حبسه في البصرة سنة ثم نقله إلى بغداد
حبسه في البصرة عند واليها عيسى بن أبي جعفر بن المنصور سنة « ثم كتب إلى الرشيد أن خذه مني وسلمه إلى من شئت وإلا خَلَّيْتُ سبيله ، فقد اجتهدت بأن أجد عليه حجة ، فما أقدر على ذلك حتى أني لأتسَمَّعُ عليه إذا دعا لعله يدعو عليَّ أو عليك ، فما أسمعه يدعو إلا لنفسه يسأل الرحمة والمغفرة . فوجه من تسلمه منه » . ( غيبة الطوسي / 23 ) .
وفي روضة الواعظين / 219 : « وكتب الرشيد في دمه ، فاستدعى عيسى بن جعفر المنصور بعض خاصته وثقاته ، فاستشارهم فيما كتب به الرشيد ، فأشاروا عليه بالتوقف عن ذلك والإستعفاء منه . وكتب عيسى بن جعفر إلى الرشيد يقول له : قد طال أمر موسى بن جعفر ومقامه في حبسي ، وقد اختبرت حاله ووضعت من يسمع منه ما يقول في دعائه ، فما دعا عليك ولا عليَّ وما ذكرنا بسوء ، وما يدعو لنفسه إلا بالمغفرة والرحمة ، وإن أنفذت إلى من يتسلمه مني وإلا خليت سبيله فإنني متحرجٌ من حبسه » !
« فحبسه عنده سنة ثم كتب إليه الرشيد في دمه فاستعفى عيسى منه ، فوجه الرشيد من تسلمه منه ، وصيره إلى بغداد وسُلِّمَ إلى الفضل بن الربيع ، وبقي عنده مدة طويلة ، ثم أراده الرشيد على شئ من أمره فأبى ! فأمر بتسليمه إلى الفضل بن يحيى فجعله في بعض دوره ووضع عليه الرصد ، فكان ( عليه السلام ) مشغولاً بالعبادة يُحيي الليل كله صلاة وقراءةً للقرآن ، ويصوم النهار في أكثر الأيام ولا يصرف وجهه عن المحراب ، فوسع عليه الفضل بن يحيى وأكرمه ، فبلغ ذلك الرشيد وهو بالرقة فكتب إليه يأمره بقتله فتوقف عن ذلك ! فاغتاظ الرشيد لذلك وتغير عليه » . ( إعلام الورى : 2 / 33 ، ومقاتل الطالبيين / 334 ) .
« وكان تولى حبسه عيسى بن جعفر ، ثم الفضل بن الربيع ، ثم الفضل بن يحيى البرمكي ، ثم السندي بن شاهك ، وسقاه سماً في رطب أو طعام آخر ، ولبث ثلاثاً بعده موعوكاً ، ثم مات في اليوم الثالث ، وكانت وفاته في مسجد هارون الرشيد وهو المعروف بمسجد المسيب ، وهو في الجانب الغربي من باب الكوفة ، لأنه نقل إليه من دار تعرف بدار عمرويه » . ( مناقب آل أبي طالب : 3 / 438 ) .
لماذا لم يعاقب هارون عيسى بن جعفر والفضل بن الربيع ؟
فقد رفض عيسى والي البصرة قتل الإمام الكاظم ( عليه السلام ) لأنه « تحرج من حبسه » ! وطلب من هارون نقله من عنده وإلا أطلقه ! فقبل هارون ولم يغضب عليه !
وكذلك فعل حاجبه الفضل بن الربيع ، فنقله هارون من عنده ولم يغضب عليه !
بينما غضب على رئيس وزرائه يحيى بن خالد ، لأنه وسع على الإمام ( عليه السلام ) في حبسه ، ثم رفض أن يقتله !
والسبب أن والي البصرة عيسى بن جعفر بن المنصور ، أخ زبيدة زوجة هارون ( النهاية : 10 / 228 ) وخال ولده الأمين ووالد زوجته العباسة ( الوافي : 16 / 383 ) .
وكان من كبار شخصيات العباسيين ، وكان لفترة والي مكة وأمير الحج ( تاريخ بغداد : 11 / 158 ) . وكان عزيزاً عند هارون حتى أنه لما سمن وكثر لحمه ، أرسل له هارون طبيبه وعالجه حتى نقص وزنه ! ( طبقات الأطباء / 217 ) .
ومن تناقض عيسى بن جعفر ، أنه كان يتأثم من قتل الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، لكنه كان يحث هارون على قتل ابنه الإمام الرضا ( عليه السلام ) لأنه ادعى الإمامة بعده !
فقد روى الصدوق في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 1 / 246 ، أن عيسى بن جعفر قال لهارون : « حيث توجه من الرقة إلى مكة : أذكر يمينك التي حلفت بها في آل أبي طالب ، فإنك حلفت إن ادعى أحد بعد موسى الإمامة ضربت عنقه صبراً وهذا علي ابنه يدعي هذا الأمر ، ويقال فيه ما يقال في أبيه ! فنظر إليه مغضباً فقال : وما ترى ، تريد أن أقتلهم كلهم ! قال موسى بن مهران : فلما سمعت ذلك صرت إليه ( الإمام الرضا ( عليه السلام ) ) فأخبرته فقال : ما لي ولهم لا يقدرون إلي على شئ » !
أما وزيره الآخر الفضل بن الربيع ، فأبوه الربيع بن يونس غلامٌ اشتراه جده المنصور ، بإشارة عيسى بن أبان ، لما شكى له المنصور ضعف حجابه فقال له : « إستخدم قوماً وقاحاً ! قال : ومن هم ؟ قال : إشتر قوماً من اليمامة فإنهم يربون الملاقيط ( اللقطاء الذين لا آباء لهم ) ! فاشتراهم وجعل حجابه إليهم ، منهم الربيع الحاجب » . ( فهرست ابن النديم / 285 ) .
وفي تاريخ بغداد : 8 / 412 ، و 413 : « هو الربيع بن يونس بن محمد بن أبي فروة ، قال واسم أبي فروة كيسان . . ذكروا أنه لم يُرَ في الحجابة أعرق من ربيع وولده ، وكان ربيع حاجب أبي جعفر ومولاه ، ثم صار وزيره ، ثم حجب المهدي ، وهو الذي بايع المهدي وخلع عيسى بن موسى . ومن ولده الفضل ، حجب هارون ومحمداً المخلوع . . ابن عياش كان يطعن في نسب الربيع طعناً قبيحاً ، ويقول للربيع : فيك شبه من المسيح » ! يقصد بلا أب ، فاستلقى المنصور من الضحك !
« كان الغالب على الرشيد يحيى بن خالد بن برمك وجعفر والفضل ابناه ، صدراً من خلافته حتى ما كان له معهم أمر ولا نهي ! فأقاموا على تلك الحال وأمور المملكة إليهم سبع عشرة سنة ! ثم كان الفضل يغلب عليه » ( اليعقوبي : 2 / 429 ) .
فهذا هو الربيع وابنه الفضل ، اللذان حكما الدولة الإسلامية مع الخليفة !
لذا كان هارون يعتبر الفضل ابنه ولا يخاف من تعاطفه مع الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، بل يفهم تخوفه من مباشرة قتله على أنه خوف من أن يلحقه ضرر بقتل ولي كتحرج ابن عمه عيسى ، لذا قبل منه ونقل الإمام ( عليه السلام ) من عهدته إلى عهدة وزيره الفضل بن يحيى ، وأمره أن يضيق عليه فلم يفعل ، ثم أمره أن يقتله فامتنع ، فغضب عليه ولعنه ، ثم توسط له أبوه يحيى وضمن لهارون أن ينفذ أمره بقتل الإمام ( عليه السلام ) ، فرفع عنه اللعن ورضي عنه !
وجاء أبوه يحيى من الرقة إلى بغداد على البريد أي الخيل السريعة ، ونفذ أمر هارون ، ودبر قتل الإمام ( عليه السلام ) بالسم !
وفي الغيبة للطوسي / 29 ، ومقاتل الطلبيين / 336 : « فكتب بتسليمه إلى الفضل بن يحيى فتسلمه منه ، وأراد ذلك منه ( أن يقتله ) فلم يفعل ، وبلغه أنه عنده في رفاهية وسعة ، وهو حينئذ بالرقة ، فأنفذ مسروراً الخادم إلى بغداد على البريد ، وأمره أن يدخل من فوره إلى موسى بن جعفر ( عليه السلام ) فيعرف خبره ، فإن كان الأمر على ما بلغه ، أوصل كتاباً منه إلى العباس بن محمد وأمره بامتثاله ، وأوصل كتاباً منه آخر إلى السندي بن شاهك يأمره بطاعة العباس ، فقدم مسرور فنزل دار الفضل بن يحيى لا يدري أحد ما يريد ، ثم دخل على موسى بن جعفر ( عليه السلام ) فوجده على ما بلغ الرشيد ، فمضى من فوره إلى العباس بن محمد والسندي فأوصل الكتابين إليهما ، فلم يلبث الناس أن خرج الرسول يركض إلى الفضل بن يحيى فركب معه وخرج مشدوهاً دهشاً حتى دخل العباس فدعا بسياط وعقابين ( خشبة يربط بها لجلده ) فوجه ذلك إلى السندي وأمر بالفضل فجرد ثم ضربه مائة سوط ، وخرج متغير اللون خلاف ما دخل ، فأذهبت نخوته فجعل يسلم على الناس يميناً وشمالاً !
وكتب مسرور بالخبر إلى الرشيد فأمر بتسليم موسى ( عليه السلام ) إلى السندي بن شاهك وجلس مجلساً حافلاً ، وقال : أيها الناس إن الفضل بن يحيى قد عصاني وخالف طاعتي ورأيت أن ألعنه فالعنوه ! فلعنه الناس من كل ناحية حتى ارتج البيت والدار بلعنه ! وبلغ يحيى بن خالد فركب إلى الرشيد ودخل من غير الباب الذي يدخل الناس منه حتى جاءه من خلفه وهو لا يشعر ، ثم قال له : التفت إلي يا أمير المؤمنين ! فأصغى إليه فزعاً ، فقال له : إن الفضل حدث وأنا أكفيك ما تريد !
فانطلق وجهه وسُرَّ . فقال له يحيى : يا أمير المؤمنين قد غضضت من الفضل بلعنك إياه فشرفه بإزالة ذلك ، فأقبل على الناس فقال : إن الفضل قد عصاني في شئ فلعنته وقد تاب وأناب إلى طاعتي فتولوه . فقالوا نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت وقد توليناه ! ثم خرج يحيى بن خالد بنفسه على البريد حتى أتى بغداد ، فماج الناس وأرجفوا بكل شئ فأظهر أنه ورد لتعديل السواد والنظر في أمر العمال ، وتشاغل ببعض ذلك ، ودعا السندي فأمره فيه بأمره ، فامتثله » !
لماذا غضب هارون على وزيره الفضل بن يحيى ؟
كان هارون يرى أن تعاطف وزيره الفضل بن يحيى مع الإمام الكاظم ( عليه السلام ) وامتناعه عن تنفيذ أمره في التضييق عليه ثم بقتله ، أمر خطير ، بل خيانة عظمى للنظام العباسي وشخص الخليفة ! وذلك بعكس مخالفة ابن عمه والي البصرة وبعكس مخالفة غلامه الفضل بن الربيع !
والسبب أن البرامكة بنفوذهم في الدولة ، بإمكانهم أن يقوموا بانقلاب ويقتلوا هاروناً ، ويبايعوا لموسى بن جعفر ( عليه السلام ) ، أو لأي عباسي ، أو علوي !
ومما زاد غضب هارون على الفضل ، أن أباه وأخاه جعفر كانا عدوين لدودين للإمام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) ، وما زالا يحركان هارون ضده ويعملان لقتله !
ولم يشفع للفضل أنه أخ هارون بالرضاعة ، فقد نشأ في بيت يحيى البرمكي ، وكان هارون يخاطب يحيى بن خالد : يا أبت ، ويخاطب ولده الفضل : يا أخي » . ( وفيات الأعيان : 4 / 27 ، وتاريخ بغداد : 12 / 332 ، والطبري : 6 / 441 ) .
ولم تشفع له مكانته السياسية وتاريخه الذي قال عنه في تاريخ بغداد : 12 / 332 : « الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي ، أخو جعفر وكان رضيع هارون الرشيد ، وولاه الرشيد أعمالاً جليلة بخراسان وغيرها ، وكان أندى كفاً من أخيه جعفر ، إلا أنه كان فيه كبر شديد ، وكان جعفر أطلق وجهاً وأظهر بشراً » .
وفي تاريخ بغداد : 12 / 332 : « عن العتابي قال : كنا بباب الفضل بن يحيى البرمكي أربعة آلاف ، ما بين شاعر وزائر » . ( تاريخ بغداد : 12 / 334 ) .
« ولما غضب هارون على البرامكة وقتل جعفراً ، وخلَّدَ الفضل في الحبس مع أبيه يحيى فلم يزالا محبوسين حتى ماتا في حبسهما » . تاريخ بغداد : 12 / 332 ، والطبري : 6 / 441 .
ومات يحيى وعمره 45 سنة ، قبل هارون بخمسة أشهر . ( الطبري : 6 / 524 ) .
والسؤال هنا : لماذا رفض الفضل بن يحيى البرمكي أمر هارون له بالتضييق على الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ثم بقتله ؟ وهل كان غضب هارون عليه بسبب ذلك ؟
والجواب : أنه لا تفسير لمخالفة الفضل لهارون ، إلا أنه رأى كرامات الإمام ( عليه السلام ) فتشيع أو لم يتشيع لكنه تحرَّج من تنفيذ أمر هارون ، وتحمل أن يُعَرِّض نفسه لغضبه !
ويوجد مؤشر على أن الفضل كان ترك شرب الخمر مع هارون ، توبةً أو أنفةً لأنه ينقص من مروءته ! ففي تاريخ الطبري : 6 / 489 : « كان الرشيد قد عتب على الفضل بن يحيى وثقل مكانه عليه لتركه الشرب معه ، فكان الفضل يقول : لو علمت أن الماء ينقص من مروتي ما شربته » !
والسؤال الثاني : هل يمكن القول إن سبب نقمة هارون على البرامكة ، أنهم فكروا بانقلاب على العباسيين لمصلحة العلويين ، أو أنهم تعاطفوا مع الإمام الكاظم ( عليه السلام ) في أواخر أيام سجنه ، وهل يؤيد ذلك أن هارون تعمد إبقاء سبب نقمته عليهم سراً ، وما رواه الطوسي في الغيبة / 25 : « وكان يحيى يتولاه ، وهارون لا يعلم ذلك » ؟
والجواب : أن هذا الاحتمال لا ينهض مقابل ما يعارضه ، فقد روت مصادرنا عمل يحيى بن خالد البرمكي لقتل الإمام الكاظم ( عليه السلام ) وسعيه به إلى هارون ، وتوظيفه بعض أقارب الإمام ( عليه السلام ) واستقدامهم ليشهدوا عليه عند هارون !
ولا ينهض مقابل أن الإمام الرضا ( عليه السلام ) كان يدعو عليهم في عرفات لأنهم سعوا في قتل أبيه ، قال ( عليه السلام ) : « إني كنت أدعو الله تعالى على البرامكة بما فعلوا بأبي ، فاستجاب الله لي اليوم فيهم ! فلما انصرف لم يلبث إلا يسيراً حتى بُطش بجعفر ويحيى ، وتغيرت أحوالهم » ( عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 1 / 245 ) .
فاليقين في أمرهم : إن الذي سعى بقتل الإمام الكاظم ( عليه السلام ) هو يحيى كما نصت أحاديثنا ، ويشير الحديث إلى أن ابنه جعفر معه ، لكن ابنه الفضل رفض إطاعة أوامر هارون ، ومعناه أنه كان يميل إلى الإمام ويعتقد بأنه ولي ، أو إمام !
كما يظهر أن جعفر البرمكي كان أحب إلى هارون من أخيه الفضل ، لأنه أخذ الوزارة والخاتم من الفضل وأعطاه لجعفر ، وذكر في شرح النهج ( 18 / 105 ) أن هاروناً كان « يحلف بالله أن جعفراً أفصح من قس بن ساعدة ، وأشجع من عامر بن الطفيل ، وأكتب من عبد الحميد بن يحيى ، وأسوس من عمر بن الخطاب ، وأحسن من مصعب بن الزبير ، وأنصح له من الحجاج لعبد الملك ، وأسمح من عبد الله بن جعفر ، وأعف من يوسف بن يعقوب . . . ولم يكن أحد يجسر أن يرد على جعفر قولا ولا رأياً »
ثم ذكر أن الفضل رد يوماً على جعفر فاستنكر عليه عم هارون سليمان بن المنصور : « فغضب الرشيد لإنكار سليمان وقال : ما دخولك بين أخي ومولاي ؟ كالراضي بما كان من الفضل » !
أما لماذا قتله وصلبه واكتفى بسجن الفضل فلعله بسبب أن الفضل كان أخاه من الرضاعة دون جعفر ، أو لم يبلغ ذنبه برأيه الجريمة التي ارتكبها أخوه جعفر !
العباس بن محمد الذي وكله هارون بجلد وزيره الفضل
قال ابن الجوزي في كتابه المدهش / 67 : « ومن العجائب أنه سلم على الرشيد بالخلافة عمه سليمان بن المنصور ، وعم أبيه المهدي وهو العباس بن محمد ، وعم جده المنصور وهو عبد الصمد بن علي ! وقال له عبد الصمد يوماً : يا أمير المؤمنين هذا مجلس فيه أمير المؤمنين وعم أمير المؤمنين وعم عم أمير المؤمنين وعم عم عمه ، وذلك أن سليمان بن أبي جعفر عم الرشيد ، والعباس عم سليمان وعبد الصمد عم العباس » !
وقال ابن الجوزي في المنتظم : 9 / 124 : « ولي العباس بن محمد الذي إليه العباسية الجزيرة وصار إلى الرقة وأمر الرشيد ففرش له في قصر الإمارة له فيه الآلات وشحن بالرقيق وحمل إليه خمسة آلاف ألف درهم ! وفي سنة ست ومائة توفي العباس ببغداد » وتاريخ بغداد : 12 / 124 ، ومآثر الإنافة : 3 / 357 ، وشذرات الذهب : 1 / 274 .
وفي شرح نهج البلاغة : 19 / 351 : « قيل لخديجة بنت الرشيد : رسل العباس بن محمد على الباب ، معهم زنبيل يحمله رجلان ! فقالت : تراه بعث إلى باقلاء ! فكشف الزنبيل عن جرة مملوءة غالية فيها مسحاة من ذهب ، وإذا برقعة : هذه جرة أصيبت هي وأختها في خزائن بني أمية ! فأما أختها فغلب عليها الخلفاء وأما هذه فلم أر أحداً أحق بها منك » !
وفي نهاية ابن كثير : 10 / 232 : « وكان ابن أبي مريم هو الذي يضحكه ، وكان عنده فضيلة بأخبار الحجاز وغيرها ، وكان الرشيد قد أنزله في قصره وخلطه بأهله . . . ودخل يوماً العباس بن محمد على الرشيد ومعه برنية من فضة فيها غالية من أحسن الطيب فجعل يمدحها ويزيد في شكرها ، وسأل من الرشيد أن يقبلها منه فقبلها فاستوهبها منه ابن أبي مريم فوهبها له ، فقال له العباس : ويحك ! جئت بشئ منعته نفسي وأهلي وآثرت به أمير المؤمنين سيدي فأخذته ! فحلف ابن أبي مريم ليطيبن به استه ! ثم أخذ منها شيئاً فطلى به استه ودهن جوارحه كلها منها ، والرشيد لا يتمالك نفسه من الضحك ! ثم قال لخادم قائم عندهم يقال له خاقان : أطلب لي غلامي ، فقال الرشيد : ادع له غلامه ، فقال له : خذ هذه الغالية واذهب بها إلى ستك فمرها فلتطيب منها استها حتى أرجع إليها ف . . . ! فذهب الضحك بالرشيد كل مذهب ، ثم أقبل ابن أبي مريم على العباس بن محمد فقال له : جئت بهذه الغالية تمدحها عند أمير المؤمنين ، الذي ما تمطر السماء شيئاً ولا تنبت الأرض شيئاً إلا وهو تحت تصرفه وفي يده ! وأعجب من هذا أن قيل لملك الموت : ما أمرك به هذا فأنفذه ! وأنت تمدح هذه الغالية عنده كأنه بقال أو خباز أو طباخ أو تمار ! فكاد الرشيد يهلك من شدة الضحك ! ثم أمر لابن أبي مريم بمائة ألف درهم » !
السندي بن شاهك رئيس شرطة هارون
شكى المنصور لأحدهم ضعف حُجَّابه ، فقال له : « إستخدم قوماً وِقَاحاً ! قال : ومن هم ؟ قال : إشتر قوماً من اليمامة فإنهم يربون الملاقيط ( اللقطاء الذين لا آباء لهم ) !
فاشترى المنصور حاجبه الربيع ! والسندي بن شاهك من هذا النوع ، مع فرق بينهما أن الربيع شرطي سياسي يحتاج إلى فهم اجتماعي ولباقة ولياقة ، بينما السندي شرطي عسكري يحتاج إلى شدة في تنفيذ أوامر الخليفة بقسوة بدون رحمة حتى لو كانت على أقارب الخليفة وأولاده ووزرائه !
وهو لقيط عرف باسم أمه السندية شاهك : « وسبى ذراريهم ( السند ) فكان من ذلك السبي مهرويه وخَلَد ، وقرابتهما شاهك وكانت على مائدة شهريار ، وهي أم السندي بن شاهك ، وكان منهم الحرث بن بسخنز ، وجميع هؤلاء الموالي الرازيين » . ( طبقات الأطباء / 221 ، ونهاية الأرب / 623 ) .
وقد عرف بنسبته إلى أمه وليس إلى أب ! ورباه المنصور تربية عباسية غليظة فكان السندي يتعجب من تفضيل المأمون علياً ( عليه السلام ) على العباس ، فقال للفضل بن الربيع : « ما ظننت أني أعيش حتى أسمع عباسياً يقول هذا ! فقال الفضل له : تعجب من هذا ، هذا والله كان قول أبيه قبله » ! ( كتاب بغداد لطيفور / 17 ) .
وفي تذكرة ابن حمدون : 2 / 364 : أن السندي « أحضر رجلاً ادعيَ عليه الرفض فقال له : ما تقول في أبي بكر ؟ فأثنى عليه ، قال : فعمر ؟ قال : لا أحبه ، فاخترط السندي سيفه وقال : لمَ ويلك ؟ قال : لأنه جعل الشورى في ستة من المهاجرين وأخرج العباس منهم ، فشامَ سيفه ورضي عنه » !
وكان السند بن شاهك يكلف بالمهمات التي تحتاج إلى قمع وتجسس !
قال في وفيات الأعيان : 1 / 338 : « ثم دعا ( هارون الرشيد ) السندي بن شاهك فأمره بالمضي إلى بغداد والتوكل بالبرامكة وكتَّابهم وقراباتهم ، وأن يكون ذلك سراً ففعل السندي ذلك » .
لهذا السبب أمر هارون بنقل سجن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) من عند الفضل بن يحيى إلى السندي بن شاهك ، لأنه أشد وأقسى ، وخالف بذلك العرف السياسي بأن تسجن الشخصيات القرشية والهاشمية عند وزراء الخليفة وشخصيات دولته ، فقد حبس الإمام الكاظم ( عليه السلام ) أولاً عند عمه عيسى بن جعفر والي البصرة ، ثم عند وزيره الفضل بن الربيع ، ثم عند وزيره الفضل بن يحيى ، فتأثموا أن يقتلوه فأمر بحبسه عند السندي بن شاهك الشرطي القاسي ، وأمره أن يقتله !
وبعد قتل الإمام ( عليه السلام ) أعطى هارون للسندي جائزة فجعله والي دمشق !
قال عنه الذهبي في تاريخه : 14 / 185 : « السندي بن شاهك . الأمير أبو نصر ، مولى أبي جعفر المنصور ، ولي إمرة دمشق للرشيد ، ثم وليها بعد المائتين ، وكان ذميم الخلق ، سندياً يجعل القول قول المدعي » ! أي يحكم له تصديقاً لقوله بدون بينة !
وقال المؤرخ البغدادي ابن الطقطقي في الفخري / 137 : « فحبسه عند السندي بن شاهك ، وكان الرشيد بالرقة فأمر بقتله ، فقتل قتلاً خفياً ، ثم أدخلوا عليه جماعة من العدول بالكرخ ليشاهدوه ، إظهاراً أنه مات حتف أنفه » .
ونلاحظ أن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) عبر عن السندي بالرجس ، وأوصى أن لا يتولى غسله وتكفينه ! « دعا بالمسيب وذلك قبل وفاته بثلاثة أيام وكان موكلاً به ، فقال له : يا مسيب إن هذا الرجس السندي شاهك سيزعم أنه يتولى غسلي ودفني ، هيهات هيهات أن يكون ذلك أبداً » ! ( عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 2 / 95 ) .
السندية بنت شاهك خير من أخيها !
روى في تاريخ بغداد : 13 / 32 ، عن عمار بن أبان قال : « حبس أبو الحسن موسى بن جعفر عند السندي بن شاهك ، فسألته أخته أن تتولى حبسه ، وكانت تتدين ، ففعل ، فكانت تلي خدمته ، فحكيَ لنا أنها قالت : كان إذا صلى العتمة حمد الله ومجده ودعاه ، فلم يزل كذلك حتى يزول الليل ، فإذا زال الليل قام يصلي حتى يصلي الصبح ، ثم يذكر قليلاً حتى تطلع الشمس ، ثم يقعد إلى ارتفاع الضحى ، ثم يتهيأ ويستاك ويأكل ، ثم يرقد إلى قبل الزوال ، ثم يتوضأ ويصلي حتى يصلي العصر ، ثم يذكر في القبلة حتى يصلي المغرب ، ثم يصلي ما بين المغرب والعتمة . فكان هذا دأبه !
فكانت أخت السندي إذا نظرت إليه قالت : خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل ! وكان عبداً صالحاً » وسير الذهبي : 6 / 273 ، وتاريخ أبي الفداء / 293 ، ومصادر كثيرة .
سجن السندي أشد سجون الإمام الكاظم ( عليه السلام )
استمر سجن الإمام ( عليه السلام ) في المرة الثانية نحو أربع سنوات ، وتنقل في أربعة سجون ، أولها سجن البصرة وكان في بيت الوالي عيسى بن جعفر بن المنصور والثاني في بغداد عند وزير الرشيد الفضل بن الربيع ، والثالث عند الوزير الفضل بن يحيى البرمكي ، والرابع عند رئيس شرطة الرشيد السندي بن شاهك ، وكان أصعب السجون عليه ، فقد زادوا عليه القيود وشددوا عليه .
ففي عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 2 / 82 : « فحبسه عيسى بيت من بيوت المجلس الذي كان يجلس فيه وأقفل عليه ، وشغله العيد عنه فكان لا يفتح عنه الباب إلا حالتين حالة يخرج فيها إلى الطهور وحالة يدخل فيها الطعام » .
« وصيره إلى بغداد وسُلِّمَ إلى الفضل بن الربيع ، وبقي عنده مدة طويلة ، ثم أراده الرشيد على شئ من أمره فأبى ! فأمر بتسليمه إلى الفضل بن يحيى فجعله في بعض دوره ووضع عليه الرصد ، فكان ( عليه السلام ) مشغولاً بالعبادة يُحيي الليل كله صلاة وقراءةً للقرآن ، ويصوم النهار في أكثر الأيام ، ولا يصرف وجهه عن المحراب ، فوسع عليه الفضل بن يحيى وأكرمه ، فبلغ ذلك الرشيد وهو بالرقة فكتب إليه يأمره بقتله فتوقف عن ذلك ! فاغتاظ الرشيد لذلك وتغير عليه » . ( إعلام الورى : 2 / 33 ، ومقاتل الطالبيين / 334 ) .
الاكثر قراءة في قضايا عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة