حسن الهاشمي
الرحم هم الأقرباء الذين ينتسبون إلى رحم واحد عن طريق النسب، فالتواصل معهم والإحسان إليهم يسمى صلة الرحم، أما تركهم والإساءة إليهم يطلق عليه قطيعة الرحم، فتعال عزيزي القارئ لنتصفح مزايا المجموعتين ريثما تفرز أقوالك وسيرتك لأيهما تنتمي، فهل تغترف من معين الصلة الدافق، أم أنك تبقى تلملم حظك العاثر في بركة القطيعة الآسن.
الصلة هي أعجل المسارات إلى الخير والقطيعة أبطؤها، الصلة توصل صاحبها إلى النعيم والقطيعة تردي به إلى الجحيم، الصلة أحب الأعمال إلى الله تعالى والقطيعة أبغضها، الصلة كف وإماطة الأذى عن الأقرباء والقطيعة إنزالها بهم، الصلة فيها رحابة الصدر ودماثة الأخلاق والقطيعة تعج بضيق الصدر ودناءة التعامل، الصلة تزيد في الأعمار وتعمر الديار وتنفي الإقتار والقطيعة تفني الأعمار وفي فنائها تفنى كل الآمال، الصلة تهوّن الحساب وتقي ميتة السوء والقطيعة تعسّر الحساب وتردي المهلكات، الصلة تعصم من الذنوب والآثام والقطيعة تعبد الطرق لاقتحامها ومن أوسع أبوابها، الصلة تدفع البلايا والنقم والقطيعة مرتع لحلولها، الصلة عاقبتها رخاء في الدنيا ورضوان إلهي في الآخرة والقطيعة ضلال في الدنيا وسخط إلهي في الآخرة.
بعد هذه المقدمة التي استلت من الشريعة السمحاء أظن أن الصلة هي المنجى والقطيعة هي الردى بعينها، فالذي يتصف بالصلة بحاجة إلى أدوات التواضع والعفة والسماحة والشهامة، وهذه الصفات ليست موجودة في عامة الناس، بل أصحاب المروءة هم الذين يتصفون بها ويا ليتنا نكون منهم، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو من هم الرحم وكيف نصلهم الرحم هو كل من جمعك وإياه رحم واحدة قريبة: كالإخوة والأخوات، أو متوسطة: كالأعمام والأخوال، أو بعيدة: كسائر من يمت الإنسان إليهم بصلة مع صدق كونه رحماً عرفاً، وصلة الرحم هي عبارة عن: "الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارةً تكون بالمال، وتارةً بالخدمة، وتارةً بالزيارة، وتارةً بالسلام، وتارةً بطلاقة الوجه، وتارةً بالنصح، وتارةً بردّ الظلم، وتارةً بالعفو والصفح، وغير ذلك من أنواع الصلة، على حسب القدرة والحاجة والمصلحة". القاموس الفقهي، صلة الرحم، ص145. وبعبارة أوضح هي اشراك أقرباء الإنسان بما ناله من المال والجاه وسائر خيرات الدنيا، والقيام بأداء الواجب معهم من حيث الزيارة وسؤال أحوالهم وعيادتهم عند المرض ومساعدتهم إذا احتاجوا للمساعدة ومشاركتهم في الفرح والسرور وعدم قطيعتهم، فالمؤمن يصل من قطعه.
أما بر الوالدين فانه واجب مستقل، له مرتبة عليا في الشريعة، وصلة الرحم تشمل الأقارب غير الوالدين، كالجد، العم، الخال، الأخ، الأخت... وغيرهم، لكن الأم والأب يدخلان ضمن أرحام الإنسان، بل هما أعظم الأرحام وأقربهم، ولذلك لا تُقبل صلة الرحم الحقيقية ما دام الإنسان قاطعا لوالديه أو مقصّرا في برّهما، قال رسول الله (ص): (برّ الوالدين أفضل من الصلاة والصيام والحج والعمرة والجهاد في سبيل الله) جامع السعادات - محمد مهدي النراقي - ج ٢ - ص ٢٠٣. إذن: صلة الرحم تبدأ بالوالدين، ومن كان قاطعا لهما، فقد هدم الأساس أصلا، ولا كلام في صلة الرحم بعد الهدم.
والسؤال الذي يطرح هنا كيف توصل الأرحام وكيف تواجه القطيعة من بعض ضعاف النفوس في معرض الجواب على هذا السؤال نقول انه تماسكاً للأسر وتقوية للمحبة والتي هي من أسس المجتمع الناجح، وتفادياً للإحن والعداوة التي ربما تنشأ بين بعض الأقارب، أسرع الإسلام على التوصية الكافية بالأرحام بصورة عامة من ناحيتين: إيجابية: فيلزم أن يتواصلوا، ويتبارّوا، ويتراحموا، ويتفقد بعضهم بعضاً، سلبية: فيحرم القطيعة بشتى أشكالها، ويؤكد على لزوم غسل القلوب عن ضغائن ربما تستشري بينهم فلا تدع ولا تذر، قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) النساء :1. أي اتقوا الله تعالى في الأرحام أن تقطعوها، وهو حث في التواصل مع الأرحام وتفقد حالاتهم الاجتماعية والاقتصادية وما يحتاجونه من معونة مادية أو معنوية لقضائها حسب المستطاع.
عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله): (أفضل أهل الدنيا والآخرة، الذين يصلون من قطعهم، ويعطون من حرمهم، ويعفون عمن ظلمهم) تحف العقول للحراني، ص46. ضرب الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أروع الأمثلة في الحلم والصفح والتجاوز، تارة الإنسان يصل رحمه من الأقرباء سواء كانوا من الطبقة الأولى أو الثانية أو الثالثة وذلك بتفقدهم والتواصل معهم وتلبية ما يحتاجونه من معونات مادية أو معنوية، والأعظم من ذلك أن يتواصل مع من قطع علاقته به من الأقارب، هذا الخلق الرفيع ينم عن روحية متعالية مفعمة بالأخلاق الفاضلة ومشبعة بالحلم والصفح والتجاوز والتسامح وبعيدة كل البعد عن الإحن والتباغض والعداوة والبغضاء، فصلة الرحم فضيلة ولكن الأفضل منها صلة رحم ممن قطع هذه الصلة، لنزاع أو خلاف أو شجار أو ما شابه ذلك من طرق العداوة والبغضاء التي يلقي الشيطان حبائله بين الناس ليوقعهم فيها.
يخوض الإنسان تجاربه في معترك الحياة الصاخبة وما تزال أعماله بادية على صفحات حياته وقسمات وجهه، وأعماله الحسنة ما تزال ترفعه حتى يصل إلى مصاف الأولياء الصالحين، في حين أن أعماله الشريرة ما تزال تعبث به وبمقدراته أيما عبث وتكدر عليه حياته وتجعل أيامه كالحة ظلماء كظلمة الليل الدامس، وما عساني أن أصنف قطيعة الرحم من أنها من الأعمال القبيحة التي تستهجنها كل الأعراف الاجتماعية، لأنها معول هدم وخراب وضياع وهي لا محالة تقف حجر عثرة أمام كل من يحاول النهوض بالمجتمعات وعلى كافة الصعد.
صلة الأرحام تعود بالنفع الكبير إلى الأرحام أنفسهم فهي تمدّ في عمر الإنسان، وتكون سبباً لبسط الرزق والبركة والسعة والنماء، ومن الطبيعي أن يكون واصل الرحم هادئ النفس، مرتاح الخاطر، مطمئن القلب، وهي تزكّي الأعمال، وتنمّي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسّر الحساب، وقطيعة الرحم هي خلاف صلته، والمقصود بها: هجر القريب، وترك وصله، وربما احتقاره والإساءة إليه، وهناك أحكامٌ عديدة ومتفرّقة تتعلّق بالأرحام، من أهمّها: حرمة قطيعة الرحم ووجوب صلتها، باتفاق جميع الفقهاء، ولذا أوصت الشريعة بالأرحام، داعيةً إلى صلتها، محرِّمةً بأشدّ التعابير قطيعتها.
ربما لا يقف التمدن الإسلامي إلى حد صلة الرحم بل يتعدى ذلك إلى مرتبة أرقى في العلاقات الإنسانية الوطيدة، يتمثل في أبسط صوره في غمط كل ما يثير الحقد والإحن في النفوس، ولعل التواصل مع القاطع لرحمه يؤكد هذا السمو المتألق لتعاليم الإسلام، الذي يحتم على المسلم بأن يعظ على جراحه ويتسامى على العلاقات المريبة ليحاول أن يصنع منها علاقات طيبة ينكأ بها كل جرح أو دمّل قبل أن يستفحل ويضرب بمضاعفاته نسيج المجتمع الإسلامي المتكاتف المتكافئ المتكافل.







وائل الوائلي
منذ 5 ساعات
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN