أولاً: اختر موضوعات أنت جاد بشأنها :

...من الواضح أنك إذا اخترت موضوعاً يثيرك بسبب خبرتك الطويلة معه، مثل هواية أو نشاط ترفيهي، أو بسبب تأملك العميق له، أو اهتمامك الشخصي به ـ كالحاجة الى مدارس أفضل في مجتمعك مثلاً ـ فإنك لن تواجه صعوبة في الحديث عنه بإثارة، ولم أرَ برهاناً واضحاً على قدرة الجدية على الإقناع مثلما رأيت في كلمة ألقيت أمام إحدى دوراتي في نيويورك منذ أكثر من عقدين من الزمن. لقد سمعت الكثير من الأحاديث المقنعة، ولكن هذا الحديث ـ الذي أطلق عليه اسم حادثة العشب الأزرق مقابل رماد خشب الجوزية ـ يبرز كنوع من انتصار الصدق على الفطرة السليمة.

أدلى أحد كبار مندوبي البيع بإحدى الشركات الكبرى في المدينة ببيان منافٍ للطبيعة، وقال إنه تمكن من إنبات عشب أزرق دون مساعدة حبوب أو جذور، فقد قام – حسبما تقول قصته – بنثر رماد خشب الجوزية على الأرض المحروثة حديثاً، بسرعة! لقد ظهر العشب الأزرق! كان لديه اعتقاد جازم بأن رماد خشب الجوزية – وحده – هو المسؤول عن نمو العشب الأزرق.

وفي معرض تعليقي على حديثه ، أوضحت له بلطف أن اكتشافه غير العادي ـ لو كان حقيقياً -؛ فسوف يجعله مليونيراً، لأن بُوشل بذور العشب الأزرق يساوي عدة دولارات، وأخبرته أيضاً أن هذا الاكتشاف سيجعله العالم البارز في كل العصور، وأن شخصاً ـ حياً أو ميتاً ـ لم يتمكن أبداً من صنع المعجزة التي أدعى أنه صنعها، إذ لم يسبق لأحد أبداً أن أخرج حياة من مادة جامدة.

قلت له ذلك بهدوء شديد، لأنني شعرت أن هذا الخطأ واضح جداً، وغير معقول تماماً فلا يحتاج الى تأكيد في تفنيده، وعندما انتهيت كان كل فرد في الدورة قد أدرك حماقة زعمه، ولأنه لم يدرك ذلك ولو لمجرد ثانية، فقد كان جاداً فيما زعمه الى أبعد الحدود. انتصب الرجل واقفاً، وأخبرني أنه ليس مخطئاً، واحتج قائلاً أنه لم يرو لنا نظرية، بل تجربة شخصية، فقد كان يعرف عما يتحدث استمر في حديثه متوسعاً في ملاحظاته الأولى، معطياً مزيداً من المعلومات ومكدساً المزيد من الدلائل ، ونبرة الصدق والأمانة ترن في صوته.

مرة أخرى أخبرته أنه لم يكن هناك أدنى أمل في صحة كلامه أو قربه من الحقيقة بأي شكل من الأشكال. في لحظة كان قد هب واقفاً على قدميه عارضاً الرهن بمبلغ خمسة دولارات على أن تتولى وزارة الزراعة الأمريكية حسم الخلاف.

هل تدري ماذا حدث؟ لقد فاز بانضمام العديد من أعضاء الدورة الى جانبه، وبدأ الشك يدب في أنفس الكثير من غيرهم ولو أنني أجريت اقتراعاً، فأنا على يقين أن أكثر من نصف رجال الأعمال الموجودين في الدورة لم يكونوا ليؤيدونني، فسألتهم عما زحزحهم عن موقفهم الأول. قال واحد تلو الآخر أن السبب هو جدية المتحدث، واعتقاده – الذي عبر عنه بقوة – هما اللذان حملاهم على الشك في وجهة النظر البديهية.

حسناً، لقد اضطررت أمام ذلك الاستعراض من السذاجة أن أكتب الى وزارة الزراعة، قلت لهم أنه من دواعي خجلي أن أسأل مثل هذا السؤال غير المعقول، وبالطبع فقد أجابوا بأنه من المستحيل إنبات عشب أزرق، أو أي شيء آخر حتى من رماد خشب الجوزية، وأضافوا أنهم تسلموا خطاباً آخر من نيويورك يسأل نفس السؤال. كان ذلك البائع واثقاً من موقفه لدرجة أنه جلس وكتب خطاباً أيضاً!.

لقد علمني ذلك الحدث درساً لن أنساه أبداً. لو أن متحدثاً يصدق شيئاً بجدية كافية، ويقوله بجدية كافية، فسوف يحصل على مؤيدين لقضيته، حتى وأن كان يدعي قدرته على انبات عشب أزرق من التراب والرماد. فكم ستكون قناعاتنا مؤثرة لو أنها ذكرت بجانب الفطرة السليمة، والحقيقة!

ويتساءل كل المتحدثين تقريباً ما إذا كان الموضوع الذي اختاروه سيثير اهتمام الجمهور. وهناك طريقة واحدة لضمان اهتمامهم: ذكّي لهيب حماستك تجاه الموضوع، ولن تجد صعوبة في الاستئثار باهتمام جماعة من الناس.

منذ فترة وجيزة سمعت رجلاً في واحدة من دوراتنا في (بلتيمور) يحذر جمهوره أنه لو استمرت الطرق الحالية لصيد السمك الصخري في خليج تشيسابيك، فان هذا النوع سينقرض في غضون سنوات قليلة، لقد كان جاداً حقاً في هذا الشأن، كما يتضح من كل شيء في مادته، وأسلوبه، عندما وقف الرجل للحديث لم أدرِ بوجود مخلوق اسمه السمك الصخري في خليج تشيسابيك، وأنا أتصور أن كثيراً من الجمهور يشاركونني جهلي، وعدم اهتمامي ولكن قبل أن ينهي المتحدث كلمته كان جميعنا – تقريباً – على استعداد لتوقيع شكوى الى السلطة التشريعية لإصدار قانون لحماية السمك الصخري.

سُئل (ريتشارد واشبيرن تشايلد) – سفير أمريكا الأسبق في إيطاليا – ذات مرة عن سر نجاحه ككاتب شيق، فأجاب قائلاً: (إن الحياة تثيرني بشدة لدرجة أنني لا أستطيع البقاء ساكناً وأضطر الى إخبار الناس بذلك) لا أحد يستطيع منع نفسه من الافتتان بمتحدث أو كاتب مثله.

ذات يوم ذهبت للاستماع الى خطيب في لندن، وبعد أن أنهى كلمته لاحظ أحد أعضاء حزبنا -، وهو الروائي الإنجليزي الشهير السيد (إي . إف. بنسون) – أنه استمتع بالجزء الأخير من الكلمة أكثر بكثير من الجزء الأول، وعندما سألته عن السبب قال: (لقد بدا المتحدث نفسه أكثر اهماماً بالجزء الأخير وأنا أعتمد دائماً على المتحدث كي يمدني بالحماسة والاهتمام).

واليك مثالاً آخر يوضح أهمية اختيارك الجيد لموضوعاتك.

انضم  شخص – سندعوه بالسيد (فلين) – الى إحدى دوراتنا في واشنطن العاصمة، وفي إحدى أمسيات بداية الدورة، خصص كلمته لوصف عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية، فقام في عجالة وسطحية بجمع حقائقه من كتيب أصدرته صحيفة محلية، كانت الحقائق مثل الصحيفة: جافة ومتقطعة، وغير مفهومة ورغم حياته في واشنطن لسنوات طويلة فانه لم يذكر مثالاً شخصياً يعلل حبه للمدينة، بل اكتفى بذكر سلسلة من الحقائق المملة الى أن أثارت كلمته ضيق الفصل بقدر ما أرهقته في إلقائها.

بعد ذلك بأسبوعين حدث شيء ما أصاب السيد (فلين) بأذى بالغ حيث صدم سائق مجهول سيارته المركونة في الشارع وحطمها ثم فرّ دون تحديد هويته. كان من المستحيل حصول السيد (فلين) على التأمين، وإنما عليه أن يدفع فاتورة الإصلاح بنفسه، ها هو شيء جاء من نتاج تجربته. إن حديثه عن مدينة واشنطن مؤلما له ولجمهوره، فقد جاهد لإخراج جملة بجملة ولكنه عندما تحدث عن سيارته المحطمة كانت كلمته تتدفق وتغلي مثل ثورة بركان (فيزون)، ونفس طلاب الفصل الذين كانوا يتململون ضجراً في مقاعدهم منذ أسبوعين حيّوا السيد (فلين) بتصفيق حار.

وكما أوضحت مراراً ، فإنه لا يسعك إلا النجاح إذا ما اخترت الموضوع الذي يناسبك، وهناك فيض من الموضوعات المضمونة، ذلك بأن تتحدث عن قناعاتك! أنت بالتأكيد لديك معتقدات قوية عن أحد جوانب الحياة من حولك، وأنت لست مضطراً للبحث هنا، وهناك عن هذه الموضوعات، فهي تستقر عادة على سطح تيار وعيك لأنك غالباً ما تفكر فيها.

منذ وقت ليس ببعيد عرضت في التلفاز جلسة استماع تشريعية حول عقوبة الإعدام وتم استدعاء كثير من الشهود للإدلاء بوجهات نظرهم المؤيدة والمعارضة لهذا الموضوع الخلافي، أحدهم كان عضواً في إدارة شرطة مدينة (لوس أنجلوس)، الذي بدا من الواضح أنه فكر كثيراً في موضوعه، وكانت لديه قناعات قوية قائمة على حقيقة وهي أن أحد عشر ضابط شرطة من زملائه قد لقوا مصرعهم في معارك مسلحة مع المجرمين، تحدث الرجل بالصدق العميق الذي يتسم به رجل يؤمن في أعماق قلبه بصحة قضيته. إن أعظم المناشدات في تاريخ الفصاحة خرجت كلها من أعماق مشاعر الشخص وقناعاته العميقة ويعتمد الصدق على الإيمان، والإيمان أمر يتعلق بالقلب وشعورك بما تقول مثلما هو متعلق بالعقل وتفكيرك فيما تقول. (فالقلب لديه أسباب لا يعرفها العقل)، وفي كثير من الدورات تصادفني مناسبات متكررة لإثبات صحة جملة (باسكال السديدة).

أذكر محامياً في بوسطن حباه الله بطلعة مهيبة، وفصاحة تثير الإعجاب، ولكنه عندما ينهي حديثه كان الناس يقولون: (رجل ماهر)، كان يحدث انطباعاً سطحياً لأنه لم يكن هناك أية مشاعر وراء الواجهة البراقة لكلماته. في نفس الدورة كان هناك مندوب تأمين قصير القامة ذو مظهر غير جذاب. كان الرجل يتلمس كلمة من وقت لآخر ولكنه عندما يتحدث لم يكن هناك أدنى شك في عقول مستمعيه أنه يشعر بكل كلمة في حديثه.

لقد مضى زهاء مائة عام على اغتيال (ابراهام لنكولن) في مقصورة الرئاسة بمسرح فورد بالعاصمة واشنطن، ولكن مع صدق كلماته وحياته لا يزال يحيا معنا. كان هناك كثيرون من رجالات عصره فاقوه في المعرفة القانونية وقد كانت تعوزه اللباقة والسلاسة والطلاوة ولكن صدق ألفاظه وأمانتها في جيتسبيرج ، وكوبر يونيون ، وعلى درجات سلم الكونجرس في واشنطن لم يتفوق عليها أحد في تاريخنا.

وربما تقول – كما قال رجل ذات مرة – أنه ليس لديك قناعات أو اهتمامات قوية دائماً ما يصيبني هذا الامر بشئ من المفاجأة، ولكني أخبرت ذلك الرجل أن يشغل نفسه بشيء ويهتم به، فتساءل في يأس: (أي شيء على سبيل المثال؟) فقلت له: (الحمائم)، فقال في نبرة حائرة: (الحمائم؟) فقلت له: (نعم الحمائم. اذهب الى الميدان وانظر اليها وأطعمها وادخل المكتبة واقرأ عنها ثم عد الى هنا وتحدث عنها)، وقد فعل الرجل. وعندما عاد لم يكن هناك شيء يمنعه من الحديث بدأ يتكلم عن الحمائم بكل حمية المولع بتربيتها ، وعندما حاولت إيقافه كان يقول شيئاً لأربعين كتاباً عن الحمائم، وقد قرأها جميعاً. لقد ألقى واحدة من أكثر الكلمات التي سمعتها تشويقاً.

وإليك اقتراحاً آخر: تعلم المزيد والمزيد عما تعتبره الآن موضوعاً جيداً الى حد ما ، فكلما زادت معرفتك بشئ ما زادت جديتك وتحمسك للموضوع. يخبر (بيرس. اتش. هوايتنج) – مؤلف قواعد البيع العظمى الخمس- البائعين بألا يكفوا أبداً عن تعلم المزيد تجاه المنتج الذي يبيعونه، وكما يقول السيد هوايتنج: (كلما زادت معرفتك حول منتج جيد زاد تحمسك له)، ونفس الشئ يصدق على موضوعاتك: كلما زادت معرفتك بها زادت جديتك وتحمسك لها.

ثانياً: عش من جديد مشاعرك تجاه الموضوع

هب أنك تحدث جمهورك عن الشرطي الذي استوقفك لأنك تجاوزت السرعة المقررة بميل واحد، يمكنك أن تخبرنا بذلك بلا مبالاة المتفرج وعدم اهتمامه، ولكن هذا الشئ قد حدث لك وكانت لديك مشاعر معينة عبرت عنها بلغة محددة. إن أسلوب الغائب لن يولد انطباعاً قوياً لدى جمهورك، فهم يودون أن يعرفوا بالضبط طبيعة مشاعرك عندما دوّن الشرطي المخالفة. إذن فكلما عشت مجدداً المشهد الذي تصفه أو أعدت خلق الانفعالات التي انتابتك في الأصل كلما عبرت عن نفسك تعبيراً حياً.

أحد الأسباب وراء ذهابنا لمشاهدة المسرحيات، والأفلام يكمن في أننا نريد أن نسمع ونرى التعبير عن الانفعالات لقد زاد خوفنا من التنفيس عن مشاعرنا علانية لدرجة أننا نضطر الى الذهاب لمشاهدة مسرحية لإشباع هذه الحاجة الخاصة بالتعبير الانفعالي.

إذن ، فعندما تتحدث على الملأ فإنك ستولد إثارة واهتماماً في حديثك بنفس مقدار الإثارة الذي تضعه فيه لا تكبت مشاعرك الصادقة، ولا تقمع حماسك الخالص، اظهر لمستمعيك مدى توقك الى الحديث عن موضوعك وسوف تستأثر بانتباههم.

ثالثاً: تصرف بجدية

عندما تخطو أمام جمهورك متجهاً نحو المنصة، افعل ذلك بشئ من التوقع ولا تكون كرجل يمضي الى المشنقة. ومن الممكن أن يكون النشاط الذي في مشيتك مجرد إدعاء، ولكنه سيفعل العجائب من أجلك، وهو يعطي الجمهور شعوراً بأن لديك شيئاً تتوق الى الحديث عنه. خذ نفساً عميقاً قبل أن تبدأ ابتعد عن الأثاث أو عن منصة المتحدث ابق رأسك مرتفعاً وعينيك لأعلى، إنك موشك على إخبار مستمعيك بشئ ذي قيمة وينبغي على كل جوارحك أن تخبرهم بذلك بدقة ووضوح. إنك أنت القائد وتصرف – كما كان (وليام جيمس) يقول – كما لو كنت القائد، وإذا الصوت سيبعث في نفسك الثقة وبمجرد أن تبدأ في عمل إشارات من أي نوع فإنها ستساعد على إثارتك.

هذا المبدأ الخاص بـ(تنشيط قابليتنا للتأثر) – كما يقول (دونالد وإلينور ليرد) – يمكن تطبيقه على كل المواقف التي تتطلب وعياً ذهنياً، وهما يشيران في كتابهما أساليب التذكر الفعال الى الرئيس (تيودور روزفلت) باعتباره رجلاً نجح في حياته بالحيوية والنشاط والقوة والحماس التي أصبحت سمته البارزة. كان يهتم -، أو يتقن التظاهر بأنه مهتم – بعمق بكل شيء يتعامل معه). لقد كان (تيودور روزفلت) مثلاً حياً لفلسفة (وليام جيمس) التي تقول: تصرف بجدية وستصبح جاداً بشكل طبيعي في كل ما تفعله).

وتذكر هذا قبل كل شيء: التصرف بجدية سوف يجعلك تشعر بالجدية.