقابلة شخصية للمتقدمين، يتم خلالها التعرف على شخصياتهم، وهيئاتهم وظروفهم، وأسباب تقدمهم للدراسة في المعهد، كما يتم من خلالها التعرف على قدرة الواحد منهم على القراءة السليمة، ومقدار ما يحفظه من القرآن الكريم. ولا توضع درجات على هذه المقابلة، فإما أن يقبل الطالب، وإما أن يرفض ونرى أن تجري المقابلات لجنة واحدة؛ حتى يمكن ضبط معايير القبول.
2- الذين ينجحون في المقابلة الشخصية يسألون في اختبار تحريري أسئلة ثقافية عامة ويطلب منهم الإجابة على أسئلة تقيس ذكاء الطالب وقدراته العقلية، وتجمع الدرجة التي يحصل عليها الطالب مع المعدل الوسطي لدرجات الشهادة التي تقدم بناء عليها إلى المعهد، ثم تقسيم الدرجة على اثنين.
3- يتم إجراء مفاضلة بين المتقدمين، ويقبل المعهد أعلاهم درجات؛ حتى يستوفي العدد الذي حدده، ونقترح ألا يكون كبيراً حتى تمكن العناية به.
4- حتى يحصل المعهد على النوعيات الممتازة من الطلاب، فإن عليه أن يعرف الناس في المناطق والمحافظات على نفسه تعريفاً جيدا، وذلك من خلال ذكر الميزات والخدمات التي يحصل عليها الطلاب الذين يلتحقون بالمعهد، وبذكر المعلومات والمناهج المتميزة التي يقدمها، وينبغي أن يصدر كل معهد شرعي عدداً من المطويات التي تعطي صورة واضحة عنه.
المقررات والمناهج:
تقرر المواد، وتصمم المناهج عادة من أجل خدمة أهداف محددة، تسعى إليها المؤسسات العلمية. وبما أن كل شيء من حولنا يتغير، فإن ما نقدمه من معارف، يجب أن يخضع للمراجعة من أجل التأكد من أنه قادر على تحقيق الأهداف المرجوة، ومن أجل التأكد أيضاً من حيوية الأهداف التي رسمت من قبل. وبما أن الوقت محدود، وطاقة الاحتمال أيضاً محدودة لدى الطلاب، فلا بد من نوع من الموازنة بين المواد الأساسية، التي مثل الفقه والأصول والحديث والتفسير... وبين المواد الجديدة، التي تفرض الاطلاع عليها الاستجابة للتحديات المعاصرة. والتطوير المطلوب في المناهج والمقررات يتجلى في أشكال عديدة، تتمثل في حذف بعض المواد أو تقليصها، وفي إضافة مواد جديدة، وتعديل بعض المواد، أو الإضافة إليها. وسوف نوجز كل ذلك في الإشارات السريعة التالية:
1- يلاحظ المتتبع لمناهج العديد من المعاهد والمدارس الشرعية أن بعض المقررات يعطى ساعات أكثر مما تدعو إليه الحاجة؛ مما يجعله غير ملائم للطلاب في تلك السن المبكرة، كما أنه يفوت الفرصة على تقرير بعض المواد التي تمس الحاجة إليها. وعلى سبيل المثال فإن مادة (التوحيد) تدرس في كثير من المعاهد في جميع سنوات الدراسة، مع أنها في الأصل مادة محدودة، لكن الجدل التاريخي الذي تم بين المذاهب والفرق، ضخمها على نحو مرضي. ومن وجه آخر فإن البراهين الكثيرة التي تساق على مختلف المسائل العقدية، تفقد الكثير من مصداقيتها وتأثيرها حين تختلف القاعدة الثقافية التي توجه آليات الفهم والاقتناع؛ حيث يصبح أفق انتظار الدارس لتلك البراهين غير متوافق معها، ويكون بالتالي العناء المبذول في فهمها غير ذي معنى. ولهذا كله أرى ألا تزيد مقررات هذه المادة عن ثلاثة، وينبغي إلى جانب هذا الإعراض عن الكتب القديمة، وتقرير كتب جديدة تلائم عقول الناشئة في أسلوبها وطرحها، وتراعي ما استجد من مفهومات وبينات في محتويات هذه المادة المهمة.
مادة (المواريث) هي الأخرى، تحتاج إلى نظر؛ إذ إنه كثيراً ما يقرر لها من الساعات، ويعطى فيها من المعلومات ما هو فائض عن حاجة طالب المدارس الشرعية في المرحلة المتوسطة والثانوية. ويكفي هذه المادة أن تدرس في سنة واحدة، ويكون لها ساعتان؛ حيث يطلع الطالب على الفلسفة الإسلامية في تحديد أنصبة الورثة، كما يطلع على بعض المسائل الأساسية فيها؛ فهو لا يؤهل ليكون قاضياً.
ومما يلاحظ كذلك كثرة المقررات المخصصة لمادة (النحو)، فهو يدرس في كل السنوات، ويعطى اهتماماً واسعا، وكثيراً ما يكون ذلك على حساب مادة (الأدب) مع أن علم (النحو) من العلوم التي كان يسميها الأقدمون (علوم الآلة) فهو أداة ووسيلة، وليست غاية. وتدرس المعاهد الشرعية كتباً قديمة مثل (أوضح المسالك) و (قطر الندى) و(مغني اللبيب) مما يجعل الطالب يستفرغ طاقته في فهم عباراتها دون النفاذ إلى الجوهر الذي هو إقامة اللسان. ولذا فإنه قد يكون من الأجدى تقرير كتب حديثة، مشبعة بالأسئلة والمناقشات والتدريبات، والتركيز على التطبيق النحوي والإعراب ويوضع إلى جانب هذا مقرر يتعلم فيه الطالب بعض المهارات اللغوية، مثل المحادثة والأسلوب والكتابة الأدبية.
2ـ إن حديثنا عن تقليص مقررات بعض المواد كان يهدف في جملة ما يهدف إليه إلى إتاحة الفرصة لتقرير بعض المواد المهمة لطالب العلم الشرعي، وذلك من أجل تكامل معارفه، ومن أجل تصحيح مساره الثقافي، ونرى أنه ينبغي تقرير ما يلي:
أ- من المستحسن أن يدرس الطالب مقرراً واحداً من (المذاهب المعاصرة) عوضاً عن دراسة الفرق القديمة التي أصبحت في ذمة التاريخ. ومن المستحسن كذلك أن يدرس الطالب بعض التوجهات السائدة الآن مثل التعددية والنسبية والجدلية والديموقراطية، إلى جانب بعض المذاهب مثل الرأسمالية والليبرالية. وينبغي أن تتم دراسة كل ذلك من أفق المذهبية الإسلامية في البناء الحضاري.
ب- يحتاج الطالب إلى دراسة مقرر، يتناول شيئاً من تاريخ التشريع وأسباب اختلاف الفقهاء، ويتم التركيز فيه على المفهومات والأسس الثقافية التي تمكن من إقامة علاقات الحوار والتعاون والتعايش، وذلك من خلال کسر حدة العصبية والمذهبية والحزبية، واكتشاف آفاق جديدة للتعاذر، والفهم الجيد لوجهات النظر المختلفة.
ج- حتى يتوثق ارتباط طالب العلم الشرعي بأمته، فإنه بحاجة إلى دراسة مادة عن (حاضر العالم الإسلامي) والتطلعات المشتركة لشعوبه، إلى جانب الاطلاع على مجمل التحديات التي يواجهها، مع طرح بعض الرؤى حول تقدمه وتنميته ولم شعثه.
د- يدرس في أكثر المدارس الشرعية مقرر أو أكثر في (المنطق اليوناني القديم)، أن هذا المنطق موضع لانتقادات واسعة اليوم؛ ولذا فإنني أرى إلغاء كل المقررات المرتبطة به، وتقرير عوضاً عنه مادة حول (التفكير) تشتمل على بعض المبادئ الأساسية في التفكير الناقد والتفكير الجدلي والتفكير الموضوعي بالإضافة إلى بعض الأبواب حول طبيعة الأشياء ومنطقها، والعلاقة بين الثقافة والفكر، مع تدريبات على التفكير الجيد.
هـ- دراسة مقررين - على الأقل - في الحاسب الآلي أمست اليوم ملحة، حيث إن من المنتظر اعتبار عدم معرفة استخدام الحاسوب شكلاً من أشكال الأمية، أو هو الأمية الحديثة!
و- مادة (فقه السيرة) مفقودة في أكثر المعاهد الشرعية، مع أنها مادة مهمة للغاية في استجلاء كنه التشريع وكنه الدعوة والتاريخ وطلاب المعاهد بحاجة ماسة إليها؛ ولا سيما حين يوضع لها منهج تحليلي جيد، ويقوم على تدريسها من يملك الشفافية والمعرفة الكافيتين لإيصال هذه المادة العظيمة.
ز- إذا كنا نطالب أبناء الدعوات والجماعات الإسلامية بالتعمق في معرفة العلوم الشرعية عامة فإننا نطالب المعاهد الشرعية أيضاً بأن تنفتح على ما لدى الآخرين من أفكار وأساليب وطروحات في مجالات الدعوة إلى الله تعالى - وإذا ما أرادت ذلك فإن الأمر يتجاوز النوايا الحسنة إلى تغيير جدي في المناهج الدراسية؛ حتى يحدث التقارب الثقافي بين المهمتين بالدعوة والإصلاح، والالتقاء في منتصف الطريق؛ وذلك كأن يتم تقرير بعض المناهج التي تشتمل على معلومات في علم الدعوة وثقافة الداعية، وحول التجديد وسير بعض (المجددين)، مع محاولة الربط الدائم بين المناهج التي تدرس وبين الواقع الإسلامي، ومحاولة استشعار كيفية الاستفادة من كثير من المناهج في إصلاح ذلك الواقع.
3- من أهم ما ينبغي تحسينه وتطويره في مجال المواد والمناهج ذلك والمقررات، إيجاد مدخل لكل علم يدرس، يشتمل على بيان نشأة ذلك العلم، وأهم الأطوار والمنعطفات الحادة التي مر بها ومقاصد دراسته، إلى جانب الحديث عن بعض رجالاته العظام، وما يمكن أن يُعد (فلسفة) له. وحين يتم هذا فإنه سيكون من الأدوات المهمة في كسر الجمود الفكري، ونقل الطالب من مرحلة التلقين إلى مرحلة التفاعل مع العلوم والتفكير فيها.
4- هناك اليوم مدارس شرعية للبنات، والإقبال عليها يتزايد، ولا بد من مراعاة خصوصية المرأة على مستويات عديدة، منها (المناهج) فالوظيفة الأساسية لكل امرأة هي الأمومة وتربية الأطفال، ولذا فإن من المهم أن يتم تقرير بعض المواد التي تساعدها على أداء عملها. ونرى من الضروري أن تدرس الطالبة مادة في أحكام الأسرة مع التركيز على الأحكام الفقهية الخاصة بالمرأة. ومادة ثانية في تربية الطفل، وثالثة في التدبير المنزلي، ورابعة حول الخصائص النفسية والعقلية للمرأة. وأعتقد أنه قد آن الأوان للانشغال بتنمية المرأة المسلمة، وتأهيلها للوظائف التربوية والاجتماعية التي تنتظرها؛ ولا بد أن نعوضها عن الإهمال السابق الذي كان تلقاه من شرائح المجتمع كافة!
5- مما يتصل بمسألة المناهج قضية (البحث العلمي) وإعداد الطالب له. والهدف من العناية بالبحث العلمي، هو إخراج الطالب من القوقعة والانحسار الذي تفرضه الدراسة المنتظمة والمناهج المقننة، والتلقي المدرسي للمعارف بالإضافة إلى بناء شخصية الطالب المستقلة، وتعويده استخلاص المعلومات، وصياغتها في سياقات وأطر محددة.
إن الطالب في السنوات الثلاث الأولى من الدراسة في المعهد، لا يستطيع القيام ببحث ناضج، ولذا فمن الممكن جعل جزء من (أعمال السنة) في تلخيص كتاب، أو تحقيق مسألة، أو استخراج آراء أهل العلم فيها. أما في السنة التي قبل الأخيرة، فإنه يكون بإمكان الطالب أن يكتب بحثاً صغيراً في إحدى المواد الرئيسة التي يدرسها، ويمكن للبحث أن يكون تأليفاً أو تحقيقاً. أما في السنة الأخيرة، فقد يكون من الملائم تكليف الطلاب بكتابة بحث له مئة درجة، ويتم تعيين مشرفين على الطلاب فيه، وبهذا يتم تحريك أذهان الطلاب، ودفعهم نحو خوض غمار المصادر والمراجع والتعامل معها. وهذا يتطلب تقرير مادة دراسية حول البحث والمصادر والمكتبة، كما يتطلب تدريباً ميدانياً على ارتياد المكتبة والاستفادة منها.
إن الحديث عن المناهج حديث ذو شجون؛ وحين تبلور المدارس الشرعية أهدافها على نحو واضح، فإنها ستعرف المناهج والمقررات والمعارف التي يمكن أن تبلغها تلك الأهداف.
النشاط غير الصفي:
إن النشاط غير الصفي، أي غير المنهجي محدود في معظم المدارس الشرعية، وهناك حرص تقليدي متوارث على ضبط إيقاع الحركة أكثر بكثير من الملائم والمطلوب، مع أن الطلاب في سن المراهقة والفتوة بحاجة ماسة إلى كل الأنشطة التي تنمي الجوانب المختلفة في ذواتهم، وإلى ما يشبع رغباتهم المشروعة، ويشعرهم بالحصول على ما يحتاجونه في فهم الحياة من حولهم. وهذا لن يتأتى من خلال الاستغراق في القراءة والاستماع، وإنما من خلال الأعمال الطليقة، والتفاعل الحي مع الحياة والأحياء. ومفردات النشاط غير الصفي كثيرة للغاية، يمكن أن نذكر منها:
1- تدريب الطلاب على الخطابة والتمثيل، وتقديم المشاهد المسرحية الهادفة، والنشيد الإسلامي البعيد عن البدع والمديح غير المناسب، وهذا يقتضي وجود مسرح في المعهد أو المدرسة.
2ـ عقد ندوات ومحاضرات أسبوعية أو نصف شهرية، يشارك فيها أساتذة من داخل المعهد وخارجه.
3- عرض أشرطة مرئية، تتضمن بعض المواد العلمية والمحاضرات القيمة.
4- إقامة مسابقات ثقافية حول تلخيص بعض الكتب، وكتابة بعض البحوث.
5- إقامة برامج ودراسات مسائية في بعض التخصصات والمهارات، مثل التجويد واللغة العربية واللغة الإنجليزية والخط والحاسب والإدارة والخطابة..
6- رحلات الحج والعمرة، ورحلات داخل المنطقة، ورحلات إلى مناطق القطر المختلفة إلى جانب المخيمات الصيفية، وزيارة بعض أهل العلم، وزيارة المعاهد المناظرة.
7ـ الخروج إلى البساتين، وحبذا لو كان للمعهد مزرعة، يقوم الطلاب بزراعتها والعناية بها لصالح المعهد، وتمثل في الوقت نفسه استراحة لجميع منسوبي المعهد.
8- النشاط الرياضي ذو وظيفة مهمة في تنمية شخصية الشاب؛ وهناك فرص وأساليب عديدة لممارسته.
إن النشاط غير الصفي، يجدد البعد الروحي والبدني للطالب، ويساعد على استثمار الطاقات، وصقل المواهب، واكتساب المهارات؛ ولذا فينبغي أن يكون موضع عناية واهتمام.
التربية والتوجيه:
إن طالب العلم الشرعي على نحو خاص بحاجة كبيرة إلى التربية الروحية والخلفية والسلوكية، حيث إنه يجري إعداده ليكون قدوة للناس، كما أن العمل الدعوي نفسه يحتاج إلى طاقات روحية، باعثة على البذل والعطاء. وهذا يعني أن يتم تشجيع كل ما ينمي الجانب الروحي والخلقي لدى الطلاب، وذلك من خلال تخصيص بعض المدرسين للعناية بالطلاب في السكن الداخلي، وخارج أوقات الدوام، وتنظيم بعض اللقاءات والأنشطة التي تصقل الجانب الروحي، مثل الاجتماع على قراءة القرآن، ومثل الإفطار الجماعي بعد صوم يوم نفل، ومثل إيقاظ من يرغب من الطلاب للتهجد في السحر...
وقد بادر كثير من المعاهد الشرعية إلى تقرير بعض الكتب التي ترى أنها تعزز الجانب الخلقي لدى الطلاب، مثل (الحكم العطائية) و(الرسالة القشيرية) وبعض كتب الغزالي وغير ذلك... وهذه الكتب يختلط فيها الغث بالسمين، والصحيح بالمدخول، وهي تزهد القارئ بالدنيا إلى حد العدم، وتعرض حالات خيالية من التنسك، تجعل المرء يجنح إلى المثالية على نحو مرضي، كما أن فيها الكثير من العبارات التي تحتاج إلى تأويلات متعسفة حتى تظهر استقامتها، وبعضها لا يقبل أي تأويل!
ولعل من المناسب في مثل هذا المجال تقرير صور من مجاهدات بعض علماء الشريعة، والأئمة المهديين، إلى جانب مقتطفات من السيرة النبوية، وسير بعض الصحابة - رضوان الله عليهم - فالمجال الروحي - بطبيعته - شديد الحساسية، ويجب أن يجري العمل فيه بدقة ووعي كاملين.
ومهما يكن من أمر، فإنني أعتقد أن المدارس الشرعية لا تملك ـ في أكثر الأمر - الطاقات الكافية لرعاية مئات الشباب الذين يدرسون لديها، وبث الوعي فيهم، ولذا فإن مما يعزز جهودها التربوية التعاون مع الأطر والمؤسسات والجماعات الإسلامية الموجودة في بلدها. ومع أن هناك مآخذ جدية، ومهمة على بعض الجماعات الإسلامية، إلا أن الساحة لا تخلو في العادة من بعض الجماعات الملتزمة بآداب الشريعة، والناشطة في مجال الدعوة والكمال لله وحده. كثير من القائمين على المعاهد الشرعية لا يبدون ارتياحهم لتردد طلابهم على أي دائرة دعوية خارج محيطهم حرصاً على نقاء أولئك الطلاب، أو خلوص ولائهم، وأعتقد أن كسب الولاء لا يكون بالحجر والمنع، وإنما بالتوجيه إلى ما يعتقد أن فيه مصلحة الطالب. وعلى كل حال فالمعاهد الشرعية، ليست بحاجة إلى ذلك الولاء، فعملها الأساسي خدمة الشريعة والأمة، وهي تقوم بذلك، وهذا يغنيها عن كسب أي ولاء خاص.
الإدارة والأجهزة المساندة:
تكتسب الجوانب الإدارية في الأعمال والمؤسسات كافة أهمية متزايدة، ويمكن لإدارة ذات كفاءة عالية أن تصل إلى أفضل الأهداف، على الرغم من وجود القليل من الإمكانات، كما أن كثيراً من المؤسسات الكبرى صار إلى الإفلاس والانهيار بسبب ضعف إدارته، وسوء الخدمات المساندة التي تقدم للعاملين فيه.
ربما كان من أساليب تحسين إدارة المدارس الشرعية، الصيرورة إلى اتخاذ بعض التدابير التي تحد من سلطة الأفراد عليها، وتجعل رسم خططها وتنفيذ سياساتها إلى مجالس جماعية. وعلى سبيل المثال، فقد يكون من المهم تكوين مجلس أمناء من عشرة أعضاء من الشخصيات العلمية المعروفة والشخصيات العامة ومن كبار الممولين والمؤازرين للمعهد. وتكون مهمته رسم السياسات، والإشراف على المجلس الإداري، ومتابعة جوانب التطوير والتحديث.
أما السلطة التنفيذية المباشرة، فيستحسن أن تتكون من مجلس إداري يضم المدير والوكيل وأمين السر واثنين من المدرسين، وتكون مهمته تنفيذ السياسات التي يرسمها مجلس الأمناء، والقيام على تسيير حركة المعهد اليومية.
ولا ينبغي أن يغيب عن الذهن أن ما نتحدث عنه من نهوض وارتقاء بالتعليم الشرعي، لا يمكن أن يتم من غير توفير موظفين أكفاء، يقدمون الخدمات التي يحتاج إليها الأستاذ والطالب.
إن المدارس الشرعية ستستفيد من وراء الإدارة الجماعية الكثير من ثقة الناس، والتي هي بأمس الحاجة إليها، حتى تؤمن الموارد المالية الضرورية لاستمرارها.
التمويل:
نعتقد أن التعليم الشرعي سيظل يواجه صعوبات، ويعاني من مشكلات تأمين النفقات التي يحتاجها في ظل أزمة اقتصادية (عالمية) آخذة بالتفاقم. ولكن نعتقد إلى جانب هذا أن كل الأعمال والمؤسسات، يظل قابلاً لنوع من الإصلاح والتحسين، مما يجعلنا نلح على ضرورة الاهتمام بتنمية الموارد المالية، وابتكار أساليب جديدة في ذلك ولعل مما يسهم في ذلك ما يلي:
1- أن تقوم كل مدرسة بتشكيل هيئة مهمتها تدبير الأموال واستثمارها. ويحسن أن تكون تلك الهيئة كبيرة نسبيا، وأن يكون أعضاؤها من الشخصيات العامة ورجال الأعمال والتجار. ونرى أن تهتم هذه الهيئة بإيجاد أوقاف وأسهم في شركات، وإقامة مصانع وشراء عمارات وعقارات، مما تجمعه الهيئة، حيث تمكن الموارد الثابتة المعاهد من التخطيط لتطوير نفسها.
2- إلى جانب جمع الصدقات والهبات، هناك مجال مهم، هو مجال (الوصايا) حيث يمكن من خلال الصلات والزيارات الكبار الملاك والأثرياء أخذ وعود ومستندات منهم بتخصيص جزء من ثرواتهم بعد الموت وصية للمدرسة، فكثير من الناس يبذل على هذا النحو ما يكون شحيحاً به في حال حياته.
3- يمكن الاستفادة من بعض الأساليب التي اتبعتها بعض الجهات الخيرية، مثل كفالة مدرس توفير مكتبة صغيرة لطالب علم، كسوة طالب علم...
4- إن تشكيل مجلس داعم لأنشطة المعهد من آباء الطلاب، سيكون عظيم الفائدة، ولا سيما إذا أحسن اختيار أعضائه. ويعمل هذا المجلس على النحو الذي تعمل عليه لجان أصدقاء البيئة، ولجان أصدقاء المرضى ونحوها.
5- في اعتقادي أن من الممكن إعادة النظر - في بعض البلاد على الأقل - في قضية مجانية التعليم الشرعي؛ حيث إن ترتيب بعض الرسوم السنوية من أجل تحسين مستوى المعاهد، ودعم أنشطتها - سيكون أمراً مفيداً من أكثر من وجه. ويمكن إعفاء بعض الطلاب من تلك الرسوم في بعض الحالات، مثل ثبوت فقد ولي أمر الطالب، وحصول الطالب على مستوى عال في الاختبارات النهائية، وفي حالة إرادة استقطاب أبناء منطقة معينة، تشكو من نقص في أعداد طلبة العلم الشرعي. وليس القصد من هذا هو الحصول على المال، فحسب، وإنما إثارة اهتمام الطلاب وحفزهم على التعليم الجيد، إلى جانب إشعارهم بأهمية وجودهم في المعهد. ويمكن أن تخضع المنح الشهرية للطلاب أيضاً لاعتبارات الحاجة والتفوق.
وبعد فإن بعضاً مما قلناه هنا، لا يخلو من الجنوح إلى شيء من المثالية، وتطبيقه ربما كان يحتاج إلى ظروف أفضل من تلك السائدة في كثير من بلدان العالم الإسلامي، كما أنه يحتاج إلى درجات من الاهتمام والوعي أفضل مما هو متوفر. ولكن دائماً تكون دوائر النظر أوسع من إمكانات التطبيق. والفكرة التي لا يمكن الاستفادة منها على نحو حرفي، قد تفتح آفاقاً لأفكار جديدة ممكنة التطبيق، كما أن ما لا يصلح لبلد أو مرحلة، قد لا يكون كذلك في بلاد أو مراحل أخرى، ونسأل الله توفيقاً وإحساناً.
إضاءة: إن الشرط الأساسي لتحصيل الحقيقة هو استخدامها؛ إذ لا بد أن يرد فكر الإنسان إلى عمل؛ والعمل كمال الفكر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ نعني بالتعليم الشرعي هنا على نحو جوهري ما تقدمه المدارس والمعاهد الأهلية في مرحلة ما قبل الجامعة.
2ـ أنظر مقدمات في البعث الحضاري: 69.
الاكثر قراءة في التربية العلمية والفكرية والثقافية
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
