حسن الهاشمي
ما أرحم الله تعالى في تعامله مع الانسان في حياته وبعد موته إنه أرأف به من الام إزاء رضيعها، في حياته أكرمه وخلقه في أحسن تقويم، وجعله خليفة له في الأرض، وسخر له ما في السماوات والأرض لعله يتذكر ويخشى، وبعد موته أكد ان اكرام الميت دفنه سريعا قدر الإمكان، فالدفن تشريع رحيم، يجمع بين الجانب الشرعي والتكريم الإنساني، ويهدف إلى حفظ حرمة الإنسان حتى بعد موته، وصون مشاعر المحيطين به، قال الإمام الرضا (عليه السلام) في هذا المضمار: (إنما امر بدفن الميت لئلا يظهر الناس على فساد جسده، وقبح منظره، وتغير رائحته، ولا يتأذى الأحياء بريحه وما يدخل عليه من الآفة والفساد، وليكون مستورا عن الأولياء والأعداء، فلا يشمت عدوه ولا يحزن صديقه) وسائل الشيعة للحر العاملي: ٢ / 819 / 1.
هذا النص يعبّر عن الحكمة من دفن الميت من منظور عقلائي وشرعي، وجاءت مضامينه في الروايات والأحاديث، مفادها أن الدفن ليس فعلا عبثيا، بل تشريع له أسباب وحِكم، ومن المعلوم أن الجسد بعد الموت يبدأ بالتحلل، فيُخشى أن يُرى على هيئة تُؤذي البصر والشم والبيئة، وحفاظا على صحة الأحياء ومنع انتقال الأمراض أو انتشار الروائح، وحفظا لكرامة الميت، فلا يُنظر إليه في حال الضعف والانهيار، ومنعا للشماتة من الأعداء أو الأسى الشديد من الأقرباء والأصدقاء عند رؤية حاله بعد الوفاة، أمر الإسلام بدفنه إكراما له ورحمة منه اليه.
كما ان الإسلام يوصي بالجار الحسن، ويؤكد على انتخاب الجار قبل الدار، لما له من أهمية قصوى في انتخاب البيئة الآمنة والمريحة في الاقامة والسكن والمأوى، فانه في الوقت نفسه يؤكد على دفن الميت في مقابر الصالحين، لما لها من نفحات نورانية تشع من تلك المقابر، تلفح نسائمها الميت الذي يوارى الثرى في ربوعهم الساحرة، بخلاف مقابر المذنبين فان الميت يطاله عذابهم ويكتوي بنارهم ويتلوّى مما هم فيه من نكبات ومآسي وحسرات، تماما كما يتلوّع الحي بجار السوء في الحياة الدنيا، وتجنبا لتفادي ما هم عليه من العذاب الواصب أوصى رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ادفنوا موتاكم وسط قوم صالحين، فإن الميت يتأذى بجار السوء كما يتأذى الحي بجار السوء) كنز العمال للمتقي الهندي: 42371.
المستفاد من الرواية أعلاه يُستحب دفن المؤمن في مقبرة يُدفن فيها الصالحون والعلماء والشهداء، لما لذلك من الأثر الروحي والبركة المعنوية لما فيها من النماء والزيادة، وربما يتم شمولهم بالدعاء والرحمة، وهذه المقارنة وبالرغم ما فيها من مفارقة بيد أنها تشبيه مؤثر؛ فكما أن الجار السيئ يُزعج الحي، فإن الميت يتضرر بجواره لميت فاسد أو غير مؤمن، سواء من جهة الجانب المعنوي أو حرمانه من بركات القرب من الصالحين.
وهذا يدل على ان للقبور أثر روحي متبادل، وان الميت لا يُعزل عن البيئة المحيطة به، بل يتأثر بما حوله، وتوصية الرسول الأعظم بدفن الميت بين الصالحين نوع من الإكرام له وطلب للرحمة والشفاعة، وهو مما يتوخاه المؤمن في كدحه وتقربه الى الله تعالى بالعبادة والعمل الصالح للوصول الى النفس المطمئنة الوافدة الى الرب المتعال، راضية عنه ومرضية بما نالت من الرضا الالهي، ومثل هذه النفس المتسامية حري بها ان تتنعم بالبرزخ وسط الصالحين بعيدا عن غوغاء المعاندين؛ للسنخية الحاصلة بين الوارد والمورود.
وتأكيدا على هذه السنخية فان الأرض تعرف الصالح من الفاسد، وان للمؤمن هيبة حتى بعد وفاته، كما للكافر رهبة وسوء أثر، وان الكون يتفاعل مع الإنسان بحسب طهارته أو فساده، هذا ما أكد عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله: (إن المؤمن إذا مات تجملت المقابر لموته، فليس منها بقعة إلا وهي تتمنى أن يدفن فيها، وإن الكافر إذا مات أظلمت المقابر لموته، وليس منها بقعة إلا وهي تستجير بالله أن لا يدفن فيها) كنز العمال للمتقي الهندي: ٤٢٣٧٥.
هذا النص يُظهر البُعد الروحي والملكوتي للمؤمن والكافر بعد الموت، ان نور إيمان المؤمن وسيرته الطيبة يجعل الأرض (عالم القبور) تستبشر به، وتتزيّن لاستقباله، وكأنه ضيف كريم، وان كل مكان في الأرض يتمنى احتضان جسده، لِما يُجلب من البركة والنور، أما الكافر فان موته يجلب ظلمة وكآبة واضطراب، وهو كناية عن سوء العاقبة والبعد عن الرحمة الإلهية، ومن الواضح ان المواضع في الأرض تستعيذ بالله من أن يُدفن فيها الكافر بسبب ما يحمله من أثر سلبي أو مؤاخذة أو عذاب.
ونظرا لما يلاقيه الميت من تداعيات مادية ومعنوية، فانه ينبغي الإسراع في الدفن ليلاقي ما حصدت يداه من زرع نافع أو ضار، هذا ما أوضحه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله: (إذا مات الميت في الغداة فلا يقيلن إلا في قبره، وإذا مات بالعشي فلا يبيتن إلا في قبره) كنز العمال للمتقي الهندي: ٤٢٣٧٥.
يقيل جاءت من القَيْلولة، وهي الراحة أو النوم في وسط النهار، والعبارة تؤكد على انه إذا مات الإنسان في أول النهار، فلن يأتي وقت القيلولة (الراحة وقت الظهر) إلا وقد دُفن في قبره، وهو إشارة إلى سرعة إجراءات الدفن في بعض الحالات، أو إلى قِصر الأجل وسرعة الانتقال من الدنيا إلى الآخرة، وفيها تذكير بأن الموت قريب، ولا يمهل أحدا، وقد يُدفن الإنسان في نفس اليوم الذي فارق فيه الحياة.
السرعة في الدفن هو خير للمؤمن لما فيه من تعجيل ثواب، وخير للكافر أيضا لما فيه من تقليل عقاب، وهكذا فان شآبيب رحمة الله تعالى تنزل على الميت حالما يوضع في حفرته كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن أرحم ما يكون الله بالعبد إذا وضع في حفرته) كنز العمال للمتقي الهندي: ٤٢٣٨٥.
أن أشد لحظات الرحمة الإلهية وأعظمها تنزل على العبد حين يُدفن، ويُترك وحده في قبره، حيث لا ناصر ولا أنيس إلا الله، فالعبد بعد أن يُدفن ويبدأ الانتقال الحقيقي من الدنيا إلى الآخرة، في لحظة الوحشة والخوف، يكون الله أرحم به من كل أحد، وهذا يدل على ان الله تعالى لا يترك عبده المؤمن عند أشد لحظات وحدته وضعفه، والقبر ليس فقط دار حساب، بل هو موضع رحمة لمن أحسن في دنياه، هذا ما نراه جليا في هذا الحديث الذي يدعو البشرية قاطبة الى الطمأنينة والثقة برحمة الله، التي وسعت كل شيء خصوصا عند الميت الذي هو احوج اليها من غيره، وهي دعوة مفتوحة للإصلاح الدنيوي والأخروي؛ للدخول في دوحة رحمته من أوسع أبوابها.







وائل الوائلي
منذ 5 ساعات
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN