أخبر الإمام ( عليه السلام ) عن قرب موت المنصور
كان موكب الخليفة المنصور في طريقه إلى الحج سنة 158 ، فأخبر الإمام الكاظم ( عليه السلام ) بأنه سيموت قبل أن يصل إلى مكة ، وقال : لا والله لا يرى بيت الله أبداً !
قال أبو حمزة الثمالي : « فلما نزل بئر ميمون أتيت أبا الحسن ( عليه السلام ) فوجدته في المحراب ، قد سجد فأطال السجود ثم رفع رأسه إليَّ فقال : أخرج فانظر ما يقول الناس ! فخرجت فسمعت الواعية على أبي جعفر ، فرجعت فأخبرته فقال : الله أكبر ما كان ليرى بيت الله أبداً » ! ( قرب الإسناد / 337 ) .
وبايعوا ابنه المهدي بعده : « والمهدي إذ ذاك ببغداد ، فأقام بعد قدوم منارة ( غلامه ) يومين لم يظهر الخبر ، ثم خطب الناس يوم الخميس ونعى لهم المنصور وبويع بيعة العامة ، وذلك في سنة ثمان وخمسين ومائة » . ( تاريخ بغداد : 3 / 9 ) .
فروقات شخصية المهدي عن أبيه المنصور
كان المنصور مخضرماً بين الفقر والغنى ، فقد عاش في بادية الأردن حيث يسكن أبوه مبعداً عن دمشق من الخليفة الأموي ، وكان يأتي إلى المدينة فيخدم الحسنيين ، ويأخذ بركاب محمد بن عبد الله بن الحسن الذي ادعوا له المهدية !
وتوسط الحسنيون له عند عامل الأهواز فوظفه عاملاً على خراج قرية أمه ( إيذه ) ، فسكن المنصور فيها ، ثم كسر الخراج كما تقدم فسجنوه ، وهرب من السجن ، واشتغل فترة في طلب العلم والفقه . . الخ .
أما ابنه المهدي فكان مترفاً ، فقد ولد في إيذه أو إيذج ، ونشأ عند أخواله في جو فارسي ، وكان يتجاهر بشرب الخمر ومجالس الغناء بعكس أبيه !
وقد اعترف الذهبي وهو المتعصب لبني أمية والعباس بأن المهدي العباسي كغيره من خلفائهم منهمكٌ في شهواته !
قال في تاريخه ( 10 / 444 ) : « والمهدي كغيره من عموم الخلائف والملوك ، له ما لهم وعليه ما عليهم ، كان منهمكاً في اللذات واللهو والعبيد » .
وتدل وفاته على ترفه ، فقد ذهب للصيد إلى منطقة ماسبذان الجبلية في إيران ، ومعه موكبه من الصيادين والندماء والمغنين والجواري ، فطارد غزالاً فدخل في خربة والكلاب وراءه ، ودخل فرسه وراء الغزال فضرب رأسه بعتبة باب الخربة فمات على الفور ! ( تاريخ اليعقوبي : 2 / 400 ، والطبري : 6 / 392 ) .
وتقع ماسبذان وقرية الرذ قرب إيلام بين بغداد وهمدان : « ومات المهدي بالرذ من ماسبذان لثمان بقين من المحرم سنة تسع وستين ومائة . . . وكان عمره ثلاثاً وأربعين سنة ، وخلافته عشر سنين وشهر وخمسة أيام » . ( تاريخ بغداد : 3 / 18 ) .
لم يكن المهدي مقتنعاً بسياسة أبيه المنصور في تعظيم أبي بكر وعمر والترضي عنهما في صلاة الجمعة ، ففي أخبار السيد الحميري / 176 ، والأغاني : 7 / 263 ، ( وطبعة : 2 / 290 ) : « جلس المهدي يوماً يعطي قريشاً صلاتٍ لهم وهو ولي عهد ، فبدأ ببني هاشم ثم بسائر قريش ، فجاء السيد ( الحميري ) فرفع إلى الربيع رقعة مختومة ، وقال إن فيها نصيحة للأمير فأوصلها إليه ، فأوصلها فإذا فيها :
قُل لابن عَبّاسٍ سَمِيِّ محمدٍ * لا تُعْطِينّ بني عَدِيّ درهَما
إِحْرِمْ بني تَيْم بن مُرّةَ إنهم * شرُّ البريّة آخراً ومُقَدَّما
إن تُعْطِهمْ لا يشكروا لك نعمةً * ويكافئوك بأن تُذَمّ وتُشْتما
وإنِ ائتمنتهمُ أو استعملتَهم * خانوك واتّخذوا خَراجك مَغْنما
ولئن منعتَهمُ لقد بدأوكمُ * بالمَنْع إذ ملكوا وكانوا أظلما
منعوا تُراثَ محمدٍ أعمامَه * وابنَيْهِ وابنتَه عَدِيلةَ مَرْيما
وتأمّروا من غير أن يُسْتَخْلَفوا * وكفى بما فعلوا هنالك مَأْثَما
لم يشكروا لمحمد إنعامَه * أفيشكرون لغيره إن أنْعما
واللهُ منّ عليهمُ بمحمد * وهداهمُ وَكَسا الجُنوبَ وأطْعما
ثم انبَروْا لوصيِّه ووليّه * بالمُنْكَرات فجرَّعوه العَلْقَما
وهي قصيدة طويلة ، حذف باقيها لقبح ما فيه . قال : فرمى بها إلى أبي عبيد الله ثم قال اقطع العطاء فقطعه ! وانصرف الناس ودخل السيد إليه فلما رآه ضحك وقال : قد قبلنا نصيحتك يا إسماعيل ! ولم يعطهم شيئاً » !
وكان يخالف أتباع أبي بكر وعمر ويوافق أهل البت ( عليهم السلام ) فيجهر بالبسملة !
« صلى بنا المهدي صلاة المغرب فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، قال فقلت : يا أمير المؤمنين ما هذا ؟ فقال : حدثني أبي عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عباس أن رسول الله ( ص ) جهر ببسم الله الرحمن الرحيم » ! ( تاريخ دمشق : 53 / 412 ) .
كان لعلي بن يقطين ( رحمه الله ) تأثير كبير على المهدي العباسي ، فقد وضعه المنصور في حجر يقطين : « فنشأ المهدي وعلي بن يقطين كأنهما أخوان ، فلما أفضت الخلافة إلى المهدي استوزر علي بن يقطين وقدمه وجعله على ديوان الزمام وديوان البسر والخاتم ، فلم يزل في يده حتى توفى المهدي وأفضى الأمر إلى الهادي فأقره على وزارته ولم يشرك معه أحداً من أمره ، إلى أن توفي الهادي » ( ذيل تاريخ بغداد : 4 / 202 ) .
« وكان علي بن يقطين والحسن بن راشد يغلبان على أموره » ( تاريخ اليعقوبي : 2 / 400 ) .
وكان علي بن يقطين شخصية كفوءة ، وشيعياً جلداً ، أما الحسن بن راشد فيظهر أنه معاونه ، وأنه أكبر منه سناً لأنه يروي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) كثيراً ، ويروي عنه حفيده يحيى بن القاسم . ويأتي ذكره في ترتيب الخيزران خدماً لقبر الحسين ( عليه السلام ) . راجع : فهرست الشيخ الطوسي / 106 ، ورجال ابن الغضائري / 49 ، ومعجم السيد الخوئي : 5 / 312 ، وأعيان الشيعة : 5 / 71 .
خالف المهدي أباه في سياسته المالية ، فقد كان المنصور بخيلاً طماعاً جمَّاعاً للمال حتى سموه أبا الدوانق ! فلما تولى المهدي أخرج خزائن أبيه وقناطير ذهبه وأنفقها ! « لما حصلت في يد المهدي الخزائن والأموال وذخائر المنصور ، أخذ في رد المظالم ، وأخرج ما في الخزائن ففرقه حتى أكثر من ذلك ، وبر أهله وأقرباءه ومواليه وذوي الحرمة به ، وأخرج لأهل بيته أرزاقاً لكل واحد منهم في كل شهر خمس مائة درهم ، لكل رجل ستة آلاف درهم في السنة ، وأخرج لهم في الأقسام لكل رجل عشرة ألف درهم ، وزاد بعضهم » .
« جمع من الأموال ما لا يعبر عنه ، وكان مسيكاً ( بخيلاً ) » ( الذهبي في تاريخه : 10 / 438 ) خفض المهدي قليلاً قرار أبيه بإبادة العلويين ، وتقدم أنه تقزز من وصية أبيه له بالغرفة المخروطية التي جمع فيها رؤوس العلويين ، وأمر بدفنها . ولكنه ظل يبغضهم ويعتبرهم أخطر أعداء العباسيين !
ويدل على ذلك تعامله مع الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، كما سترى .
ويدل عليه موقفه من وصية القاسم بن مجاشع التميمي وكان من نقباء بني العباس وكبار ولاتهم ( الطبري : 6 / 35 ) فلما توفي : « أوصى إلى المهدي فكتب : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ، إن الدين عند الله الإسلام إلى آخر الآية . . ثم كتب : والقاسم بن مجاشع يشهد بذلك ويشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وأن علي بن أبي طالب وصي رسول الله ووارث الإمامة بعده . قال : فعرضت الوصية على المهدي فلما بلغ هذا الموضع رمى بها ولم ينظر فيها » ! ( تاريخ الطبري : 6 / 397 ) .
ويدل عليه : تعامله مع شريك النخعي ، وكان من كبار الفقهاء ، فقد دعاه المهدي ليكون قاضي قضاة الخلافة فقال : « لا أصلُحُ لذلك . قال : ولَم ذلك ؟
قال : لأني نسَّاءٌ . قال : عليك بمضغِ اللُّبان . قال : إني حَدِيدٌ ( عصبي ) قال : قد فرض لك أمير المؤمنين فالُوذَجةَ توقرك ( تهدئ أعصابك ) . قال : إني امرُؤ أقضي على الوارد والصادرِ ( بدون تمييز ) ! قال : إقضِ عليَّ وعلى والدي ! قال : فاكفِني حاشِيتَك . قال : قد فعلتُ .
فكانت أول رُقْعة وردت عليه من خالصة جاريةُ المهدي ، فجاءت لتتقدَّم الخصْم فقال : وراءَك مع خصْمِك ، مِراراً فأبَتْ . فقال : وراءكِ يالخَنْاءُ !
قالت : يا شيخُ أنت أحمقُ ! قال : قد أخْبرتُ مولاك فأبى عَلي ! فجاءت إلى المهدي تشكو إليه ، فقال لها : إلْزميِ بيتَكِ ولا تعْرضي له » !
وفي العقد الفريد : 1 / 147 : « كان بين شريك القاضي والربيع حاجب المهدي معارضة ، فكان الربيع يحمل عليه المهدي ( يحركه عليه ) فلا يلتفت إليه ، حتى رأى المهدي في منامه شريكاً القاضي مصروفاً وجهه عنه ، فلما استيقظ من نومه دعا الربيع وقص عليه رؤياه ، فقال : يا أمير المؤمنين إن شريكاً مخالف لك وإنه فاطمي محض ! قال المهدي : عليَّ به فلما دخل عليه قال له : يا شريك بلغني أنك فاطمي ! قال له شريك : أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون غير فاطمي إلا أن تعني فاطمة بنت كسرى !
قال : ولكني أعني فاطمة بنت محمد ( ص ) . قال : أفتلعنها يا أمير المؤمنين ؟ قال : معاذ الله . قال : فماذا تقول فيما يلعنها ؟ قال : عليه لعنة الله ، قال : فالعن هذا يعني الربيع ، فإنه يلعنها فعليه لعنة الله ! قال الربيع : لا والله يا أمير المؤمنين ما ألعنها ! قال له شريك : يا ماجن فما ذكرك لسيدة نساء العالمين وابنة سيد المرسلين ، في مجالس الرجال ؟ ! قال المهدي : دعني من هذا ، فإني رأيتك في منامي كأن وجهك مصروف عني وقفاك إليَّ ، وما ذلك إلا بخلافك علي ! ورأيت في منامي كأني أقتل زنديقاً ! قال شريك : إن رؤياك يا أمير المؤمنين ليست برؤيا يوسف الصديق صلوات الله على محمد وعليه ، وإن الدماء لا تستحل بالأحلام ، وإن علامة الزندقة بينة ! قال : وما هي قال : شرب الخمر والرشا في الحكم ومهر البغي . قال : صدقت والله أبا عبد الله . أنت والله خير من الذي حملني عليك » !
« ودخل على المهدي فقال له : يا شريكُ بلغني أنَّك فاطميُّ ! فقال : أتحبُّ فاطمةَ ، أعثرَ الله من لا يحبُّ فاطمةَ ! فقال المهدي : آمين . فلما خرج شريكٌ قال المهديُّ لمن عنده : لَعنهُ الله ما أظنُّهُ إلا عَنَاني !
وقال له يوماً : أيُّنا أشرفُ ، نحن أم ولدُ عليَّ ؟ فقال شريك : أمك مثلُ فاطمة حتى تُساويُهم في الشَّرف ؟ ! » . ( نثر الدر للآبي : 2 / 386 ) .
« ذُكر معاوية بن أبي سفيان عنده ووُصف بالحلم فقال شريك : ليس بحليم من سفه الحق ، وقاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه » . ( وفيات الأعيان : 2 / 465 ) .
وفي تاريخ دمشق : 53 / 422 : « قال أبو يوسف القاضي للمهدي : يا أمير المؤمنين إن شريكاً لا يرى الصلاة خلفك ! فأرسل إليه المهدي فأحضره ، قال فقال له : ما تقول في أبي يوسف ؟ قال : من أبو يوسف يا أمير المؤمنين ؟ قال : يعقوب . قال : ومن يعقوب يا أمير المؤمنين ؟ قال : هذا . قال : تسأل عنه فإن كان عدلاً جازت شهادته . قال فقال له المهدي : ما تقول أنت فيه ؟ قال : أعرفه وأعرف أباه ، وكان أبوه غلاماً عندنا بالكوفة ينتمي إلى العرب ، وليس من العرب !
قال فغضب المهدي قال فقال : يا بن الفاعلة بالزنا ! قال فقال له شريك : مه مه فما علمتها إلا صوامة قوامة ! قال فقال له المهدي : يا زنديق والله لأقتلنك !
قال فجعل شريك يضحك ويقول ها ها ! قال : وكان شريك جهوري الصوت وقال : يا أمير المؤمنين إن للزنادقة علامات : شربهم النبيذ ، واتخاذهم القينات ووقوفهم عن الجماعات . قال : فأطرق المهدي وقام شريك فانصرف » . وفي تاريخ بغداد : 9 / 294 : « إن للزنادقة علامات ، تركهم الجماعات ، وشربهم القهوات وتخلفهم عن الجماعات ! فقال المهدي يا أبا عبد الله لم نعنك بهذا » !
« قال : ما تقول في علي بن أبي طالب ؟ قال : ما قال فيه جدك العباس وعبد الله . قال : وما قالا فيه ؟ قال : أما العباس فمات وعلي عنده أفضل الصحابة وقد كان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عما ينزل من النوازل ، وما احتاج إلى أحد حتى لحق بالله . وأما عبد الله فإنه كان يضرب بين يديه بسيفين ، وكان في حروبه رأساً متبعاً وقائداً مطاعاً ، فلو كانت إمامة علي جوراً لكان أول من يقعد عنها أبوك لعلمه بدين الله ، وفقهه في أحكام الله ! فسكت المهدي وأطرق ، ولم يمض بعد هذا المجلس إلا قليل حتى عزل شريكاً » ! ( وفيات الأعيان : 2 / 462 ) .
لم يهتم المهدي العباسي بمشروع أبيه فيه وزعمه أنه المهدي الموعود على لسان النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! وقد ألقى المنصور بثقله لإنجاح هذا المشروع فبنى له قصر الرصافة وأقام فيه احتفالاً تاريخياً ومجلساً شرعياً ، وأحضر الفقهاء والقضاة فبايعوه بولاية العهد ، وشهدوا بأنه هو المهدي المنتظر !
ففي الأغاني : 13 / 313 : « عن الفضل بن إياس الهذلي الكوفي أن المنصور كان يريد البيعة للمهدي ، وكان ابنه جعفر يعترض عليه في ذلك ، فأمر بإحضار الناس فحضروا ، وقامت الخطباء فتكلموا ، وقالت الشعراء فأكثروا في وصف المهدي وفضائله وفيهم مطيع بن إياس ، فلما فرغ من كلامه الخطباء وإنشاده في الشعراء قال للمنصور : يا أمير المؤمنين حدثنا فلان عن فلان أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : المهدي منا محمد بن عبد الله وأمه من غيرنا ، يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً ، وهذا العباس بن محمد أخوك يشهد على ذلك !
ثم أقبل على العباس فقال له : أنشدك الله هل سمعت هذا ؟ فقال : نعم ، مخافةً من المنصور ! فأمر المنصور الناس بالبيعة للمهدي !
قال : ولما انقضى المجلس وكان العباس بن محمد لم يأنس به ، قال : أرأيتم هذا الزنديق إذ كذب على الله عز وجل ورسوله حتى استشهدني على كذبه ، فشهدت له خوفاً ، وشهد كل من حضر عليَّ بأني كاذب !
وبلغ الخبر جعفر بن أبي جعفر ، وكان مطيع منقطعاً إليه يخدمه فخافه وطرده عن خدمته ! قال وكان جعفر ماجناً فلما بلغه قول مطيع هذا غاظه وشقت عليه البيعة لمحمد فأخرج ( . . . آلته ) ثم قال : إن كان أخي محمد هو المهدي ، فهذا القائم من آل محمد » ! راجع : الطبري : 6 / 269 ، واليعقوبي : 2 / 395 ، والمعارف / 379 ، والنهاية : 10 / 111 ، وشذرات الذهب : 1 / 219 ، وعبر الذهبي : 1 / 207 ، وتاريخ دمشق : 48 / 9 .
وقد اعترف هارون بكذبة جده المنصور ! قال سليمان بن إسحاق العباسي : « كنت يوماً عند الرشيد فذُكر المهدي وما ذكر من عدله فأطنب في ذلك ، فقال الرشيد :
أحسبكم تحسبون أبي المهدي ! حدثني عن أبيه عن جده عن ابن عباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب أن النبي ( ص ) قال له : يا عم ، يملك من ولدي إثنا عشر خليفة ، ثم تكون أمور كريهة شديدة عظيمة ، ثم يخرج المهدي من ولدي يصلح الله أمره في ليلة فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً ويمكث في الأرض ما شاء الله ، ثم يخرج الدجال » . ( إعلام الورى / 365 وطبعة : 2 / 165 ، وقصص الأنبياء / 369 ، ومناقب ابن شهرآشوب : 1 / 292 ، والعدد القوية / 89 ، وفرائد السمطين : 2 / 329 ) .
ومن العجيب في الموضوع موقف المهدي العباسي نفسه ، حيث لم يكترث بادعاء أبيه له ! ولم نجد عنه كلمة يزعم فيها أنه المهدي أو يؤيد ادعاء أبيه !
رووا هم أن المهدي العباسي ليس بمهدي !
روى الطبراني بسند موثق ( المعجم الأوسط : 6 / 297 ) أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أخبر عمه العباس بملك أولاده ، وقال له : « يا عباس إنه لا يكون نبوة إلا كانت بعدها خلافة . وسيلي من ولدك في آخر الزمان سبع عشرة ، منهم السفاح ، ومنهم المنصور ، ومنهم المهدي وليس بمهدي ، ومنهم الجموح ، ومنهم العاقب ، ومنهم الواهن ، وويل لأمتي منه كيف يعقرها ويهلكها . . . » ومجمع الزوائد : 5 / 187 .
وكان المنصور يعلم أنه كاذب في ادعائه أن ابنه المهدي ! لأنه كان يروي أن المهدي من ولد أبي طالب ! قال سيف بن عميرة ( الكافي : 8 / 209 ) : « كنت عند أبي الدوانيق فسمعته يقول ابتداءً من نفسه : يا سيف بن عميرة : لا بد من مناد ينادي باسم رجل من ولد أبي طالب ! قلت : يرويه أحد من الناس ؟ قال : والذي نفسي بيده لسمعتْ أذني منه يقول : لا بد من مناد ينادي باسم رجل قلت : يا أمير المؤمنين ، إن هذا الحديث ما سمعت بمثله قط ! فقال لي : يا سيف إذا كان ذلك فنحن أول من يجيبه ، أما إنه أحد بني عمنا ! قلت : أي بني عمكم ؟ قال : رجل من ولد فاطمة ( عليها السلام ) . ثم قال : يا سيف لولا أني سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقوله ، ثم حدثني به أهل الأرض ما قبلته منهم ، ولكنه محمد بن علي » ! ومثله الإرشاد / 358 ، وغيبة الطوسي / 265 ، والخرائج : 3 / 1157 ، وإثبات الهداة : 3 / 725 .
وسبب يقين المنصور بكلام الإمام الباقر ( عليه السلام ) ، أنه رأى صدق ما أخبره به عن المستقبل ، وأنه سوف يحكم !
ومهما يكن ، فإن الواقع كذب أن ابن المنصور هو المهدي ، فلم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، ولا بيته ! بل زاد الأرض ظلماً وجوراً ! ولم يعط المال للناس حثياً بدون عد ، بل صادر أموالهم وزادهم فقراً !
ثم كان خماراً مغرماً بمجالس الرقص والغناء ، فأنجب للمسلمين بنتاً مغنية ضرابة عود هي عُلَيِّة العباسية ، وأنجب أخاها المغني إبراهيم بن المهدي « قال ابن الفضل بن الربيع : ما اجتمع أخ وأخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهدي وأخته علية » . ( سير الذهبي : 10 / 561 ) .
« وكانت علية بنت المهدي تهوى غلاماً خادماً اسمه طل ، فحلف الرشيد أن لا تكلمه ولا تذكره في شعرها ، فاطلع الرشيد يوماً عليها وهي تقرأ في آخر سورة البقرة : فإن لم يصبها وابل فالذي نهى عنه أمير المؤمنين » ! ( المستطرف : 1 / 100 ) .
لكن الذهبي قال فيها : « رخيمة الصوت ذات عفة وتقوى ومناقب » ! ( سيره : 10 / 187 ) .
كما أنجب المهدي عباسة عشيقة جعفر البرمكي ، وكان أخوها هارون : « لا يصبر عن جعفر وأخته عباسة وكان يحضرهما مجلس الشراب فيقوم هو فقال : أزوجكها على أن لا تمسها ! قال : فكانا يثملان ويذهب الرشيد ويثب جعفر عليها فولدت منه غلاماً » ! ( الطبري : 4 / 660 ، وسير الذهبي : 9 / 66 ) .
وقال أعرابي للمهدي : « إني هجين ! قال : ليس يضرك ذاك ، فإخوة أمير المؤمنين وولده أكثرهم هجن » ! و ( تاريخ الذهبي : 10 / 442 ) .
« وكان المهدي يحب الحمام ويشتهيها ، فأدخل عليه غياث بن إبراهيم فقيل له حدث أمير المؤمنين ، فحدثه بحديث أبي هريرة : لا سبق إلا في حافر أو نصل وزاد فيه : ( أو جناح ) فأمر له المهدي بعشرة آلاف !
قال : فلما قام قال : أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله ( ص ) ، وإنما استجلبت ذاك أنا » . ( تاريخ بغداد : 12 / 320 وميزان الإعتدال : 3 / 337 ، ولسان الميزان : 4 / 422 ) .
كان المهدي يخاف من زوجته الخيزران !
تتوقف معرفة شخصية المهدي وولديه موسى الهادي وهارون الرشيد ، على معرفة شخصية زوجته الخيزران ! وهي امرأة يمانية من مدينة جرش في اليمن قرب نجران ، من قبيلة حِمْيَر ، وليست من جرش في الأردن قرب عمان ( معجم البلدان : 2 / 126 ) واسمها أروى بنت منصور . ( الطبري : 6 / 341 )
قال في المنتظم : 8 / 346 : « لما عرضت الخيزران على المهدي قال لها : والله يا جارية إنك لعلى غاية التمني ، ولكنك حمشة الساقين ! فقالت : يا مولانا أحوج ما تكون إليهما لا تراهما ! فقال : إشتروها ، فحظيت عنده فأولدها موسى وهارون » !
وقال الجاحظ في المحاسن والأضداد / 70 : « كانت الخيزران لرجل من ثقيف ، فقالت لمولاها الثقفي : إني رأيت رؤيا . قال : وما هي ؟ قالت : رأيت كأن القمر خرج من قُبلي وكأن الشمس خرجت من دبري ! قال لها : لست من جواري مثلي أنت تلدين خليفتين ! فقدم بها مكة فباعها في الرقيق فاشتريت ، وعرضت على المنصور فقال : من أين أنت ؟ قالت : المولد مكة والمنشأ بجرش . قال : فلك أحد ؟ قالت : ما لي أحد إلا الله ، وما ولدت أمي غيري ! قال : يا غلام إذهب بها إلى المهدي وقل له : تصلح للولد ، فأتى بها المهدي فوقعت منه كل موقع ، فلما ولدت موسى وهارون قالت : إن لي أهل بيت بجرش ، قال : ومن لك ؟ قالت : لي أختان اسمهما أسماء وسلسل ولي أم وأخوان . فكتب فأتى بهم ، فتزوج جعفر بن المنصور سلسل فولدت منه زبيدة واسمها سكينة تزوجها الرشيد . وبقيت أسماء بكراً فقال المهدي للخيزوان : قد ولدت رجلين وقد بايعت لهما ، وما أحب أن تبقيْ أمة ، وأحب أن أعتقك وتخرجين إلى مكة ، وتقدمين فأتزوجك .
قالت : الصواب رأيت ، فأعتقها وخرجت إلى مكة ، فتزوج المهدي أختها أسماء ومهرها ألف ألف درهم ! فلما أحس بقدوم الخيزران استقبلها ، فقالت : ما خبر أسماء وكم وهبت لها ؟ قال : من أسماء ؟ قالت : امرأتك . قال : أما إذا علمت فقد مهرتها ألف ألف درهم ، ووهبت لها ألف ألف درهم ، ثم تزوج الخيزران » .
وذكر اليعقوبي ( 2 / 399 ) أن المنصور ولى يزيد بن منصور خال المهدي على اليمن ، وأن المهدي ولاه مع ابنه الهادي على بغداد سنة مئة ستين ( ابن خلدون : 3 / 209 )
وذكر الطبري ( 6 / 379 ) أن يزيداً هذا توفي فولى ابنه منصوراً مكانه .
وكانت الخيزران قوية على زوجها المهدي ، ففي تاريخ بغداد : 14 / 431 : « عن الواقدي قال : دخلت يوماً إلى المهدي فدعا بمحبرته ودفتره ، وكتب عني أشياء حدثته بها ثم نهض وقال : كن مكانك حتى أعود إليك ودخل إلى دار الحرم ، ثم خرج متنكراً ممتلئاً غيظاً ! فلما جلس قلت : يا أمير المؤمنين خرجت على خلاف الحال التي دخلت عليها ؟ فقال : نعم ! دخلت على الخيزران فوثبت عليَّ ومدت يدها إليَّ وخرقت ثوبي ، وقالت : يا قشاش وأي خير رأيت منك ؟ وإنما اشتريتها من نخاس ، ورأت مني ما رأت وعقدت لابنيها ولاية العهد ! ويحك فأنا قشاش ؟ قال فقلت : يا أمير المؤمنين قال رسول الله ( ص ) إنهن يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام ! وقال : خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي . وقال : خلقت المرأة من ضلع أعوج إن قومته كسرته . وحدثته في هذا الباب بكل ما حضرني ، فسكن غضبه وأسفر وجهه ، وأمر لي بألفي دينار ، وقال : أصلح بهذه من حالك وانصرفت . فلما وصلت إلى منزلي وافاني رسول الخيزران فقال : تقرأ عليك ستي السلام وتقول لك : يا عمي قد سمعت جميع ما كلمت به أمير المؤمنين فأحسن الله جزاءك ، وهذه ألفا دينار إلا عشرة دنانير ، بعثت بها إليك لأني لا أحب أن أساوي صلة أمير المؤمنين ، ووجهت إليَّ بأثواب » ! وتاريخ دمشق : 53 / 425 .
وقال الذهبي في تاريخه : 10 / 40 : « هلك الخليفة موسى الهادي من قرحة أصابته في جوفه ، وقيل سمته أمه الخيزران لما أجمع على قتل أخيه الرشيد . وكانت أيضاً حاكمة مستبدة بالأمور الكبار فمنعها ، وقد كانت المواكب تغدو إلى بابها ، فردهم عن ذلك وكلمها بكلام فج ، وقال : إن وقف بدارك أمير لأضر بن عنقه ، أما لك مغزل يشغلك ، أو مصحف يذكرك ، أو سبحة ؟ !
فقامت ما تعقل من الغضب ، فقيل إنه بعث إليها بطعام مسموم ! فأطعمت منه كلباً فانتثر ! فعملت على قتله لما وُعك بأن غموا وجهه ببساط جلسوا على جوانبه ، وكان يريد إهلاك الرشيد ليولي العهد ولده وهو صغير له عشر سنين . . وكانت خلافته سنة وربع ، وعاش ستاً وعشرين سنة » .
وروى الطبري في تاريخه : 6 / 421 ، تفاصيل كثيرة في الصراع على السلطة بين موسى الهادي وأخيه الرشيد وأمهما خيزران ، وفيها أن موسى اتهم الخيزران بعبد الله بن مالك وأراد قتلها ، وعندما قتلته قالت ليحيى ين خالد : « إن الرجل قد توفي ، فاجدد في أمرك ولا تقصر » أي رتب الأمر للرشيد ، فرتبه وكان هو رئيس وزرائه ! وكان ذلك في سنة 170 ، وعاشت خيزران إلى سنة 173 . ( تاريخ الذهبي : 11 / 109 ) .
لم تكن الخيزران ناصبية كزوجها وولديها !
يدل على ذلك أنها وظفت مسؤولاً يخدم قبر الإمام الحسين ( عليه السلام ) وزواره ! وأن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) أرسل لها رسالة يعزيها بموت موسى ويهنيها بتولي هارون !
فقد منع المنصور بعد ثورة الحسنيين زيارة قبر الحسين ( عليه السلام ) في كربلاء ، وأمر والي الكوفة عيسى بن موسى أن يخرب القبر : « كربه وكرب جميع أرض الحائر وحرثها وزرع الزرع فيها » ! لكن الشيعة واصلوا زيارته . ( أمالي الطوسي / 321 ) .
وتجاوبت معهم الخيزران فرتبت بدون علم زوجها قيِّماً وخدماً لقبر الحسين ( عليه السلام ) ، وأمرت الوزير الشيعي الحسن بن راشد أن يجري عليهم راتباً شهرياً !
فقد روى الطبري في تاريخه : 6 / 536 ، وفي طبعة : 5 / 21 ، عن : « القاسم بن يحيى قال : بعث الرشيد إلى ابن أبي داود والذين يخدمون قبر الحسين بن علي في الحير ( أي كربلاء ) قال فأتيَ بهم ، فنظر إليه الحسن بن راشد وقال : ما لك ؟ قال بعث إليَّ هذا الرجل يعني الرشيد فأحضرني ، ولست آمنه على نفسي ! قال له : فإذا دخلت عليه فسألك فقل له : الحسن بن راشد وضعني في ذلك الموضع ! فلما دخل عليه قال هذا القول ، قال : ما أخلق أن يكون هذا من تخليط الحسن ، أحضروه ! قال فلما حضر قال : ما حملك على أن صيرت هذا الرجل في الحير ؟ قال : رحم الله من صيره في الحير ، أمرتني أم موسى ( الخيزران ) أن أصيره فيه وأن أجري عليه في كل شهر ثلاثين درهماً ! فقال : ردوه إلى الحير وأجروا عليه ما أجرته أم موسى » !
والحسن بن راشد معاون علي بن يقطين . ( تاريخ اليعقوبي : 2 / 401 ) .
كتب الإمام الكاظم ( عليه السلام ) رسالة إلى الخيزان
في قرب الإسناد للحميري القمي / 306 : « محمد بن عيسى ، عن بعض من ذكره ، أنه كتب أبو الحسن موسى ( عليه السلام ) إلى الخيزران يعزيها بموسى ابنها ويهنؤها بهارون ابنها : بسم الله الرحمن الرحيم . للخيزران أم أمير المؤمنين من موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ، أما بعد : أصلحك الله وأمتع بك ، وأكرمك وحفظك ، وأتم النعمة والعافية في الدنيا والآخرة لك برحمته . ثم إن الأمور أطال الله بقاءك كلها بيد الله عز وجل يمضيها ويقدرها بقدرته فيها والسلطان عليها ، توكل بحفظ ماضيها وتمام باقيها ، فلا مقدم لما أخر منها ولا مؤخر لما قدم ، استأثر بالبقاء وخلق خلقه للفناء ، وأسكنهم دنيا سريع زوالها قليل بقاؤها ، وجعل لهم مرجعاً إلى دار لا زوال لها ولا فناء ، وكتب الموت على جميع خلقه ، وجعلهم أسوة فيه ، عدلاً منه عليهم عزيزاً ، وقدرة منه عليهم ، لا مدفع لأحد منه ولا محيص له عنه ، حتى يجمع الله تبارك وتعالى بذلك إلى دار البقاء خلقه ، ويرث به أرضه ومن عليها ، وإليه يرجعون .
بلغنا أطال الله بقاءك ما كان من قضاء الله الغالب ، في وفاة أمير المؤمنين موسى وإنا لله وإنا إليه راجعون ، إعظاماً لمصيبته وإجلالاً لرزئه وفقده ، ثم إنا لله وإنا إليه راجعون ، صبراً لأمر الله عز وجل وتسليماً لقضائه . . . ونسأل الله أن يعظم أجرك أمتع الله بك ، وأن يحسن عقباك ، وأن يعوضك من المصيبة أفضل ما وعد الصابرين . . . وأسأل الله أن يهنيك خلافة أمير المؤمنين أمتع الله به . . . وأن يمتعك وإيانا خاصة والمسلمين عامة بأمير المؤمنين ، حتى نبلغ به أفضل الأمل فيه . . .
إن رأيت أطال الله بقاءك أن تكتبي إلي بخبرك في خاصة نفسك ، وحال جزيل هذه المصيبة وسلوتك عنها ، فعلت ، فإني بذلك مهتمٌّ إلى ما جاءني من خبرك وحالك فيه متطلع ، أتم الله لك أفضل ما عودك من نعمه ، واصطنع عندك من كرامته ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته . وكتب يوم الخميس لسبع ليال خلون من شهر ربيع الآخر سنة سبعين ومائة » .
أقول : مات موسى الهادي في نصف ربيع الأول ( الطبري : 6 / 428 ) فتكون رسالة الإمام ( عليه السلام ) لخيزران بعد موته بثلاثة أسابيع . ومع أن الحميري ( رحمه الله ) تفرد بالرسالة وروايته مرسلة ، إلا أنها ممكنة الصحة ، فقد كانت الخيزران مركز القوة في الخلافة العباسية ، فخاطبها الإمام ( عليه السلام ) بليونة كما يخاطب الأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) جبابرة عصورهم !
ويبدو أن إنفاقها على قيِّم وخدام قبر الإمام الحسين ( عليه السلام ) كان واحداً من سياستها الإيجابية مع الإمام ( عليه السلام ) وشيعته ، وقد تكون لها إيجابيات أخرى ، وتكون أرسلت إليه مبعوثين ورسائل .
وقد علق المجلسي ( رحمه الله ) في البحار ( 48 / 135 ) على هذه الرسالة بقوله : « أنظر إلى شدة التقية في زمانه ( عليه السلام ) حتى أحوجته إلى أن يكتب مثل هذا الكتاب لموت كافر لا يؤمن بيوم الحساب ، فهذا يفتح لك من التقية كل باب » !
كانت علاقة الإمام الكاظم ( عليه السلام ) حسنة مع المهدي
روى في الكافي ( 1 / 358 ) قصة موسى بن عبد الله بن الحسن المعروف بموسى الجون ، وأن الإمام الصادق ( عليه السلام ) نصحه أن لا يخرج مع أخيه محمد الذي ادعى المهدية ، وأخبرهم بأنه سيهزم معهم ويتشرد ، ونصحه بأن يطلب الأمان من العباسيين . وكيف طلب الأمان من المهدي العباسي فعفا عنه وأعطاه جائزة ، وأعطى للإمام الكاظم لأنه كأبيه الصادق ( عليهما السلام ) لا يريان الثورة على العباسيين !
فقد حكى موسى الجون مجيئه مع أبيه عبد الله بن الحسن إلى الإمام الصادق ( عليه السلام ) ومحاولته أن يأخذ منه البيعة لولده محمد على أنه هو المهدي الموعود ! فقال له الإمام ( عليه السلام ) : « فوالله إني لأراه أشأم سلحة أخرجتها أصلاب الرجال إلى أرحام النساء ، والله إنه المقتول بسدة أشجع بين دورها ، والله لكأني به صريعاً مسلوباً بزته بين رجليه لبنة ! ولا ينفع هذا الغلام ما يسمع ! قال موسى بن عبد الله : يعنيني ، وليخرجن معه فيهزم ويقتل صاحبه ، ثم يمضي فيخرج معه راية أخرى ، فيقتل كبشها ويتفرق جيشها ، فإن أطاعني فليطلب الأمان عند ذلك من بني العباس ، حتى يأتيه إليه بالفرج » .
قال موسى : « فلما ضاقت علي الأرض واشتد بي الخوف ، ذكرت ما قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) فجئت إلى المهدي وقد حج وهو يخطب الناس في ظل الكعبة ، فما شعر إلا وأني قد قمت من تحت المنبر فقلت : لي الأمان يا أمير المؤمنين وأدلك على نصيحة لك عندي . فقال : نعم ، ما هي ؟ قلت : أدلك على موسى بن عبد الله بن حسن ! فقال لي : نعم لك الأمان ، فقلت له : أعطني ما أثق به ، فأخذت منه عهوداً ومواثيق ووثقت لنفسي ، ثم قلت : أنا موسى بن عبد الله ، فقال لي : إذاً تُكرم وتحبى ! فقلت له : أقطعني إلى بعض أهل بيتك يقوم بأمري عندك ، فقال لي : أنظر إلى من أردت ، فقلت : عمك العباس بن محمد ، فقال العباس : لا حاجة لي فيك ، فقلت : ولكن لي فيك الحاجة ، أسألك بحق أمير المؤمنين إلا قبلتني فقبلني شاء أو أبى ، وقال لي المهدي : من يعرفك ، وحوله أصحابنا أو أكثرهم ؟ فقلت : هذا الحسن بن زيد يعرفني ، وهذا موسى بن جعفر يعرفني ، وهذا الحسن بن عبد الله بن العباس يعرفني ! فقالوا : نعم يا أمير المؤمنين كأنه لم يغب عنا ! ثم قلت للمهدي : يا أمير المؤمنين لقد أخبرني بهذا المقام أبو هذا الرجل وأشرت إلى موسى بن جعفر ! قال موسى بن عبد الله : وكذبت على جعفر كذبة فقلت له : وأمرني أن أقرئك السلام وقال إنه إمام عدل وسخاء !
قال : فأمر لموسى بن جعفر بخمسة آلاف دينار ، فأمر لي منها موسى بألفي دينار ، ووصل عامة أصحابه ووصلني فأحسن صلتي .
فحيث ما ذكر ولد محمد بن علي بن الحسين فقولوا صلى الله عليه وملائكته وحملة عرشه والكرام الكاتبون ، وخصوا أبا عبد الله بأطيب ذلك ، وجزى موسى بن جعفر عني خيراً ، فأنا والله مولاهم بعد الله » !
كما أن علاقة الإمام الكاظم ( عليه السلام ) كانت حسنة مع والي المدينة ، فقد روى الزيات في طب الأئمة / 92 ، أن والي المدينة شكى إلى الإمام الكاظم ( عليه السلام ) : « تواتر الوجع على ابنه ، قال : تكتب له هذه العوذة في رق ، وتصيرها في قصبة فضة وتعلق على الصبي ، يدفع الله عنه بها بكل علة » .
وكان المهدي يحترم مقام الإمام الكاظم ( عليه السلام )
1 - في السنة الثانية لتوليه الخلافة وهي سنة ستين ومائة حج المهدي : « وأمر بتوسعة المسجد الحرام ، وكشط كسوة الكعبة ، وكساها » . ( المحبر / 36 ) .
« لما بنى المهدي المسجد الحرام بقيت دار في تربيع المسجد ، فطلبها من أربابها فامتنعوا ، فسأل عن ذلك الفقهاء فكل قال له إنه لا ينبغي أن يدخل شيئاً في المسجد الحرام غصباً ، فقال له علي بن يقطين : يا أمير المؤمنين لو كتبت إلى موسى بن جعفر لأخبرك بوجه الأمر في ذلك . فكتب إلى والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع علينا صاحبها فكيف المخرج من ذلك ؟ فقال أبو الحسن : ولا بد من الجواب في هذا ؟ فقال له : الأمر لا بد منه ، فقال له : أكتب : بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها ، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها . فلما أتى الكتاب إلى المهدي أخذ الكتاب فقبله ، ثم أمر بهدم الدار ! فأتى أهل الدار أبا الحسن فسألوه أن يكتب لهم إلى المهدي كتاباً في ثمن دارهم ، فكتب إليه أن ارضخ لهم شيئاً فأرضاهم » . ( تفسير العياشي : 1 / 185 ) .
2 - « عن علي بن يقطين أنه قال : أمر أبو جعفر الدوانيقي يقطين أن يحفر له بئراً بقصر العبادي ، فلم يزل يقطين في حفرها حتى مات أبو جعفر ولم يستنبط منها الماء ، وأخبر المهدي بذلك فقال له : إحفر أبداً حتى يستنبط الماء ، ولو أنفقت عليها جميع ما في بيت المال ! قال : فوجه يقطين أخاه أبا موسى في حفرها ، فلم يزل يحفر حتى ثقبوا ثقباً في أسفل الأرض ، فخرجت منه الريح قال فهالهم ذلك ! فأخبروا به أبا موسى فقال : أنزلوني ! قال : فأنزل وكان رأس البئر أربعين ذراعاً في أربعين ذراع ، فأجلس في شق محمل ودلي في البئر ، فلما صار في قعرها نظر إلى هول ، وسمع دوي الريح في أسفل ذلك ، فأمرهم أن يوسعوا الخرق فجعلوه شبه الباب العظيم ، ثم دلى فيه رجلاً في شق محمل فقال : إيتوني بخبر هذا ما هو ؟ قال : فنزلا في شق محمل فمكثا ملياً ، ثم حركا الحبل فأصعدا فقال لهما : ما رأيتما ؟ قالا : أمراً عظيماً ! رجالا ! ونساءً وبيوتاً وآنيةً ومتاعاً ، كله ممسوخ من حجارة ! فأما الرجال والنساء فعليهم ثيابهم ، فمن بين قاعد ومضطجع ومتكئ ، فلما مسسناهم إذا ثيابهم تتفشا شبه الهباء ومنازل قائمة !
قال : فكتب بذلك أبو موسى إلى المهدي ، فكتب المهدي إلى المدينة إلى موسى بن جعفر ( عليه السلام ) يسأله أن يقدم عليه فقدم عليه ، فأخبره فبكى بكاءً شديداً وقال : يا أمير المؤمنين هؤلاء بقية قوم عاد ، غضب الله عليهم فساخت بهم منازلهم ، هؤلاء أصحاب الأحقاف ! قال : فقال له المهدي : يا أبا الحسن وما الأحقاف ؟ قال : الرمل » . ( الإحتجاج : 2 / 159 ، وبعضه اليعقوبي : 2 / 402 ، وتاريخ الطبري : 6 / 378 ) .
وفي معجم البلدان : 4 / 304 : « قبر العبادي : منزل في طريق مكة من القادسية إلى العذيب ، ثم المغيثة ، ثم القرعاء ، ثم واقصة ، ثم العقبة ، ثم القاع ، ثم زبالة ، ثم شقوق ، ثم قبر العبادي ، ثم الثعلبية ، وهي ثلث الطريق » .
وفي الخرائج : 2 / 655 : « ومنها : أن المهدي أمر بحفر بئر بقرب قبر العبادي لعطش الحاج هناك ، فحفرت أكثر من مائة قامة ، فبينا هم كذلك يحفرون إذ خرقوا خرقاً فإذا تحته هواء لا يدرى ما قعره ، فإذا هو مظلم وللريح فيه دوي ! فأدلوا رجلين إلى مستقره فلما خرجا تغيرت ألوانهما وقالا : رأينا دوي هواء واسعاً ورأينا بيوتاً قائمة ورجالاً ونساء ، وإبلاً وبقراً وغنماً كلما مسسنا شيئاً منها رأيناه هباءً . فسئل الفقهاء عن ذلك ، فلم يدر أحد ما هو . فقدم أبو الحسن موسى ( عليه السلام ) على المهدي فسأله عنه فقال : أولئك أصحاب الأحقاف ، هم بقية من عاد ساخت بهم منازلهم . وذكر على مثل ما قال الرجلان » .
وفي تفسير القمي : 2 / 298 : « فلما وليَ المتوكل أمر أن يحفر ذلك البئر أبداً حتى يبلغ الماء ! فحفروا حتى وضعوا في كل مائة قامة بكرة حتى انتهوا إلى صخرة فضربوها بالمعول فانكسرت فخرج منها ريح باردة فمات من كان بقربها . فأخبروا المتوكل بذلك فلم يعلم بذلك ما ذاك ! فقالوا : سل ابن الرضا عن ذلك وهو أبو الحسن علي بن محمد ( عليهما السلام ) فكتب إليه يسأل عن ذلك ، فقال أبو الحسن : تلك بلاد الأحقاف ، وهم قوم عاد الذين أهلكهم الله بالريح الصرصر » .
ويبدو أن المقصود ثمود بقايا قوم عاد ، لأن مساكن عاد الأولى في حضرموت والربع الخالي ، ففي كنز الفوائد / 179 ، أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) سأل رجلاً من حضرموت : « أعالمٌ أنت بحضرموت ؟ فقال الرجل : إن جهلتها لم أعلم شيئاَ ! قال : أفتعرف موضع الأحقاف . . . الخ . » .
ومع ذلك أراد المهدي العباسي قتل الإمام ( عليه السلام ) !
قال في تاريخ بغداد : 13 / 29 : « أقدمه المهدي بغداد ، ثم رده إلى المدينة وأقام بها إلى أيام الرشيد » .
وفي الكافي : 1 / 477 ، وقرب الإسناد / 330 : « عن أبي خالد الزبالي قال : قدم أبو الحسن موسى ( عليه السلام ) زبالة ، ومعه جماعة من أصحاب المهدي بعثهم المهدي في إشخاصه إليه ، أمرني بشراء حوائج له ونظر إلي وأنا مغموم فقال : يا با خالد مالي أراك مغموماً ؟ قلت : جعلت فداك هو ذا تصير إلى هذا الطاغية ولا آمنه عليك ! فقال : يا با خالد ليس علي منه بأس ، إذا كانت سنة كذا وكذا وشهر كذا وكذا فانتظرني في أول الميل ، فإني أوافيك إن شاء الله . قال : فما كانت لي همة إلا إحصاء الشهور والأيام ، فغدوت إلى أول الميل في اليوم الذي وعدني ، فلم أزل انتظره إلى أن كادت الشمس أن تغيب فلم أر أحداً فشككت فوقع في قلبي أمر عظيم ، فنظرت قرب الميل فإذا سواد قد رفع ، قال : فانتظرته فوافاني أبو الحسن ( عليه السلام ) أمام القطار على بغلة له فقال : إيهٍ يا با خالد ! قلت : لبيك جعلت فداك قال : لا تشكن ، ود والله الشيطان أنك شككت ! قلت : قد كان والله ذلك جعلت فداك ! قال : فسررت بتخليصه وقلت : الحمد الله الذي خلصك من الطاغية . فقال : يا با خالد إن إن لي إليهم عودة لا أتخلص منهم » ! والخرائج : 1 / 315 والمناقب : 3 / 413 .
ورواه في دلائل الإمامة / 335 ، وفيه : « فنزل في هاتين القبتين في يوم شديد البرد في سنة مجدبة ، لا يقدر على عود يستوقد به تلك السنة ، وأنا يومئذ أرى رأي الزيدية أدين الله بذلك فقال لي : يا أبا خالد إئتنا بحطب نستوقد . قلت : والله ما أعرف في المنزل عوداً واحداً ، فقال : كلا ، خذ في هذا الفج فإنك تلقى أعرابياً معه حملين فاشترهما منه ولا تماكسه ، فركبت حماري وانطلقت نحو الفج الذي وصف لي ، فإذا أعرابي معه حملين حطب فاشتريتهما منه وأتيته فاستوقدوا منه يومهم . وأتيته بظرف مما عندنا يطعم منه ، ثم قال : يا أبا خالد أنظر خفاف الغلمان ونعالهم فأصلحها حتى نقدم عليك يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا .
قال أبو خالد : وكتبت تاريخ اليوم وليس همي غير هذه الأيام ، فلما كان يوم الميعاد ركبت حماري وسرت أميالاً ونزلت فقعدت عند الجبل أفكر في نفسي ، وأقول : والله إن وافاني هذا اليوم الذي قال لي ، فإنه الإمام الذي فرض الله طاعته على خلقه لا يسع الناس جهله ! فقعدت حتى أمسيت ، وأردت الانصراف فإذا أنا براكب مقبل فأشرت إليه فأقبل إلي فسلم فرددت ( عليه السلام ) فقلت : وراءك أحد ؟ قال : نعم ، قطار فيه نحو من عشرين يشبهون أهل المدينة .
قال : فما لبثت أن ارتفع القطار فركبت حماري وتوجهت نحو القطار فإذا هو يهتف بي : يا أبا خالد هل وفينا لك بما وعدناك ؟ قلت : قد والله كنت أيست من قدومك حتى أخبرني راكب ، فحمدت الله على ذلك وعلمت أنك هو .
قال : ما فعلت القبتان اللتان كنا نزلنا فيهما ؟ قلت : جعلت فداك تذهب إليهما ؟ وانطلقت معه حتى نزل القبتين فأتيناه بغذاء فتغذى وقال : ما حال خفاف الغلمان ونعالهم ؟ قلت : أصلحتها فأتيته بها فسر بذلك ، فقال : يا أبا خالد ، زودنا من هذه الفسقارات التي بالمدينة ، فإنا لا نقدر فيها على هذه الأشياء التي تجدونها عندكم . قال : فلم يبق شئ إلا زودته منه ، ففرح وقال : سلني حاجتك ، وكان معه محمد أخوه . قلت : جعلت فداك أخبرك بما كنت فيه وأدين الله به ، إلى أن وقعت عليك وقدمت علي فسألتني الحطب ، فأخبرتك بما أخبرتك ، فأخبرتني بالأعرابي ، ثم قلت لي إني موافيك يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا ، فكان كما قلت ، لم ينقص ولم يزد يوماً واحداً ، فعلمت أنك الإمام الذي فرض الله طاعته لا يسع الناس جهلك ، فحمدت الله لذلك . فقال : يا أبا خالد من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية ، وحوسب بما عمل في الإسلام » .
ولم أجد كلمة ( الفسقارات ) ولا بد أنها سلعة تتوفر في محطة زبالة ، دون المدينة .
ويظهر أن المهدي بعث جماعة أو سرية ، ليُحضروا الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، ليقتله ، وقد ناظره أولاً ، ثم حبسه وعزم على قتله ، فرأى ذلك المنام المرعب فأطلقه ، وعاد الإمام ( عليه السلام ) إلى المدينة في الوقت الذي حدده لأبي خالد الزبالي ( رحمه الله ) !
ويبدو أن الإمام ( عليه السلام ) أخذ عائلته معه في تلك السفرة ، ففي الكافي : 3 / 202 : « لما رجع أبو الحسن موسى ( عليه السلام ) من بغداد ومضى إلى المدينة ، ماتت له ابنة بفيد ، فدفنها وأمر بعض مواليه أن يجصص قبرها ، ويكتب على لوح اسمها ويجعله في القبر » . وتقع فيد ، بين الحجاز والعراق ، جنوب حائل . ( معجم البلدان : 4 / 282 ) .
وسيأتي أن المهدي حبس الإمام ( عليه السلام ) فرأى مناماً مرعباً فأطلقه .
وأخبر ( عليه السلام ) بأن المهدي لا يقتله ولا الذي بعده !
« عن ابن سنان قال : دخلت على أبي الحسن موسى ( عليه السلام ) من قبل أن يقدم العراق بسنة ، وعليٌّ ابنه جالس بين يديه ، فنظر إليَّ فقال : يا محمد أما إنه سيكون في هذه السنة حركة فلا تجزع لذلك ! قال قلت : وما يكون جعلت فداك ؟ فقد أقلقني ما ذكرت ! فقال : أصير إلى الطاغية ، أما إنه لا يبدأني منه سوء ، ومن الذي يكون بعده . قال قلت : وما يكون جعلت فداك ؟ قال : يضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ! قال قلت : وما ذاك جعلت فداك ؟ قال : من ظلم ابني هذا حقه وجحد إمامته من بعدي ، كان كمن ظلم علي بن أبي طالب حقه وجحده إمامته بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! قال قلت : والله لئن مد الله لي في العمر لأسلمن له حقه ولأقرن له بإمامته . قال : صدقت يا محمد يمد الله في عمرك وتسلم له حقه وتقر له بإمامته وإمامة من يكون من بعده . قال قلت : ومن ذاك ؟ قال محمد ابنه ! قال قلت : له الرضا والتسليم » . ( الكافي : 1 / 319 ) .
قال الإمام ( عليه السلام ) للخليفة : ما بال مظلمتنا لا ترد ؟ !
في الكافي : 1 / 543 : « عن علي بن أسباط قال : لما ورد أبو الحسن موسى ( عليه السلام ) على المهدي رآه يرد المظالم فقال : يا أمير المؤمنين ما بال مظلمتنا لا ترد ؟ فقال له : وما ذاك يا أبا الحسن ؟ قال : إن الله تبارك وتعالى لما فتح على نبيه ( صلى الله عليه وآله ) فدك وما والاها لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فأنزل الله على نبيه ( صلى الله عليه وآله ) : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ، فلم يدر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من هم ، فراجع في ذلك جبرئيل ، وراجع جبرئيل ربه فأوحى الله إليه : أن ادفع فدك إلى فاطمة ( عليها السلام ) ، فدعاها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال لها : يا فاطمة إن الله أمرني أن أدفع إليك فدكاً ، فقالت : قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك ! فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فلما ولي أبو بكر أخرج عنها وكلاء ها ، فأتته فسألته أن يردها عليها فقال لها : إئتيني بأسود أو أحمر يشهد لك بذلك ، فجاءت بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأم أيمن ، فشهدا لها فكتب لها بترك التعرض ، فخرجت والكتاب معها فلقيها عمر فقال : ما هذا معك يا بنت محمد ؟
قالت كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة ، قال أرينيه فأبت ، فانتزعه من يدها ونظر فيه ثم تفل فيه ومحاه وخرقه ، فقال لها : هذا لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب ، فضعي الحبال في رقابنا !
فقال له المهدي : يا أبا الحسن حُدَّهَا لي ، فقال : حد منها جبل أحد ، وحد منها عريش مصر ، وحد منها سيف البحر ، وحد منها دومة الجندل !
فقال له : كل هذا ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين هذا كله ، إن هذا كله مما لم يوجف على أهله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بخيل ولا ركاب ! فقال : كثيرٌ ، وأنظر فيه » !
أقول : يشمل هذا التحديد قسماً من الجزيرة وبلاد الشام إلى العريش ، وهو أول حدود مصر ( معجم البلدان : 3 / 312 ) وقسمٌ من هذه البلاد فتح عنوة ، فلا بد أن يكون استحقاق النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأرضها بسبب أنها لم تفتح بإذن الإمام بعده ( عليه السلام ) ، ولا ينافي ذلك أن الإمام شارك في فتحها ، وخطط لمعاركها عسكرياً .
وقد روي أن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) حدد فدكاً للرشيد بتحديد آخر ، يشمل كل الدولة الإسلامية ، ليقول له بذلك إن فدكاً رمز لظلامتنا في الخلافة !
ففي مناقب آل أبي طالب : 3 / 435 : « في كتاب أخبار الخلفاء : أن هارون الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر : خذ فدكاً حتى أردها إليك فيأبى حتى ألح عليه فقال ( عليه السلام ) لا آخذها إلا بحدودها ! قال : وما حدودها ؟ قال : إن حددتها لم تردها ؟ قال : بحق جدك إلا فعلت ، قال أما الحد الأول فعدن ، فتغير وجه الرشيد وقال : إيهاً ، قال : والحد الثاني سمرقند . فاربد وجهه ! والحد الثالث : إفريقية ، فاسود وجهه وقال : هيه ! قال : والرابع سيف البحر مما يلي الجزر وأرمينية ! قال الرشيد : فلم يبق لنا شئ ، فتحول إلى مجلسي ! قال موسى : قد أعلمتك أنني إن حددتها لم تردها ! فعند ذلك عزم على قتله !
وفي رواية ابن أسباط أنه قال : أما الحد الأول فعريش مصر ، والثاني دومة الجندل ، والثالث أحد ، والرابع سيف البحر . فقال : هذا كله هذه الدنيا ! فقال : هذا كان في أيدي اليهود بعد موت أبي هالة فأفاءه الله على رسوله بلا خيل ولا ركاب ، فأمره الله أن يدفعه إلى فاطمة ( عليها السلام ) » .
ويظهر أن المهدي العباسي أرجع فدكاً للإمام ( عليه السلام ) ، لكن بالحدود التي رآها !
ففي الطرائف / 252 : « ذكر أبو هلال العسكري في كتاب أخبار الأوائل أن أول من رد فدكاً على ورثة فاطمة ( عليها السلام ) عمر بن عبد العزيز ، وكان معاوية أقطعها لمروان بن الحكم وعمرو بن عثمان ويزيد بن معاوية ، وجعلها بينهم أثلاثاً ، ثم قبضت من ورثة فاطمة ( عليها السلام ) فردها عليهم السفاح ، ثم قبضت فردها عليهم المهدي ، ثم قبضت فردها عليهم المأمون كما تقدم شرحه .
ومن غير كتاب أبي هلال العسكري بل في تواريخ متفرقة أنها قبضت منهم بعد المأمون فردها عليهم الواثق ، ثم قبضت فردها عليهم المستعين ، ثم قبضت فردها عليهم المعتمد ، ثم قبضت فردها المعتضد ، ثم قبضت فردها عليهم الراضي » !
وفي تاريخ الذهبي : 9 / 31 : « وحدث أيوب بن عمر قال : لقي جعفر بن محمد أبا جعفر المنصور فقال : يا أمير المؤمنين رد علي قطيعتي عين أبي زياد آكل منها ، قال : إياي تكلم هذا الكلام ، والله لأزهقن نفسك ! قال : فلا تعجل عليَّ فقد بلغت ثلاثاً وستين سنة وفيها مات أبي وجدي وعلي بن أبي طالب ، فرق له ، فلما مات المنصور رد المهدي على أولاد أبي جعفر عين أبي زياد » .
المهدي العباسي يختبر علم الإمام الكاظم ( عليه السلام )
في الكافي : 6 / 406 : « عن علي بن يقطين قال : سأل المهدي أبا الحسن ( عليه السلام ) عن الخمر هل هي محرمة في كتاب الله عز وجل ، فإن الناس إنما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون التحريم لها ؟ فقال له أبو الحسن ( عليه السلام ) : بل هي محرمة في كتاب الله عز وجل يا أمير المؤمنين ، فقال له : في أي موضع هي محرمة في كتاب الله جل اسمه يا أبا الحسن ؟ فقال : قول الله عز وجل : قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّىَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالآثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ . فأما قوله : ما ظهر منها ، يعني الزنا المعلن ونصب الرايات التي كانت ترفعها الفواجر للفواحش في الجاهلية . وأما قوله عز وجل : وما بطن ، يعني ما نكح من الآباء لأن الناس كانوا قبل أن يبعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) إذا كان للرجل زوجة ومات عنها ، تزوجها ابنه من بعده إذا لم تكن أمه . فحرم الله عز وجل ذلك . وأما الإثم فإنها الخمرة بعينها ، وقد قال الله عز وجل في موضع آخر : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ . فأما الإثم في كتاب الله فهي الخمرة والميسر ، وإثمهما أكبر كما قال الله تعالى .
قال فقال المهدي : يا علي بن يقطين هذه والله فتوى هاشمية . قال قلت له : صدقت والله يا أمير المؤمنين ، الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت قال : فوالله ما صبر المهدي أن قال لي : صدقت يا رافضي » .
وفي الإحتجاج : 2 / 346 : « فقال لأبي الحسن موسى ( عليه السلام ) : إني أريد أن أسألك عن شئ ، قال : هات . فقال : ما تقول في التظليل للمحرم ؟ قال : لا يصلح ، قال : فيضرب الخباء في الأرض فيدخل فيه ؟ قال : نعم . قال : فما فرق بين هذا وذلك ؟ قال أبو الحسن موسى ( عليه السلام ) : ما تقول في الطامث تقضي الصلاة ؟ قال : لا ، قال : تقضي الصوم ؟ قال : نعم ، قال : ولم ؟ قال : إن هذا كذا جاء . قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : وكذلك هذا ! قال المهدي لأبي يوسف : ما أراك صنعت شيئاً ! قال : يا أمير المؤمنين رماني بحجة » . ومناقب آل أبي طالب : 3 / 429 .
الإمام ( عليه السلام ) يأمر تلاميذه بإيقاف المناظرة في زمن المهدي
في رجال الطوسي : 2 / 542 : « عن يونس قال : قلت لهشام إنهم يزعمون أن أبا الحسن ( عليه السلام ) بعث إليك عبد الرحمن بن الحجاج يأمرك أن تسكت ولا تتكلم ، فأبيت أن تقبل رسالته ! فأخبرني كيف كان سبب هذا ، وهل أرسل إليك ينهاك عن الكلام أولا ، وهل تكلمت بعد نهيه إياك ؟
فقال هشام : إنه لما كان أيام المهدي شدد على أصحاب الأهواء ، وكتب له ابن المفضل صنوف الفرق صنفاً صنفاً ، ثم قرأ الكتاب على الناس فقال يونس : قد سمعت هذا الكتاب يقرأ على الناس على باب الذهب بالمدينة ، ومرة أخرى بمدينة الوضاح ، فقال إن ابن المقعد صنف لهم صنوف الفرق فرقة فرقة ، حتى قال في كتابه : وفرقة منهم يقال لهم الزرارية ، وفرقة منهم يقال لهم العَمَّارية أصحاب عمار الساباطي ، وفرقة يقال لها اليعفورية ، ومنهم فرقة أصحاب سليمان الأقطع ، وفرقة يقال لها الجواليقية . قال يونس : ولم يذكر يومئذ هشام بن الحكم ولا أصحابه ، فزعم هشام ليونس أن أبا الحسن ( عليه السلام ) بعث إليه فقال له : كفَّ هذه الأيام عن الكلام فإن الأمر شديد قال هشام : فكففت عن الكلام حتى مات المهدي وسكن الأمر ، فهذا الذي كان من أمره ، وانتهائي إلى قوله » .
وفي / 547 ، عن هشام : « أتاني عبد الرحمن بن الحجاج ، وقال لي يقول لك أبو الحسن : أمسك عن الكلام هذه الأيام ، وكان المهدي قد صنف له مقالات الناس وفيه مقالة الجواليقية هشام بن سالم ، وقرأ ذلك الكتاب في الشرقية ، ولم يذكر كلام هشام ، وزعم يونس أن هشام بن الحكم قال له : فأمسكت عن الكلام أصلاً حتى مات المهدي ، وإنما قال لي هذه الأيام » .
قرر المهدي أن يقتل الإمام ( عليه السلام ) فرأى مناماً مرعباً !
في مناقب آل أبي طالب : 3 / 418 : « لما بويع محمد المهدي دعا حميد بن قحطبة نصف الليل وقال : إن إخلاص أبيك وأخيك فينا أظهر من الشمس ، وحالك عندي موقوف ، فقال : أفديك بالمال والنفس ، فقال : هذا لسائر الناس ، قال : أفديك بالروح والمال والأهل والولد ، فلم يجبه المهدي فقال : أفديك بالمال والنفس والأهل والولد والدين ! فقال : لله درك ، فعاهده على ذلك ، وأمره بقتل الكاظم ( عليه السلام ) في السحر بغتة ، فنام فرأى في منامه علياً ( عليه السلام ) يشير إليه ويقرأ : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ؟ فانتبه مذعوراً ، ونهى حميداً عما أمره ، وأكرم الكاظم ( عليه السلام ) ووصله » .
وقد روت عامة مصادر السنة عزم المهدي على قتل الإمام ( عليه السلام ) ومنام المهدي العباسي المتقدم ، كتاريخ بغداد : 13 / 32 ، وتهذيب الكمال : 29 / 49 ، وسير الذهبي : 6 / 272 ، وتاريخه : 12 / 418 ، وصفة الصفوة : 2 / 184 ، والمستطرف : 2 / 157 ، والفصول المهمة : 2 / 937 .
الاكثر قراءة في قضايا عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة