حسن الهاشمي
لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يبيّن لعباده الأحكام النافذة والزاجرة لتقويم السلوك والسير على جادة الصواب، وكلّ من تمرّد على هذه الأحكام فإنه قد يجني على نفسه ريثما يذوق وبال أمره عاجلا أو آجلا، ولعلّ تحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير يدخل في هذا الإطار، إذ أن التغذية السليمة المتمثلة في الطيبات من الرزق لها الأثر البالغ في التكوين الفسيولوجي المتكامل للإنسان السوي، على العكس من التغذية السقيمة المتمثلة في الخبائث، فإن لها الأثر الوضعي السلبي على سلوك الإنسان وإنه لا يزال يتمادى في غيّه ويخرج عن طور الإنسانية الهادفة، ولعله يتمادى في متاهات البهيمية الطائشة.
ومن بين ما حرّم الله تعالى أكل لحم الخنزير الذي علّله في غير آية شريفة بأنه نجس ولا يقدم على أكله إلا أهل الفسق والفجور والعصيان، وتأتي نجاسته من طبيعة هذا الحيوان المتهتّك الذي يلتهم النجاسات والقاذورات، وتضحى جزءا منه ومن آكله لاسيما إذا تعاود واستمر الأكل ونبت عليه اللحم واشتد به العظم، وهذا هو ديدن كل من يترك الطيبات من الرزق ويحوم حول المحرمات والخبائث، انطلاقا من المقولة الشهيرة: "من شب على شيء شاب عليه" و "شبيه الشيء منجذب إليه".
ودرءا للمخاطر المكنونة في التعاطي مع الخبائث ولا سيما تلك التي تصبح جزءا من الإنسان عن طريق الأكل والشرب، فإن الله تعالى وبحكمته البالغة حرّم كلّ ما هو مضر منها وهو محدود بطبيعة الحال، وحلّل كل ما هو مفيد منها وهو غير محدود كما نشاهده في حياتنا اليومية، فالأصل في الأشياء حلّيتها وإباحتها إلا ما خرج بالدليل في حرمته وكراهته، ويشمل ذلك جميع ما خلق الله تعالى من بهائم الأنعام والسماء وما فيها والبحار وما تحويها من نعم جمة أكثر ممّا تعدّ وتحصى.
إن الله سبحانه وتعالى أمرنا بحرمة لحم الخنزير في غير آية من آيات القرآن الكريم، ولكن ما هو الهدف، وما المصلحة من هذا التحريم الآيات التي حرّم الله سبحانه وتعالى فيها على المسلمين أكل لحم الخنزير جاءت في أربعة مواضع:
1ـ قوله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) البقرة:173.
2 ــ وقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ) المائدة:3.
3 ــ وقوله تعالى: (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الأنعام:145.
من الواضح ان الخنزير حيوان لاحم عشبي تجتمع فيه الصفات السبعية والبهيمية، فهو آكل كل شيء، وهو يأكل القمامات والفضلات والنجاسات بشراهة ونهم، وهو مفترس يأكل الجرذ والفئران وغيرها كما يأكل الجيف حتى جيف أقرانه.
الخنزير سيئ الطباع وقد دفع النفور منه عند الوثنيين إلى اعتباره قاتلا لرموز الخير؛ واعتبر رعي الخنازير في مصر القديمة من أحط المهن التي لا يقوم بها إلا المعدمون، ولا يدخل راعي الخنازير الهيكل ولا يتزوج إلا من بنات أمثاله وعلى من يلمس خنزيرا عليه أن يغتسل، وهو محرم عند أهل الكتاب وإن خالفوه، ولكن القرآن الكريم قد علل النهي عن أكل لحمه بقوله تعالى (فَإِنّهُ رِجْسٌ)؛ والرجس كلمة جامعة تعني أنه قذر ودنس ونجس يحمل الأذى والضرر. الإعجاز التشريعي في تحريم لحم الخنزير.. د. فهمي مصطفى محمود.
وللإجابة على التساؤل الذي استهللنا به مقالنا نقول لقد حرّم الله تعالى لحم الخنزير لأسباب متعددة شرعية، صحية، وأخلاقية، فانه أولا: أمر تعبدي حيث ان التحريم أمر إلهي قطعي، نلتزم به لأن الله أمر بذلك، سواء عرفنا الحكمة أم لا، ثانيا: لنجاسته، فالخنزير يعتبر من الحيوانات النجسة ذاتا في الفقه الإسلامي، فلا يجوز أكله أو تربيته لأجل اللحم، ثالثا: لأضراره الصحية، فان دراسات طبية حديثة أثبتت أن لحم الخنزير قد يحتوي على طفيليات مثل "الدودة الشريطية" ونسبة عالية من الدهون المشبعة، ومواد تسبب أمراض القلب وارتفاع الكوليسترول، وانها مقاومة لبعض طرق الطهي، مما يجعل بعض الميكروبات تبقى حية، رابعا: لسلوكه وتكوينه النفسي، فالخنزير حيوان غير غيور، يعتاد على السلوك الجنسي الشاذ، وقد اعتبر بعض العلماء أن الإكثار من أكل لحمه يضعف الغيرة والطهارة النفسية، خامسا: لحكمة اجتماعية وأخلاقية فالإسلام يريد بناء مجتمع نقي، قوي النفس، عالي الأخلاق، وتحريم الخنزير يدخل ضمن هذا البناء الشامل للطهارة الظاهرة والباطنة، وأقولها بضرس قاطع ان تحريم لحم الخنزير هو حكم إلهي أولا وآخرا، ثم تأتي الحِكَم العقلية والواقعية لتؤكد صحته، وتثبت أن الشريعة دائما توافق العقل والمصلحة الإنسانية.
من الحِكم الأخلاقية التي يذكرها بعض العلماء في تحريم لحم الخنزير، أن الخنزير يوصف بأنه حيوان غير غيور، بمعنى أنه لا يُبدي غيرة على أنثاه، ويقبل المشاركة الجنسية لغيره معها دون رفض أو مقاومة.
الغيرة من الصفات الأخلاقية التي يحثّ عليها الإسلام، ويراها من مقومات الكرامة والطهارة، خاصة في موضوع العرض والعفة؛ لذلك يُقال من يأكل لحم الخنزير بكثرة ودوام قد يتأثر نفسيا وسلوكيا، مما يؤدي إلى ضعف الغيرة واللامبالاة في الأمور الأخلاقية.
هذه الملاحظة ليست أساس التحريم الوحيد، بل تُذكر كإحدى الحِكَم المحتملة، وليست قاعدة علمية ثابتة، الأساس في التحريم هو النص القرآني الصريح، والحِكم تأتي لتعزيز الفهم، لا كأساس مستقل، فعلة تحريم لحم الخنزير؛ لأن فيه فساداً عظيماً، وهو من أقذر الأقذار، ويُنهى عن مخالطته والاقتراب منه، إذا، تحريمه جامع بين الطهارة، الأخلاق، والصحة، وأكاد أجزم أن التحريم إنما جاء لخير البشرية وليس هو أشرا ولا بطرا، لما في هذا الحيوان النجس المتنجّس القذر المستقذر من اضرار ومفاسد جمة،
والسؤال الذي يطرح هنا إذا كان الخنزير يتصف بهذه الصفات البشعة وله تلك التداعيات المريبة، لماذا اذن خلقه الله تعالى في معرض الإجابة نقول: ان خلق الخنزير بالنسبة اليه منقبة وخير، لأنه خلق من مخلوقات الله تعالى، ولكنه لو قارناه إلى الإنسان من ناحية الأكل يكون شرا مستطيرا وضررا فادحا، فالحيوان بما هو هو يجد الكمال في خلقه فيأكل ويتناسل ويدافع عن نفسه كسائر الحيوانات، ولكنّه وكذلك الدم والميتة وقع ضمن الخبائث التي حرّمها الله تعالى على خير ممن خلق وهو الإنسان، ليختبر عباده من الذي يمتنع، ومن الذي يتجرّأ ويتناول هذه المحرمات، ليترتّب عليه الجزاء الدنيوي بما يحويه من أمراض وخبائث تسري في آكليها وتمتنع عن ماسكيها، وكذلك ما ينتظر الطائعين من نعيم، والمتهتكين من جحيم في الجزاء الأخروي، الذي تكون هذه المفردة واحدة من حزم الحلال والحرام التي تقرر مصير العباد في يوم المعاد.







وائل الوائلي
منذ 6 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN