كان ( عليه السلام ) يشكر الله لأنه فرغه لعبادته !
في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 1 / 88 : « « حدثنا الثوباني قال : كانت لأبي الحسن موسى بن جعفر بضع عشره سنة كل يوم سجدة انقضاضَ الشمس إلى وقت الزوال ، فكان هارون ربما صعد سطحاً يشرف منه على الحبس الذي حبس أبو الحسن ، فكان يرى أبا الحسن ساجداً فقال للربيع : يا ربيع ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع ؟ ! فقال : يا أمير المؤمنين ما ذاك بثوب ، وإنما هو موسى بن جعفر ، له كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال !
قال الربيع : فقال لي هارون : أما إن هذا من رهبان بني هاشم ! قلت : فمالك قد ضيقت عليه الحبس ؟ قال : هيهات لا بد من ذلك » !
أقول : يظهر أن ذلك كان في حبسه ( عليه السلام ) أول خلافة الرشيد ، حيث كان حاجبه الربيع مسؤولاً عن حبس الإمام ( عليه السلام ) . أما الخبر التالي فهو عن حبسه آخر مرة ، لأنه كان عند الفضل بن الربيع ثم عند الفضل بن يحيى ، ثم عند السندي .
في عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : 2 / 98 ، عن عبد الله الفروي قال : « دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح فقال لي : أدن فدنوت حتى حاذيته ثم قال لي : أشرف إلى بيت الدار فأشرفت فقال : ما ترى في البيت ؟ فقلت : ثوباً مطروحاً ! فقال : أنظر حسناً ، فتأملت ونظرت فتيقنت فقلت : رجل ساجد ! فقال لي : تعرفه ؟ قلت : لا قال : مولاك ! قلت : ومن مولاي ؟ فقال : تتجاهل عليَّ ! فقلت : ما أتجاهل ولكني لا أعرف لي مولى ، فقال : هذا أبو الحسن موسى بن جعفر ! إني أتفقده الليل والنهار فلا أجده في وقت من الأوقات إلا على الحال التي أخبرك بها ، إنه يصلي الفجر فيعقب ساعة دبر الصلاة إلى أن تطلع الشمس ، ثم يسجد سجدةَ فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس ، وقد وكل من يترصد له الزوال ، فلست أدري متى يقول الغلام : قد زالت الشمس ، إذ يثب فيبتدئ الصلاة من غير أن يُحدث ، فأعلم أنه لم ينم في سجوده ولا أغفى ، ولا يزال إلى أن يفرغ من صلاة العصر ، فإذا صلى سجد سجدةً فلا يزال ساجداً إلى أن تغيب الشمس ، فإذا غابت الشمس وثب من سجدته فصلى المغرب من غير أن يحدث حدثاً ! ولا يزال صلاته وتعقيبه إلى أن يصلى العتمة ، فإذا صلى العتمة أفطر على شِوىً يؤتى به ، ثم يجدد الوضوء ، ثم يسجد ثم يرفع رأسه فينام نومته خفيفه ثم يقوم فيجدد الوضوء ، ثم يقوم فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر . فلست أدري متى يقول الغلام إن الفجر قد طلع ؟ ! إذ قد وثب هو لصلاة الفجر ! فهذا دأبه منذ حول إلى الآن ! فقلت : إتق الله ولا تحدثن في أمره حدثاً يكون فيه زوال النعمة ، فقد تعلم أنه لم يفعل أحد بأحد منهم سوءً إلا كانت نعمته زائلة ! فقال : قد أرسلوا إليَّ غير مرة يأمروني بقتله فلم أجبهم إلى ذلك ، وأعلمتهم أني لا أفعل ذلك ، ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني !
فلما كان بعد ذلك ، حُوِّلَ إلى الفضل بن يحيى البرمكي فحبس عنده أياماً ، فكان الفضل بن الربيع يبعث إليه في كل يوم مائدة ، حتى مضى ثلاثة أيام ولياليها ، فلما كانت الليلة الرابعة قدمت مائدة للفضل بن يحيى فرفع ( عليه السلام ) يده إلى السماء فقال : يا رب إنك تعلم أني لو أكلت قبل اليوم كنت قد أعنت على نفسي ! فأكل فمرض فلما كان الغد جاءه الطبيب فعرض عليه خضرة في بطن راحته ، وكان السم الذي سُمَّ به قد اجتمع في ذلك الموضع ، فانصرف الطبيب إليهم فقال : والله لهو أعلم بما فعلتم به منكم ، ثم توفي ( عليه السلام ) » ! ونحوه أمالي الصدوق / 210
وفي مناقب آل أبي طالب : 3 / 440 : « وقال أحمد بن عبد الله : لما نقل الكاظم ( عليه السلام ) من دار الفضل بن الربيع إلى الفضل بن يحيى البرمكي كان ابن الربيع يبعث إليه في كل ليلة مائدة ومنع أن يدخل من عند غيره حتى مضى ثلاثة أيام ، فلما كانت الليلة الرابعة قدمت إليه مائدة البرمكي قال : فرفع رأسه إلى السماء فقال : يا رب أنك تعلم أني لو أكلت قبل اليوم كنت أعنت على نفسي ! قال فأكل فمرض ، فلما كان من الغد بعث إليه بالطبيب فقال ( عليه السلام ) : هذه علتي ، وكانت خضرة في وسط راحته تدل على أنه سم ، فانصرف إليهم وقال : والله لهو أعلم بما فعلتم به منكم » !
وفي تاريخ أبي الفداء / 293 : « ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين ومائة ، فيها توفي موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، ببغداد في حبس الرشيد وحبسه عند السندي بن شاهك . . . وكان يلقب الكاظم : لأنه كان يحسن إِلى من يسيء إِليه . . . وتوفي في هذه السنة أعني سنة ثلاث وثمانين ومائة ، لخمس بقين من رجب ببغداد وقبره مشهور هناك ، وعليه مشهد عظيم في الجانب الغربي من بغداد » .
أقول : يفهم من قوله ( عليه السلام ) : « يا رب إنك تعلم أني لو أكلت قبل اليوم كنت قد أعنت على نفسي » ! أن السم قدم له مرات قبل ذلك وعرفه الله إياه فتجنبه ، وكان تناوله عليه حراماً ، أما في هذه المرة فكان مأموراً بتناوله !
كما لا يتنافى مع ما رواه في رجال الطوسي ( 2 / 863 ) : « عن عبد الله بن طاووس ، قال : سألت أبا الحسن الرضا ( عليه السلام ) . . . إن يحيى بن خالد سم أباك موسى بن جعفر صلوات الله عليه ؟ قال : نعم سمه في ثلاثين رطبة ، قلت له : فما كان يعلم أنها مسمومة ؟ قال : غاب عنه المحدث . قلت : ومن المحدث ؟ قال : ملك أعظم من جبريل وميكائيل كان مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو مع الأئمة صلوات الله عليهم وليس كل ما طلب وجد » ! فإنها تدل على غياب روح القدس عند تناوله الطعام ، فكأنه ( عليه السلام ) أمره إن غاب عنه ، أن يأكل ما يقدمونه له !
ولا يرد الإشكال : كيف يأذن أو يأمر الله تعالى عبده بأن يتناول السم ؟ لأن تكليف المعصوم ( عليه السلام ) غير تكليفنا ، ولأن الله تعالى : لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
رسالة الإمام ( عليه السلام ) إلى هارون الرشيد
روت عامة المصادر أن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) أرسل من سجنه إلى هارون الرشيد رسالة مختصرة ، لا بد أنها هزت الرشيد ونغصت عليه عيشه ، وهذا نصها :
« إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من الرخاء ، حتى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء ، يخسر فيه المبطلون » ! ( تاريخ بغداد : 13 / 32 ، وتهذيب الكمال : 29 / 50 ، وسير الذهبي : 6 / 273 ، وكامل ابن الأثير : 6 / 164 ، وتاريخ الذهبي : 12 / 417 ، والفصول المهمة : 2 / 958 ، وصفة الصفوة : 2 / 187 ، والمنتظم : 9 / 88 ) .
3 - رسالة الإمام ( عليه السلام ) إلى يحيى بن خالد البرمكي
روى الطوسي في الغيبة / 51 ، عن « داود بن زربي قال : بعث إلي العبد الصالح ( عليه السلام ) وهو في الحبس فقال : إئت هذا الرجل ، يعني يحيى بن خالد فقل له : يقول لك أبو فلان : ما حملك على ما صنعت ؟ أخرجتني من بلادي ، وفرقت بيني وبين عيالي ! فأتيته وأخبرته فقال : زبيدة طالق وعليه أغلظ الأيمان ، لوددت أنه غرم الساعة ألفي ألف وأنت خرجت ، فرجعت إليه فأبلغته فقال : إرجع إليه فقل له : يقول لك : والله لتخرجني أو لأخرجن » !
أقول : يبدو أن هذه الرسالة في الحبس الأول للإمام ( عليه السلام ) ففيها دعا بالدعاء الذي تقدم : « فقال : يا سيدي نجني من حبس هارون ، وخلصني من يده . يا مخلص الشجر من بين رمل وطين ، ويا مخلص اللبن من بين فرث ودم ، ويا مخلص الولد من بين مشيمة ورحم ، ويا مخلص النار من الحديد والحجر ، ويا مخلص الروح من بين الأحشاء والأمعاء ، خلصني من يد هارون »
ويظهر أن يحيى البرمكي هو الذي كان سعى به وأمر الرشيد بإحضاره وحبسه وذلك في أول خلافة هارون ، وقد كانت كل أمور هارون بيد يحيى !
عاهرة الرشيد صارت عابدة !
قال في مناقب آل أبي طالب : 3 / 415 : « في كتاب الأنوار ، قال العامري : إن هارون الرشيد أنفذ إلى موسى بن جعفر جارية حصيفة لها جمال ووضاءة ، لتخدمه في السجن ، فقال ( عليه السلام ) : قل له : بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ، لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها ! قال : فاستطار هارون غضباً وقال : إرجع إليه وقل له : ليس برضاك حبسناك ، ولا برضاك أخدمناك ، واترك الجارية عنده وانصرف !
قال فمضى ورجع ، ثم قام هارون عن مجلسه . وأنفذ الخادم إليه ليتفحص عن حالها فرآها ساجدة لربها لا ترفع رأسها تقول : قدوس سبحانك سبحانك ، فقال هارون : سحرها والله موسى بن جعفر بسحره ، عليَّ بها ! فأتيَ بها وهي ترتعد شاخصة نحو السماء بصرها ، فقال : ما شأنك ؟ قالت : شأني الشأن البديع إني كنت عنده واقفة وهو قائم يصلي ليله ونهاره ، فلما انصرف من صلاته بوجهه وهو يسبح الله ويقدسه قلت : يا سيدي هل لك حاجة أعطيكها ؟ قال : وما حاجتي إليك ! قلت : إني أدخلت عليك لحوائجك ، قال : فما بال هؤلاء قالت : فالتفتُّ فإذا روضةٌ مزهرة لا أبلغ آخرها من أولها بنظري ، ولا أولها من آخرها ، فيها مجالس مفروشة بالوشي والديباج ، وعليها وصفاء ووصايف ، لم أر مثل وجوههم حسناً ، ولا مثل لباسهم لباساً ، عليهم الحرير الأخضر والأكاليل والدر والياقوت ، وفي أيديهم الأباريق والمناديل ، ومن كل الطعام ، فخررت ساجدة حتى أقامني هذا الخادم ، فرأيت نفسي حيث كنت !
قال فقال هارون : يا خبيثة لعلك سجدت فنمت ، فرأيت هذا في منامك !
قالت : لا والله يا سيدي إلا قبل سجودي رأيت ، فسجدت من أجل ذلك !
فقال الرشيد : إقبض هذه الخبيثة إليك ، فلا يسمع هذا منها أحد !
فأقبلت في الصلاة ، فإذا قيل لها في ذلك قالت : هكذا رأيت العبد الصالح ، فسئلت عن قولها ؟ قالت : إني لما عاينت من الأمر نادتني الجواري يا فلانة إبعدي عن العبد الصالح حتى ندخل عليه ، فنحن له دونك !
فما زالت كذلك حتى ماتت ! وذلك قبل موت موسى ( عليه السلام ) بأيام يسيرة » !
فقهاء السلطة يزورون الإمام ( عليه السلام ) في السجن
التقى الإمام ( عليه السلام ) في سجنه وسفره بكثيرين ، وهدى الله بعضهم على يده ، كالمسيب بن زهير ، وغلام السندي بن شاهك ، والجارية التي بعثها الرشيد !
في الخرائج : 1 / 322 : « عن إسحاق بن عمار قال : لما حبس هارون أبا الحسن موسى دخل عليه أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة ، فقال أحدهما للآخر : نحن على أحد أمرين إما أن نساويه ، وإما أن نشاكله ، فجلسا بين يديه ، فجاء رجل كان موكلاً به من قبل السندي بن شاهك فقال : إن نوبتي قد انقضت وأنا على الانصراف ، فإن كانت لك حاجة أمرتني حتى آتيك بها في الوقت الذي تلحقني النوبة ؟ فقال له : ما لي حاجة . فلما أن خرج قال لأبي يوسف ومحمد بن الحسن : ما أعجب هذا يسألني أن أكلفه حاجة من حوائجي ليرجع ، وهو ميت في هذه الليلة ! قال فغمز أبو يوسف محمد بن الحسن للقيام فقاما ، فقال أحدهما للآخر : إنا جئنا لنسأله عن الفرض والسنة وهو الآن جاء بشئ آخر كأنه من علم الغيب ! ثم بعثا برجل مع الرجل فقالا : إذهب حتى تلزمه وتنتظر ما يكون من أمره في هذه الليلة وتأتينا بخبره من الغد ! فمضى الرجل فنام في مسجد عند باب داره فلما أصبح سمع الواعية ورأى الناس يدخلون داره ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : قد مات فلان في هذه الليلة فجأة من غير علة ! فانصرف الرجل إلى أبي يوسف ومحمد وأخبرهما الخبر ، فأتيا أبا الحسن ( عليه السلام ) فقالا : قد علمنا أنك قد أدركت العلم في الحلال والحرام ، فمن أين أدركت أمر هذا الرجل الموكل بك أنه يموت في هذه الليلة ؟ قال : من الباب الذي أخبر بعلمه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ! فلما أورد عليهما هذا بقيا لا يحيران جواباً » !
أقول : يقصد الإمام ( عليه السلام ) ما أخرجه الطبراني في الأوسط ( 2 / 213 ) عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال في مرضه : ادعوا لي أخي فدعوا له أبا بكر فأعرض عنه ، ثم قال : ادعوا لي أخي ، فدعوا له عمر فأعرض عنه ، ثم قال : ادعوا لي أخي ، فدعوا له عثمان فأعرض عنه ، ثم قال : ادعوا لي أخي ، فدعي له علي بن أبي طالب فستره بثوب وأكب عليه ، فلما خرج من عنده قيل له : ما قال ؟ قال : علمني ألف باب يفتح كل باب إلى ألف باب » ! وتاريخ دمشق : 42 / 385 .
وفي بصائر الدرجات / 326 : « عن الأصبغ بن نباته قال أمرنا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالمسير إلى المداين من الكوفة ، فسرنا يوم الأحد وتخلف عمرو بن حريث في سبعة نفر فخرجوا إلى مكان بالحيرة تسمى الخورنق قالوا نتنزه فإذا كان يوم الأربعاء لحقنا علياً قبل أن يُجَمِّع . فبينا هم يتغذون إذ خرج عليهم ضب فصادوه فأخذه عمرو بن حريث فبسط كفاً فقال : بايعوه هذا أمير المؤمنين ! فبايعه السبعة وعمرو ثامنهم ! وارتحلوا ليلة الأربعاء فقدموا المداين يوم الجمعة وأمير المؤمنين على المنبر يخطب ، ولم يفارق بعضهم بعضاً وكانوا جميعاً حتى نزلوا باب المسجد ، فلما دخلوا نظر إليهم أمير المؤمنين فقال : يا أيها الناس إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أسرَّ إليَّ الف حديث ، في كل حديث ألف باب ، لكل باب مفتاح ، وإني سمعت الله يقول : يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ، وإني أقسم لكم بالله ليبعثن ثمانية نفر إمامهم الضب ، ولو شئت أن أسميهم فعلت ! قال : فلو رأيت عمرو بن حريث ينتفض كما تنتفض السعفة » !
كان ( عليه السلام ) يجيب من السجن على بعض الرسائل
فقد رويت إجاباته ( عليه السلام ) لمحمد بن أبي عمير وعلي بن سويد السائي ، نسبة إلى الساية قرية قرب المدينة ( النجاسي / 276 ) وهما من كبار شخصيات شيعته .
ففي الكافي : 8 / 124 : « عن علي بن سويد قال : كتبت إلى أبي الحسن موسى ( عليه السلام ) وهو في الحبس كتاباً أسأله عن حاله وعن مسائل كثيرة ، فاحتبس الجواب علي أشهر ، ثم أجابني بجواب هذه نسخته : بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله العلي العظيم الذي بعظمته ونوره أبصر قلوب المؤمنين ، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون ، وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات ومن في الأرض إليه الوسيلة بالأعمال المختلفة ، والأديان المتضادة ، فمصيب ومخطئ ، وضال ومهتدي ، وسميع ، وأصم وبصير ، وأعمى حيران . فالحمد لله الذي عرف ووصف دينه محمد ( صلى الله عليه وآله ) . أما بعد فإنك أمرؤ أنزلك الله من آل محمد بمنزلة خاصة وحفظ مودة ما استرعاك من دينه ، وما ألهمك من رشدك وبصرك من أمر دينك ، بتفضيلك إياهم وبردك الأمور إليهم .
كتبت تسألني عن أمور كنت منها في تقية ، ومن كتمانها في سعة ، فلما انقضى سلطان الجبابرة ، وجاء سلطان ذي السلطان العظيم بفراق الدنيا المذمومة إلى أهلها ، العتاة على خالقهم ، رأيت أن أفسر لك ما سألتني عنه ، مخافة أن تدخل الحيرة على ضعفاء شيعتنا من قبل جهالتهم ، فاتق الله عز ذكره وخص بذلك الأمر أهله ، واحذر أن تكون سبب بلية على الأوصياء أو حارشاً عليهم بإفشاء ما استودعتك ، وإظهار ما استكتمتك ، ولن تفعل إن شاء الله .
إن أول ما أنهي إليك أني أنعي إليك نفسي في ليالَّي هذه ، غير جازع ولا نادم ولا شاك فيما هو كائن ، مما قد قضى الله عز وجل وحتم ، فاستمسك بعروة الدين ، آل محمد والعروة الوثقى الوصي بعد الوصي ، والمسالمة لهم والرضا بما قالوا ، ولا تلتمس دين من ليس من شيعتك ، ولا تحبن دينهم فإنهم الخائنون الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم ! وتدري ما خانوا أماناتهم ؟ ائتمنوا على كتاب الله فحرفوه وبدلوه ، ودلوا على ولاة الأمر منهم فانصرفوا عنهم ، فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون !
وسألت عن رجلين اغتصبا رجلاً مالاً كان ينفقه على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وفي سبيل الله ، فلما اغتصباه ذلك لم يرضيا حيث غصباه حتى حملاه إياه كرهاً فوق رقبته إلى منازلهما ، فلما أحرزاه توليا إنفاقه ، أيبلغان بذلك كفراً ؟ فلعمري لقد نافقا قبل ذلك وردا على الله عز وجل كلامه ، وهزئا برسوله ( صلى الله عليه وآله ) وهما الكافران عليهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .
والله ما دخل قلب أحد منهما شئ من الإيمان منذ خروجهما من حالتيها ، وما ازدادا إلا شكاً ! كانا خداعين مرتابين منافقين حتى توفتهما ملائكة العذاب إلى محل الخزي في دار المقام ! وسألت عمن حضر ذلك الرجل وهو يغصب ماله ويوضع على رقبته ؟ منهم عارف ومنكر ، فأولئك أهل الردة الأولى من هذه الأمة فعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .
وسألت عن مبلغ علمنا وهو على ثلاثة وجوه : ماض وغابر وحادث ، فأما الماضي فمفسر ، وأما الغابر فمزبور ، وأما الحادث فقذف في القلوب ونقر في الأسماع وهو أفضل علمنا ، ولا نبي بعد نبينا محمد ( صلى الله عليه وآله ) .
وسألت عن أمهات أولادهم وعن نكاحهم وعن طلاقهم ، فأما أمهات أولادهم فهن عواهر إلى يوم القيامة ، نكاح بغير ولي وطلاق في غير عدة .
وأما من دخل في دعوتنا فقد هدم إيمانه ضلاله ويقينه شكه .
وسألت عن الزكاة فيهم ، فما كان من الزكاة فأنتم أحق به ، لأنا قد أحللنا ذلك لكم ، من كان منكم وأين كان .
وسألت عن الضعفاء فالضعيف من لم ترفع إليه حجة ولم يعرف الاختلاف ، فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف .
وسألت عن الشهادات لهم فأقم الشهادة لله عز وجل ولو على نفسك والوالدين والأقربين ، فيما بينك وبينهم فإن خفت على أخيك ضيماً فلا .
وادع إلى شرائط الله عز ذكره بمعرفتنا من رجوت إجابته ، ولا تحصن بحصن رياء . ووال آل محمد ولا تقل لما بلغك عنا ونسب إلينا هذا باطل وإن كنت تعرف منا خلافه ، فإنك لا تدري لمَ قلناه وعلى أي وجه وصفناه !
آمن بما أخبرك ولا تفش ما استكتمناك من خبرك ، إن واجب حق أخيك أن لا تكتمه شيئاً تنفعه به لأمر دنياه وآخرته ، ولا تحقد عليه وإن أساء ، وأجب دعوته إذا دعاك ، ولا تخل بينه وبين عدوه من الناس وإن كان أقرب إليه منك . وعده في مرضه ، ليس من أخلاق المؤمنين الغش ولا الأذى ولا الخيانة ولا الكبر ولا الخنا ولا الفحش ولا الأمر به . فإذا رأيت المشوه الاعرابي في جحفل جرار فانتظر فرجك ولشيعتك المؤمنين ، وإذا انكسفت الشمس فارفع بصرك إلى السماء وانظر ما فعل الله عز وجل بالمجرمين . فقد فسرت لك جملا مجملا وصلى الله على محمد وآله الأخيار » . ورجال الطوسي : 2 / 754
غلام السندي بن شاهك يتشيع !
في رجال الطوسي : 2 / 737 : « عن بشار مولي السندي بن شاهك قال : كنت من أشد الناس بغضاً لآل أبي طالب ، فدعاني السندي بن شاهك يوماً فقال لي : يا بشار إني أريد أن أئتمنك على ما ائتمنني عليه هارون ، قلت : إذن لا أبقي فيه غاية فقال : هذا موسى بن جعفر قد دفعه إلي وقد وكلتك بحفظه ، فجعله في دار دون حرمه ووكلني عليه ، فكنت أقفل عليه عدة أقفال ، فإذا مضيت في حاجة وكلت امرأتي بالباب فلا تفارقه حتى أرجع !
قال بشار : فحول الله ما كان في قلبي من البغض حباً ! قال : فدعاني ( عليه السلام ) يوماً فقال : يا بشار إمض إلى سجن القنطرة فادع لي هند بن الحجاج وقل له : أبو الحسن يأمرك بالمصير إليه ، فإنه سينهرك ويصيح عليك ، فإذا فعل ذلك فقل له : أنا قد قلت لك وأبلغت رسالته ، فإن شئت فافعل ما أمرني وإن شئت فلا تفعل ، واتركه وانصرف ! قال : ففعلت ما أمرني وأقفلت الأبواب كما كنت أقفل وأقعدت امرأتي على الباب وقلت لها : لا تبرحي حتى آتيك ! وقصدت إلى سجن القنطرة فدخلت إلى هند بن الحجاج فقلت : أبو الحسن يأمرك بالمصير إليه قال : فصاح علي وانتهرني فقلت له : أنا قد أبلغتك وقلت لك فإن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل ، وانصرفت وتركته وجئت إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) فوجدت امرأتي قاعدة على الباب والأبواب مغلقة ، فلم أزل أفتح واحداً واحداً منها حتى انتهيت إليه فوجدته وأعلمته الخبر ، فقال : نعم قد جاءني وانصرف ، فخرجت إلى امرأتي فقلت لها : جاء أحد بعدي فدخل هذا الباب ؟ فقالت : لا والله ما فارقت الباب ولا فتحت الأقفال حتى جئت .
قال : ورواني علي بن محمد بن الحسن الأنباري أخو صندل قال : بلغني من جهة أخرى أنه لما صار إليه هند بن الحجاج قال له العبد الصالح عند انصرافه : إن شئت رجعت إلى موضعك ولك الجنة ، وإن شئت انصرفت إلى منزلك ! فقال : أرجع إلى موضعي إلى السجن » .
كان الإمام ( عليه السلام ) يخرج من السجن بنحو الإعجاز
ذكرت الروايات أن الإمام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) كان يخرج من سجنه أو من إقامته الجبرية بنحو الإعجاز ، ويرجع إلى بغداد ، أو إلى سجنه وقيوده !
1 - ففي مناقب آل أبي طالب : 3 / 420 ، أنه ( عليه السلام ) : « دعا بالمسيب وذلك قبل وفاته بثلاثة أيام وكان موكلاً به فقال له : يا مسيب إني ظاعن في هذه الليلة إلى المدينة مدينة جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لأعهد إلى علي ابني ما عهده إليَّ أبي وأجعله وصيي وخليفتي وآمره بأمري ! فقال المسيب : كيف تأمرني أن أفتح لك الأبواب وعليها أقفالها والحرس معي على الأبواب ؟ !
فقال : يا مسيب ضعف يقينك في الله عز وجل وفينا ؟ قلت : لا يا سيدي ، قال : فسمعته يدعو ثم فقدته عن مصلاه فلم أزل قائماً على قدمي حتى رأيته قد عاد إلى مكانه ، وأعاد الحديد إلى رجليه ، فخررت لله ساجداً شاكراً على ما أنعم عليِّ به من معرفته ، فقال لي : إرفع رأسك يا مسيب واعلم أني راحل إلى الله عز وجل في ثالث هذا اليوم ! لا تبك يا مسيب فإن علياً ابني هو إمامك ومولاك بعدي فأته فتمسك بولايته فإنك لن تضل ما لزمته » !
2 - روى في مناقب آل أبي طالب : 3 / 414 ، عن البرجمي : « جمعني مسجد بإزاء دار السندي بن شاهك وابن السكيت ، فتفاوضنا في العربية ومعنا رجل لا نعرفه ، فقال : يا هؤلاء أنتم إلى إقامة دينكم أحوج منكم إلى إقامة ألسنتكم وساق الكلام إلى إمام الوقت ، وقال : ليس بينكم وبينه غير هذا الجدار !
قلنا : تعنى هذا المحبوس موسى ؟ قال : نعم ، قلنا : سترنا عليك فقم من عندنا خيفة أن يراك أحد جليسنا فنؤخذ بك ! قال : والله لا يفعلون ذلك أبداً والله ما قلت لكم إلا بأمره وإنه ليرانا ويسمع كلامنا ، ولو شاء أن يكون معنا لكان ! قلنا : فقد شئنا فادعه إلينا ! فإذا قد أقبل رجل من باب المسجد داخلاً كادت لرؤيته العقول أن تذهل ، فعلمنا أنه موسى بن جعفر ( عليه السلام ) ، ثم قال : أنا هذا الرجل ، وتركنا وخرجنا من المسجد مبادراً فسمعنا وجيباً شديداً ، وإذا السندي بن شاهك يعدو داخلاً إلى المسجد معه جماعة فقلنا : كان معنا رجل فدعانا إلى كذا وكذا دخل هذا الرجل المصلي وخرج ذاك الرجل ولم نره ، فأمر بنا فأمسكنا ، ثم تقدم إلى موسى وهو قائم في المحراب فأتاه من قبل وجهه ونحن نسمع فقال : يا ويحك كم تخرج بسحرك هذا وحيلتك من وراء الأبواب والأغلاق والأقفال وأردك ، فلو كنت هربت كان أحب إليَّ من وقوفك هاهنا ، أتريد يا موسى ان يقتلني الخليفة ؟ ! قال فقال موسى ونحن نسمع كلامه : كيف أهرب ولله في أيديكم موقت لي يسوق إليها أقداره وكرامتي على أيديكم . . في كلام له !
قال : فأخذ السندي بيده ومشى ثم قال للقوم : دعوا هذين وأخرجوا إلى الطريق فامنعوا أحداً يمر من الناس حتى أتم أنا وهذا إلى الدار » !
أقول : هذا يعني أن ابن السكيت ( رحمه الله ) كان شاباً ، لأنه قتل شهيداً على تشيعه بيد المتوكل بعد نحو خمسين سنة .
كما تدل الرواية على أن الإمام ( عليه السلام ) كان يخرج من سجنه كثيراً ، وكان السندي يعلم بذلك ، ويضطرب خوفاً من أن يتهمه هارون بأنه أطلقه !
3 - في تاريخ اليعقوبي : 2 / 414 : « قيل لموسى بن جعفر وهو في الحبس : لو كتبت إلى فلان يكلم فيك الرشيد ؟ فقال : حدثني أبي عن آبائه أن الله عز وجل أوحى إلى داود : يا داود ، إنه ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني ، عرفت ذلك منه ، إلا وقطعت عنه أسباب السماء وأسخت الأرض من تحته » !
أقول : نلاحظ أن الإمام ( عليه السلام ) كان في الحبس الأول يدعو بالخلاص من السجن ، بينما لم يؤثر عنه ذلك في الحبس الثاني ، فكأن ذلك يحتاج إلى إذن من ربه عز وجل !
وكذا أن يطلب من هارون أن يطلق سراحه ، أو يوسط أحداً عنده .
4 - تقدم من الكافي : 1 / 381 : « عن مسافر قال : أمر أبو إبراهيم ( عليه السلام ) حين أخرج به ، أبا الحسن ( عليه السلام ) أن ينام على بابه في كل ليلة أبداً ما كان حياً إلى أن يأتيه خبره ! قال : فكنا في كل ليلة نفرش لأبي الحسن في الدهليز ، ثم يأتي بعد العشاء فينام ، فإذا أصبح انصرف إلى منزله ! قال : فمكث على هذه الحال أربع سنين ، فلما كان ليلة من الليالي أبطأ عنا وفرش له فلم يأت كما كان يأتي ، فاستوحش العيال وذعروا ، ودخلنا أمر عظيم من إبطائه ، فلما كان من الغد أتى الدار ودخل إلى العيال . . . » .
وذكرت الرواية أن الإمام الرضا أخبرهم بشهادة أبيه ( عليهما السلام ) وبعد أيام جاء بريد إلى الوالي بالخبر كما أخبر ( عليه السلام ) . وقد ذهب الإمام الرضا ( عليه السلام ) في تلك الليلة بنحو الإعجاز لمراسم تغسيل أبيه والصلاة عليه ، كما نصت عليه رواية المسيب . وهذا أمر بسيط بالنسبة للأئمة ( عليهم السلام ) ، وقد ادعى الآخرون كرامة طي الأرض وأنواعاً من الكرامات لكثير من أئمتهم ورجالهم العاديين .
ويظهر أن غرض الكاظم ( عليه السلام ) من أمره إياه أن ينام في ممر داره ، أنه كان يأتي إليه ويلتقي به ، أو أن الرضا ( عليه السلام ) كان يذهب إليه .
الاكثر قراءة في قضايا عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة